أي تسامح سلفي هذا؟. الأشاعرة الذين يمثلون أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من أهل السنة - فضلاً عن غيرهم - وقامت على أكتافهم علوم الإسلام، يوصفون في منهجنا التربوي بأنهم خلف للمشركين!!. نقول هذا في مناهجنا، ثم بعد ذلك نتحدث - بكل جهل وبكل صلف - عن براءة المناهج التربوية!
2 - التسامح في السياق الفكري. والتسامح هنا يجب أن يكون في غاية الاتساع؛ إلا أن يكون في مضمون الفكرة الدعوة إلى العنف المادي تجاه الآخر؛ وأن يكون متوقعاً أن هذه الدعوة (الفكرية) قد تأخذ طريقها إلى التنفيذ؛ فيما وراء الفكر؛ وفق ما تقتضيه مكونات البنية الاجتماعية التي تتموضع فيها الأفكار.
ومع أن الوضوح جلي في هذه النقطة المحورية؛ إلا أن الإسلاموي المتطرف يحاول الالتفاف عليها، خاصة في حال ترسخها في الاجتماعي، وذلك بخلطه بين مسائل الحقوق الإنسانية العامة (من ناحية الحرص على مشاعر جماعة ما؛ حتى ولو كانت نابعة من تعصب تجاه الطائفة الأخرى، كما يرى!) والحق الإنساني للفرد. هذا في حال ترسخها. أما في حال عدم ترسخها - كقيمة يصعب نفيها اجتماعياً أو قانونياً - فإنها يواجهها مباشرة؛ بوصفها ضلالاً أو كفراً.
وكثيراً ما يتحدث السلفي التقليدي الأصولي، خلال رده على من يقوم بنقد الأفكار والممارسات المتطرفة التي تنتمي إلى ذات الإيديولوجية التي ينتمي إليها، عن ما يسميه: (التطرف المضاد)، وأحياناً يخرج عن الكناية إلى الصراحة، فيسميه: (التطرف العلماني المضاد). وذلك للإيحاء بأن التطرف - ومن ثم الإرهاب - ليس إفرازاً أصولياً خالصاً؛ بقدر ما هو جزء من طبيعة الحراك الاجتماعي. ولكل مذهب واتجاه وطائفة نصيب من ذلك.
عندما يحاول الفاعل الثقافي أن يقارب الممارسة الأصولية في مظاهرها المتطرفة؛ يتشنج الأصولي، ويحتج على ذلك، بأن هذا نوع من الاضطهاد والإرهاب الموجه إليه. وهو بهذا يحاول أن يحتمي بالموقف الحكومي والاجتماعي المتشدد تجاه الإرهاب؛ لإسكات الأصوات الناقدة؛ مع أن الإرهاب جزء من مكونات السلفية التي كانت ولا تزال تتغنى بقتل المعارضين؛ بوصفهم زنادقة ومارقين، وربما بوصفهم عقلانيين!.
السلفي الأصولي في عملية الالتفاف هذه، يحاول أن يوحي بأن ممارسته الفكرية التي تتغيا التضليل والتكفير، لست إلا نموذجاً لما يقوم به الآخر العقلاني، من نقد للأفكار السلفية الأصولية المتطرفة. ومن ثم - وفق ما يدعيه - فالكل متطرف، ويجب أن تبقى المنظومة السلفية التقليدية دون مراجعة لمفرداتها الحادة؛ بدعوى أن مثل هذا النقد، يؤجج مشاعر السلفي التقليدي، ويقوده إلى الإرهاب. أي أن الناقد العقلاني - كما يدعي السلفي - هو الذي يؤجج الإرهاب بنقد الإرهاب!.
هذه الدعاوى الأصولية يمكن أن يكون لها وجه منطقي؛ لو كانت المنظومة السلفية - في أساسها - خالية من مفردات التبديع والتضليل والتكفير على امتداد تاريخها الطويل. لو أن التطرف والتعصب الذي اتخمت به المراجع السلفية، لم يكن له وجود قبل أن يكتشف العالم الإسلامي - والغربي أيضاً - خطرها العظيم على السلام العالمي، ويسعى للكف من غلوائها، لكان من الممكن أن تصح هذه الدعوى، وإن تعذرت منطقياً؛ لأن النقد لا يكون إلا لموجود، ولو بالسلب. وهذا ما تفتقر إليه الحجة السلفية الواهية.
