{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #11
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

الأخ طريف سردست (f)
تحية لمجهودك ولتقديمك هذه الحلقات
من قبيل الاستفسار ، وتطلعًا إلى التعلم من شخص قرأ الكتاب وافترشه افتراشا ، اضع بعضًا من الاستفسارات عسى أن أجد إجابتي عندك ..
• المؤسس الأول : قصي بن كلاب المتنيح 480 م
قدم مروة سردا لأخباره رابطا بينه وبين حفيده محمد ، وحدثنا عنه من خلال ما خطه الإمام محمد ابن يوسف الصالحي الشامي وهو من مؤرخي القرن العاشر الهجري ؛ وعلل مروة اعتماده الكبير عليه بـ : " وربما أتاح تأخره النسبي الاطلاع على كتب التواريخ والسير ، منذ عصر التدوين حتى زمانه "
وأي تدوين يجدي أو أية قرون تجدي مع شخص قصي الذي استراح من الدنيا 480 م ، فالاعتماد على هذا المصدر بحسب رؤية المؤرخ غير جائزة ، وعليه فجل ما يرد عن قصي ( أو عدي حتى ) كلام من نسج المخيال العربي خاصة إذا التمسنا الأخبار عند شخص مثل الصالحي الشامي ، ونظرة إلى حجم كتابه الضخم في السيرة تنبئك بذلك .
يمكن مراجعة ما كتبه هشام جعيط عن مكة ، وقصي بهذا الشأن لمناقشة أفضل حسب رأيي ( سيره 2/117-122).
• لي سؤال حول هذه الجمله : أطلق الدكتور سيد القمني على قصي لقب " دكتاتور مكة " ولكننا نخالفه في ذلك ... هل ح . مروه يورد هذا في كتابه ، ويتحدث عن القمني ، هذا مقلق لي ، لأني لم أر أجهل من سيد القمني ( رغم اعجابي ببعض محاوراته وردحه المصري على الجزيرة ) يكتب حتى الآن وينال شعبية بهذه الصورة ومثل كلامه الذي يعتد به عوام المثقفين مثلا بمصر مثل كلام مشايخ السلف لا يفترق عنه ، وراجع ان شئت لـ جورج كنعاني : محمد واليهودية الملحق الأخير في كتابه ، ولا أدري من أية جامعة حصل القمني على شهادة الدكتوراه ! يمكن أن يكون نال الإجازه من السعوديه فهناك سهل أن تمنح لقب دكتور بعد صفك لبعض الكلمات في ملف ورد
ارجو ان تصوب لي .
• هناك كتاب يقبس منه أركون بخصوص مسألة الإيلاف ، ويقبس منه جعيط أيضا ، لفيكتور سحاب بعنوان : ايلاف قريش - رحلة الشتاء والصيف ط بيروت 1992 ، ربما كان الرجوع إليه هاما بخصوص متابعة بصورة أشمل لموضوع : الإيلاف .
• أما الذي أخبرنا أن عبد المطلب ( كان سادن الكعبة ) فهو شيخ الإسلام فضيلة الإمام الأكبر د . عبد الحليم محمود عندما عرب كتاب " محمد رسول الله" الذي ألفه أتبين دينيه / سليمان إبراهيم
هل هذا كلام مناسب ان يعتمد عليه في خبر أو في درس ؟! وكيف يتم الاعتماد على هذا كمصدر تاريخي ، فكاتب الكتاب رسام فرنسي كان مسيحيا وتحول الى الاسلام وخط كتابه حبا في الدين الجديد ، لا بحثا علميا رصينا يقدم لنا مفارقات في دراسة المادة التاريخية ، ولا أدري أي سبب مقنع علميا يعلل لمروة الاعتماد عليها بكثره هو وسيد القمني
• على الرغم من تأليف بعضهم ( عماد الصباغ – الاحناف ) كتابا مستقلا عن هذه الظاهره ، وعلى الرغم من تمسك البعض من وجود هذه الطغمه من النساك في موطن دعوة محمد ، واذا كان عبد المطلب زعيم أو غيره اضلع من محمد فلم يأكل من ذبيحة الأصنام كما أكل محمد ، وعلى الرغم مما ينسج حول شخص ورقة بن نوفل من أساطير ، فإنه أعجبني بشدة كلام جعيط في السيرة الجزء الأول من أننا إذا استثنينا مصدر البخاري عن ورقة فيكون ورقة شخص مؤسطر لا وجود له تاريخيا ، وعند : علي حبيبة كاتب : عصر الرسالة كلاما قريب من ذلك بخصوص الحنفاء او الاحناف ، وعليه لا أرى قيمة لتلك الهالة التي تلمس حياة هذه الشخصيات شبه الأسطورية .
ولا أدري أين يذهب عن مروة ما أنتجه الدرس الاستشراقي بخصوص اطلاع محمد مثلا على وريقات ترجمها ورقة المسيحي ابن عم زوجته ، فأين ما يقوله جراف ونولدكه ونبيه عبود ، يرجى مراجعة فقرة ترجمة الكتاب المقدس عند الشرفي وعند امتياز احمد في بحثه عن دلائل التوثيق بإشراف منتغمري وات ، لأني أرى تسليما شديدا بروايات التاريخ وكأنها أناجيل قدسية من مروة ، ويتعامل مع الخبر برؤية مفسر القران فيقوم باستظهار فوائد النص دون استفسار أو شك وهذا ما لا يقبله الدارس لهذه الحقبة التاريخية فضلا عن غيرها .

• " ولقد حقق الإمام محمد ابن يوسف الصالحي يوم ميلاد محمد عليه السلام وانتهى إلى أنه ( بعد الفيل بخمسين يوماً ، وقال ابن كثير وهو أشهر وصححه المسعودي السهيلي وزادا أنه الأشهر والأكثر ) ، فإذا كان المولد النبوي يوم 20 أغسطس 570 م وأنه كان بعد عام الفيل بخمسين يوما يكون" الفيل "أي حملة أبرهة وقعت في أواخر شهر يونيو وفيه تصل حرارة الجو إلى خمس وخمسين درجة في الظل داخل مكة فكم تبلغ في الصحراء والجبال المحيطة بها "
• أي تحقيق حدث لتحديد ميلاد محمد ، حتى محاولة محمود باشا الفلكي لتحديد يوم ميلاده ، لم تسلم من انتقادات الباحث العربي ( لا اذكر تحديدا المرجع الان ) فضلا عن الغربي ( راجع ملاحظات نولدكه عليه ) ، وانظر تحديد تاريخ ميلاد النبي محمد في كتاب محمود باشا الفلكي : التقويم العربي قبل الإسلام وتاريخ ميلاد الرسول وهجرته .
وللحديث وصلة أخرى
والشكر موصول لك يا طريف على ما تبذله

11-15-2007, 04:44 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #12
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة
العزيز يجعله عامر
من الصعب الحكم على روايات الفترة الاولى بدقة، ومن الصعب تجاهلها تحت تعبير " مؤسطر" لقلة ماورد، خصوصا وان الكتابة لم تكن الخاصية القوية للعرب الاوائل. ومما يثير الاستغراب سرعة التوجه الى الحكم بالاسطرة، وهي موضة اصبحت شائعة اليوم للتخلص من الروايات الغير مناسبة، مع ان لااحد يتعرض للروايات المناسبة، وعلى الاغلب فمثل هذه الاحكام تنشئ " استنقائيا" بدون قاعدة موضوعية..
منذ فترة قصيرة نشر احد الباحثين دراسة خرج بمقتضاها ان مذبحة يهود قريظة لم تجري على الاطلاق، ودراسة اخرى لباحث اخر ان ابن سلول شخصية خرافية، ودراسة اخرى تشير ان لمحمد كانت ابنة واحدة "فاطمة فقط"، وحتى دراسة تشير الى ان محمد نفسه شخصية اسطورية. ان نقص الوثائق ليست مبررا لنفي ماجاء فيها طالما انه لايوجد هناك اساس للشك بوجود مبررات للتزوير..كما هو الامر مع احاديث خدمة السلاطين الامويين ومع اغلب احاديث ابو هريرة او قسم من احاديث الشيعة .

ان الدراسة التي اشرت اليها حول تاريخ ولادة النبي، وحسب مااتذكر، كانت ايضا " تقديرية" وتقوم في بعض نقاطها على استثناء بعض الخيارات لتسهيل الوصول الى النتائج المطلوبة..

ومهما كان الامر، فأن عرض الكتاب هام للغاية من حيث انه (في شكله العام) مصدر لوجهة نظر واقعية للغاية، بغض النظر عن درجات التوفيق في استخدام بعض الاستنادات، فالمسيار العام يتطابق تماما مع المنطق، ومن هنا اهمية الكتاب المميزة. انه يضع الاحداث في سلسلة مسيارها التاريخي.

واخيرا احب ان اشير الى ان استخلاص اي كاتب لوجهة نظر من المصادر المتوفرة، والتعبير عنها بطريقته مثلا ديكتاتور مكة، قد لاتكون موفقة من وجهة نظر اخرين، ولكنها قد تكون متطابقة تماما في سياق اسلوب الكاتب على التفكير، مع اني شخصيا لااعتقد امكانية ظهور ديكتاتور في ذلك العصر بالمفهوم الحديث للكلمة..

وبالمناسبة توجد الكثير من الدلائل التي تشير الى تأثير اليهودية والنصرانية والصابئية والزرادشتية على القرآن، وهذا لايمكن بدون ان تكون هناك اتصالات فعلية بين محمد وممثلي هذه الثقافات... ومهما كان الامر فكل وجهات النظر يمكن مناقشتها في اطار حقائق ارض الواقع لنصل بمساعدتها الى بناء السيناريو الاقرب للحقيقة وليس لاستخدامها من اجل تحييد بعضها البعض...

تقبل مني كل الود:97:
11-15-2007, 10:57 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #13
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة
النصرانية " المسيحية "
انتشرت الديانة التوحيدية الثانية ونعني بها النصرانية أو المسيحية في الجزيرة العربية انتشاراً واسعاً وكان حظها من ذلك أكبر من الموسوية أو اليهودية وقد شاركت في ذلك عدة عوامل جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية .

نبدأ بالجغرافية : الأقطار المحيطة بالجزيرة آنذاك كانت تدين بالمسيحية فسوريا في الشمال الغربي والعراق في الشمال الشرقي واليمن في الجنوب والحبشة في الغرب ( عن طريق البحر الأحمر ) ، ولم تكن شعوب تلك الأقطار بكاملها تعتنق الديانة الإبراهيمية الثانية " النصرانية " ، غير أنها كانت تمثل الديانة الرسمية لغالبيتها أو شطر كبير منها ، وفي الأطراف كانت دولة الغساسنة وكانت ملة أمرائها النصرانية . والإخباريون ينقلون إلينا أن آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم الذي أدركته جيوش الفتح العربي ( عندما التقى بالخليفة الثالث عمر بن الخطاب كان على نصرانيته ، فعرض عليه الإسلام فأنف منه ، فذهب إلى بلاد الروم في ثلاثين ألفاً فلما بلغ ذلك عمراً ندم ، وعاتبه عبادة بن الصامت فقال :لو قبلت منه الصدقة وتألفته لأسلم ) وبذلك يثبت أن حكاية إسلام جبلة المذكور ثم ارتداده أنفة من القود الذي توعده به عمر رضي الله عنه ( مسطورة ) كغيرها من مئات المسطورات التي يحفل بها التاريخ العربي ، وأيضاً في الأطراف كانت هناك دولة المناذرة في الخيرة والتي بدأت جذور المسيحية تنمو فيها على يد ملكها أمرؤ القيس الأول ، ثم أخذ عودها يستقيم على عهد حفيده النعمان . وهكذا بدت الجزيرة العربية وقتذاك محاطة بسوار من الدول والدويلات النصرانية فيها أما الديانة الرسمية أو الغالبة .

في العراق ، وإن لم تكن المسيحية الديانة الرسمية في العراق فأنها تأصلت في الرها وجندي سابور ونصيبين وسلوقية بل كان في بعض هذه المدن مدارس في اللاهوت والفلسفة حازت شهرة واسعة استمرت حتى الخلافة العباسية .وعن الأسباب التاريخية فالأستاذ العقاد يرجعها إلى ( ما ألم بالكنيسة الشرقية من الاضطهاد واختلال الأحوال في صدد المائة الثانية للميلاد ، إذ اضطر كثير من نصاراها أن يلجأ إلى بلاد العرب طلبا للحرية وكان معظمهم يعاقبه ) .ومنها غزو الأحباش لليمن ، ثم محاولة أبرهة الخائبة لمد سلطانه إلى قلب الجزيرة العربية وأن هذه الحملة وأن باءت بالإخفاق فأنها تركت أثراً دينياً وإن جاء محدوداً في المواقع التي مرت بها جيوش الأشرم . ( كذلك انتشرت المسيحية في قبائل تغلب وغسان وقضاعة في الشمال وفي بلاد اليمن في الجنوب .
وقد دخلت العربية بفضل جهود اباطرة الدولة الرومانية الشرقية في القرن الرابع الميلادي ، وكان من أثر هذه العلاقات الوثيقة بين العرب والبيزنطيين أن تأثر العرب إلى حد ما بالمسيحية ، فانتشرت في الجنوب عن طريق الحبشة والشمال عن طريق سورية وشبه جزيرة سيناء الآهلة بالأديار والصوامع ) ( وفي رواية أخرى - نقلاً عن الطبري - أن الذي زرع النصرانية في عرب الجنوب واليمن ذو نواس قبل تهوده فلما تهود سمي بـ " يوسف " وهو الذي حفر الأخدود بـ " نجران " ثم قاتل النصارى )( أما في الجنوب والجنوب الغربي فقد كانت الحبشة من المراكز التي تشعشعت فيها المسيحية إلى بلاد اليمن وبلاد الحجاز وفي الغزو الحبشي الثاني لليمن في عام 525 م ، وعلى أثره انتشرت المسيحية في اليمن ، واتخذ أبرهة نجران مركزاً رئيسياً لهذا الغرض وانتشرت المسيحية في بلاد العرب ، وبوجه خاص في طئ ودومة الجندل )( وكانت نجران الموطن الرئيسي للنصرنية في العربية الجنوبية ، ولعلها الموطن الوحيد الذي توطدت فيه هذه الديانة في اليمن ، وعند ظهور الإسلام كانت نجران المركز الرئيسي للنصرانية في اليمن ) وذكر د. محمد إبراهيم الفيومي أن ( المسيحية دخلت قلب مكة مع الغزو الحبشي لها ) بل أننا سوف نرى فيما يلي أن النصرانية اخترقت قبيلة قريش ذاتها وهي التي كان يتولى أفراد منها سدانة الكعبة وما كان بها من أصنام .

ويرى د . الفيومي أن الاضطهاد الذي وقع على أتباع المسيح عليه السلام كان أسباب انتشارها في الجزيرة العربي ودخلت على يد الحارث الغساني ) . وفي نطاق الأسباب السياسية فهي ( تتمثل في سعي الروم لمد سلطانهم في الجزيرة العربية عن طريق نشر دينهم على أيدي رجال الدين الذين يبشرون به ) ولقد ( حاولت المسيحية واليهودية أن تتغلغلا في الجزيرة العربي وكانت متصلتين بالصراع السياسي إذ بدت كل منهما حليفة لإحدى الدولتين الطامعتين ) . ويؤكد عطا الله جليان أنه ( كان للمذاهب النصرانية في مكة والمدينة وصنعاء ونجران واكسوم مرجعيات سياسية ومذهبية مركزية خارجية ) ، وهكذا نرى أن السياسة لعبت دور كبير في نشر المسيحية ، وكانت الدولة الرومانية " البيزنطية " توظف الدين لصالحها ، وتوقن أن تنصير القبائل العربية يخدم مصالحها ، بل أنها لم تتورع عن سلوك طريق الغزو المسلح لنشر المسيحية رغم ما في ذلك من مفارقة مضحكة ، ذلك أن المسيحية كما تصف نفسها جاءت لتلقي على الأرض السلام وللناس المحبة والمسرة ( يصور بعض المؤرخين المنازعة بين اليهودية والمسيحية في الجزيرة العربية كأنها نزاع ديني محض بين اليهودية والمسيحية في حين هي بجوهرها - بالرغم من اتخاذها المظهر الديني ـ نزاع سياسي بين ملوك الأحباش والحميريين )
ويستطرد حسين مروة فيقول ( كانت حملة الأحباش على مكة إذن إحدى ظاهرات الصراع على السيطرة السياسية والاقتصادية أساسياً ، لكن الإخباريين لا يجدون تفسيراً لها سوى التفسير الديني المحض ) ونذكر في مجال الأسباب الاقتصادية ( اتصال العرب بكل من نصارى الشام ومسيحيي اليمن في رحلتي الشتاء والصيف) كذلك كان عرب الجزيرة وخاصة من يقطنون الأطراف الشمالية على اتصال بكل من الغساسنة والمناذرة ، الذين كانت تفشو فيهم ديانة المسيح . ويذهب الأستاذ العميد د/ طه حسين أن العرب عرفوا النصرانية في الشام والعراق وربما في مكة وفي الطائف بفضل التجارة من جهة وبفضل من كان يصل إليها من الرقيق من جهة ثانية ، وبفضل بعض التجار الذين غامروا بأنفسهم وتجارتهم فوصلوا إلى مكة واستقروا فيها ، وكذلك عرف العرب المسيحية في نجران ) . ومن رأي د .محمد إبراهيم الفيومي ( أن المسيحية دخلت مكة وأن رحلات قريش التجارية ونظرية تقسيم الناس إلى أحرار وعبيد ساهمت في إدخال المسيحية في مكة ).( أما الحجاز فقد كان يستقبل بانتظام القوافل القادمة من أطراف سوريا وما بين النهرين ، وكانت تلك المناطق تذخر بالأديرة والمعابد فكانت هذه القوافل تحمل معها القصص والموضوعات المسيحية ) كذلك ( كان في الحيرة من سراة النصارى من اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية مثل كعب بن عيد التنوخي فهو من سراة نصارى الحيرة ، وكان أبوه أسقفاً على المدينة ، وكان يتعاطى التجارة وله شركة في التجارة في الجاهلية مع عمر بن الخطاب في تجارة البز وكان عقيداً له )
ويرى كارل بروكلمان أن بلاد العرب الداخلية وخاصة مدن الحجاز التجارية لم تكن تجهل تعاليم المسيحية وتقاليدها بسبب من اتصالهم الدائم بقبائل الشمال ) . ومن أسباب انتشار النصرانية عند العرب وخاصة في الحجاز وجود عدد كبير من العبيد ( الرقيق ) الذين كانوا يدينون بها وقد كانت في مكة عند ظهور الإسلام جالية كبيرة من العبيد عرفوا بالأحابيش ومن هؤلاء عدد كبير من النصارى استورد للخدمة وللقيام بالأعمال اللازمة لسراة مكة . وقد ترك الأحابيش أثراً في لغة أهل مكة مثل عدد من الكلمات الحبشية والأدوات التي يحتاج إليه في الصناعات ، وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بها العبيد وفي المصطلحات الدينية ) وهو ذاته ما أكده برهان الدين دلو والعميد طه حسين قال أن العرب في مكة والطائف عرفوا النصرانية بفضل من كان يصل إليهم من الرقيق ـ وجاء في كتب السيرة النبوية أن محمد ( ص ) عندما ذهب إلى الطائف يدعو إلى دينه قابل رجلاً نصرانياً من أهل نينوي يسمى " عداس " كان غلاماً أي عبداً لعتبة وشيبة ابنى ربيعة مما يؤكد انتشار الأرقاء النصارى في بيوت الأرستقراطية في مكة والطائف . وساهم وجود عدد من الأديرة التي يقطنها الرهبان النصارى في إفشاء الديانة الإبراهيمية " المسيحية " بين عدد من القبائل ( لعبت الأديرة دوراً هاماً في نشر النصرانية وتشير جغرافية توزيع الأديرة على انتشارها حتى في المواضع القصية من البوادي . وكانت الأديرة تتلقى المعونات من كنائس العراق والشام ).

ويؤكد د . جواد علي على هذه الحقيقة التاريخية فيقول ( أن دخول النصرانية إلى العرب كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا ، وبالتجارة والرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة ) وسبق أن ذكرنا أن د . حسن إبراهيم حسن أورد أن سيناء كانت أهله بالأديرة والصوامع ) و( من المواضع التي وجدت فيها النصرانية سبيلاً في أرض العرب : أيله .. ووادي القرى نزلته قضاعة فهي من أثبت القبائل في النصرانية وكان يسكنه نفر من الرهبان ذكرهم جعفر بن سراقة بقوله :فريقان رهبان بأسفل ذي القرى وبالشام عرافون ممن تنصروا إن انتشار الأديرة والصوامع في وادي القرى وشبه جزيرة سيناء بل وفي الأصقاع القاصية من بوادي الجزيرة كان عاملاً فعالاً في نشر المسيحية بين القبائل لأن هؤلاء الرهبان والنساك كانوا يرون لزاماً عليهم نشر ديانتهم اقتداء بالمسيح عليه السلام ونقرأ في دواوين السيرة المحمدية أن الرسول ( ص ) عندما بلغ اثنتى عشر عاماً خرج مع عمه أبي طالب في ركب للتجارة سنة 582 م إلى الشام وأنهم قابلوا على الطريق راهباً من أهل النصرانية في صومعته يسمى بحيري ( وفي نجد اعتنق النصرانية قوم من طيء وكندة وقد أنشئت أديرة لرهبان النصارى في جبال طيء ) ، ولقد كان الكثرة من هؤلاء الرهبان على علم بالطب وظفوه واستخدموه في توطيد صلاتهم بعدد من شيوخ القبائل والتبشير بدينهم ( كان الكثير من المبشيرين على علم ووقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس فتمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم من الأمراض).

