العلمانية
قضايا و اراء
43945 السنة 131-العدد 2007 ابريل 1 13من ربيع الأول 1428 هـ الأحد
عن العلمانية
بقلم: د. حازم الببلاوي
أثار اصطلاح العلمانية الكثير من الجدل حتي صار تعبيرا مشبوها عند البعض كما لو كان معاديا للأديان ولذلك كثر استخدام الاصطلاح البديل الدولة المدنية باعتباره اكثر تهذيبا وربما أقرب إلي مشاعرنا في احترام الاديان والعقائد والحقيقة أن مفهوم العلمانية قد أدي إلي خلط كبير في الأذهان نظرا لأنه ولد في بيئة مختلفة تماما ـ أوروبا ـ سواء من الناحية العقائدية أو السياسية, ولذلك انتقل إلينا في صورة مشوهة وغير كاملة, ومن هنا فقد يكون من المفيد التذكير بالظروف التي نشأ فيها هذا المفهوم.
يتعلق مفهوم العلمانية ـ وكذا الدولة المدنية ـ بقضية الفصل بين الدولة والكنيسة, الأمر الذي ترجم عندنا ـ تجاوزا ـ بأنه الفصل بين الدولة والدين.. والحقيقة أن المفهوم هو وليد التاريخ الكنسي في أوروبا في ظل العقيدة الكاثوليكية, وما ارتبط به من صراع بين السلطة السياسية للإمبراطور أو الملك, وبين السلطة الدينية لبابا روما, وقد أدي هذا الصراع بشكل أو آخر إلي انشقاق الكنيسة علي نفسها مع قيام الدعوة البروتستانتية, ثم إلي ثورة التنوير التي سعت لتخليص المجتمعات من قيود العصور الوسطي, وانتهاء بالثورات الكبري في أمريكا1776 ثم في فرنسا1789 والتي ساعدت علي تأكيد مفهوم العلمانية.
جاء اعتناق الامبراطور الروماني قسطنطين المسيحية في الثلث الأول من القرن الرابع دعما هائلا للديانة الجديدة مما أدي إلي تحول الدولة الرومانية في أقل من قرن إلي دولة مسيحية تلعب فيها دورا رئيسيا في الحياة العامة ومن الضروري هنا تأكيد الدور المحوري للكنيسة في العقيدة المسيحية الكاثوليكية فالكنيسة ليست مجرد تجمع أو تنظيم بشري لأفراد يؤمنون بدين معين بل إن لها نفحة إلهية مقدسة فهذه الكنيسة قد أرساها القديس بطرس الرسول, وهي تمثل ـ وفقا للعقيدة الكاثوليكية ـ جسد السيد المسيح ومعبد الروح القدس ولذلك فإن الكنيسة الكاثوليكية ليست هيئة أو كيانا عاديا بل هي ركن من أركان العقيدة الكاثوليكية, وبها نفحة مقدسة وهي وكذا البابا معصومان من الخطأ وفي ضوء هذا التصور عمدت الكنيسة وعلي رأسها البابا إلي التصرف كسلطة دينية لها ولاية بتفويض إلهي مباشر, فالكنيسة تمارس سلطتها الروحية كاستمرار لدعوة السيد المسيح علي الأرض.. ومن هنا بدأت تظهر في الامبراطورية الرومانية ازدواجية في السلطة هناك سلطة زمنية وهي سلطة مدنية سياسية بشرية يتولاها الامبرطور, ولكن هناك أيضا سلطة دينية روحية مقدسة يقوم عليها البابا والكنيسة الكاثوليكية.