بعض التيارات، ولكونها تتمتع بكثرة نسبية، ترى أن من حقها منع بقية التيارات والأطياف الاجتماعية من التعبير عن آرائها المذهبية أو الطائفية. هي ترى أن هذا من حقها؛ لأنها لا تتوافق مع الآراء المطروحة، أو مع الفاعل الثقافي فيها، أو لا ترتاح إلى ذلك أمزجتها الخاصة.
ومن التدليس الذي تشحن به السلفية التقليدية عواطف الجماهير الغوغائية أنها تدعي أن مجرد ترك الآخر المختلف يعبر عن فكرته - بصرف النظر عن صحتها من صوابها؛ ما دام أنها لا تدعو إلى عنف في مضمونها - فيه اعتداء عظيم عليها، وهضم مقصود لحقوقها. ولا أدري ما هي هذه الحقوق التي تدعيها، إلا أن يكون مجرد تعبير الآخر عن آرائه الخاصة يجرح مشاعرها؛ لمجرد كونه مختلفاً في مرجعيته، وليس لأن آراءه تمس التراث أو الواقع السلفي بشيء.
المشكلة الحقيقية أن العامي الجماهيري الذي تمت تربيته على التلقي السلبي للأفكار، دون مساءلتها، يتلقى مثل هذه الدعاوى العريضة وهذا التيه الأعمى بحماس كبير، ويظن أن الخطر العقائدي، أصبح قريباً منه؛ لمجرد أن شريكه في الوطن أراد أن يكون شريكه في الفاعلية الثقافية أيضاً، مع احترام الجميع للجميع.
هذا الجماهيري الساذج، أصبح بعد عملية التدجين الطويلة والمكثفة، وبعد كل هذا الشحن الايديولوجي الهائج، في اضطراب خطير تجاه مسائل حيوية في الحراك الاجتماعي، وهي مسائل الحقوق المدنية، لا تتوقف عند حدود المعطى المادي، بل تتجاوزه إلى الحقوق المعنوية، ومن أهمها: حق التعبير المسؤول، وحق التمثيل المرجعي ذي البعد الاعتباري، وذلك فيما هو متاح للجميع.
إنني لا زلت أذكر أن أحد رموز التيار الصحوي - في بعده السلفي المتزمت - واجه مطالبة بعض الطوائف بحق التمثيل - مجرد مطالبة!، ومجرد تمثيل! - في المرجعيات العلمية الشرعية، بانفعال غير مبرر؛ زاعماً أن هذه المطالبة، إنما هي من قبيل (تحكم الأقلية في الأكثرية)، وأن هذا الوضع غير مشروع في قوانين الأمم كافة. يقول هذا، وكأن هذه الأقلية طالبت بأن تفرض مرجعيتها ورؤاها ورموزها على الأكثرية، وهذا ما لم يكن وارداً، بل كانت مجرد طلب للشراكة المتواضعة؛ بمقدار الشراكة الاجتماعية.
وكما هو متوقع؛ فقد تعالت الصيحات الصحوية المؤدلجة - ومن ورائها جماهير المخدوعين، بترديد هذه الدعوى الحركية التي تفتقد لأبسط بدهيات الرؤية المنطقية، فضلاً عن الرؤية الواقعية. إن هذا الرمز الصحوي لا يحتكم إلى العقل؛ لأن العقل ليس من مرجعياته، بل هو إلى عداوته أقرب، ولا يحتكم - كما يظهر أو يتظاهر - إلى العرف الدولي؛ لأنه يرى أن الاحتكام إلى ذلك كفر بالله وردة عن الإسلام؛ لأنه - كما يزعم - احتكام إلى غير ما أنزل الله!.
السلفية التقليدية تزعم أنها ذات منهج متسامح، وأن طرحها المعلن - اليوم - أصبح خالياً من مفردات التضليل والتكفير، وهي تحرص - تبعاً للظرفين الراهنين: المحلي والعالمي - على أن تبدو كمن يدعو إلى نبذ العنف والتشنيع على التطرف والإرهاب. كل هذا مقبول؛ بشرط أن يكون هذا ما تعتقده من جملة عقائدها، وأن يتفق مع ما تنشره في محاضنها الخاصة، ولا يكون سلوكاً ميكافيلياً؛ لمجرد الخروج من المأزق الراهن الذي يحاصرها.