ويرى بروكلمان أنه ( ليس من شك في أن الرهبان الذين انتثرت صوامعهم حتى قبل الصحراء كان لهم كبير أثر في تعريف العرب بالنصرانية وبلغ من تمكن النصرانية في بعض قبائل شبه الجزيرة العربية أن عدداً من أفرادها ذوي النفوذ فيها قام بدوره ببناء أديرة وصوامع .ويبين مما تقدم أن العديد من الأسباب تضافرت لإذاعة ديانة المسيح عليه السلام في الجزيرة العربية حتى أن قبائل كبيرة فشت فيها تلك الديانة كما سنوضح فيما بعد ، بل أن المسيحية دخلت مكة والمدينة المقدسة ومعقل الوثنية آنذاك ليس هذا فحسب بل إنها استطاعت ان تخترق قبيلة قريش صاحبة الولاية على مكة ، إذ آمن بالنصرانية بعض بطونها ونفر من رجالاتها - وهنا يتعين علينا أن نضع في حسباننا أن النصرانية ديانة تبشيرية ليست مغلقة على أهلها كاليهودية وكان ذلك أحد عوامل انتشارها .
تلك كانت أسباب انتشار الديانة السامية والتوحيدية الثانية ( المسيحية النصرنية ) في جزيرة العرب . ولكن في أي البقاع انتشرت ؟

ذكرنا فيما قبل استقرارها في شمال شبه الجزيرة العربية لدى الغساسنة والمناذرة ومدن الشمال الشرقي ( العراق ) ثم في الجنوب في اليمن وفي البحرين وعمان بفضل البعثات التبشيرية ) وفي بلاد الحجاز وخاصة وادي القرى وكان أهل نجران نصارى وقدم منهم وفد إلى يثرب على عهد محمد عليه السلام برئاسة السيد والعاقب والأسقف ، وظل النصارى بنجران حتى خلافة عمر رضي الله عنه حيث أجلاهم تحت شعار " لا يجتمع في جزيرة العرب ( دينان ) ولو أن الطبري يذكر في تاريخه أنه كان بنجران في زمانه بقايا من أهل دين عيسى بن مريم على الإنجيل وأنهم أهل فضل وعبادة ) ( وكما انتشرت المسيحية في بلاد العرب وبوجه خاص في طيء ودومة الجندل ) وكانت هناك صوامع في وادي القرى ووجدت في نجران كنيسة أطلق عليها " كعبة نجران " ومال نفر من العرب إلى الرهبنة وبنوا أديرة ، والإخباريون ( يحدثونا أن حنظلة الطائي فارق قومه ونسك وبنى ديراً بالقرب من شاطئ الفرات يعرف بدير حنظلة ) وكان لتنصر المناذرة أثر كبير في بناء الأديرة والكنائس منها : كنيسة بيعة بني مازن ، وأخرى تسمى بيعة بن عدي ، ومنها كنيسة الباغوتة ، أما الأديرة فكثيرة منها : ( دير اللج ، ودير مارت مريم ، ودير هند الكبرى ، ودير هند الصغرى ، ودير الجماجم ، ودير عبد المسيح ) .

نظراً لانتشار المسيحيى بهذه الصورة ، فقد كان من المحتم أن تقوم الكنيسة بتنظيم شئون العبادة في تلك المراكز ، ولا تتركها تسير بصورة عشوائية وهذا ما رجحه العقاد ( ولما كانت للنصرانية هذه المثابة من الامتداد في بلاد العرب لزم عن ذلك ولابد أنه كان للنصارى أساقفة في مواضع جمة منها لتنتظم بهم السياسة للكنائس وقد تقدم ذكر أسقف ظفار وقال بعضهم كانت نجران مقام أسقف وكان لليعاقبه أسقفان : يدعى أحدهم أسقف العرب بإطلاق اللفظ وثانيهما يدعى أسقف العرب التغلبيين ومقامه بالحيرة ، أما النساطرة فلم يكن لهم من هذين الكرسيين سوى أسقف واحد تحت الرئاسة بطريك له ) كما (عمد جوستنيان في عام 543 م إلي تنصيب أسقفين مونوفيزيين مستقلين للمناطق الواقعة علي الحدود العربية هما: يعقوب البرادعي وتيودور وساعد الحارث بن جبلة ملك الغساسنة في تمكين المذهب اليعقوبي في مجالات بعيدة بين العرب في شمال شبه الجزيرة العربية ) ويؤكد أحمد أمين أن ( كعبة نجران كان فيها أساقفة معتمدون ) وقد اشتهر من بين رؤساء الإسلام قبل الإسلام قس بن ساعدة ويذكر أدباء العرب أنه كان أسقف نجران ، ويقطع لامانس في كتابه عن يزيد ببطلان ذلك ويذكر أنه لم يكن له صلة بنجران ) وربما كان ظن أدباء العرب ، ذاك الذي ذكره أ . أحمد أمين ، مبعثه أن قساً كان يخطب في أسواق العرب مثل غيره من الأديان الذين كانوا يتخذون من تلك الأسواق منابر للتبشير بعقائدهم .

أن كتب السيرة النبوية المعتمدة جاء فيها أن النبي محمداً ( ص ) سمع قس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ وأنه ذكر لوفد بني إياد عندما وفد إليه في المدينة عام الوفود وأن واحدا منهم أعاد على مسامع محمد ( ص ) مقاطع من الخطبة التي سمعها الرسول ويقول د. محمد حسين هيكل كانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرة فيها أنشد أصحاب المعلقات معلقاتهم ، وفيها خطب قيس وفيها كان اليهود والنصارى وعباد الأصنام يحدث كل عن رأيه آمنا لأنه في الشهر الحرام ) ولكن د. هيكل يذهب إلى أن قساً راهب نجران النصراني وهو الذي رفضه لامانس أنه من المرجح أنه من الحنيفية ثم أورد د . هيكل إحدى خطب قس بن ساعدة التي كان يلقيها في سوق عكاظ :
( أيها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو أت أت ، ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، وبحار تزخر ، ونجوم تزهر ، وضوء وظلام ، وبر وآثام ، وطعم ومشرب ، وملبس ومركب ، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا ، وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه ، وأدرككم وأنه فطوبي لمن أدركه فاتبعه وويل لمن خالفه )
فهنا نجد أن قساً في خطبته ذكر الآيات الكونية التي تدل على أن الحياة لم تخلق عبثاً وألمح إلى البعث والنشور والحساب ، والأهم من ذلك كله أنه بشر بقرب ظهور دين جديد أفضل وأكمل ، ولا يأتي بداهة إلا على يد نبي أو رسول ، وواضح أن ابن ساعدة قد تأثر بتعاليم الديانتين التوحيديتين الموسوية والعيسوية وبأفكارهما وبقيمهما وأخصها عقيدة المخلص الذي يفك أسر المأسورين ويرفع الظلم عن المظاليم ويحقق العدل المطلق وهو الحلم الأبدي الذي يقض مضجع البشرية منذ بدء الخليقة ، وتبني الإسلام هذه الفكرة تحت اسم ( المهدي المنتظر ) ، ومن اللافت للانتباه أن هذه الفكرة أو العقيدة من الأفكار أو العقائد القليلة ، وإذا شئنا قلنا النادرة التي يتفق على الإيمان بها أهل السنة والجماعة مع الشيعة ويروون الأحاديث التي تؤيدها ـ كما أن هذه الفكرة ذاتها هي نقطة التقاء بين الديانات السامية الثلاث : اليهودية والمسيحية والإسلام ، وتجد نظائر لها في العقائد الأخرى .

إن خطبة قس التي أوردنا فيما سلف بعض نتف منها تذكر كتب السيرة المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول ، بل والتجلة ، أن محمداً عليه السلام سمعها في عكاظ أو في غيرها من أسواق العرب مثل مجنة أو ذي المحاز ودومة الجندل ونطاة خيبر والمشقر وحجر اليمامة ، وتلك الأسواق كانت مجال خطب الدعاة والمبشرين الدينيين ، ومعرض قصائد الشعراء ومعلقات فحول الشعراء . ( قدم وفد إياد ـ قبيلة قس بن ساعدة - على النبي محمد ( ص ) فقال لهم : ما فعل قس بن ساعدة ؟ قالوا : مات يا رسول الله ، قال : كأني أنظر إليع بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا رسول الله وتلا عليه الخطبة فقال رسول الله : يرحم الله قساً أني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده ) ولعل اعتناق قس بن ساعدة لدين عيسى عليه السلام - في رأي من يذهب إلى ذلك . أما نحن فنرجح أنه كان أحد الأحناف أو المتحنفين - نقول لعل اعتناق قس للمسيحية كان أحد أسباب انتشار النصرانية وفشوها بين أفراد إياد التي كانت واحدة من القبائل التي ذاعت فيها الديانة السامية الثانية _ أو المسيحية _ وهناك مبحث خاص سوف نخصصه للقبائل التي غزتها المسيحية وانتشرت بين أفخاذها وبطونها واعتنقها أبناؤها ، أو على أقل تقدير عدد وفير منهم ربما يصل إلى الأغلبية ، ( ويعد قس بن ساعدة من شعراء النصارى العرب مثل أمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد )

ويذهب د. السيد عبد العزيز سالم أن ( ممن اعتنق المسيحية من مشاهير العرب : أرباب بن عبد القيس وعدي بن زيد العبادي وأبو قيس ابن أبي دانس من بني النجار وورقة بن نوفل وعبيد بن الأبرص وبحيري الراهب ) وورقة بن نوفل أحد أبناء عم أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها أولى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به ، كما ان ورقة هو الذي قال أنه سوف يكون نبي الأمة ، أما بحيري الراهب فهو الذي تقابل معه محمد عندما كان غلاماً متوجهاً بصحبة عمه أبي طالب إلى الشام للمتاجرة ، ويقال أن ( أول من تنصر من ملوك الحيرة النعمان بن المنذر ، قيل على يد الجاثليق عبد يشوع ، وقيل على يد عدي بن زيد العبادي ، ودان بالنصرانية كثير من قبائل العرب النازلين بالحيرة أو بالمنطقة المحيطة بها من بينهم : تغلب من بطون من بكر بن وائل في ديار بكر ، وكانت هند بن النعمان زوجة المنذر بن امرئ القيس مسيحية ، فنشأ ابنها عمرو بن المنذر الذي تولى حكم الحيرة فيما بين عامي 554 / 569 م مسيحياً ، وإلى هند هذه ينسب دير هند الكبرى بالحيرة )
وكانت تنقلات القبائل أو بطونها أو أفخاذها مستمرة بين أطراف الجزيرة ووسطها ، ولذا فإن قبيلة تغلب هذه لم تكن هي الوحيدة التي فشت فيها النصرانية بل الكثير غيرها مثل : إياد قبيلة قس بن ساعدة وتميم وحنيفة وقضاعة وغيرها ، بل أن النصرانية اخترقت قبيلة قريش ذاتها ، فقد سبق أن كعب بن عبيد التنوخي وهو من سراة الحيرة النصارى رضي الله عنه قبل ظهور الإسلام ( وقال اليعقوبي : وأما من تنصر من أنحاء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم عثمان بن الحويرث بن عبد العزى وورقة بن نوفل من أسد ) وقد ساق هذه الحقيقة التاريخية برهان الدين دلو (برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام الجزء الثاني ص224 مرجع سابق ) وبذلك يمكن القول أن النصرانية كانت متغلغلة في مكة ، واخترقت بعض بطون قريش بل أن البعض يذهب إلى أن المسيحية وجدت داخل الكعبة ذاتها ، ولو أننا نرى أن هذا الرأي ربما يفتقر إلى الأدلة الوثوقية ، وأن استند إلى بعض القرائن التي لا ترقى إلى درجة الدليل منها أن ( عدي بن زيد ) وهو من أشهر شعراء العرب النصارى في الجاهلية يقول :سعى الأعداء لا يألون شراً عليك ورب مكة والصليب فكيف يؤمن رجل نصراني بعيسى والصليب ويقسم بالكعبة مجمع الأصنام ، واتخذه الأب شيخو دليلاً على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها وعلى أن النصرانية قديمة فيها ... وأضاف أن : صور الأنبياء وصور عيسى وأمه التي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة ولهذا أقسم عدي بها وكذلك الأعشى :حلفت بثوبي راهب الدير والتي بناها قصي والمضاض بن جرهموالأعشى عاش في الجاهلية وأدرك الرسول ومدحه ) ( د. جواد علي المفصل ، المجلد السادس ، ص666ـ669 ، مرجع سابق ) .

وأياً كان الأمر فإن النصرانية كان لها وجود في جوف الكعبة - حتى مع عدم ترقي تلك القرائن لدرجة الدليل الذي تطمئن إليه النفس ـ ذلك أن محو صورتي عيسى وأمه مريم بأمر محمد ( ص ) قد ورد ذكره في كتب السيرة .ويؤكد أ . محمد كرد على وجود صور عيسى وأمه ، بقيتا حتى رآهما من أسلم من نصارى غسان وكان على أحد همد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مرزوقاً ) (محمد كرد علي ، الإسلام والحضارة ، ص123 الجزء الأول ، المرجع السابق .) عن ابن شهاب أن النبي (ص ) دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة فرأى صورة إبراهيم فقال : قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال : امحوا الصور إلا صورة مريم . اخبرني محمد بن يحي عن الثقة عنده عن ابن اسحق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم أن قريشاً كانت قد جعلت في الكعبة صوراً فيها عيسى بن مريم ومريم عليهما السلام .قال ابن شهاب : قالت أسماء بنت شقر : أن امرأة من غسان حجت في حجاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت : بأبي وأمي أنك لعربية ، فأمر رسول الله ( ص ) أن يمحو الله تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم .

ولعل من أظهر آثار الديانتين الساميتين على عرب الجزيرة قبل بعثة محمد عليه السلام ، شيوع أسماء الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهدين القديم والجديد ( التوراة والإنجيل ) مثل : آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتل في الجاهلية وهو الذي وضع النبي محمد عليه السلام دمه بعد فتح مكة ، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي ، واسحق الغنوي وهو من الصحابة وأبو أيوب الأنصاري ، وهو الذي نزل عليه الرسول عند مقدمه يثرب مهاجراً من مكة وسليمان بن نوفل ، وسليمان بن أبي حتمة القرشي ( كما كان اسم عبد المسيح شائعاً كثيراً لدى أهل الحيرة خاصة ) ولعل القارئ قد لاحظ أن عددا من هؤلاء كان من قبيلة قريش مما يدل على تأثرها بالمسيحية ، كذلك بين النساء انتشرت الأسماء الواردة في الكتابين المقدسين مثل : ( آسيا بنت الفرج الجرهمية ، مارية مولاة حجري بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل ، وهي التي حبس في بيتها الصحابي خبيب بن عدي، وحواء بنت زيد بن السكن ، وحواء بنت بجيد الأنصارية ، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رضي الله عنها إحدى زوجات النبي محمد ( ص ) ومريم بنت إياس الأنصارية وأم عيسى بنت الجزار وأم يحي امرأة أسيد بن حضير أحد زعماء الأنصار ) وكلهن صحابيات . ******** من هذا كله يبين أن المسيحية كانت منتشرة في وسط الجزيرة العربية وأطرافها وذلك للأسباب التي أوردناها وكان حظها من الذيوع والانتشار أوفر من الديانة السامية التوحيدية الأولى ( اليهودية ) لعلل لا تخفى ، في مقدمتها أن النصرانية ديانة تبشير فضلاً عن استنادها إظلى مرجعيات سياسية متنفذة : دولتي الروم والحبشة ودويلتي أو إمارتي : الغساسنة والمناذرة ، والنصرانية كما اليهودية تركت أثاراً عميقة الغور في عرب الجزيرة على الأخص في الناحية الاعتقادية ، نذكر : أولاً : ترسيخ عقيدة التوحيد التي وضعت بذرتها اليهودية أي الإيمان بإله واحد ونبذ ما عداه ، وترك التعددية الإلهية المتمثلة في عبادة الأصنام والأوثان ، وسبق أن ذكرنا أن انتشار المسيحية واليهودية في القبائل العربية كانتا من أوائل العوامل التي دفعت إلى تفسيخ الوثنية العربية لصالح عقيدة التوحيد ، وإلى إقناع العرب وخاصة عقلائهم وحكمائهم بسخف الإيمان بالتعددية الإلهية .

ولا شك أنه كان للنصرانية النصيب الأوفر في ذلك ، لأنها كانت أشد ذيوعاً وأكثر انتشاراً من الموسوية ( اليهودية ) حتى أنها اخترقت قبيلة قريش ذاتها بل أنها دخلت قدس أقداسها ونعني به الكعبة .
ثانياً : تكريس عقيدة أو فكرة النبوة والتبشير بظهور نبي أطل أو أظل زمانه ، ففي الخطبة التي ألقاها قس بن ساعدة في عكاظ وسمعها محمد ( ص ) ( وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظل زمانه وأدرككم أوانه ، فطوبي لمن أدركه واتبعه ، وويل لمن خالفه ) ( وعن مروان بن الحكم بن أبي سفيان عن أبيه قال : خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجاراً إلى الشام ، فكلما نزلنا منزلاً أخذ أمية سفراً يقرؤه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى ) ( د . محمد حسين هيكل ، في منزل الوحي ، ص395 ، مرجع سابق ) ( وقد روى الإخباريين قصصاً عن التقاء أمية بالرهبان وتوسمهم فيه إمارات النبوة وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نظفته وطهرته تهيئة لمنحه النبوة ) (محمد كرد علي ، الإسلام وحضارة العرب ، ص125 ) وأمية هذا ( حضر البعثة المحمدية ولم يسلم ولم يرض بالدخول في الإسلام لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة ، ويكون مختار الأمة وموحدها فقد برز نموذجاً للتطهر والزهد والتعبد وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف كافراً بالأوثان وبالإسلام ) (د . سيد القمني ، الحزب الهاشمي ، ص70 )
ثالثاً : في الخطاب الديني تركت النصرانية أثراً في العرب لا يقل عن أثر الموسوية فيه ، ويذهب د . السيد عبد العزيز سالم إلى ( أن الشعر الجاهلي يشهد على ذلك ) ويؤكد أحمد أمين أن المسيحية نشرت تعاليمها بين العرب ) (أحمد أمين ، فجر الإسلام ، ص27 ) كما يرى أحمد أمين أن شعراء النصارى مثل قس بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد لهم مسحة خاصة في شعرهم عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليمه ) (المرجع نفسه والصفحة نفسها ) . وأورد د . سيد القمني عدة قصائد للشاعر أمية بن أبي الصلت تتضمن كلمات : الجنة والنار والبعث والحشر والنشور والحساب والرب ذا العرش والميزان وآيات الله كالسماء التي رفعت بلا عمد والأرض بلا وتد وبعثة الرسل مثل إبراهيم وإسماعيل وقصة الذبح والفداء ، موسى وهارون ليذهبا إلى فرعون الذي كان طاغياً ، ومريم التي لم تكن بغياً ولا حبلى والملك الذي جاءها وقال لها لا تجزعي وعيسى الذي أتى من الإله آية ولم يكن غوياً ولا شقياً وقصص الأولين مثل عاد وجرهم ويظهر من أدبيات بعض الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل وأنهم وقعوا على ترجمات عربية للكتابين منهم ورقة بن نوفل وأمية بن أبي الصلت ( د. جواد علي المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص680 ، المجلد السادس ) ، وقد أكد البعض ترجمة الإنجيل للعربية آنذاك ، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري في كتاب " بدء الخلق " وفي كتاب " التفسير " عن أنه كان يقرأ الإنجيل باللغة العربية ويكتب منه ما يشاء الله أن يكتب ( حسني يوسف الأطير ، البدايات الأولى للإسرائيليات في الإسلام ، ص20 ) .
كما يؤكد د / جواد علي أن الشعر الجاهلي قد حفل بالعديد من الألفاظ والعبارات والأفكار المستمدة من النصارى مثل الإقرار بإله واحد والنهي عن عبادة الأوثان ، والتقرب إليها والرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وترحله والفناء على كل امرئ وليس أحد من هذه الدنيا بخالد ، والصلوات والقيام والركوع والسجود والتسابيح ، وتقديس اسم الله والتسبيح بعد الصلاة لا سيما الضحى والعشى ، والحواريون ورسم المسيح وتلامذته ) . (المرجع السابق ، ص67 )ولعل من نافلة القول أن نضيف أن قصائد الشعراء وخاصة الفحول منهم كانت تقوم بالدور نفسه الذي تقوم به الصحف والمجلات في عصرنا الحالي ، وكانت هي أداة الإعلام الفعالة ، يحفظها العرب ويرددونها ويتناقلونها في مجالسهم ، ذلك أن الأمية كانت هي الغالبة عليهم " نحن أمة أمية " هكذا قال الرسول محمد ( ص ) فضلاً عن ولعهم بالشعر وكان للشعراء عندهم مكانة تسامى مكانة الانتلجنسيا في هذه الأيام ، وعندما كان ينبغ شاعر في قبيلة عدت ذلك من مفاخرها ، ويذهب أحمد أمين إلى أن شعراء وخطباء النصرانية ( أدخلوا على اللغة العربية ألفاظا وتراكيب لم تكن معروفة ) (أحمد أمين ، فجر الإسلام ، ص28 ) . *********