ومع سقوط الدولة الرومانية الغربية476 م أمام هجمات القبائل الجرمانية دخلت أوروبا مرحلة العصور الوسطي وازداد نفوذ الكنيسة, وأصبحت أهم ركن في تنظيم الحياة الاجتماعية فبدأت تفرض نوعا من الضرائب أو الزكاة العشورTithe ولم تقتصر الكنيسة علي بيان الحلال والحرام في الحياة الدنيا, بل إنها ذهبت حتي إلي ضمان توفير أماكن في الجنة لمن يدفع, عن طريق بيع صكوك الغفران, ولم يحصر البابا تدخلاته علي الأمور الدينية البحتة بل توسع في كافة شئون الحياة حتي إنه شكل جيوشا لحسابه, وأصبح البابا ـ باسم السلطة الروحية ـ لاعبا سياسيا اساسيا في تسيير أمور أوروبا, وفي هذه الأجواء سادت إشاعة عن وجود وثيقة عرفت باسم وصية أو وديعة قسطنطينDonationofConstantine, ويوصي فيها الامبراطور قسطنطين للبابا سلفستر313 ـ335 والذي اعتنق المسيحية علي يديه, وبصفته خليفة للقديس بطرس الرسول باعطاء البابا حق الرئاسة علي كنائس الاسكندرية وأنطاكيا وأورشليم والقسطنطينية, فضلا عن الاستئثار بحكم الإمبراطورية الرومانية الغربية مع بقاء حكم الامبراطورية الشرقية لذرية قسطنطين وقد ثبت لاحقا أن هذه الوثيقة ملفقة ومزورة وترتب علي هذا وغيره أن زاد نف
ود البابا السياسي والديني في معظم أراضي أوروبا الغربية, ولم يلبث أن توج البابا الملك الجرماني شارلمان إمبراطورا للدولة الرومانية المقدسة لاحظ وصف المقدسة وكل ذلك يؤكد تطلعات البابا السياسية ودوره في الحياة العامة الأوروبية وهكذا فقد كان التاريخ الأوروبي قائما ليس فقط علي ازدواج وصراع علي السلطة, بين سلطة زمنية وأخري دينية, بل إن هذه السلطة الدينية استندت إلي مصدر إلهي مقدس. وقد أصبح هذا جزءا من العقيدة الكاثوليكية وهي تتمتع وفقا لذلك بالعصمة ولا تخطئ.
وإزا هذه الأوضاع ولد الفكر العلماني للحد من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية وقد بدأ الأمر في اطار الكنيسة نفسها حين انقسمت هذه الكنيسة بدعوة مارتن لوثر إلي البروتستانتية ـ أي الاحتجاج ـ حتي إنه ذهب الي حد اعتبار بابا روما عدو السيد المسيحAntichrist وفي نفس الوقت بدأ الفكر السياسي في الدعوة الي الفصل بين الدولة والكنيسة, وبحيث يقتصر دور الكنيسة علي الأمور الروحية والدينية دون تدخل في الأمور السياسية, والأمر الذي يستحق التأكيد هنا هو أن التنازع علي السلطة بين البابا والامبراطور لم يكن صراعا عاديا بين طرفين عاديين بل أن أحدهما الكنيسة يستند في دعواه الي أن سلطته مستمدة من الله مباشرة, فهي سلطة مقدسة ومعصومة من الخطأ فالمطالبة بالفصل بين الدولة والكنيسة جاءت لتأكيد أن السياسة هي عمل بشري بين العباد ولا مكان فيه لسلطة تعتقد أو تعلن أنها تمثل وحدها الله علي الأرض, السياسة هي عمل المواطنين جميعا ليس لأحد منهم ميزة أو عصمة, كلهم بشر وكلهم قد يصيب وقد يخطئ, فالعصمة لله وحده, وهذا هو المفهوم العلماني أو المدني فليس لأحد سلطة مقدسة في أمور السياسة, فأمور السياسة والحكم هي من أمور الحياة الدنيا علي الأرض وليس لأحد أن يدعي أن له فيها تفويضا من السماء أو أن سلطته مقدسة تتمتع بالعصمة.
وبعد الاصلاح الديني وما ترتب عليه من حروب دينية في أوروبا, جاء عصر التنوير والدعوة إلي سيادة العقل حيث بدأ نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في التراجع, وقد تأكد هذا الاتجاه مع الثورتين الأمريكية1776 والفرنسية1789, وتناول التعديل الأول للدستور الأمريكي بصدد الفصل بين الدولة والكنيسة أن الكونجرس لن يصدر قانونا يفرض دينا أو يمنع الممارسة الحرة للعقائد, ثم صدر القانون الفرنسي في بداية القرن العشرين1905 بتأكيد الفصل بين الدولة والكنيسة. وهكذا فإن العلمانية قد جاءت لمنع تدخل الدولة في شئون الكنائس وبالتالي الاديان وبالمقابل منع الكنيسة من التدخل في أمور السياسة.
وليس معني العلمانية بهذا الشكل أنها تنكر الاعتراف بالأديان أو باهميتها في حياة البشر, بل علي العكس فالعلمانية تحترم كل العقائد والاديان ولا تتدخل في شئونها كذلك فإنه من العبث إنكار أهمية الاديان في حياة الافراد, فالجميع يعترف بأن الأديان السماوية والعقائد الدينية تلعب دورا مهما في حياة الافراد وفي دوافعهم وسلوكهم, ولا أحد ينكر ذلك أو يعترض عليه, ولكن الاعتراض هو قيام سلطة دينية معصومة تستمد سلطتها من خارج البشر وتفرض احكامها علي الجماعة بمقتضي هذه السلطة الدينية المفوضة من السماء أو باسم الاديان ولذلك نجد أن الولايات المتحدة مثلا وهي من أكثر الدول حرصا علي الفصل بين الدول والكنيسة, تعرف آلاف التنظيمات الدينية من كل صنف ولون والدولة لا تتدخل في شئونها, ولكنها ايضا لا تساعدها ولا تمولها.