على السلفية التقليدية، وما يتبعها من أصوليات حركية، أن تؤكد على أن حالتها الراهنة المعلنة، إنما هي تراجع حقيقي عن المفردات السلفية التاريخية ذات المنحى الإقصائي. لا يكفي مجرد السكوت المؤقت. المنظومة السلفية - كتوصيف واقعي - مليئة بالتبديع والتضليل والتكفير، فهل تجرؤ رموز السلفية والأصولية المعاصرة أن تتبرأ - صراحة وبوضوح - من كل ما ورد على هذه الصورة في التراث السلفي، ولو كان القائل به من الرموز الكبار والمرجعيات العظام؟!.
لا أظن السلفية التقليدية، ولا الأصوليات الحركية قادرة على ذلك، فهي بحكم تركيبتها التقليدية، لا يمكن أن تتنكر للتقليد كممارسة، وإلا فقدت شرعية وجودها عند معتنقيها. التبديع والتضليل والتكفير، سلوك عقائدي، وممارسة شرعية في نظر السلفيات التقليدية قديمها وحديثها. وهو - كما يدعون - نوع من الاحتساب، لا ترى خطأه، وإنما تكف عن ممارسة - أحياناً - تبعاً لمتغيرات الظروف.
ولأن مناهجنا التربوية الشرعية ولدت على عين السلفي الأصولي، فقد واجهت الإشكال نفسه الذي تواجهه الآن خارج المناهج. لقد غيّرت وبدّلت في المفردات الحادة، لكنها بقيت رهينة التركيبة السلفية التقليدية في عمومها.
بل إن الأمر في المناهج التربوية أسوأ من ذلك، فقد بقي اللاتسامح في صلب المقررات الشرعية. ففي مقر التوحيد للصف الأول الثانوي ص66 و67 وبعدما ذكر حال مشركي قريش في الجاهلية قال: «فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكل من نفى عن الله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أسماء الله وصفاته. وبئس السلف لبئس الخلف».
أي تسامح سلفي هذا؟. الأشاعرة الذين يمثلون أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من أهل السنة - فضلاً عن غيرهم - وقامت على أكتافهم علوم الإسلام، يوصفون في منهجنا التربوي بأنهم خلف للمشركين!!. نقول هذا في مناهجنا، ثم بعد ذلك نتحدث - بكل جهل وبكل صلف - عن براءة المناهج التربوية!.
ويقول مقرر التفسير للصف الثاني الثانوي ص31: «ليس للمسلمين أخوة في أي شعار - مهما كان - إلا في العقيدة، ولا نلتقي إلا على العقيدة، ففيها نحب ونوالي، وعلى ضدها نتبرأ ونعادي، وعليها نسالم، وعليها نحارب». أظن أن النص واضح في نفيه أية رابطة غير رابطة العقيدة، وليس المراد هنا بالعقيدة الإسلام في عمومه، بل العقيدة السلفية على وجه الخصوص؛ بدليل تصريحهم بانحراف غير السلفين عن مسار العقيدة الصحيحة، ولا يمكن أن يجعلوا الأخوة محصورة في عقيدة يرونها غير صحيحة، بل ومأخوذة عن المشركين.
ولا يقل وضوحاً عن النصين السابقين في دلالتهما على الإقصاء والنفي والتكفير ومعاداة الآخر قولهم في مقرر التفسير للصف الثاني الثانوي ص32 «سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عمن يقول: القرآن مخلوق؟، فقال: كافر. فقيل: بِمَ كفرته؟ قال بآيات من كتاب الله {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} والقرآن من علم الله، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر». ولك أن تتصور الطالب في الصف الثاني الثانوي وهو يتلقى مثل هذا الكلام، مشيعاً بالتبجيل والتقديس للقائل!.