هذه الآثار التي بصمت بها اليهودية والنصرانية الذهنية العربية خاصة في المجال الديني ، كانت من العوامل البالغة الخطر في التمهيد لقيام دولة قريش على يد محمد النبي عليه الصلاة والسلام إذ ساعدت عقيدة التوحيد التي قامت تينك الديانات بنشرها بين العرب قبل الإسلام على تفكيك عرى الوثنية والتعددية الإلهية التي كانت مسيطرة وقتذاك وساهمت في تفسيخها وفضحها والكشف عن زيفها ومنافاتها للعقل ومجافاتها للمنطق والحس السليم ، بحيث أن الإسلام الذي نادى به محمد فيما بعد ، جاء وقد عبدت أمامه الطرق وحرثت من تحته الأرض لتتلقى البذور التي ألقاها وهي أيضا بذرة توحيدية . وتكمن أهمية المناداة بالإسلام ضمن مكونات الدولة الوليدة لا في كونه عقيدة خاصة بالعرب ومتميزة عما سبقها في بعض المناحي فحسب ، بل لأنه كان أحد الأعمدة الركينة التي ارتكز عليها البناء الخاص بتلك الدولة ، وكان استعمال الدين كمدماك لشد أزر بنية الدولة بدأ قديماً بمبادرة المؤسس الأول ومجمع قريش قصي الجد الأعلى لمحمد عليه السلام لأنه لما كان يتمتع به من ملكات عقلية فذة ونادرة أدرك بثاقب نظره أهمية عنصر الدين في تعضيد الدولة ومؤازرتها فسار الأحفاد من بعده على هداه ، ومترسمين خطاه . كما لعبت عقيدة التوحيد دوراً بارزاً آخر لا يقل خطورة وهو المساهمة في توحيد قبائل العرب ، لأن الإيمان بدين واحد أو عقيدة واحدة يخالف تماماً من الوجوه كافة وشتى المناحي اعتقاد كل قبيلة بإله خاص بها ، فالتوحيد في العقيدة سوف يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى صهر القبائل في بوتقة واحدة ، أو حتى التقريب بينها وإزالة مشاعر التفرد ، وربما النفور ، بما لا يستطيعه عامل آخر ، انظر إلى من يعتنقون ديناً واحداً سوف تجد بينهما العلاقة حميمة على اختلاف في عروقهم وتباعد بين ديارهم ، وهكذا كان فعل التوحيد التي بذرتها الموسوية والعيسوية أو اليهودية والنصرانية ( المسيحية ) في شبه الجزيرة العربية ، ولذا عندما جاء محمد ( ص ) يدعو إلى التوحيد والوحدة ونبذ العصبية وجد لصوته صدى ولندائه استجابة خاصة لدى العرب الذين خالطوا أبناء إحدى تبنك الديانتين وعلى سبيل المثال : الأوس والخزرج ، وهو باعتراف كتب التاريخ الإسلامي من أهم عوامل نجاح الدعوة المحمدية ، ونذكر في هذا المقام بقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهم ( يا معشر الأنصار لطالما أعز الله بكم الإسلام ) .

وقد واكب التوحيد في الألوهية الذي نشرته الديانتين المذكورتين بجزيرة العرب نماء الشعور القومي عند القبائل العربية ولقد تمثل ذلك في هزيمة الفرس أمام العرب في " يوم ذي قار " وفي انتصار " ذي يزن " ومن ثم فلم يكن من قبيل المصادفة أن يتوجه إلى اليمن لتهنئة وفد من قريش على رأسه عبد المطلب الجد المباشر لمحمد ( ص ) . وفائدة أخرى جليلة انطوت عليها عقيدة التوحيد ، وهي ترسيخ فكرة دولة مركزية يسوس أمورها حاكم فرد ، ذلك أن التعددية الوثنية أو بعبارة أخرى وجود إله لكل قبيلة أو مجموعة محدودة من القبائل ، يفضي إلى معنى مماثل وهو وجود رئيس لكل قبيلة ـ أما عقيدة التوحيد التي تنادي بإله واحد لا شريك له تنتهي إلى وجود حاكم واحد تخضع له كل القبائل ، ويذعن له جميع الناس ، لهذا وجد محمد بن عبد الله القرشي ( ص ) التربة صالحة لتولي مقاليد الدولة التي شاءت الظروف التاريخية أن تكون عاصمتها يثرب بدلاً من مكة ، حقيقة أن بعد وفاته لقى خليفته أبو بكر الصديق قدراً من المقاومة من بعض القبائل ، ولكن القبائل التي كانت قد مهدت لديها فكرة الدولة المركزية المنبثقة من عقيدة التوحيد والإيمان بالإله الوحيد وقفت إلى جانبه ، حتى تمت له السيطرة على الجزيرة العربية كافة ثم بدأ يمد السلطان العربي خارجها .

كذلك كان للديانتين الإبراهيميتين جانب آخر ساعد في التمهيد لقيام دولة قريش في يثرب ، هو ترسيخ فكرة مسئولية الإنسان عن أفعاله من خلال الثواب والعقاب لا في الحياة الآخرة ، فحسب بل أيضاً في الحياة الدنيا بوجود سلطة تتولى توقيع العقاب على المخالفين وهو ما عرف بـ " الحدود " وهذا أمر لم تكن تعهده بهذا المعنى المنتظم القبيلة العربية ، وخاصة تلك التي لم تكن مستقرة في المدن والقرى والواحات وأقصى ما كانت تعرفه هو الخلع ، أي خلع الفرد الذي يقارف أفعالاً منكرة تجر على القبيلة أو الفخذ المتاعب التي قد تؤدي إلى الحروب والغزوات ، ولعل اقتباس المتحنفين من الديانة اليهودية فكرة المسئولية الجزائية وتوقيع حدود الزنا والسرقة وشرب الخمر على المقترفين لها ، ومثال ذلك ما قام به عبد المطلب أستاذ الحنيفية وسيد مكة في زمانه والذي يقرب المعنى الذي نهدف إلى توضيحه ، ومن ثم لما جاء محمد ( ص ) ونادى بكل تلك القيم والتعاليم ، كانت الأذهان مهيأة لها ، وكانت تلك من الركائز التي توطدت بها أركان الدولة التي قامت على يديه في يثرب ، لأنه لا يتصور قيام أي دولة دون وجود مبدأ المسئولية والثواب والعقاب عن الأفعال . ليس معنى ما سطرناه في هذه الفقرة أن الجانب العقيدي هو وحده الذي قام بعبء التمهيد لدولة قريش في يثرب ، فهذه نظرة أحادية الجانب لا نظن أننا قد رمينا إليها ، ولكن ما قصدنا إليه هو أن هذا العامل كان أحد أخطر العوامل الممهدة لنشأة تلك الدولة القرشية ، ولكنه لم يكن الفاعل الفرد بل لعبت إلى جواره عوامل أخرى أدت أدواراً بالغة الخطر . * * * *

قبل أن نشرع في الكلام على القبائل التي اعتنقت المسيحية ، نلفت النظر إلى مسألة ذات بال وهي أن القرآن الكريم تحدث عن النصرانية لا عن المسيحية وعن النصارى لا عن المسيحيين ونسبة الناصري ترجع إلى ( الناصرة ) القرية التي ولد ونشأ فيها المسيح عليه السلام وتقع في منطقة الجليل ومن عنا لقب بـ ( يسوع الناصري ) . ورغم أن القرآن المجيد جاء بعد عيسى بأكثر من ستة قرون فإنه توقف في تناوله لـ ( النصرانية ) عند حد معين ، فهو لم يذكر شخصيات شديدة الخطر في تاريخ ديانة عيسى بن مريم مثل شخصية بولس أو شاول الطرسوسي أول من نادى بألوهية المسيح وبالتثليث وبذلك حول مسار المسيحية بكامله ، ولا تحدث القرآن عن حوادث ذات أهمية بالغة مثلما حدث في مجمع نيقيه 325 م الذي كرس تلك العقيدة مثلما أصّـل لها الأصول وقعـّد لها القواعد وأبدع اللاهوت اللازم لها ، وأمسك عن ذكر تلاميذ المسيح بتفصيل حتى عن أكابرهم ومتقدمهم مثل الصخرة بطرس والأدوار التي قاموا بها في نشر عقيدة المسيح والتضحيات التي قدموها في سبيل ذلك . وعندما جاء القرآن يتحدث عن كتاب المسيحية المقدس يذكر الإنجيل بالمفرد ولا يأتي بكلمة واحدة عن الأناجيل الأربعة المتداولة لدى اتباع يسوع عليه وعلى أمه السلام ـ أن القارئ للقرآن العظيم يشعر بفارق هائل بين حديثه عن اليهودية وبين تناوله للمسيحية .تكلم على الأولى باسهاب وافر في العديد من السور والآيات حتى أدق التفاصيل لم يغفلها بينما طرح المسيحية طرحاً موجزاً مقتضباً أشد ما يكون الإيجاز وأبلغ ما يجيء الاقتضاب .ما تفسير ذلك … ؟
العلة في رأينا ترجع إلى أن الفرقة ( أو الفرق ) التي وصلت إلى وسط الجزيرة وغربها .. إلى منطقة الحجاز كانت هي فرقة ( اليهود المتنصرين ) أو ( اليهود الناصريين ) نسبة إلى الناصرة مسقط رأس المسيح أو ( النصارى الموحدين ) أو ( الخوارج ) كما تصفهم بعض الكتابات المسيحية .هذه الفرق أو ( الفرقة ) هي التي آمنت بالمسيح رسولاً وليس إلهاً ولا هو ابن الله ولا هو ثالث ثلاثة وأنه مخلوق وبشر وليس رباً معبوداً وأنه نبي مثل غيره من الأنبياء وهو كأحدهم أرسله الله تعالى للناس وأن الله جل جلاله خلقه في بطن أمه مريم العذراء البتول من غير أن يلامسها ذكر وأنه روح القدس وكلمة الله تباركت أسماؤه وان روح القدس والكلمة مخلوقان خلقهما الله بقدرته .

ولعل القارئ قد لاحظ أن هذه المعاني أو الاعتقادات التي كانت تؤمن بها تلك الفرقة ( الفرق ) تكاد تكون مطابقة لما جاء بشأنها في القرآن الكريم مع بعض الفروق التي مردها إلى التزام القرآن الصارم بـ (التوحيد الخالص ) النقي من أية شائبة وإلى ميل القرآن إلى تنزيه السيدة مريم تنزيهاً كاملاً ، هذه الفرقة أو الفرق التي ظلت متمسكة بالتعاليم الصحيحة التي جاء بها المسيح فتعرضت للاضطهاد من قبل شاؤول الطرسوسي أو بولس ففرت بدينها الحق إلى وسط الجزيرة وغربها : مكة ، نجران ، دومة الجندل ، وادي القرى … تماماً كما هاجر اليهود ـ إلى الحجاز ـ فالجزيرة العربية ( وفيها الحجاز ) هي الامتداد الطبيعي للشام وفلسطين ويخبرنا التاريخ أن الهجرات كانت تبادلية بينهما . وسبق أن أوردنا رأي كل من العقاد والفيومي في وقوع اضطهاد في القرن الأول الميلادي على اتباع ابن مريم مما اضطرهم إلى الهروب إلى الحجاز ـ ووجود فرقة ( أو فرق ) تؤمن بتعاليم المسيح الصحيحة قامت أدلة على ثبوتها وجاء ذكرها في المصادر الإسلامية والمسيحية على السواء وكون المصادر تصمهم بالمروق أو الخروج أو التحريف لا ينفي مسألة ثبوتهم تاريخياً ) وركان علماء السلف من المسلمين على علم بوجودهم خاصة أولئك الذين أرخوا للفرق والملل والفصل والنحل والأهواء والشيع … الخ منهم ابن حزم الأندلسي .
وكان من البديهي أن يكف أولئك النصارى عن ذكر بولس أو شاؤول خصمهم اللدود أو عدوهم المبين وقاهرهم وملجئهم للهجرة والهرب وأن يصفوه وأتباعه بالكفر والمروق عن الدين الصحيح دون إفصاح عن أسمائهم أو تعيين لذواتهم إهمالاً لشأنهم وازدراء لهم . وكانت تلك الفرقة ( الفرق ) أيضاً لا تعترف إلا بـ " إنجيل " واحد والمعروف بـ " إنجيل الابيونيين " أي إنجيل " اليهود المتنصرين أو اليهود الناصرين أو النصارى الموحدين " وكانوا يعتبرون ما عداه تحريفاً للإنجيل الصحيح الذي بشر به يسوع . ولقد تحدث القرآن عن تحريف أهل الكتاب لكتبهم المنزلة وحصراً عن نسيان النصارى حظا مما ذكروا به ( س المائدة / 14 ) .

الخلاصة أن هذه الفرقة أو الفرق في صميم اعتقادهم أنه انجيل واحد ومن ثم لم تذكر الأناجيل الأربعة لأنها في نظرها باطلة . ويخبرنا باحث مسلم أن تلك الفرق أو الفرقة ( كانت تقول أن بولس مرتد وتسلم بـ ( إنجيل متى ) لكن هذا الإنجيل عندها مخالف لهذا الإنجيل المنسوب إلى متى الموجود عند معتقدي بولس الآن في كثير من المواضع ولم يكن البابان الأولان فيه ، فهذان البابان وكذا كثير من المواضع محرفة عند هذه الفرقة ومعتقدو بولس يرمونها بالتحريف . والفرقة المعنية في الفقرة السابقة هي فرقة الابيونيين وهي من أشهر فرق اليهودالمتنصرين وهي تقطع بأن إنجيل متى قد حرف خاصة في البابين الأولين وهما اللذان يتناولان قصة ميلاد عيسى وعذراوية أمه مريم . (عقائد النصارى الموحدين ، ص30 ) . أما المراجع المسيحية فتقول عن الابيونيين : وجد في فلسطين مسيحيون من اليهود باسم الناصرين وابيونيين ولا نستطيع الجزم هل كانا مذهبين منفصلين أو أنهما كانا جناحين لمذهب واحد من ذوي الآراء المتحررة أو الضيقة . فالبعض مثل هارناك يعتقد أن الإسمين هما لقب للمسيحيين من اليهود بينما يعتقد البعض الآخر أن الابيونيين هم جماعة الرجعيين والمذهب الأضيق من المسيحيين اليهود بينما كان الناصريون أكثر تسامحاً مع من يختلفون معهم في العقيدة والممارسات ( دائرة المعارف الكتابية ، الجزء الأول ، ص55 ، ط1 ، 1988 ) . وفي موضع آخر ( يمكننا وصف الابيونيين عموما بأنهم : المسيحيون اليهود الذين عملوا على الاحتفاظ بقدر الامكان بتعاليم وممارسات العهد القديم ) (المرجع نفسه والصفحة نفسها ) ولعل التوصيفات التي أطلقتها دائرة المعارف الكتابية على الابيونيين مثل : ذوي الآراء الضيقة .. جماعة الرجعيين .. المحتفظين بتعاليم العهد القديم .. تشي بأنها الفرقة أو الفرق التي تمسكت بالتعاليم الأولى الأصلية التي بلغها المسيح والذي صرح في أكثر من مناسبة أنه ما جاء لنقض الناموس وألوهية المسيح والتثليث نقض لا شك فيه للناموس .

ولكن الدوائر الدينية المسيحية الرسمية ( رئاسات شئون التقديس ) تضع إنجيل الابيونيين من ضمن الأناجيل الأبوكريفا أي غير المعترف بها أو الخارجة أو المحرفة أو المتحولة أو المزورة . ان الابيونيين لديهم إنجيل يسمى ( الإنجيل بحسب متى ) غير كامل وغير صحيح تماماً بل هو مزور ومشوه ويسمونه الإنجيل العبري . (دائرة المعارف الكتابية ، الجزء الأول ، ص55 ) . ونذكر أن الحذف يتعلق بنسب المسيح . ويلقي لنا د. عبد المنعم حفني مزيدا من الضوء على هؤلاء الابيونيين منهم :فرقة من اليهود المستنصرين .. التسمية تعني الاغمار لأنهم كانوا من نكرات اليهود .. أو انهم من الفقراء إلى الله قبلوا المسيح بمعنى ( المهدي المنتظر ) ورفضوا الإقرار بالألوهية وولادته العذرية وقالوا أن المسيح .. رسول قد خليت من قبله الرسل ( الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية ، ص43 ،ط1 ، 1410 / 1980 ) .ونضيف أنهم يؤكدون أن من يزعم خلاف ذلك فهو مجدف في حق الله تعالى .. ومستحق اللعنة الأبدية ورفضوا الإقرار برسولية بولس ( شاؤول ) ودخلوا معه في عراك .
أما د. جواد علي فيرى أن الابيونيين ( جماعة من قدماء اليهود المتنصرين عرفوا بهذه التسمية العبرانية الأصل التي تعني الفقراء .. وهم يعتقدون بوجود الله الواحد خالق الكون وينكرون رأي بولس الرسول في المسيح ويحافظون على حرمة السبت وحرمة يوم الرب وقد ذهب بعض قدماء من نتحدث عنهم إلى أنهم فرقتان بالقياس إلى مولد الابن المسيح من الأم العذراء ويعتقد أكثرهم أن المسيح بشر مثلنا أمتاز على غيره بالنبوة وأنه رسول الله . وهو نبي كبقية من يبقه من الأنبياء المرسلين . وقد آمن بعض منهم بعقيدة ( العذراء ) وولادتها المسيح من غير اتصال ببشر ، غير أن بعضاً آخر منهم آمن بأن المسيح ابن مريم من ( يوسف ) فهو بشر تماماً ، أنكر الصلب المعروف ، وذهب إلى أن من صلب كان غير المسيح وقد شبه على من صلبه فظن أنه المسيح حقاً ورجعوا إلى إنجيل متى المعروف بالعبرانية وأنكروا رسالة بولس على النحو المعروف عند بقية النصارى ) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، د.جواد علي ، الجزء السادس ، ص635 ، ط2 ، 1978 م ، دار العلم للملايين ، بيروت ) .

ولسنا بصدد تاريخ للفرقة الموده من أتباع يسوع ولا نزعم أن الفرقة البيونية هي حصراً التي هاجرت إلى الجزيرة العربية واستقرت أو شيعة منها في مكة حتى ظهور الإسلام ، ولكن الحقيقة المؤكدة أن هناك فرقة أو فرق من اليهود الذين تنصروا وتمسكوا بتعاليم صحيحة له وأوذوا واضطهدوا من أجل ذلك ففرت إلى الحجاز وظلت على عقيدتها وتبشر بها وتتعامى عن خصومها وأعدائها ولا تعترف إلا بإنجيل واحد ، ولعزلتها في وسط وغرب الجزيرة انعزلت وانقطعت صلتها بباقي الفرق والطوائف المسيحية ولم يعد لها بما كان يجري في مسيرة المسيحية خارج الحجاز أو الجزيرة وظلت على هذه العزلة تجتر تلك التعاليم الأولى التي أحضرتها معها من فلسطين وبقيت على هذا المنوال وعلى هذه الصورة حتى أعلن النبي محمد ديانته .. ولكن الذي لا شك فيه أن ذلك كان موافقة تاريخية بكل المقاييس لأن تلك الفرقة كانت موحدة تنادي بالتوحيد وتلح عليه وكانت كل الظروف في تلك الآونة تطلب التوحيد بل وتنقب عليه بمعنى أنه ولو كانت تلك الفرقة مثلثة أي تؤمن بالتثليث وتبشر به وتنبذ التوحيد وترفضه وتعاديه ، لحدث تنافر بينها وبين تلك اللحظة التاريخية التي كانت تمر بها الجزيرة العربية .ومن هذا المنطق ـ منطلق التوافق ـ بين دعوة تلك الفرقة أو الفرق وبين موجبات التوحيد السائدة على كل الأصعدة ، تبرز القيمة الحقيقية لوجودها آنذاك .
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 11-15-2007, 11:25 PM بواسطة طريف سردست.)
11-15-2007, 11:01 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #14
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

قبائل كبيرة تــفشت فيها النصرانية



انتشرت المسيحية في شبه الجزيرة العربية عموماً وفي الحجاز خصوصاً ومما يدل على ذلك أن عدداً من القبائل الكبيرة اعتنقت غالبية أفرادها تلك الديانة ، نذكر فيها على سبيل المثال ثلاثاً .