وإذا انتقلنا إلي الدولة الإسلامية فإننا نجد أمرا مختلفا فالاسلام لا يعرف كهانة أو كنيسة, فلا وسيط بين الفرد وربه, وليس لأي هيئة أو مؤسسة عصمة أو مكانة خاصة مقدسة فالاسلام لا يعرف قداسة لغير الأنبياء والرسل, وبوفاة الرسول عليه السلام, فإن الاسلام قد ترك أمور الدنيا في يد البشر وعلي مسئوليتهم وفي حدود قدراتهم, وهم بعد بشر قادرون علي الصواب والخطأ, الاسلام وضع مبادئ وقواعد للسلوك, ولكن ليس في الاسلام سلطة دينية أو احتكار للفتوي أو لتفسير هذه المبادئ والقواعد فالتفسير هو عمل بشري بحت يحتمل الصواب والخطأ ويتطور مع تطور المجتمعات واحتياجاتها والاسلام لا يعرف رجال الدين بمعني أهل الكهنوت الديني يتمتعون بعصمة أو قداسة خاصة, وإنما هم رجال علم واجتهاد, لهم أجرهم بقدر علمهم واجتهادهم, وخليفة المسلمين هو رجل سياسة وليس له قدسية دينية, ولم يستطع عمر بن الخطاب إلا أن يعترف بأن اصابت امرأة وأخطأ عمر فمفهوم السلطة الدينية أمر غريب عن الاسلام.
وقد اجتهد علماء الاسلام في تفسير وشرح احكام الدين, وتعددت الآراء, وكلها تمت تحت راية الاسلام ووفقا لمبادئه العليا وتعددت المذاهب واختلفت باختلاف الظروف وطبيعة الحياة, بل أن البعض مثل الامام الشافعي قد غير مذهبه عندما حضر إلي مصر لما رآه من أوضاع مختلفة عن الذي عرفه في الشام, وكل هذه المذاهب علي اختلافها اجتهادات صحيحة وليس لأحد أن يقطع بصواب أو خطأ أحد منها.
هذا هو موقف الغالبية من أهل السنة, فلا قدسية ولا عصمة لأحد بعد الرسول عليه السلام وتخالف بعض مذاهب الشيعة هذا الموقف, حين تعترف بنوع من العصمة للائمة من نسل علي رضي الله عنه, ومع ذلك فإنه حتي عند الشيعة, فإن عصر الأئمة قد انتهي, ونحن نعيش ـ وفقا لآرائهم ـ في عصر نواب الأئمة ـ ولا عصمة لهم انتظارا لعودة الامام الغائب وهكذا فإن الاسلام بسنته وشيعته لا يعرف ـ الآن ـ أي عصمة لأي فرد أو هيئة, ولذلك فقد كان جديدا ـ ومستغربا ـ أن تأتي الثورة الايرانية بمنصب جديد للمرشد الأعلي حيث يتمتع بولاية الفقيه باعتباره الحكم النهائي فيما يجوز وما لا يجوز شرعا مما يؤسس دولة إسلامية دينية وهو أمر غريب ـ علي أي الأحوال ـ علي فكر الغالبية من أهل السنة.
ونخلص من ذلك أن الاسلام لا يعرف أصلا مفهوم السلطة الدينية المعصومة من الخطأ وبالتالي فإن الاسلام قد ترك أمور تفسير وتطبيق الدين للبشر, باعتبارهم بشرا يصيبون ويخطئون الاسلام قد ولد في بيئة علمانية أو مدنية.
وقبل أن نختم قد يكون من المفيد تأكيد أن مخاطر التداخل بين الدين والسياسة لا تأتي فقط من تدخل الدين في السياسة بل قد لا يقل خطرا استخدام الدين من جانب السياسيين ولعلنا نذكر كيف دافع بعض رجال الدين عن اشتراكية الإسلام في الستينيات, وبعضهم يتحدث الآن عن الدولة المدنية في الإسلام, فالاسلام عندهم يتغير مع تغير الفصول, فهو اشتراكي في زمن الاشتراكية بقدر ما هو مدني في زمن الدولة المدنية, الاسلام لا يعطي لأحد سلطة دينية للحديث باسم الاسلام الحكم هو للجماعة وما تستقر عليه فهو الصواب وصدق رسول الله عندما قال لا تجتمع أمتي علي خطأ وهذه هي الديمقراطية وبشرط أن تتسع للجميع وحكم الديمقراطية هو حكم الأمة, كما أنه حكم الله.. والله أعلم.
www.hazembeblawi.com
|