وفي مقرر التفسير للصف الثالث المتوسط، يقول المؤلف - في رحلة طويلة يأخذ بها الطالب في دهاليز الولاء والبراء -: «موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين من أمور العقائد التي اتفقت عليها شرائع الأنبياء». ويقول في المقرر نفسه ص68: «تحريم موالاة الكفار أو مناصرتهم أو معاونتهم أو مودتهم بأي وجه من الوجوه، ومن والاهم فقد حاد عن طريق الحق» تأمل قوله: بأي وجه من الوجوه!. ومثل هذه الجمل كثيرة في هذا المقرر خاصة.
بل إن في مقرر التفسير للصف الأول الثانوي ما يكشف حقيقة المنهج السلفي في تقعيده لقاعدة السلم والحرب، يقول: «لا يجوز مهادنة الأعداء إلا عند الضرورة». ويحاول مقرر التفسير للصف الثالث المتوسط أن يشحن الطالب بروح العداء عن طريق تعميم العداوة وأبديتها مع غير المسلمين، فيقول ص71: «لم يظفر الكفار بالمسلمين في زمن إلا وساموهم سوء العذاب وما يفعل بالمسلمين في هذا العصر خير شاهد على ذلك».
هذا جزء مما تصرح به السلفيات في سياق مؤسساتي مراقب، فما بالك بغيره مما لا يصل إلى درجة عمومية المناهج، فتكون الرقابة عليه أقل؟!. إن الذي يجعل التسامح مع هذه السلفيات تسامحاً سلبياً، وليس من قبيل التسامح الإيجابي الذي يقود إلى السلام الاجتماعي، أن هذه المفردات الإقصائية التوصيفية، ليست مجرد أفكار عابرة، وإنما هي مشروع نظري للممارسة السلوكية الاجتماعية التي على السلفي أن ينتهجها. التسامح مع هذه المفردات السلفية يعني - في المنظور الاجتماعي - التصويب لها، ومنحها فرصة النمو والانتشار، أي منهج الإقصاء والتعصب والتطرف فرصة القضاء على مساحات التسامح.
وهذا على عكس الأفكار المنفتحة على الآخر، إذ هي مهما بالغت في درجة الانفتاح، ومهما كان سلوكها (الليبرالي) متطرفاً - إن أمكن تطرف الليبرالي الحق! - فهي لا تدعو إلى عنف سلوكي في المتعين الاجتماعي، سواء كان ذلك العنف قولاً أو فعلاً.
هذا الفرق بين السلفية والليبرالية، هو الذي يحدد حدود التسامح في السياقات الفكرية عامة. ولا مجال للخلط بين الرؤية الليبرالية المتسامحة - بطبعها - مع جميع الأطياف الاجتماعية، والرؤية السلفية التي تقوم على المفاصلة في الديني، ومن ثم في السلوك الاجتماعي. تطرف هذا غير تطرف ذاك، الفرق في المآلات واضح، إلا لمن لا يريد أن يراه!.
3 - التسامح في سياق الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية. والتسامح في هذا السياق داخل في الثقافي؛ بوصف هذه الأعراف والعادات والتقاليد من مكونات الثقافي العام. وهذا يدل على صعوبة عزل الفكر عن السلوك، ولو كان هذا العزل لغاية المقاربة النظرية.
لكن، ومع صعوبة العزل، إلا أن السلوكيات العامة في المجتمع هي الأحق أن يمارس التسامح من خلالها؛ إنها ليست كالقوانين المدنية التي يجب أن تكون صارمة في حفظها للحقوق، ومن ثم للسلام الاجتماعي، وليست كالفكر في قدرة اللامتسامح على الدخول من خلالها باعتبار حق التفكير والتعبير.
استخدام قنوات الثقافة العامة - بما فيها الفنون كافة - في الترسيخ لمفهوم التسامح ضروري؛ لكي يترسخ التسامح كسلوك اجتماعي. التسامح الاجتماعي الذي نتغياه يعني بكل وضوح: أن الولاء للقواسم المشتركة بيننا، ولكل التمتع بخصوصياته الفكرية والاجتماعية بما لا يضر - ضرراً متحققاً - بغيره. ومن يحاول تأطير الجميع داخل رؤيته الخاصة فمكانه خارج الشراكة الاجتماعية.
http://www.alriyadh.com/2005/11/10/article106734.html