أولاً : إياد



يبدو أن ديانة المسيح كانت متمكنة من هذه القبيلة ، ويظهر ذلك من قيامها بدور بارز فيما سمي في التاريخ الإسلامي بـ " حروب الردة " ونحن نعتقد أنه جانب من أهم الجوانب التي غفل عنها المؤرخون وهم يعددون الأسباب التي دفعت كثيراً من قبائل شبه الجزيرة العربية إلى الانتفاضة على الحكومة التي قامت في المدينة برئاسة الصديق أبى بكر رضي الله عنه بعد وفاة الرسول محمد ( ص ) أو قل أن المؤرخون تغافلوا عنها ونعني بذلك الجانب الاقتصادي والجانب العقائدي ونقصد بالأخير هو أن اعتناق القبائل للديانة المسيحية وتغلغلها في صفوف أفرادها وأن إسلامها من ثم كان ظاهرياً جعلها تتحين الفرصة للثورة على المدينة ، وقد جاء لها الفرصة عند وفاة الرسول ( ص ) . وقبيلة إياد مثل على ذلك فقد ساهمت في حروب الردة ووقفت إلى جانب جيوش الروم والفرس أثناء الفتح العربي الإسلامي لبلادها أو للبلاد التي كانت تحت سيطرتها . ولم يحدد المؤرخون الوقت الذي تحولت فيه قبيلة إياد من الشرك وعبادة الأصنام إلى المسيحية ولكنهم يطرحون العديد من الأسباب التي أدخلت النصرانية إليها ، منها اتصالها بالدولة اللخمية وانطواؤها تحت هيمنتها ، كذلك ارتحال بعض بطونها إلى مشارف بلاد الروم واتصالهم بأهلها ، فقام قسس ورهبان من الروم بالتبشير بالنصرانية بينهم ، ( والأمر المؤكد أن إياداً كانت على النصرانية وقت ظهور الإسلام ) وموطن إياد كان " تهامة " وقد عاونت " مضر " في إجلاء " جرهم "من مكة وتولت حماية البيت ثم هاجرت إلى البحرين والعراق ، ولوجودها هناك خضعت لسلطان دولة اللخمين في الحيرة التي كانت المسيحية قد انتشرت فيها منذ أن نبذ النعمان عبادة الأوثان فبنيت الكنائس والأديرة . وأصبحت في الحيرة طائفة هامة هي طائفة العباد ( د . السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ الإسلام ، ص284 ) ومن تلك الأديرة : دير اللج الذي بناه النعمان ودير مارت مريم ودير هند الكبرى ودير هند الصغرى ودير الجماجم وهو ينسب إلى قبيلة إياد ويفسر البلاذري في فتوح البلدان سبب هذه التسمية بأن (مالك بن محرز الإيادي قتل قوماً من الفرس ونصب الجماجم عند الدير فسمي دير الجماجم ( ودير عبد المسيح ) ( المرجع نفسه ، ص281 ) . ومن أسباب انتشار المسيحية في قبيلة إياد تنصر قس بن ساعدة أحد أبناء القبيلة وأحد خطباء العرب المعدودين ، وكانت له في سوق عكاظ خطب مأثورة يحفظها الناس عن ظهر قلب لبلاغتها ، وعلى الرغم من أن وفداً من إياد جاء إلى رسول الله ( ص ) في عام الوفود سنة 9هـ فانه من الثابت أن إيادا كانت ضالعة في حروب الردة بشكل متميز .



كما أنها قاتلت جيوش الفتح العربي في فارس والشام ، ونحن نرجع علة ذلك إلى تفشي النصرانية في صفوفها وأن الإسلام كان غطاء ظاهرياً وأنها كانت تتربص مثل بعض القبائل التي كانت دخلت دين المسيح ، وتتحين الفرص لتعود إلى دينها ، وهذه مسألة تحتاج من المؤرخين خاصة لفجر الإسلام ، مزيداً من التمحيص .



وفي سنة 11هـ انضمت قبيلة إياد إلى " سجاح " التميمية ( وكان على رأسها وتاد بن فلان وكان الإياديون يشكلون فرقة من جيش سجاح وهي مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق ) ولم تمهد إياد بعد انكسار المرتدين ( ففي السنة الثانية عشرة من الهجرة نجد اسمها في عداد من قاتل خالد بن الوليد في " عين التمر " التي انتهت بظفر خالد بن الوليد والمسلمين على جموع العجم والنصارى ) (د . محمد إحسان النص قبيلة إياد ، ص24 ) ( وإلى جانب هؤلاء الأعاجم أقام عشير عظيم من قبائل البادية : بني تغلب والنمر وإياد يرأسهم عقبة ابن أبي عقة والهذيل ومن كان معهم على قيادة الجيوش التي نفرت مع سجاح لغزو المسلمين بالمدينة ) (د . محمد حسين هيكل ، الصديق أبو بكر ، ص221 ) وكعادته في المعارك التي تولى قيادتها خالد بن الوليد رضي الله عنه دحرهم ، ولكن إياد لم تستسلم وظلت على عدائها للإسلام والمسلمين فشاركت في قتال خالد بن الوليد وذلك في وقعة " الفراض " وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة فدارت الدوائر على الروم وأحلافهم ) بل أن هناك من الباحثين من يرى أن ( قبيلة إياد لم تكن من بين المنضمين للروم فحسب ، بل كانت من بين من كان يحرضهم على قتال المسلمين ) هذه الاستجابة من قبل إياد على محاربة المسلمين مرة بعد مرة مع من سموا بـ " المرتدين " وأخرى مع العجم ( الفرس ) وثالثة مع الروم دليل لا يقبل الشك على تمسكها بعقيدتها النصرانية وأن ذلك كان أحد العوامل وأن لم تكن العامل الوحيد في إصرار إياد على عداوة الدين الجديد .

وكما ذكرنا فقد كانت هناك عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية ولكنها تخرج عن نطاق بحثنا وهو انتشار المسيحية في شبه الجزيرة العربية والحجاز وقت ظهور الإسلام .



أياً كان الأمر ، فالثابت أن المسيحية لم تكن ديناً عارضاً أو عقيدة هامشية في تلك البقاع بل على العكس فقد كانت هناك من القبائل الكبيرة ذات الثقل ممن دانت بها .



ثانيا : تميم



عرفت المسيحية طريقها إلى قبيلة تميم مثلها في ذلك مثل قبائل أخرى : تغلب وقضاعة وطيء ومذحج وغسان وربيعة ، وسبق أن ذكرنا أسباب ذلك وهناك سبب خاص بـ " تميم " ساعد على اعتناق كثير من أفرادها الديانة المسيحية وهو وجود علاقة حميمة بينها وبين مملكة الحيرة التي دان ملوكها بالدين نفسه مؤخراً ، إلى جانب ذلك بحث الإخباريون عن روابط وثيقة للغاية قامت بين زهماء قبيلة تميم وقريش ( ذكر كسترو أن تميماً لعبت دوراً كبيراً في العصر الجاهلي ، وكانت تساهم كثيراً في دعم نفوذ هذه المدينة في المجتمع القبلي لشبه الجزيرة العربية ( د. عبد الجبار العبيدي في قبيلة تميم العربية بين الجاهلية والإسلام ص31 الرسالة 37 ، الحولية 7 ، 1406هـ ، 1986 م ) . ولم تكن تلك الرابطة تقتصر على المصالح التجارية أو على " الإيلاف " بل تعدتها إلى علاقات اجتماعية تمثلت في قيام مصاهرات أسرية بين القبيلتين إذ تزوج قرشيون من تميميات وتزوج تميميون من قرشيات ، وكان ذلك منذ عهد مبكر ، فقد تزوج عبد شمس بن عبد مناف : عبلة بنت عبيد ابن جازل " التميمي " وكان أولاده وأحفاده منها يسمون " العبلات " واستمرت علاقة المصاهرة حتى بعد ظهور الإسلام إذا اصهر عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي في ابنته " أسماء " وكذلك فعل علي وجعفر ـ ابنا أبي طالب ـ ومن الجانب الآخر تزوج حنظلة بن الربيع كاتب النبي محمد ( ص ) من بنت نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ونلفت الانتباه أن الإصهار إلى قريش كان لا يتم إلا من رؤوس بني تميم وشيوخهم ، لا من عامتهم كما سبق أن ذكرنا .

علاوة على ذلك كانت هناك تداخلات سياسية بين القبيلتين الكبيرتين ، إذ بخلاف الإيلاف الذي دخلت فيه " تميم " كغيرها ، فإن فريقاً من المتنفذين من قبيلة " تميم " قبلوا كمستشارين يؤخذ رأيهم في إدارة مكة من الوجهة السياسية بل أن قريشا قلدت " تميما " وظائف على درجة كبيرة من الأهمية من الناحية الدينية ، فقد كانت وهذا على سبيل المثال وظيفة " الإفاضة " غداة النحر إلى منى في يد تميمي هو زيد بن عدوان ، واستمرت في بني تميم حتى جاء الإسلام .



فهذه القبيلة التي كانت المسيحية فيها فاشية توثقت العلاقة بينها وبين قريش من نواح عديدة : تجارية واجتماعية ودينية ، وهذا الاتصال الوثيق يجعل المسيحية وتعاليمها قريبة المنال من القرشيين .



وإذ أن تميماً من القبائل التي اتصلت بمصب الفرات وبالخليج الفارسي وكان أبناؤه ينتقلون بين شبه الجزيرة العربية وأرض العراق ، فقد كان ذلك واحداً من أسباب اعتناق كثير منهم النصرانية ، وكان ممن تنصر " سجاح " التي ادعت النبوة فيما بعد ، وهي من بني " حروب الردة " موقف سجاح تلك وموقف قبيلة تميم من تلك الحروب مع ما قلناه من اعتناق غالبية أبنائها للمسيحية وتنصر سجاح ، كل ذلك يدعونا إلى تكرار ما نادينا به من ضرورة تمحيص الباعث الديني لمثل تلك القبائل في ضلوعها في حرب حكومة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في المدينة ـ وعدم الاكتفاء بالسبب السهل " المجاني " الذي يرجع تلك الحروب إلى سبب وحيد هو امتناع تلك القبائل عن تأدية الزكاة لحكومة المدينة .



ومما يقطع بأن قبيلة " تميم " قد ضربت بسهم وافر فيما سمي بـ " حروب الردة " أن خالد بن الوليد ( لم يدع بني تميم حتى قضى في ديارهم على كل نافخ نار للفتنة أو في رمادها ) فهذه القسوة البالغة من جانب " سيف الله المسلول " والتي دفعته إلى القضاء على كل " نافخ نار " تقطع بأن مقاومة بني تميم لجيوش المسلمين كانت شديدة الصلابة ، بالغة العناد ونرجح أن سبب ذلك هو انتشار المسيحية فيها ، وهو الذي جعلهم يستميتون في الدفاع عن عقيدتهم ـ هذا بالأضافة إلى الأسباب الأخرى التي تند عن مجال بحثنا ويحدد د. محمد حسين هيكل منازل بني تميم على الوجه الآتي :



( تمتد من الشمال الشرقي لبلاد العرب حتى تتاخم خليج فارس في شرقها وهي تقع كذلك إلى شمال المدينة من الشرق ثم تنحدر حتى الجنوب الشرقي من مكة ) أي أن القبائل التي انتشرت النصرانية فيها كانت مضاربها قريبة من مكة والمدينة " الحجاز " ثم تمتد حتى التخوم وأن علاقات حميمة وروابط وثيقة انعقدت بينها وبين القرشيين .



ولعل من الأدلة التي تقوم على فشو النصرانية في قبيلة بني تميم ( قول طخيم بن الطخماء في مدحهم :

وأني وأن كانوا نصارى أحبهم ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق


يتبع...حنيفة
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 11-16-2007, 11:38 PM بواسطة طريف سردست.)
11-16-2007, 11:38 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #15
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة


ثالثاً : حنيفة



إحدى القبائل التي كانت تدين بالنصرانية وقد اعتنقها وملكها هوذة ابن علي " الحنفي " وزاره آركون أسقف دمشق وتباحث معه في شأن ظهور الدين الجديد " الإسلام " وتروي بعض الأخبار أنه بعد أن وعده الرسول ( ص ) أن يقره على ما تحت يده ـ في حالة إسلامه ـ فأن جماهير بني حنيفة " النصارى " أبوا عليه ذلك ، وهددوا بخلعه إن فعل . ( د. إحسان صدقي العمد ، في حركة مسليمة الكذاب ، ص32 ، الحولية العاشرة ، الرسالة الثامنة والخمسون ، 1409 ، 1410 هـ ، 1981 ، 1982 م حوليات كليات الآداب ، جامعة الكويت ) . ويبالغ " ليال " إذ يقول : " أن بني حنيفة على بكرة أبيهم كانوا نصارى " وإذ إن مضاربهم كانت في اليمامة في أواسط نجد شمال شرق الجزيرة العربية ، فان الأمر المؤكد أنه كانت توجد في تلك الأنحاء أديرة يسكنها عدد من الرهبان النصارى مما يقطع بوجود مسيحي في اليمامة ، وما هو جدير بالذكر أن بني حنيفة كانوا يسكنون الحجاز وغادروها عقب البسوس في منتصف القرن السادس الميلادي ( المرجع نفسه " حركة مسليمة الكذاب " ص28 ) ومعلوم أن مسليمة الكذاب الذي ادعى النبوة كان من بني حنيفة وكان يقول : " أن له نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا لا يعدلون ) ( د . محمد حسين هيكل في الصديق أبو بكر ، ص75 ) . ودور بني حنيفة فيما عرف بـ " حروب الردة " مشهور وقد قاتلوا المسلمين قتالا مريرا حتى أن عكرمة بن أبي جهل رغم جسارته وقرشيته انهزم أمامهم هزيمة منكرة ( وجاء النصر على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد شدائد وأهوال في موقعة " حديقة الموت " واستشهاد مئات المسلمين منهم تسعة وثلاثين من كبار الصحابة والقراء " حفظة القرآن " ) ( المرجع نفسه،ص19 ) .



أن الدفاع المستميت والقتال الشرس من جانب بني حنيفة للمسلمين فيما عرف بـ " حرب الردة " له أسباب اقتصادية إذ أن " حنيفة " كانت مضاربها في واحات خصيبة تغل محصولات زراعية متنوعة ، وكان شطر من أبنائها يعملون في الزراعة وكانت منطقتهم مشهورة بإنتاج القمح " الحنطة " . وأحرى اجتماعية إذ كانت التركيبة الاجتماعية لديهم تختلف عن باقي القبائل لكن بداهة يجيء في مقدمة تلك الأسباب : السبب العقائدي ونعني به إيمان غالبية أناء تلك القبيلة بالمسيحية ـ وهذا ينطبق بدوره على سائر القبائل التي اعتنقت هذه الديانة وخاصة القبائل الثلاث التي ذكرناها في هذا الفصل .



ويرى برهان الدين دلو أن المسيحية ( تسربت إلى اليمامة وهي إحدى الواحات الشهيرة بتقدم زراعتها ورقي صناعتها وتحضر سكانها وكان معظم أهل اليمامة قبيل الإسلام من بني حنيفة الذين اعتنق بعضهم المسيحية ) ( برهان الدين دلو ، في جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الثاني ، ص225 ) .















الصابئة

أولاً : الصابئون



فرقة دينية قديمة ـ سوف نرى فيما بعد لها فرعين - ذات معتقدات يشوبها قدر من الغموض والتعقيد . أما عن قدمها : فيزعم بعض أتباعها أنهم يعتنقون ملة النبي نوح عليه السلام بل وتعاليم النبي أدريس عليه السلام وغيرهم يرى أن اسمهم يرجع إلى اسم صابئ بن لامك أخي نوح .



ولسنا بصدد التأريخ لها وشرح عقائدها إلا بالقدر الذي يتصل بجوهر كتابنا ونعني به تبين العوامل الفاعلة في التوحيد الذي ساهم في تحول قريش من قبيلة هاشمية تسكن جبال مكة وأطرافها إلى دولة مركزية تحكم الجزيرة العربية كلها ثم الإمبراطورية الواسعة التي عرفها التاريخ .



* * * *



احتدم الخلاف بين اللغويين والباحثين والمؤرخين والمفسرين والدارسين في حقل الملل والنحل والفرق سواء بين الإسلاميين والإسلاميين أو بين الإسلاميين والغربيين حول الصابئة أو الصابئين حتى هذين الاسمين لم يفلتا من الاختلاف ، فالبعض يرى أنهما يدلان على مسمى واحد وأنه لا فرق بين الصابئة والصابئين ، والبعض الآخر يذهب إلى أنهما متمايزان وأن الصابئة فرقة والصابئين فرقة أخرى .



والاختلاف بدأ مبكراً بخصوص أصل الاسم أوجذره أو مأخذه فهناك من يرى أن " صبأ " معناه ظهر وطلع كما تطلع النجوم أو تظهر ( تاج العروس من جواهر القاموس ، الزبيدي ، والقاموس المحيط ، الفيروز آيادي ، والمعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية ) .



ومنهم من يذهب إلى أن " صبأ " يصبو : إذا نزع واشتاق أو فعل فعل الصبيان أو صبا إذا عشق " (معجم القرآن الكريم ، إعداد مجمع اللغة العربية نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب ) .

فهنا نرى أن جذر الكلمة "صبأ " قد تراوح ما بين :

ـ طلع أو ظهر

ـ نزع أو اشتاق

ـ فعل فعل الصبيان

ـ عشق

ولكنها جميعاً تدل على : الظهور والبزوغ والتحول من حال إلى حال .



هناك شبه إجماع بين البحاث العرب المسلمين على أن معنى صبأ الرجل : خرج من دينه الذي هو عليه إلى دين آخر .

ومن هنا كان يقال عن النبي محمد ( ص ) " الصابئ " هكذا كانت تسمية العرب وقريش وهذه المصادر الثلاثة التي أوردناها على سبيل المثال تعلل ذلك بقولها :

أن النبي ( ص ) ترك دين قبيلته قريش إلى دين الإسلام فهو قد صبأ .

وهو تعليل جرى عليه السلف ةلكن ليس هناك ما يمنع عقلا أن يكون هناك تعليل أخير .



******



أما عن الدارسيين الغربيين فهم طالهم الاختلاف حول جذر الكلمة أو مأخذها وأتى كل واحد منهم بتفسير فمنهم من يرجع كلمة ( صبأ ) إلى الكلمة العبرية ( صبغ ) أي غمس أو غطس أو أغمد ...

وبذلك يكونون هم " المعمدون " الذين يباشرون طقس ( التعميد ) بواسطة الغطس .



وهنا نورد معلومة قد تلقي مزيداً من الضوء على الرأي الذي يذهب إلى أن معتقدات الصابئة ترجع في الأصل إلى مصر القديمة ، فالتعميد بالغطس كان طقساً مصرياً قديماً في بعض الأقاليم إذ كان المولود في الأسبوع الأول من ولادته يعمد بـ ( تغطيسه ) في نهر النيل المقدس أو حابي وما زالت هذه العادة سارية في بعض القرى في النوبة في أسوان إذ تقوم النسوان فيها بممارسة هذا الطقس مع مواليدهن .



أما الفريق الآخر من الدارسين الغربيين فهو يذهب إلى أن كلمة " صابئة " ربما تكون مشتقة من الكلمة المصرية القديمة ( سب ) التي تعني ( الحكمة ) و ( النجوم ) وربما تكون هذه الكلمة المصرية هي أصل الكلمة اليونانية ( سوفيا ) أو ( الحكمة ) وربما ولكن بقدر مشكوك فيه تكون هي أصل كلمة ( الصوفية ).

ولسنا في حاجة لأن نذكر أن هذا التفسير يؤيد المذهب الذي يرجع معتقدات الصابئة إلى مصر القديمة وسوف نرى أن النبي إدريس عليه السلام يرجح البعض أن ولادته كانت في مصر أو على الأقل إقامته فيها ردحاً من عمره ، وسبق أن قلنا أن بعض الصابئون يزعمون أنهم على دين ادريس عليه السلام ولو أن البحاث الإسلاميين يكذبونهم في ذلك .



وإذا كان هذا هو قدر الاختلاف حول مأخذ كلمة الصابئة سواء فيما بين الإسلاميين أو بين الغربيين ( الفرنجة ) فأن الاختلاف حول أصل عقائد الصابئين أشد :



( الصابئون يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وهم قوم يزعمون أنهم على ملة نوح ) (المعجم الوسيط ) وأيضاً ( … ويزعمون ) أنهم على دين نوح عليه السلام بكذبهم وفي التهذيب عن الليث كذلك أما في الروض فهم منسوبون إلى ( صابئ بن لامك أخي نوح عليه السلام ) (تاج العروس ، الزبيدي )



ولقد لفت نظري وأنا أبحث حول الصابئة ما ذكره الطبري في تفسيره " جامع البيان عن تأويل آي القرآن أو تفسير الطبري " حققه وراجعه الإخوان محمود وأحمد شاكر ـ المجلد الثاني ـ ص147 ـ ط2 ، 1969 م ـ دار المعارف بمصر . ومن المفسرين من اقتصر على بيان دين الصابئة بقوله :



هم قوم عدلوا عن دين اليهودية أو النصرانية وعبدوا الملائكة ) ( الزمخشري ، في الكشاف ، الجزء الأول عند تفسير آية البقرة التي ورد بها ذكر الصابئين) .

وللإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رأي جرئ في خصوصية عبادة الصابئة للكواكب لا يسعنا إلا إيراده : [أما الصابئات فقد قال أبو حنيفة يجوز للمسلم أن يتزوج بهن وقال أبو يوسف ومحمد ( الصاحبان ) لا يجوز وسبب الخلاف أن أبا حنيفة يرى أنهم قوم يؤمنون بكتاب ويقرون بنبي ولا يعبدون الكواكب بل يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في أنهم يستقبلونها عند صلاتهم وهذا لا يمنع التزاوج من نسائهم ] (أحكام الزواج والطلاق في الإسلام ، للشيخ بدران أبو العينين بدران ، كلية الحقوق بالقاهرة ، ص99 ، ط2، 1961 ، مطبعة دار التأليف بمصر ، وكذلك كتاب الأحكام الإسلامية في الأحوال الشخصية ، للشيخ محمد ذكريا البرديسي ، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية حقوق القاهرة ، ص167 ـ 168 ، ط3 ، 1966 ،1967 الناشر دار النهضة العربية بمصر . )



ومعلوم أن أبا حنيفة عاش في العراق حيث كانت هناك فرقة من الصابئة فرأيه إذن على قدر من الأهمية لأنه نفى عنهم عبادة الكواكب وأكد أنهم يعظمونها وقارن بين تعظيمها للكواكب وتعظيم المسلمين الكعبة وهي لفتة ذكية ولا غرو فقد اشتهر شيخ الأحناف بالذكاء وسرعة البديهة .



وسوف نتناول فيما بعد حكم الفقه في الصابئة ولكننا استبقنا ذلك لأن رأي الإمام الأعظم يدخل في تقييم عقيدة الصابئة .



أما الطبري فيورد في تفسيره : [ كما نقل : أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور ] ( تفسير الطبري عند تفسيره لآية سورة البقرة السابق ذكرها ـ نقلا عن معجم ألفاظ القرآن الكريم ) وعن مجاهد والحسن : هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، وعن قتادة : قوم عابدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات .



وقيل وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب .. وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام ) (غرائب القرآن ، النيسابوري عند تفسيره الآية / 62 من سورة البقرة )



أما قول مجاهد والحسن أنهم طائفة من اليهود والمجوس فيشوبه الغموض فهل هؤلاء ( الصابئة ) كانوا في الأصيل يهوداً ثم صبأوا ومجوساً ثم صبأوا وما أهمية ذكر الدين السابق إذا العبرة أنهم في نهاية المطاف تحولوا إلى صابئة .أما أنهم كانوا مجوساً ثم تهودوا ثم صبأوا !!!



والمعلومة التي ذكرها قتادة أنهم يصلون كل يوم خمس مرات للشمس فهي علي درجة كبيرة من الأهمية ويكاد يكون قتادة قد انفرد بها .

أما تعليله أن هذه الصلوات الخمس هي للشمس فنحن لا نوافق عليه خاصة وأن قبلتهم لم تكن نحو الشمس كما سنذكر فيما بعد .

ونذهب إلى أن علة ذلك يرجع إلى أن الصابئة كانوا يعبدون الكواكب أو يعظمونها وإذ أن الكواكب السيارات هي خمس : المشترى والزهرة وزحل وعطارد والمريخ فيغدو المجموع خمس صلوات لأنهم يتوجهون لكل واحد منهم بصلاة .

وهناك من يؤكد أنهم ينتهون بعقائدهم إلى غاذيمون وهو شيث بن آدم وهرمس وهو أدريس النبي عليه السلام وقالت فرقة منهم أن إدريس وهو هرمس ولد بـ ( منف ) وسموه هرمس الهرامسة أو مثلث الحكمة وباليونانية آرمسيس أي عطارد وعند العبرانيين أخنوخ وقالت فرقة أخرى أن إدريس ولد ببابل وانتقل إلى مصر وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم وأن الله أفهمه سر الفلك وعدد السنين والحساب وأنه أول من نظر في الطب وتكلم فيه ( هامش ص109 من الجزء الثاني من كتاب الملل والنحل للشهرستاني وهو التعليق بقلم الشيخ أحمد فهمي محمد المحامي الشرعي الذي صحح " الملل " وعلق عليه .)



ولا شك أن مصحح كتاب " الملل " قد نقل ذلك من كتاب التفاسير ( تفاسير القرآن ) التي نقلت بدورها بشأن إدريس كثيراً من الأساطير التي وردت في ( التوراة ) بشأن ( أخنوخ ) في حين أن المسلم يلتزم في شأنه بما ورد في القرآن الكريم أما الأساطير التي تعج بها التوراة فهو في غنى عنها ( انظر تعليق أ . محمد فريد وجدي على مادة إدريس التي وردت في دائرة المعارف الإسلامية ، ص484 ـ 485 من المجلد الثاني دائرة المعارف الإسلامية، إعداد وتحرير إبراهيم ذكي خورشيد وآخرين ، ط1، 1969 ، دار الشعب بمصر ) .



وبعيداً عن الأساطير فإن تأثر الصابئة بأحد أسلافهم سواء أكان اسمه إدريس أو أخنوخ أو هرمس عاش في مصر وتعلم من كهنتها الحكمة والطب . وسر الفلك أمر يقوم شاهداً على احتواء عقائد الصابئة على وشائج حميمة بالكواكب بلغت درجة العبادة ( أو التعظيم ) وعلم القدماء المصريين في الفلك والطب لا يماري فيه أحد وقد استطردنا قليلاً في هذه الجزئية للتأكيد على أن من يذهب إلى أن عقائد الصابئة تؤوب في مصادرها الأولى إلى مصر القديمة لم يخطئ .



********



وتوسع الشهرستاني - ربما بعكس غيره - من الإسلاميين الذين تكلموا في ( الملل والنحل ) في شرح عقائد الصابئة فقال أنهم يقفون في مقابل الحنيفية وأنهم يقرون بأن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً مقدساً عن الحدوث ويعجز البشر عن الوصول إليه وأنما يكون التقرب إليه بالوساطات المقربين وهم ( الروحانيون ) المقدسون ومنهم شيث بن آدم وإدريس .



وأن أحوال هؤلاء الروحانيين من الروح والريحان .. الخ ومنهم الساجد والراكع والقائم والساكن والمتحرك ومنهم كروبيون في عالم القبض وروحانيون في عالم البسط وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( الملل والنحل ، الشهرستاني ، ت548 هـ ، صححه وعلق عليه الأستاذ الشيخ أحمد فهمي محمد المحامي الشرعي ، ص108 وما بعدها ، الجزء الثاني ، ط1 ، 1467 هـ ، نشرته مكتبة الحسين التجارية بمصر ) .



ولعل وصف هؤلاء الروحانيين يذكر بأوصاف الملائكة في الإسلام ( والملائكة الكروبيون أقرب الملائكة إلى حملة العرش ،وقال أبو العالية : الكروبيون سادة الملائكة منهم : جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم المقربون ( هامش ص116 من المصدر نفسه ) .



بل كان العرب قبل الإسلام الجاهلية يعرفون الملائكة الكروبيين يقول أمية بن أبي الصلت : ملائكة لا يفترون عبادة .. كروبية منهم ركوع وسجد ( المرجع السابق ) . وسنذكر فيما بعد أن من تأثير الصابئة في عملية التوحيد تجذير عملية الوساطة ولكن حل الملائكة عند عرب ما قبل البعثة المحمدية محل الروحانيين وتهيئة الأذهان لقبول الأوصاف الروحية التقديسية للملائكة ..وكيف أن عقيدة الوساطة تحولت إلى الشفاعة ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه ) الآية 355 من سورة البقرة .



أما عن طقوسهم العبادية :

أنهم يصلون خمس صلوات في رأي قتادة وثلاث في رأي غيره ـ وقد رجحنا رأي قتادة وأن لم نأخذ بتعليله وطرحنا التعليل الأصح حسب اجتهادنا .

أما قبلتهم في صلاتهم ( نحو مهب الحنوب ) ( تاج العروس ، الزبيدي ) وفي الصحاح :

قبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار .

وفي التهذيب : أن قبلتهم نحو مهب الجنوب .

المصدر نفسه : وقبلتهم مهب الشمال عند منتصف النهار ( المعجم الوسيط ) ومن مسلكهم :

التضرع والابتهال بالدعوات وإقامة الصلوات وكذلك الزكوات والصيام عن المطعومات والمشروبات وتقريب القرابين والذبائح يضاف إلى ذلك أنهم عرفوا الوضوء فقد ( كانوا يطهرون أنفسهم بالوضوء عند الاتصال الجنسي وأنهم كانوا يحرمون لحوم الخنزير والكلاب والطيور ذات المخالب .. وأنهم كانوا يبيحون الطلاق أو يجيزونه ) ( First Encyclopedia of Islam )



وهذه الفروض العبادية قد تسربت إلى الأديان الأخرى ، ولعل فريضة الصيام هي أشدها لفتا للانتباه لأنها امتناع عن المطعومات والمشروبات في حين أنها في اليهودية والمسيحية امتناع عن أنواع مخصومة من الطعام في أوقات معينة .

وسبق أن تكلمنا عن شعيرة " التعميد " بالغطس أو الغمس في الماء وفي رأينا أنه طقس من طقوس الانتقال أكثر مما هو طقس عبادي أو شعائري ( معجم العلوم الاجتماعية ، أشرف على تحريره د.إبراهيم مدكور ، ط1 ، 1975 الهيئة العامة المصرية للكتاب ) .



وليس ثمة ما يمنع أن يوحنا المعمدان تلقفه منهم وعنه أخذته المسيحية مع تغيير في الأداء ونذكر بما قلناه أنه في الأساس مأخوذ من مصر القديمة .



ولعل طقس التعميد هذا هو الذي حسم الفرق بين الفرقة التي تدخل في زمرة أهل الكتاب وتسمى الصباة أو الصابئة وهم الماندرائيون وهي فرقة يهودية مسيحية تمارس طقس التعميد وموطنها فيما بين النهرين .

أما الصابئون فهم الحرانيون نسبة إلى حران وهم وثنيون وهم الذين عاشوا شطراً من الزمن تحت ظلال الإسلام .

وهم متأثرون بالثقافة الهللينية وإليهم ينسب عدد من المدرسين المشهورين في الثقافة الإسلامية مثل ثابت بن قره وجابر بن حيان .



ولا يعنينا ما تقوله المصادر الغربية في شأن معاملة حكام المسلمين للصابئين أو الصباة التي تتراوح بين الرعاية والاضطهاد لأنها تند عن موضوع درسناه .

ولقد ذكر ابن النديم هؤلاء الحرانيين باسم ( الحرنانية الكلدانيين المعروفين بـ الصابئة ) وأورد طرفاً من عبادتهم وطقوسهم العبادية فقال ( المفترض عليهم من صلاة في كل يوم ثلاثة … لموضع الأوتاد الثلاثة التي هي : وتد المشرق ووتد السماء ووتد المغرب ، في صلاتهم ركعات وسجدات . وفي صلواتهم : فروض ونوافل . ولا صلاة لهم إلا على طهور . والمفترض عليهم من الصيام ثلاثون يوماً ولهم أعياد منها : عيد ( فطر السبعة ) و ( فطر الشهر ) و ( عيد الميلاد ) وهو في ثلاثة وعشرين من كانون .



ولهم قربان ( ضحية ) يتقربون به وإنما يذبحون للكواكب ويذبحون للقربان ( الأضحية ) : الذكور منهم المعز والضان وسائر ذوات الأربع مما ليس له أسنان في اللحيين جميعاً ومن الطير : غير الحمام مما لا مخلب له . والذبيحة عندهم ما قطع الأوداج والحلقوم والتذكية متصلة بالذبيحة لا انفصال بينهما . ولا ذبيحة إلا لما له رئة ودم . وقد نهوا عن أكل الجزور وما لم يذك وكل ما له أسنان في اللحيين جميعا : كالخنزير والكلب والحمار .ومن الطير غير الحمام وما له مخلب . ومن النبات غير الباقلي والثوم ويتركون الاختتان . ويتزوجون بشهود . لا من قريب القرابة ـ ولا طلاق إلا بحجة بينة عن فاحشة ظاهرة ولا يراجع المطلق ولا يجمع بين امرأتين ولا يطأ إلا لطلب الولد . وفي الميراث : فريضة الذكر مثل الأنثى ( الفهرست لابن النديم د. ت . ن . الناشر دار المعرفة ، بيروت )



أن كثير من هذه الطقوس والشعائر قد انتقلت أم بحذافيرها أو ببعض التعديلات لغيرها من الأديان.

ولكن يظل سؤال هو :



هذه الطقوس والشعائر كانت سائدة لدى الحرانيين الصابئة في وقت كتابة ابن النديم للفهرست أي في القرن الرابع الهجري ؟ فهل هي نفسها التي كانت موجودة لدى الصابئة أو الصابئين وقت أن كانت قريش تعمل على السيطرة على مقدرات الجزيرة العربية ؟



أنني من ناحيتي أرجح ذلك لأن الطقوس والشعائر من سماتها الرئيسية الدوم والاستمرار وترثها الأجيال بعضها عن بعض كما هي .



وقد ذكر القرآن الكريم الصابئين في ثلاثة مواضع :

الآية 62 / من سورة البقرة

الآية 69 / من سورة المائدة

الآية 17 / من سورة الحج



وفي المرات الثلاث قرنهم باليهود والنصارى وهناك ملحظ لا يخفي على التأمل الذي يقرأ بعين مفتوحة وعقل يقظ وهى أنة في آيتي المائدة والحج قدم الصابئين علي النصارى وهما تاليتان في المصحف لسورة البقرة فهل هذا مرجعة إلي تقييم أو وزن العقائد في كلتا الديانتين أم مردة لمدي الانفتاح علي كل منهما . وسبق أن ذكرنا أن الصابئين يصلون خمس مرات في اليوم وأن صيامهم كف عن تناول المطعومات والمشروبات لمدة ثلاثين يوماً وأنهم يتوضأون ويتضرعون ويقدمون الأضاحي ويؤدون الزكاة ويحرمون الخنزير ويجيزون الطلاق ... الخ فهل كان لذلك أثر في تقديم ذكر الصابئين على النصارى في السورتين التاليتين ( في ترتيب المصحف ) لسورة البقرة ... ومن نافلة القول أن نذكر أن ما يجئ في الذكر الحكيم محسوب بدقة بالغة وبعناية شديدة فلا يقال أن تقديم الصابئة على النصارى في السورتين المتأخرين قد جاء اعتباطاً ـ

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .



ولكن ما هي الفرقة التي جاء ذكرها في القرآن العظيم في السور الثلاث التي أوردناها ؟



الباحثون الإسلاميون لم يقدموا إجابة مباشرة عن هذا السؤال ـ ولكن يمكن الاهتداء إليها من خلال ما كتبوه أي ما بين السطور :



عندما يرى أكثر الفقهاء أن الصابئة كحكم النصارى في الذبيحة والنكاح والجزية ( كتاب الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم ، أبي منصور عبد الله البغدادي المتوفي 429 هـ ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ، ص215 ، ( د . ت . ن . ) مؤسسة الحلبي بمصر ) فإن مفاد ذلك أن القرآن الكريم قد عنى الفرقة التي ترى أن الخالق صانع حكيم منزه عن الحوادث تؤمن بحدوث العالم حتى وأن وقع خلاف معها في صفات الصانع وأن عظمت الكواكب لأن هذا التعظيم لا يبلغ رتبة العبادة وشأنه شأن تعظيم المسلمين الكعبة فلم يقل أحدهم أنهم يعبدونها ومن غير المعقول أن يكون القرآن قد قصد الفرقة الوثنية التي تعبد الكواكب .



وقد اختلف شيخ الأحناف أبو حنيفة مع تلميذيه الأثيرين أبي سيف ومحمد الصاحبين في شأن الصابئين فالأمام الأعظم ذهب إلى حلية نكاح نسوانهم أي معاملتهم معاملة أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين في حين أن الصاحبين يحرمان على المسلمين التزوج من الصابئات ...الخ .

ومرد الخلاف هو تفسير موقف الصابئة من مسألة الألوهية فإن كانوا يعترفون بالصانع المبدع فيعاملون كاليهود والنصارى أما إذا كانوا يعبدون الكواكب فيعاملون معاملة المشركين .

وذهب رأس الحنيفية إلى أبعد من هذا فقد قال أنهم يؤمنون بكتاب ويقرون بنبي ( أحكام الزواج والطلاق في الإسلام ، للشيخ بدران والأحكام الإسلامية في الأحوال الشخصية ، للشيخ البرديسي ) ونحن نميل إلى ترجيح رأي الإمام الأعظم ودليلنا على ذلك أن القرآن المجيد في الآيات الثلاث قرن الصابئين باليهود والنصارى بل أنه في آيتي المائدة والحج قدم الصابئين على النصارى كما ذكرنا ويستحيل عقلاً أن يفعل ذلك لو كانوا وثنيين ولا يؤمنون بالصانع المبدع ومعلوم أن الخلاف او الاختلاف على صفاته ليس إنكاراً له ... ولسنا في حاجة إلى التذكير بالخلاف على صفات الباري بين فرق أهل الكلام في الإسلام .



ومن هنا نرى أن ما يذهب إليه الدارسون الغربيون ( الفرنجة ) من أن موقف القرآن الكريم من الصابئة غير معروف لا يتسم بالنظرة المتأنية إنما أطلق على وجه العجلة ( وعلى كل فمن غير المعروف من هم الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن والحقيقة المؤكدة أن عدة طوائف انتسبت إلى الاسم ومن ثم فان من المستحيل تعيين ما عناه القرآن منهم على وجه الدقة ) .

ولو أمعن الدارس النظر في الآيات الثلاث التي جاء ذكر الصابئين وخاصة في السياق الذي شمل هؤلاء والنظم الذي سلكهم لاستبان له كنه فريق الصابئة الذي عناه القرآن ـ هذا بالإضافة إلى منهج القرآن ذاته يحيل عقلا تمجيد المشركين وحشرهم في زمرة المؤمنين بل وتفضيلهم على بعض أهل الكتاب.



ولكن دارساً عربياً إسلامياً له وزنه توقف عند الصابئة الذين ذكرهن القرآن ولم يقطع فيهم برأي كما فعل الباحثون الغربيون أو الفرنجة ( ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص وأنها طائفة مثل اليهود والنصارى أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين ) (الفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، د . جواد علي ، الجزء السادس ، ص702 ، الطبعة الثانية ، يناير 1978 ، دار العلم للملايين بيروت ، ومكتب النهضة بغداد ) .



وكنا نود لو أنه أفصح عن رأيه وحدد الفرقة الصابئة التي ذكرها القرآن ويشرح لنا مدلول المصطلح ! ثم يعيب على المفسرين أن تعريفهم للصابئة أو تقييد لهم ( أنما تكون عندهم في الإسلام وبعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم ) ( الفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام المرجع السابق ص702) .

ولا ندري كيف كان يتأتى للمفسرين معرفة الصابئة وفرزهم وتصنيفهم دون الاتصال بهم ثم الوقوف على أحوالهم !



* * * *



وأهمية تحديد الفرقة الواردة في القرآن يساعد على معرفة مدى تأثيرها في دفع عجلة التوحيد إلى الأمام ، ولا يقتصر ذلك على البصمات التي تركتها تعاليم ومناسك الصابئة على غيرها فحسب بل قبل ذلك الدور الذي لعبته الصابئة كبوتقة ساعدت على صهر مختلف العقائد التي تؤمن بالإله في نهاية المطاف ولو كانت طريقة الوصول إليه تتم عبر بوابة ( الروحانيين ) أو ( الملائكة ) أو ( الشفعاء ) أو ( عزير ) أو يسوع )..الخ . فما دمت تؤمن بالصانع فأنت تدخل في زمرة المؤمنين حتى ولو كنت ترى أنه لا يتوصل إليه إلا بوسيلة الشفعاء .. الخ فهذا التسامح كان عاملاً فعالاً في التأليف والتوحيد وهذا ما لا حظه أحد البحاث الفرنجة ( الغربيين ) [ أن تصورات ( مفاهيم ) الصابئة أو أفكارهم مفتوحة الباب للتسامح مع أي دين يتبين بطريقة صحيحة أنه يؤدي إلى عبادة الله ] ( The concise Book of Encyclopedia of Islam) .



وإذا كان دور اليهودية والمسيحية تمثل في إثراء الخطاب الديني لدى عرب ما قبل الإسلام والتعريف بمفردات ومصطلحات كانت مجهولة لديهم وفي غرس فكرة النبي المنتظر في وجدانهم قبل عقولهم ـ فأن دور الصابئة تمثل في تصوير التوحيد كمعنى شامل لا يتقيد بألفاظ أو تراكيب أو صيغ ضيقة فما دام القصد هو الإيمان بالصانع المبدع فأن الوسائط تغدو ثانوية وهو ما يساعد على لم الشمل الذي كان خطوة واسعة في طريق التوحيد .



* * * *



وفكرة الشفاعة عن طريق الملائكة أو غيرها كانت شائعة لدى عرب ما قبل ظهور الإسلام ، فقبولها منهم ـ كما ترى ذلك الصابئة تولف قلوبهم ولا تنفرهم فالصابئة لم تنظر إليها على أنها شرك بالله أو أن هؤلاء الشافعين أو الشفعاء شركاء له في ملكه ـ بل كانت تركز نظرتها على الهدف وهو عبادة الصانع المبدع .

وإذا كان الإسلام قد رفض تلك الفكرة وعدها شركاً ونسبة بنات إلى الله ... الخ فلا يعني أن تلك النظرة التسامحية لم تؤد دورها في التماسك والتقارب والامتزاج .

وكان منطلق الإسلام في الرفض هو التوحيد الخالص أي من منظور ديني ـ في حين أن قريشاً كانت بارعة في استخدام جميع العوامل الموصلة للتوحيد الذي كانت قناعتها به كاملة لتحقيق حلمها وهو السيطرة على الجزيرة العربية تحت سلطانها هي دون غيرها من القبائل .

وأخيراً يبقى سؤال أخرناه عمداً وهو : ما الدليل على وجود الصابئين في مكة أو في الحجاز وقت أن كانت قريش تخطو خطواتها الواثقة نحو حكم الجزيرة العربية ؟

ويأتي على رأس الإجابة عنه : ذكر الصابئين في القرآن ثلاث مرات فلو أنهم كان لهم حضور في تلك المنطقة لما ذكرهم .

إلا فلماذا لم يذكر القرآن الكريم : الديانة الفيدية أو الديانة البرهمية أو الديانة الجينية أو الديانة البوذية وهي لا تقل عراقة عن ديانات الصابئة وتتفوق عليها في كثير من النواحي وخاصة الروحية والخلقية .

أنه لم يذكرها لأنها لم تكن معروفة في بلاد العرب وقت ظهور الإسلام .

إذن باختصار ذكر الصابئة في القرآن الكريم دليل لا يقبل النقض على وجودها في بلاد العرب عامة والحجاز خاصة .

ولقد رجح بل أكد كثير من الباحثين وجود " الصابئة " هناك .

وأنهم كانوا يملون حضوراً ملموساً وقت أن أعلن محمد ( ص ) دعوته :

1 ـ ( ولا استبعد أن يكون من سكان مكة أناس كانوا من الصابئة ، جاءوا إليها تجاراً من العراق أو جاء بهم الحظ إليها حيث أوقعهم في سوق النخاسة فاشتراهم تجار مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم وعرفوا أنهم صابئة ) ( د . جواد علي ، مرجع سابق ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) .



2 ـ ( والوثنيون على اختلاف أربابهم واليهود والنصارى والصابئون كان يمكنهم زيارتها ( أي الكعبة أو بيت الله ) والتعبد فيها … ( أحمد إبراهيم الشريف ، ص181 ، دار الفكر العربي بمصر ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ) .



وعندما يتناول شعيرة الحج فيقول :

( أن الذين كانوا يشهدون موسم الحج لم يكونوا قاصرين على أهل مكة أو القطر الحجازي بل منهم من يأتي من اليمن ونجد ومشارف الشام ومشارف العراق كما كان منهم إلى جانب المشركين الحنفاء والصابئة والنصارى واليهود ) ( المرجع السابق ، ص193 ) .



3 ـ [ والذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة لهم دين خاص كاليهود والنصارى ومن الأرجح وجودهم في أرض العرب وفي أرض الحجاز خاصة …] ( أديان العرب قبل الإسلام ووجهها الحضاري والاجتماعي ، ص333 ، الأب جرجس داوود ، ط2 ، 1408 هـ / 1988 م ) .



4 ـ وكان في بلاد العرب وفي البلاد المجاورة صابئة ومجوس يعبدون النار ] ( محمد حسين هيكل ، ص166 ، ط11،دار المعارف بمصر ، حياة محمد ) .



5 ـ وهناك باحث آخر يرجع بوجودهم إلى زمن سحيق نسجت حوله بعض المسطورات التي لا زالت تؤمن بها وتتعبدها بعض الأمم وهو زمن إبراهيم وإسماعيل وأمه هاجر [ ويطرح افتراضا هو أن المذهب الصابئ قد استقل بمضمونه الفكري منذ رحلة إبراهيم ] ( في الفكر الديني الجاهلي ، ص131 ، د . محمد إبراهيم الفيومي ، ط1983 م ، دار المعارف بمصر ) .



وسواء صح هذا الافتراض أو لم يصح فأن الذي لا مرية فيه أن الصابئة كانت هناك عندما طفقت قريش تشد الرحال في طريقها إلى السيطرة على مقدرات جزيرة العرب وأنهم لعبوا دوراً بارزاً في دفع عجلة التوحيد الذي كان المطية التي ركبتها قريش وهي تيمم شطر هدفها المنشود أو بتعبير آخر نحو مشروعها الذي وضع أساسه قصي والذي أتم تشييده حفيده محمد بن عبد الله عليه السلام .



* * * *
يتبع ...الحنيفية
11-16-2007, 11:40 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #16
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

( 5 ) الحنيفية



ظهر في شبه الجزيرة العربية تيار ديني متميز هو " الحنيفية " وقد أطلق على معتنقيه الحنفاء ( والحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة وتحنف فلان أي تحري طريق الاستقامة وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفاً تنبيهاً أنه على دين إبراهيم عليه السلام ) ( أبو القاسم حسين بن محمد المعروف بـ الراغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن ، تحقيق محمد سيد كيلاني " مادة حنف " ، ط1381 هـ / 1961م ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ) .



لفظة " حنف " عرفتها اللغات التي كانت سائدة في تلك المنطقة آنذاك ( وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني هو " تحنيوث " أو من " حنف " ومعناها " التحنث " في العربية والسريان يطلقون لفظة " حنيفية " على " الصابئة " وقد وردت لفظة " حنف " في النصوص العربية الجنوبية بمعنى " صبأ " أي مال بشيء ما .. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة عند العرب الجنوبيين ) (د . جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، الجزء السادس ، ص543 ) ، كما تحدث القرآن الكريم عن الحنفاء وقد وردت لفظة " حنيفا " في 10 مواضع من القرآن الكريم ولفظة " حنفاء " في موضعين منه وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية وبعضها آيات مدنية ) ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص451 ) .



رغم أهمية حركة " الحنيفية " وخطورتها فأنها في رأينا لم تنل حظها من الدراسة والتمحيص الجادين المستقصيين من قبل الباحثين المحدثين ، وترجع أهميتها إلى أنها كانت حلقة في مرحلة الانتقال من مرحلة ما قبل الإسلام إلى الإسلام ) ( عز الدين كشار ، اليمن دنيا ودين ، ص124 ، ط1 ، 1988م ، دار الهمداني ، عدن ) .

لم يكن تنامي حركة الحنيفية وانتشارها واعتناق العديد من الحكماء والعقلاء والمتنورين والشعراء لها قبيل البعثة المحمدية أمراً اعتباطياً أو مستغرباً بل كانت تحتمه موجبات ذلك المجتمع فـ ( منطق التاريخ نفسه يدعونا إلى رؤية ظاهرة الحنفاء كواقع حتمي تقتضيه طبيعة التغيرات التي كانت تحدث في مجتمع الجاهلية خلال القرن السادس الميلادي على طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية ) ( حسين مروة ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الأول ، ص312 ، ط4 ، 1981 م ، دار الفارابي بيروت ـ لبنان ) .

ويشرح لنا برهان الدين دلو المتغيرات التي طالت مجتمع ما قبل ظهور الإسلام ، والتي أدت إلى ذيوع الحنيفية بقوله ( تطورت القوى المنتجة وتوسعت أعمال الري الاصطناعي وازداد الإنتاج الزراعي وارتبط الإنتاج الصناعي بسوق التبادل ونمت المدن وتحولت العديد من القرى إلى حواضر مدنية.. ونظمت الأسواق الموسمية العامة … ونشطت التجارة الداخلية والخارجية فازداد العرب تقارباً . وأدى نشاط التجارة واتساع عمليات التبادل في نشر التعامل النقدي داخل المجتمع القبلي مما سارع في تفككه … وتفكك رابطة الدم والنسب بين أبناء القبيلة ونما التيقظ القومي متمثلاً في ظهور الأحباش في اليمن عام 575 م وبانتصار العرب على الفرس في موقعة " ذي قار " عام 609 م … وعلى الصعيد الثقافي انصهرت اللهجات وتوحدت في لهجة مشتركة " لهجة قريش " التي أصبحت لغة التعبير الفني ولغة التعامل المشترك بين مختلف القبائل أثناء انعقاد المواسم العامة التجارية والدينية و الأدبية … وقد ساعد إلى جانب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وجود اليهودية والنصرانية في تغيير الوعي الديني باتجاه النظر التجريدي نحو مشكلة الوجود متجاوزاً النظرة الحسية في خلق " ظاهرة الحنفاء " (برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الثاني ، ص237 ، 238 ، ط1 ، 1989م ، دار الفارابي بيروت ، لبنان ) ويرى الباحث أن " ظاهرة الأحناف " ( كانت بداية الإرهاص الفعلي لظهور دعوة الإسلام ) (المرجع نفسه والصفحة نفسها ) .



أما الباحثون المثاليون فيذهبون وجهة أخرى هي أن هؤلاء الحنيفية بما امتازوا به من رجاحة عقل وسعة أفق وسمو في الخلق وثقافة أعلى نسبياً من نظرائهم في ذلك المجتمع ( أنفوا من عبادة الأصنام ودعوا إلى التوحيد ) ( د / السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص436 د. ت. ، مؤسسة الشباب الجامعة ، الإسكندرية ) .



ويصف جواد على الحنفاء بأنهم ( جماعة سخرت من عبادة الأصنام وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن ) ( د . جواد علي ، المرجع السابق ، ص462 ) ، ويرى البعض من أصحاب النظرة المثالية في تفسير التاريخ أن عرب ما قبل ظهور الإسلام أخذوا يفكرون في عدم جدوى الأصنام وعبث التعبد لها ، وأنها غير ذات نفع لهم ، ويضربون على ذلك أمثلة منها : موقف امرئ القيس الشاعر المشهور من " ذي الخلصة " وهو صنم كانت تعظمه العرب ، عندما أراد الغارة على بني أسد آخذاً بثأر أبيه فخرج له قدح الناهي فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال في ذلك شعراً ، وموقف أعرابي من صنم آخر يقال له " سعد " ذهب إليه ومعه إبله لنوال البركة فنفرت منه الإبل وتفرقت في كل وجه ، فتناول حجرا ورمى به الصنم وأنشد بعض أبيات الشعر يسخر فيها من الصنم " سعد " ( د . محمد إبراهيم الفيومي ، الفكر الديني الجاهلي ، ص451 ،ط1983 م ، دار المعارف بمصر ) وأن هذا كله كان مدعاة إلى ظهور وانتشار " الحنيفية " بحثاً عن دين جديد يكون أكثر عقلانية .



وفي رأينا أن أصحاب النظرتين المادية والمثالية قد غالوا في مذهبهم ، إذا أننا بإزاء حركة عقائدية ، فليس من الصواب الاقتصار على التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت مجتمع ما قبل البعثة المحمدية ، كما أن الأسباب الأخلاقية مثل مدارك المتحنفين ، وعلو كعبهم في السلوك والاخلاق أو التعلات التعبدية أو الطقوسية مثل القناعة بعبثية عبادة الأصنام وافتقاد أي نفع من وراء ذلك ، جميعها أمور لا تكفي بذاتها لاشتداد عود الحنيفية ، ولكن الأصح أن يقال أن هذه العوامل بكاملها قد تفاعلت حتى نمت ، فأدت إلى تفشي الظاهرة وذيوعها وشيوعها في أنحاء متفرقة ، خاصة في المدن أو المراكز المتحضرة ، وليس انبثاقها أو ظهورها كما انتهى إليه عديد من الباحثين ، إنما عندما تكاملت تلك الظروف وتعاضدت معا بدأت " الحنيفية " وتتحول من " ظاهرة " خافتة الصوت إلى " حركة " لها وجود متميز تمثل في الشخصيات العديدة البارزة التي آمنت بها والمبادئ التي كانوا يدعون إليها والتي تركت بصمات واضحة على الفكر الديني الذي ساد جزيرة العرب .



من هم هؤلاء الأحناف ؟



إنهم مجموعة من الحكماء ( سمت نفوسهم عن عبادة الأوثان ولم يجنحوا إلى اليهودية أو النصرانية وإنما قالوا بوحدانية الله ) ( د . السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص434 ) ، كذلك تميزوا بجانب سلوكي أخلاقي راق فرفضوا الرذائل التي تفشت في مجتمعهم مثل الزنا والمخاذنة وشرب الخمر والتعامل بالربا ووأد البنات ( كان ذلك من قبائل محدودة ) ، ولم يكتفوا بنبذ عبادة الأوثان فحسب بل امتنعوا عن الذبح لها وعن أكل ما يذبح لها ، وعن أكل الميتة والدم ، وكانوا على ثقافة عالية نسبياً ذلك أن كثيراً منهم كان يقرأ كتب الديانتين الساميتين : اليهودية والمسيحية وبعضهم كان يعرف لغة أخرى غير العربية مثل العبرية والسريانية وكانوا في الغالب على درجة من اليسر المالي الذي مكنهم من السياحة في البلاد وخاصة فلسطين والشام بحثا عن دين النبي إبراهيم عليه السلام الذي يصفه القرآن الكريم أنه كان " حنيفاً " ، ولم يكتفوا بالالتزام الذاتي بل كانوا يدعون قومهم إليها مما عرض بعضهم إلى الأذى والعنت منهم " زيد بن عمرو بن نفيل العدوي " عم " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه ( وقد كان الخطاب " أبو عمر " آذى زيدا حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل " حراء " مقابل مكة .. وأغرى به شباب قريش وسفاءها فأخرجوه وآذوه ، كراهة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه ) ( الشيخ أحمد فهمي ، هامش ص297 ، من كتاب الملل والنحل ، للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى عام 584هـ ، صححه وعلق عليه الشيخ أحمد فهمي ، ج3 ، ط1 ، 1949 م ، مكتبة الحسين التجارية بمصر ) .



والأحناف لم يكونوا على مشرب واحد بل كانت لهم توجهات متباينة ( لذلك فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية فرقة تتبع ديناً بالمعنى المفهوم من الدين كدين اليهودية أو النصرانية ، لها أحكام وشرعية تستمد أحكامهم من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء على نحو ما يفهم من الأديان السماوية ) ( د.جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص458 ) ، والقاسم المشترك الذي كان يجمعهم هو رفض عبادة الأصنام ، والبحث عن دين إبراهيم الحنيف عليه السلام ، وفي سبيل البحث عن حنيفية إبراهيم عليه السلام ، ساحوا في البلاد وقابلوا كثيراً من رجال الدين : الأحبار والرهبان والقساوسة وسألوهم عن دينهم ، وعن دين الخليل إبراهيم عليه السلام ، ونظروا في أسفارهم المقدسة . وانتماء المتحنفين متميزة وعشائر موسرة هو الذي أتاح لهم فرصة التجوال في الأرض واقتناء الكتب الدينية ، وقد نسب إلى بعضهم اعتناق ديانة المسيح عليه السلام مثل قس بن ساعدة الإيادي ، وعثمان بن الحارث ( أو الحويرث ) القرشي ، ولكن غالبية الباحثين تؤكد أن المتحنفين رغم عدم تماثلهم في الرأي أو المنعقد رفضوا كلا من اليهودية والمسيحية . أما نبذهم للأولى فهو واضح لا يحتاج إلى شرح إذا أنها ديانة منغلقة وليست تبشيرية نشطة وكان هم أتباعها منحصراً في الأنشطة المالية والتجارية ، أما عدم إقبالهم على الأخرى وإعراضهم عنها فله دواع كثيرة ، منها أن المسيحية ملة معقدة مليئة بالأسرار ولا تتناسب مع العقلية العربية الساذجة البسيطة ، ومنها أنها ديانة الإمبراطورية الرومانية البيزنطية التي حاولت فرض سيطرتها على الجزيرة العربية ، بل أن القيصر عندما تنصر عثمان بن الحويرث أرسله إلى مكة ليصير ملكاً عليها ـ ومن ثم تكون تابعة له شأنها في ذلك شأن طويلة الغساسنة ولكن القرشيين رفضوه بل يقال في إحدى الروايات أنهم قتلوه وقالوا كلمتهم المشهورة :

إن قريشاً لقاح لا تملـَك ولا تـُملـَك ، هذا بالإضافة إلى زيادة الشعور القومي لديهم وهذا لا يتحقق باتباع ديانة غيرهم ، بل حتم عليهم أن يختصوا هم أنفسهم بدين مستقل ، ومن هنا جاء بحثهم الدؤوب عن " الحنيفية " دين الخليل إبراهيم عليه السلام ، الذي كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنه جدهم الأعلى . ويضيف أحد الباحثين في نطاق مجانبتهم لدين المسيح عليه السلام أن النصرانية كانت ( غير متأهبة لتلبية حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي في جزيرة العرب في فترة الجاهلية لما تتسم به من السكينة والخنوع والمطالبة بالخضوع ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، ص240 ) ، وفي رأينا أن هذا سبب غير مقنع ، لأن المسيحية لو كانت كذلك لما قدر لها الانتشار بين ربوع شطري الامبراطورية الرومانية ، كما أن مجتمعها لم يكن خامداً ، بل كان أكثر ديناميكية من مجتمع الجزيرة قبل الإسلام ، ومشهور عن الرومان إقبالهم على الحياة والعب من لذائذها .

********

ضمت حركة " الحنيفية " شخصيات تميزت بالسمو العقلي والأخلاقي أو بالحنكة السياسية أو الثقافية العالية نسبياً ، ولما كان الشعراء يمثلون في مجتمع ما قبل البعثة المحمدية " الفئة المثقفة " لذا كان عدد كبار الشعراء آنذاك من الأحناف منهم : " أمية بن أبي الصلت " ، وزهير بن أبي سلمى " و "النابغة الذبياني " و " عامر بن الظرب " ، ولهم قصائد في الإيمان بوحدانية الله والبعث والنشور والحساب ، وفي الناحية السلوكية الأخلاقية : الترفع عن الدنايا وتحريم شرب الخمر . ويرى د. جواد علي أن في أكثر ما نسب إلى أمية أبن أبي الصلت ( من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل ونجد في شعر أمية استخداماً لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي ) ( د.جواد علي ، المفصل في تاريخ الإسلام ، ج6 ، ص490 ) .



ومما يلفت النظر أن قبيلة قريش ضمت عدداً من " الأحناف " ، ويؤكد بعض الإخباريين أن الحنيفية بدأت فيها مبكرة مع " قصي " الجد الأعلى لمحمد ( ص ) مؤسس دولة قريش في يثرب . يقول " الشهرستاني " عنه 0 وكان قصي بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله تعالى من الأصنام وهو القائل :



أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير



وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل ) ( الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج3 ، ص332/333) ، وفي رأينا أنه لا مانع أن يكون قصي بن كلاب هو الذي أنشأ هذا الشعر ثم ردده من بعده زيد بن عمرو بن نفيل خاصة وأنهما من قبيلة واحدة ، والتمثل بمقولات الأجداد أمر طبيعي خاصة في مثل المجتمع الأمي " غير الكتابي " الذي كان يعتمد على الذاكرة في حفظ السلف ، ويصف الشيخ أحمد فهمي وهو محقق كتاب " الملل والنحل" قصيا بأنه ( عالم قريش وأقومها للحق وكان يجمع قومه يوم العروبة ، ويذكرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث فيه نبي ، وكان ينهي عن عبادة الأصنام ) ( الشيخ أحمد فهمي علي ، هامش الملل والنحل ، ص331 ، 332 ) ، ثم جاء عبد المطلب الجد المباشر للنبي محمد ( ص ) ويكاد يجمع الإخباريين على أنه من المتحنفين وقد فصلنا القول فيه في المبحث الخاص به ، ويطلق عليه الدكتور سيد القمني لقب " أستاذ الحنيفية وزعيمها " ( د.سيد القمني ، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية ) .



وهناك رأي أن محمداً ( ص ) مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه رسالة الإسلام من " الأحناف " ( ... يمكن الاستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت أن الرسول ( ص ) في حياته الاولى ونشاطه الديني كان حنيفياً وعلى صلة بـ " مسيلمة الكذاب " وغيره من الأحناف ) ( برهان الدين دلو ـجزيرة العرب قبل الإسلام ، ص224 ) ولعل مما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية : أنه عندما عرض عليه عمرو بن الخطاب رضي الله عنه أنه يقرأ أشياء في التوراة مع ما جاء به الرسول غضب الرسول ( ص ) وقال : امتهوكون يا ابن الخطاب والله لقد جئتكم بـ " الحنيفية " السمحة ، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا أتباعي ، ولما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " إن الدين عند الله الحنيفية " بدلاً من " أن الدين عند الله الإسلام " الآية 19 من سورة آل عمران ( أبو بكر عبد الله بن داود بن الاشعث السجستاني ، كتاب المصاحف ، هامش الصفحة 70 ، 1985م ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان) ، وكذلك لما ورد في سيرة محمد ( ص ) من ترفع عن الدنايا والاتصاف بالأخلاق الحميدة والنفور من عبادة الأصنام ، والاعتكاف في غار " حراء " لـ " التحنث " في شهر رمضان ، و " حراء " هو الغار نفسه الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه : زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، و " التحنث " في شهر رمضان في غار حراء هو ما كان يفعله الجد المباشر عبد المطلب وزعيم الحنيفية . ولو أننا نرى مانعاً من أنه اختلط بـ " الصابئة " الذين كانوا موجودين في مكة خاصة والحجاز عامة واطلع على عقائدهم وطقوسهم العبادية التي ظهرت بصماتها جلية بعد ذلك ( مبحث الصابئة ) . كما أن إجماع قريش والعرب على تلقيبه ( الصابئ ) أمر له دراسته . أما التعليل الذي أورده الإخباريين والمفسرون واللغويون من أن ذلك مرجعه هو خروجه عن دين قومه فهو غير كاف ذلك أنهم لم يلقبوا زيد بن عمر بن نفيل أو ورقة بن نوفل أو غيرهما بـ الصابئ " !!!



ولم يقتصر أمر الحنيفية في قبيلة قريش على هؤلاء بل كان منها :

" ورقة بن نوفل " أحد بني عمومة السيدة خديجة رضي الله عنها أولى زوجات محمد ( ص ) ، و " عثمان بن الحويرث " الذي سبق أن ذكرنا محاولة قيصر الروم تنصيبه ملكاً على مكة ورفض ذلك ، و " زيد بن عمرو بن نفيل " وهو من أشهر المتحنفين وقد أوردنا خبر معاملة الخطاب أبي عمر له بعد إعلان تحنفه .



وبذلك يجيء محصول قريش من الحنيفية والأحناف وفيراً بالنسبة لغيرها من القبائل ، ولعل سكانها في مكة العاصمة الدينية الهامة وملتقى القوافل المحلية والعالمية بما يحمله تجارها من أفكار ومبادئ وعقائد بجانب ما يحملونه من عروض التجارة وثراء كبرائها مما أتاح لبعضهم السفر إلى الخارج والاختلاط بالشعوب الأخرى ولقاء عدد من رجال الدين ، بالإضافة إلى رياح التغيير اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً التي أدت إلى ذلك ، تكون حظوة قريش بهذا العدد من " المتحنفين " دون غيرها من قبائل الجزيرة أمراً كانت تحتمه طبائع الأمور في تلك الحقبة ، ونحن في وجهة نظرنا هذه نختلف مه برهان الدين دلو في ( ... أما في مكة التي كانت حصناً للشرك وغالبية أهلها من المشركين ، فإن " الحنيفية " لم تنتشر انتشاراً واسعاً ، لأن الشعائر الدينية كانت هناك منظمة تنظيماً حسناً ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، ج2 ، ص243 ) ، فالأسباب التي ساقها لا تؤدي إلى تدعيم رأيه بل تنقضه : فكون مكة حصناً للشرك وموئلاً للمشركين ، وأن غالبية أهلها منهم ، وأن العبادة الأصنامية الاوثانية نظمت فيها تنظيماً جيداً ، كل هذا ادعى لتنامي حركة مضادة لدى أقلية تنادي بعبثية التعبد لغير الله تعالى ، خاصة وأن المجتمع المكي كان يضم صفوة من العقلاء والحكماء والمتنورين لأن قريشاً امتازت عن غيرها من القبائل الأخرى بالذكاء والفطانة واللسن ، يضاف إليه أن مكة بحكم مركزها الديني المرموق وموقعها التجاري الهام كانت نقطة لقاء بين أصحاب العقائد والملل كافة مما جعل نخبة المجتمع القرشي تطلع عليها وتنفعل بها ، وسبق أن قلنا أن " الأحناف " كانوا على بينة من مبادئ الأديان والنحل الأخرى وكتبها المقدسة ، والأخطر من ذلك أن المجتمع المكي كان شأنه شأن سائر مجتمعات الجزيرة العربية خاصة في المراكز الدينية ـ في حالة تطور وتمور بالحركة والنمو ، وكانت العلاقات القبلية التقليدية وروابط النسب قد أخذت تميل إلى التفكك من أثر المستجدات الاقتصادية ، كما كان المبحث يؤرق نفوس الصفوة للعثور على عقيدة توحد وتجمع وتؤلف القبائل المتفرقة المتنافرة . تلك كانت الدوافع التي دفعت " الحنيفية " إلى النمو والتحول من " ظاهرة " إلى " حركة " تستجيب إلى مقتضيات الواقع ومسيرة التاريخ ، فكيف يقال بعد ذلك كله أن " الحنيفية " لم تكن منتشرة في مكة ؟؟؟ .



لقد خلط الباحث بين أمرين على تباين ظاهر بينهما : أولهما : انتشار " الحنيفية " وثانيهما : محاربتها من قبل التجار والمرابين الذين كانوا يجنون الأرباح الطائلة من عبادة الأوثان ، حقيقة أن كبار القرشيين وطواغيتها حاربوا " الأحناف " واشتدوا عليهم في الإيذاء لدرجة النفي كما فعلوا مع زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، حفظاً على الوثنية ، لا حباً لها في ذاتها ، وإنما لما توفره لهم من أرباح جمة ـ ولكن العداء لـ " الحنيفية " لا يدل على ندرة معتنقيها أو حتى قلتهم بل على العكس ، فإن الإمعان في تعذيبهم قرينة واضحة على تمكن " الحنيفية " بين عدد من متنوري قريش .



يخرج عن نطاق بحثنا في " الحنيفية " الكشف عن مكان نشأتها ونقطة انطلاقها ، فسواء في " اليمن " باعتبارها ديانة توحيد ( ثم امتد دين الوحدانية المجردة ، كما امتد التوحيد المتجسد إلى قلب الجزيرة العربية لتواصل المسيرة ، مسيرة خلق الدولة المركزية الموحدة لعموم المنطقة العربية ) ( ثريا منقوش ، التوحيد في تطوره التاريخي ـ التوحيد يمان ، ص160 ، ط2 ، 1981 م ، دار ازال ، بيروت ) ويميل إلى هذا الرأي عز الدين كشار مستدلا على ذلك بكثرة " الحنفاء اليماننين " من أمثال ( قس بن ساعدة ـ الإيادي وأرباب بن رئاب وأسعد أبو يكرب الحميري ، ووكيع بن سلمة بن زهرة الإيادي ..

وسيف بن ذي يزن ، وخالد بن سنان بن غيث العبسي وعبد الله القضاعي وعلاف بن شهاب التميمي . وقيس بن عاصم بن تميم ، وعفيف بن معدي كرب من كندة .. وغيرهم من الأسماء التي يبدو أنها يمنية الأصل ، كذلك ما هو معروف من أن أهل الجنوب قد عرفوا التوحيد ولو بصورة أولية قبل عرب الشمال ، ومن آلهتهم التي تذكر في هذا الشأن ذو سموي والمقة التي يرجح بعض الباحثين أن اسم " مكة " هو تحوير لها .



أو أن الحنيفية ( نشأت في اليمامة وهي إحدى المناطق المتحضرة والمتقدمة نسبياً في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانتشرت في غربي الجزيرة العربية ) ( برهان الدين دلو ، المرجع السابق، ص243 ) نقول سواء كان هذا أم ذلك فأن الثابت تاريخياً أنها كانت منتشرة في أنحاء عديدة من جزيرة العرب ولو أننا نؤيد الباحثين اليمانيين في أن بدايتها كانت في اليمن . إنما الذي يهمنا أن نفرق بين أمرين ذكرناهما هما : نشوء " الحنيفية " كظاهرة دينية أو عقائدية وبين اشتداد عودها بعد ذلك وتحولها إلى حركة لها حضورها المتميز الذي ترك آثاره العميقة في الفكر الديني الذي تلاها في الجزيرة العربية .



ليس صحيحاً على الإطلاق ما يذهب إليه د . السيد عبد العزيز سالم عندما ذكر ( ظهرت قبيل الإسلام حركة جديدة أصحابها جماعة من العرب ، سمت نفوسهم عن عبادة الأصنام ... الخ ) ( د.السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص435 ) وليس د. سالم هو الوحيد الذي قرر ذلك بل سبقه ولحقه كثير .



أن " الحنيفية " لم تظهر قبيل الإسلام بل كانت أقدم من ذلك بكثير ، بدليل أن كعب بن لؤي بن غالب " وهو أحد أجداد محمد ( ص ) البعيدين عده كثير من الباحثين في زمرة " الأحناف " منهم د/ السيد عبد العزيز سالم نفسه ( كعب بن لؤي أحد أجداد الرسول كان متحنفاً ( المرجع السابق ، ص438 ) وهذا الخبر في ذاته يؤيد وجهة نظرنا عن انتشار " الحنيفية " في قبيلة قريش ثم ما ثبت من أن " قصياً " كان من الأحناف ، وقصي بينه وبين ظهور الإسلام ما يقرب من مائتي عام ، وهذه مدة لا يمكن أن يقال بصددها " قبيل الإسلام " ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه بين " كعب " و " قصي " جدان هما " مرة " و " كلاب " ومع الافتراض بأن بين كل جيل والذي يليه أربعين عاماً تقدير " ابن خلدون " في المقدمة أضفنا لذلك ثمانين عاما كان معنى ذلك ببساطة أن بين " حنيفية كعب " والبعثة المحمدية ما يقرب من ثلاثة قرون فكيف يجوز للدكتور سيد سالم ومن لف لفه أن يصفها بأنها " قبيل الإسلام " !!!



" الحنيفية " إذن كانت قديمة نسبياً ، وكان وجودها الغالب في المراكز الحضرية أو المدينية مثل اليمن واليمامة ومنها ثمامة بم كبير بن حبيب الحنفي المشهور بـ " رحمان اليمامة " ثم أطلق عليه محمد ( ص ) لقب " مسيلمة الكذاب " والطائف ( ومنها أمية بن أبي الصلت ) ويثرب ( ومنها أبو قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار ، وأبو عامر بن عبد عمر بن صيفي وكان قومه يسمونه " الراهب " ولما عادى محمداً ( ص ) أمر المسلمين أن يسموه " الفاسق " ثم تحولت من " ظاهرة " إلى " حركة " إذ تضافرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعقائدية على نمو عودها فاستوائه فاشتداده ، وكان من الطبيعي أن يتم بصورة واضحة في المدن ، وأن يعتنقها عدد من المستنيرين من أبنائها ، ولكن لماذا المدن بالذات ؟



لأن المتغيرات التي لحق بمجتمعاتنا كانت أكثر سرعة من مجتمعات البدو والريف معاً ، لم يكن الهدف " الحنيفية " شن الحرب على الرذائل الاجتماعية والأدواء أو المنكرات السلوكية الخلقية فحسب ، بل نبذ عبادة الأصنام والدعوة إلى عبادة إله واحد ، تأثراً بالديانتين التوحيديتين اللتين عرفهما عرب الجزيرة وهما : اليهودية والنصرانية ، ولأن عبادة الأصنام كانت من عوامل الفرقة بين القبائل إذ كان لكل قبيلة أو مجموعة قبائل صنم تعبده وتذبح له وتنتظر منه النفع وكشف الضر وتستشيره عن طريق القداح في حالة السفر والحروب … الخ والدعوة إلى عبادة إله واحد مدعاة إلى التوحيد المادي ، هذا بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي ساهمت في عملية التوحيد ، ومن ثم يصح القول بأن " الحنيفية " قد ( واكبت تطور المجتمع المكي وحاجاته وتطورت معه إلى أن دخلت معه مرحلة جديدة هي التي مهدت لظهور الإسلام ) ( بلياييف ، العرب والإسلام والخلافة ، ص143 ، نقلا عن برهان الدين دلو ، مرجع سابق ) .



لم يكن تحول الحنيفية إلى حركة قاصراً على اعتناق عدد كبير من المتنورين العرب إياها ، بل في البصمات العميقة الغور التي تركتها على الفكر الديني الخالف لها في جزيرة العرب .

فبادئ ذي بدء كان " للحنيفية " الفضل في نشر العقيدة وتجذرها واستهجان عبادة الأوثان والسخرية منها ومن عبادها والكشف عن زيف ما كانوا ينسبونه إليها من قدرات وتهيئة الأذهان إلى الإيمان بالبعث والنشور والحساب والجنة والنار ..الخ .



أما في نطاق التعبديات والسلوكيات والأخلاقيات فقد تركت من ورائها سنناً ترسخت ، منها (تحريم الربا ، تحريم شرب الخمر وحد شاربها ، تحريم الزنا ، وحد مرتكبيه ، الاعتكاف في غار " حراء " في شهر رمضان والإكثار من عمل البر وإطعام المساكين والفقراء .. وقطع يد السارق ، تحريم أكل الميتة والدم والخنزير .. والنهي عن وأد البنات وتحمل تكاليف تربيتهن .. والصوم والاختتان والغسل من الجنابة ) ( خليل عبد الكريم ، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية ، ص25 و26 ، ط1 ، 1990 م ، دار سينا للنشر ) .



وإذا كانت الحنيفية كما قلنا في مفتتح المبحث هي إرهاص لـ " الإسلام " ، وإذ أن الدين منذ عهد الجد عبد المطلب قد ظاهر الدولة القرشية وساندها ودعمها فإنها بذلك قد شكلت بلا ريب إحدى المقدمات الهامة لتلك الدولة التي أقامها الحفيد محمد عليه السلام في يثرب .



يتبع..الباب الثالث: المقدمات السياسية
11-16-2007, 11:41 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #17
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

الباب الثالث : المقدمات السياسية
كانت الأحوال السياسية للدولتين العظميين : الرومانية الشرقية أو البيزنطية والفارسية بالغة السوء عندما قدر لدولة قريش أن تنشأ وتتبلور ملامحها ، ثم تستوي على عودها في يثرب . ولسنا هنا في مقام التأريخ لتينك الدولتين ، إنما يكفينا أن نبرز القسمات العريضة لكل منهما بالقدر الذي يؤيد ما نذهب إليه ، وهو أن ضعفهما ودخولهما في دور الإنحدار كان أحد العوامل التي ساعدت على نجاح القرشيين في تأسيس دولتهم ، بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي ذكرنا بعضاً منها وسوف يجيء البعض الآخر في حينه .

1 ـ الدولة الفارسية
كانت الدولة الفارسية في الوقت المعاصر لنشوء دولة قريش وتدرجها ونموها حتى قيامها في يثرب على يد محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - تعاني الكثير من المعضلات ، سواء في الداخل أو في الخارج ، من جيرانها وأخصها الإمبراطورية البيزنطية . والمراقب لأحوالها آنذاك يقطع بأن شمسها أخذت في الأفول وأول ما يشد الانتباه في هذا الصدد هو سرعة تعاقب الملوك على عرشها ، حتى أن بعضهم لم يهنأ به سوى شهور لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ، وبعضهم أسابيع محدودة بل أيام قليلة وأحدهم - أو اثنان منهم ـ اغتيل ساعة جلوسه على سرير الملك ، وكان القتل وسمل العينين مصير بعضهم ، وبلغ بهم الأمر أن أحدهم قتل أباه وبضعة عشر أخاً له ، حتى يأمن تآمرهم عليه ، ولما فنى رجالهم ملكوا عليهم اثنين من نسائهم ، وطمع أحد قوادهم في الملك واستشرقت نفسه ليه رغم أن ذلك كان محرماً في تقاليدهم المتوارثة وهو ألا يخرج الملك عن آل ساسان ، ويبدو أن ذلك كان عرفاً مستقراً لدى الأسر الحاكمة في العصور الوسطى على الأقل في الشرق ، وهنا يرد ذاكرتنا الأثر المعروف " الأئمة من قريش " والذي عقب نتائج شديدة على التاريخ الإسلامي حتى الآن.

يرسم لنا الطبري صورة مروعة لملوك فارس " كسرى أبرويز طغى وشره شرها فاسداً .. بلغت خيله القسطنطينية وإفريقيا وكان يشتو بالمدائن ويصيف ما بينها وبين همذان .. كانت له 12000 جارية وقيل 3000 للوطء ، والباقيات للخدمة والغناء وغير ذلك .. احتقر الناس واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم .. وظلم أبناءه .. كان ملكه اثنتين وثلاثين سنة وشهور قتله الشعب بمساعدة ابنه شيرويه الذي قتل سبعة عشراً أخاً له ... وفشا الطاعون في أيامه .. كان ملكه ثمانية أشهر .. ثم ملك أردشير أبنه .. قتل بأمر شهر أبرويز .. كان ملكه سنة وستة أشهر .. ثم ملك شهر ابرويز .. ولم يكن من أهل بيت المملكة .. قتلوه وكانت فترة جميع ملكه أربعين يوماً .. ثم ملكت بوران بنت كسرى ابرويز بن هرمز بن كسرى انو شروان وكان ملكها سنة وأربعة أشهر .. ثم ملك بعدها رجل يقال له جسندة من بني ابرويز الأبعدين وكان ملكه أقل من شهر .. ثم ملكت آزر ميدخت بنت كسرى أبرويز .. قتلها القائد رستم وسمل عينيها وقيل سمها وكان ملكها ستة أشهر .. ثم ملك كسرى بن مهر جشنس قتل بعد أيام .. ثم ملك خرذاد خسروان من ولد ابرويز استعصوا عليه وخالفوه .. ثم ملك فيروز بن مهر جشنس ويقال أنه هو الذي تولى الملك مباشرة بعد آزر ميدخت بنت كسرى ابرويز .. قتل ساعة جلوسه على سرير الملك .. ثم ملك فرخزاد خسروا .. قتلوه بعد ستة أشهر .. ثم ملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى ... وفي عهده ضعف أمر مملكة فارس واجترأ عليه أعداؤه من كل وجه وجربوا بلاده وتصرفوها وغزت العرب بلاده بعد أن مضت سنتان من ملكه وقيل بعد أن مضى أربع سنين من ملكه ) .

المصادر العربية التاريخية تختلف فيما بينها اختلافاً واضحاً في ترتيب سلسلة الملوك الفارسية ومدد حكمهم ، انما ننبه إلى ما سبق أن سطرناه أن القصد ليس التاريخ الدقيق ، إنما رسم الملامح البارزة لكل من فارس وبيزنطة في تلك الحقبة خاصة تلك التي اتفقت عليها المصادر العربية بشأن الإمبراطورية الساسانية بغض النظر عن التفاصيل . والذي خرجنا به من قراءتها أن تلك الدولة طفقت في الذبول ، وكان تعاقب الأكاسرة على عرشها بتلك الطريقة الفاجعة هو أحد المؤشرات البالغة الدلالة على ذلك . يمتاز أبو حنيفة الدينوري - عن الطبري - بأنه حاول أن يقرن تاريخ بعض ملوك دولة العجم بتاريخ النبي محمد ( ص ) مؤسس الدولة في يثرب ( وولد رسول الله ص في آخر ملك أنو شروان فأقام بمكة إلى أن بعث بعد أربعين سنة ، فيها سبع سنين بقيت من ملك أنو شروان ، وتسع سنة ملكها هرمز بن كسرى أنو شروان ، وبعث وقد مضى من ملك كسرى ابرويز ست عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وقد مضى من ملك ابرويز تسع وعشرون سنة ، فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفى ( ص ) وآله تسليما بعد موت كسرى ابرويز فكان عمره ( ص ) ثلاثاً وستين سنة ) ( أبو حنيفة الدينوري ، الأخبار الطوال ، تحقق عبد المنعم عامر ، مراجعة جمال الدين الشيال ، من سلسلة " تراثنا " ، ط1 ، 1960 ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، القاهرة ) .
وعلى ذلك وحسب رواية الدينوري يكون الرسول ( ص ) قد عاصر كلا من : أنو شروان هرمز وابرويز ، والذي يطبق عليه المؤرخون أن أنو شروان كان محمود السيرة بالمقاييس التي كانت سائدة في عصره ، والتي أقرها أولئك المؤرخون ، وكان ضابطاً لأمور مملكته ، ولكن الوهن بدأ يصيبها في زمن ابنه هرمزد ( فلما كانت سنة إحدى عشرة من ملكه حدق به الأعداء من كل وجه ، فاكتنفوه اكتناف الوتر سبتي القوس ، أما من ناحية الشرق فإن شاهنشاه الترك أقبل حتى صار إلى هراة وطرد عمال هرمز ، وأما من قبل المغرب فأن ملك الروم أقبل حتى شارف نصيبين ليسترد آمد وميا فارقين ودارا ونصيبين ، وأما من قبل أرمينية فإن ملك الخزر أوغل حتى أذربيجان فبعث الغارات فيها ( الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص78 ، 79 ) . وظلت الأحوال تسوء في عهده حتى تآمر عليه العظماء والأشراف والمرازبة ( أقبلوا على الملك هرمز فنكسوه عن سريره ، وأخذوا تاجه ومنطقته وسيفه وقباءه ، فأرسلوا بها إلى كسرى " ابرويز " وهو بأذربيجان ) (المرجع السابق ، ص84 ) وانتهى به الأمر إلى القتل الذي يرجع إلى طغيانه إذ أنه لم يكن خيار الأعاجم وسراتهم كما أنه " مولداً " إذ أن أمه كانت تركية أي لم يكن فارسياً خالصاً ، ثم تولى بعده ابرويز الذي وصفه الطبري كما أسلفنا بأنه طغى وشره شرهاً فاسداً وكانت لديه اثنا عشر ألف جارية منها ثلاثة ألف للوطء أي المتعة ، ويضيف البريجادير سير برسي ساكس أنه تزوج بمسيحية ذات جمال تسمى شيرين وأنه كان ميالاً للنصرانية ( البريجادير سير برسي ساكس ، الفصل السادس والثمانون " نهضة الفرس الحربية والثقافية " من كتاب تاريخ العالم بإشراف السيرجون أ . هامرتن أ . هامرتن ، المجلد الرابع ، أشرف على ترجمته قسم الترجمة بوزارة التربية والتعليم نشر مكتبة النهضة المصرية )
وروى المسعودي أن اسم هذه الزوجة مارية ، وأنها ابنة ملك الروم موريقوس ويبدو أن اسمها الأصلي كان مارية وبعد أن تزوجها كسرى أطلق عليها شيرين ، واستمر في جبروته وطغيانه حتى قتله الشعب بمساعدة ابنه شيرويه كما أورده الطبري فيما سبق ... ومن المحتمل أن يكون من بين دوافع الثورة عليه ثم قتله زواجه بنصرانية وميله إلى دين المسيح عليه السلام ـ وهو دين الإمبراطورية البيزنطية العدو اللدود للفرس . وباغتياله بدأ العد التنازلي لملك دولة الأعاجم الساسانية ، إذ تعاقب على عرشها ملوك متعددون لم يدم ملك أحدهم شهوراً أو أسابيع أو أياماً ، بل أن أحدهم قتل قبل أن يجلس على سرير الملك . حتى انتهى الأمر إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى وفي عهده قوض العرب الإمبراطورية الفارسية وورثوا ملكها .

وكانت للعرب صولة سابقة على الفرس ، وذلك في موقعة أو الحروب المعروفة بـ " ذقار " أو يوم " ذي قار " التي حدثت في عهد الملك ابرويز وكان النبي محمد ( ص ) قد أدرك أهمية هذه المعركة ، والنتيجة التي انتهت إليها في صالح العرب وما دلت عليه من ظهور علامات الشيخوخة على الدولة الساسانية وقد قال عليه السلام في حقه ( هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ونصرت عليهم بي ) ويقدر المسعودي عدد ملوك الدولة الساسانية باثنين وثلاثين منهم امرأتان . ولعل كثرة حكام الإمبراطورية الفارسية في تلك الفترة وتداولهم سرير الملك لفترات قصيرة ترجع إلى ظلمهم للرعية ـ وخاصة المتأخرين منهم ـ وقتلهم الأشراف والمرازبة لأتفه الأسباب، وإلى إسرافهم الذي لا يرقى إلى تصوره خيال . والأوصاف التي حملتها كتب الأدب العربي وقصائد الشعر لـ ( إيوان كسرى ) وما جاء في كتب التاريخ الإسلامي عن الغنائم التي حصل الفاتحون العرب ما يقطع بذلك ، وسبق أن أوردنا عدد الجواري اللائى كان يمتلكهن كسرى ابرويز ويضيف المسعودي بأنه ( كان على مربطه خمسون ألف دابة وسرج ذهب مكللة بالدر والجوهر على عدد ما لركابه من الخيل وكان على مربطه ألف فيل منها أشهب أشد بياضاً من الثلج ومنها ما ارتفاعه اثنا عشر ذراعاً ) (المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ص210 ) وكان ذلك كله على حساب الرعية المحكومة بالسيف ، ومن ثم كانت تعيش في أحوال بلغت المنتهى في التدني و الانحطاط ولم يكن مستغرباً أن تتفشى فيها الأوبئة .. الفتاكة ، يحدثنا المسعودي عن شيرويه المشئوم فيقول ( وفي أيامه كان الطاعون بالعراق وغيرها من الأقاليم فهلك فيه مائتا ألف من الناس فالمكثر يقول : هلك نصف الناس والمقل بقول الثلث ) ( المسعودي ، المرجع السابق ، ص211 )

ومما أحدث اضطراباً في بنية المجتمع الفارسي وأثار النقمة العارمة بين أفراده هو ما يمكن أن نطلق عليه : التجميد الطبقي ومعناه أن أبناء كل طبقة يظلون تابعين لطبقتهم لا يغادرونها ولو تمتع أحد أفرادها بمواهب أو ملكات تؤهله للترقي إلى طبقة أعلى فيستحيل عليه ذلك ، كما أن الواحد من أفراد طبقة عالية يستمر فيها حتى ولو كان عاطلاً من أي ميزة . ولقد انتقد المفكرون الإسلاميون ذلك بشدة فيا بعد عندما اطلعوا على أحوال المجتمع الفارسي ( كانوا يحرمون على رعاياهم الترقي من مرتبة إلى مرتبة ومن ذلك ما يعوق التراكيب السوية عن كثير من الشيم الرضية ... وليس بشك أن تسخير العاقل الحر بالقهر والغلبة على المنزلة الواحدة وزجره عن اكتساب المحامد بالهمة العلية .. في الغاية من الاتضاع والخسة )

وقد يكون من الصائب أن نذكر أن ذلك كان أحد الدوافع التي حفزت الأعاجم إلى الترحيب بالفتح العربي الإسلامي لما سمعوه من أن دينهم يحض على المساواة بين الناس .والشعوب مهما طال صبرها فأنها تثور ضد الطواغيت وحكام البغي ، وهذا أحد وجوه تفسير كثرة ملوك الفرس في تلك الفترة . ومما ضاعف من سوء الأحوال الاقتصادية في دولة الفرس ، وزاد معاناة الشعب وتفاقم بؤسه ، الحروب العدية التي خاضها الأكاسرة سواء ضد الدولة الرومانية البيزنطية أو غيرها ، فهذه المعارك تتطلب نفقات باهظة وتسحب من سوق إنتاج الفلاحين والعمال الذين يقع على أكتافهم عبء الإنتاج ، ونتيجة لذلك تشح المنتجات فترتفع أثمانها وتغدو بعيدة عن متناول يد الفقراء بل والمتوسطين ، كما أن الجنود الذين يقتلون في ساحة الوغى أو يصابون هم أرباب أسر تصبح بعدهم بغير عائل أو معين وهكذا تقع أعباء هذه الحروب على كواهل القاعدة الشعبية العريضة مما يسارع من نقمتها على ملوكها فتساهم في الانتفاض عليهم . وهذه المعارك توضح أو تدلل على أنها كانت من أسباب الخور الذي ضرب مملكتهم وأدى في مختتم الشوط إلى امحائها من الوجود ، وكان ذلك بلا أدنى ريب في صالح دولة القرشيين في يثرب ، ومن الطريف أن نذكر أن أنو شروان الذي ترجع شهرته من جهة إلى مآثره العسكرية ، قد بدأ حكمه بمهادنة جستنيان ولكن هذا تؤازره قوة قائده بتنزاريوس الذي عاد إلى شمال أفريقيا مما أدى إلى أن يجتاح أنو شروان الشام فجأة خشية أن تدهمه قوات عدوه ، ولم يكن جستنيان مستعد قط ، وراحت إنطاكية بثروتها كلها غنيمة لكسرى ، وعقد صلح مؤقت نقضه جستنيان حين استكمل استعداداته العسكرية ...واشتبكت الإمبراطوريتان في حروب عدة سنوات .. وترجع شهرة أنو شروان العسكرية إلى هذه المعارك خاصة ، وهي المعارك التي لا نملك معلومات عنها ، ولكنها أضافت كثيراً إلى قوة كسرى وشهرته، ذلك إلى أن جوستين الذي ارتقى عرش الإمبراطورية نقض السلام عام 572م للأسباب التي حفزت أنو شروان على ذلك من قبل ثلاثين عاماً ، وكانت النتيجة استمرار الحرب بين الإمبراطوريتين بقية حكم أنو شروان فهي حر أوقعت خسائر فادحة بالجانبين بينما لم يجن أحدهم منها أية فائدة ، هذا فضلا عن تحريض عرب الغساسنة الموالية للرومان على إثارة القلاقل ، والإغارة على أطراف دولة الفرس ودويلة عرب الحيرة المناذرة الموالين للفرس ( وظهر تعاون الغساسنة الذين انتقلت مشيخة العرب الموالين للرومان في عهد انستا سيوس إبان الحرب مع الفرس 502 / 503 م ) .

وفي عهد هرمز بن أنو شروان ( ولاثنتي عشرة سنة من ملكه تخرم عليه الملك وتداعت أركانه وزحفت عليه الأعداء وكثرت عليه الخوارج ) ( المسعودي ، مروج الذهب ، المجلد الأول ، ص204 ) ويوضح المسعودي ذلك ( وكان من سار إليه شابة بن شب عظيم من ملوك الترك في أربعمائة ألف ... وسار إليه من أطراف أرضة طراخنة من الخزر في جيش عظيم .. وسار إليه بطريق لقيصر في ثمانين ألف .. وسار فيما يلي اليمن جيش عظيم للعرب من قحطان ومعد .. فاضطرب على هرمز أمره ) ويؤيد الدينوري ذلك ويذكر أن هرمزد إزاء ذلك اضطر إلى مصالحة قيصر الروم ( فرد عليه المدن التي كان أبوه اغتصبه إياها وسأله الصلح والموادعة فأجابه قيصر ذلك ) ثم يسرد لنا الدينوري أطرافاً من حروب ابرويز مع الروم نعلم منها أنها انضوت على معارك طاحنة كانت سجالاً بين طرفيها خسر فيها كل منهما خسائر فادحة ، وأن ابرويز لما سمع عن هزيمة جيشه في الجزيرة حتى بلغت فلوله الموصل خرج في جنوده حتى الموصل وانضم إليه قواده الثلاثة وسار نحو هرقل فاقتتلوا فانهزم الفري ، ولما رأى ذلك كسرى غضب على عظماء جنوده ومرازبته فأمر بحبسهم ليقتلهم ) ( الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص79 ) حارب العرب كسرى ابرويز في " يوم ذي قار " ( وذي قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط .. ويرجع الإخباريين بسبب وقوع ذي قار إلى مطالبة كسرى ابرويز هانئ ابن قبيصة بن مسعود بتسليم الودائع التي أودعها النعمان لديه فلما أبى هانئ تسليم ما أؤتمن عليه لغير أهله غضب كسرى ... وانهزمت الفرس وكسرت كسرة هائلة وقتل أكثرهم وفيهم الهامرز وجلابزين ـ وهما من قواد كسرى ـ وانتصر العرب على الفرس انتصاراً عظيماً وانتصفت فيه العرب من العجم ( د . جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، الجزء الثالث ، ص293 ، 294 ، نشر دار العلم للملايين ، بيروت ومكتبة النهضة ، ط1 ، تموز / يوليو 1969م ) .

وكانت هزيمة الفرس ومن تابعهم من القبائل نكراء ( ثم اتبعت بكر الفرس وأحلافهم من العرب يقتلونهم بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه في طلب القوم ) (محمد أحمد جاد المولى بك وآخران ، أيام العرب في الجاهلية ، ص33 ، نشرته دار إحياء الكتب العربية ، بدون تاريخ ) ولقد احنق كسرى ابرويز هذا الانتصار الساحق الذي حققه العرب على جيشه وأنصاره من القبائل العربية وأوجعه وأغاظه لأنه رأى من خلاله بوادر أفول مملكته ومملكة آبائه ، وكذلك لما وصل خبر الهزيمة المريرة أمر بالرسول الذي حمله إليه . فنزعت كتفاه ) ( المرجع السابق ، ص34 ) أما محمد بن عبد الله (ص) مؤسس الدولة القرشية في يثرب ، فقد رأى فيه بعبقريته الفذة وحنكته السياسية بشائر ارتفاع الراية العربية على الجزيرة العربية ودلائل غروب شمس دولة الأكاسرة الساسانيين ومن ثم قال الحديث الذي سبق أن أوردناه آنفاً .

تلك كانت ملامح سريعة عن دولة الفرس حاولنا قدر الاستطاعة أن تكون وافية بالغرض وهو التدليل على أنها كانت في طور الانهيار والاندثار في الوقت الذي كانت فيه دولة قريش تتقوى وتتوطد أركانها ويعلو بنيانها ، والذي لا شك فيه أنه بكافة المقاييس جاء ذلك في صالح الدولة الفتية التي كانت تتخلق في الحجاز ، إذ لو كانت مملكة الساسانيين آنذاك في أوج مجدها وعز عنفوانها لما استطاعت دولة قريش أن تأخذ فرصتها التي واتتها ولتغير مسار الأحداث في شبه الجزيرة العربية ولكنها عجلة التاريخ التي لا تكف عن الدوران .

يتبع..الدولة البيزنطية (1)
11-17-2007, 02:05 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #18
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة


( 1 ) الدولة البيزنطية :
كانت الدولة الرومانية البيزنطية هي الأخرى وقت أن بدأ ساعد دولة القريشيين في يثرب يقوى ويشتد تعاني من معضلات متفاقمة تختلف في بعضها عن مشاكل الدولة الفارسية وتتماثل في البعض الآخر . أولى المشاكل التي تباينت فيها عن نظيرتها الفارسية هو ما يمكن أن نسميه المشكلة الدينية أو المشكلة العقيدية .
واختلاف أبناء الدين الواحد وتفرقهم شيعاً وطوائف اختلافاً يصل إلى درجة العراك الدموي أمر ثابت ومعروف في تاريخ الأديان الإبراهيمية الثلاثة بدأ باليهودية ثم انتقل إلى المسيحية ومنها إلى الإسلام ، وهو ما أكد وقوعه الرسول محمد ( ص ) من استقرائه لأحوال الديانتين - اليهودية والنصرانية - ولنقاط التشابه بين العقائد الثلاث ـ بأن اتباعه المسلمين سوف يفترقون على ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت من قبل النصارى على اثنتين وسبعين فرقة واليهود على أحدى وسبعين فرقة وذلك في حديث مشهور له ، وأسباب تنازع المؤمنين بالدين الواحد إلى حج التقاتل متنوعة ولا مجال لذكرها هنا ، وأن كنا تناولنا بعضا منها في كتابات سابقة .

انتشرت المسيحية من مهدها في فلسطين إلى روما عاصمة الإمبراطورية ، بدأت بالجماهير ـ كما هي العادة في كل دين ـ ثم انتقلت إلى الحكام ونظراً إلى أن بيئة شعوب الإمبراطورية كانت مختلفة عن البيئة التي شهدت ميلاد المسيحية ، وبعضها كان متشبعاً بالثقافتين اليونانية واللاتينية فقد كان من البديهي أن تصبح لمعتنقي المسيحية وخاصة الطبقة المثقفة نظرات فلسفية ، ومن هنا بدأ البحث في أمور لاهوتية معقدة أشد التعقيد : هل للمسيح عليه السلام طبيعة واحدة إلهية أم له طبيعتان أحداهما إلهية والأخرى إنسانية ؟ وهل له مشيئتان أم مشيئة واحدة ؟ وهل له طاقتان أم طاقة واحدة ؟وهل هو مساو له في الجوهر أم لا ؟
وهل السيدة مريم ـ عليها السلام ـ يصح أن يطلق عليها " أم الإله " وإذا جاز ذلك فهل أمومتها له تشمل الطبيعة الإنسانية أم الطبيعتين الإلهية والإنسانية ؟

وهي كما يرى القارئ مسائل فلسفية ونحن نعلم أن الشق الشرقي من المبراطورية الرومانية كانت ثقافته اغريقية وأهم ما امتاز به اليونان فلسفتهم فضلاً عن أن ( أهل بيزنطة كانوا شديدي الإيمان بالخرافات والأساطير وكانوا جميعاً مولعين بالجدل والنقاش في المسائل الدينية وأصبح ذلك فيهم غريزة وسليقة لا تكاد تفارقهم ) ( د . عبد السلام عبد العزيز فهمي ، فتح القسطنطينية ، ص42 ، ط1 ، المكتبة الثقافية ، الكتاب رقم 227 ، الهيئة العامة للتأليف والنشر ، القاهرة )

. كان الخلاف على المسيح عليه السلام هل له طبيعة واحدة أم طبيعتان ؟ هو الأشد ضراوة حتى أدى إلى شطر الكنيسة المسيحية إلى كنيستين سنة 45م وانقسم اتباع عيسى عليه السلام إلى كاثوليك ( المؤمنين بالطبيعتين ) والارثوذكس ( المؤمنين بالطبيعة الواحدة ) ( ويتبعهم السريان الذين أطلق عليم اليعاقبة ) ( د . إبراهيم صبحي ، " مصر في عهد الرومان " ص219 من موسوعة الحضارة المصرية ، المجلد الثاني ، العصر اليوناني ، الروماني ، العصر الإسلامي ، ألفه نخبة من العلماء ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر ، الموزع : مكتبة مصر بالفجالة ) .
تعددت أثناء ذلك المذاهب مثل :الإثناسية ، الأريوسية ، البلاجيوسية ، النسطورية ، الدوناتية ....الخ . وكان أباطرة بيزنطة من المؤمنين بالطبيعتين وخالفتهم في ذلك كنيستا الإسكندرية وإنطاكية على وجه الخصوص ويمكن القول أن الشعوب الشرقية ( الشام ومصر ) تمذهبت برأي أو عقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح عليه السلام .وأبدى أباطرة الدولة الرومانية الشرقية تعصباً مقيتاً شايعهم فيه البطارقة الذين كانوا يدورون في فلكهم وأخذوا يضطهدون مخاليفهم القائلين بالطبيعة الواحدة حتى أنهم أطلقوا عليهم لقب " الهراطقة " والواقع أنه لم يكن في القرن الخامس الميلادي مسألة اشتد حولها الخلاف مثل مسألة الطبيعة الواحدة والطبيعة المزدوجة في المسيح أو حول الطبيعة التي يمكن التعبير عنها باتحاد الطبيعتين تعبيراً دقيقاً ) (هـ . أ . ل . فيشر ، تاريخ أوروبا ـ العصور الوسطى ، نقله إلى العربية محمد مصطفى زيادة ، السيد العريني ، ص56 ، الجزء الأول ، ط6، 1976م ، جمعية الحديث بالاشتراك مع دار المعارف المصرية ) .

في عهد إنسطانيوس ( 492 / 518م) سادت فترة هدوء نسبي ولكن لما تولى الحكم الإمبراطور يوستنيوس الأول ( جوستين الأول 518 / 527 م ) اشتد الاضطهاد إذ أمر بغلق الكنائس في مصر ، ولم يجد الشعب المصري مكانا للصلاة ، فبنوا كنيستين سراً في المكان المعروف باسم السواري غربي الإسكندرية ... وقد خطا يوستنيوس خطوة أوسع في اضطهاد المصريين وإرغامهم على قبول مذهب الطبيعتين .. وشهد عهده مذبحة كبرى قتل فيها عدد من أفراد الشعب الذين رفضوا اتباع عقيدته ...) (د.إبراهيم صبحي ، " مصر في عهد الرومان " ، ص224 ) .

وكان جوستينيان من الأباطرة الذين أمعنوا في اضطهاد أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة وهم " المونوفيزتيون " ولو أنه حاول التوفيق بين المذهبين وهادن خصومه بعض الوقت ولكن جهوده تلك ذهبت أدراج الرياح فعاد إلى التنكيل بهم بشتى السبل منها : منع نسخ كتبهم وقطع إيدي نساخها وتشريد أحبارهم ورهبانهم وبطاركتهم وقسوسهم ( ولم يخف جوسنتيان بغضه الشديد تجاه الطوائف المسيحية التي لا تدين بمذهب الدولة لأنهم " لا يستحقون إلا كل ازدراء " على حد قوله ، هذا فضلاً عن أنه جعل اعتناق المذهب الخلقيدوني شرطاً أساسياً في شغل وظائف الدولة ، وبذلك أعطى امتيازاً لأتباع مذهب الدولة على باقي الطوائف وعمل على تطبيق هذا القانون بكل حزم ) (د . محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية .. ص142) وبعد جوستيان ( زاد اضطهاد الرومان للأقباط حتى أن الرومان حرموا الأقباط من الكنيستين اللتين بنوهما سراً في غرب الإسكندرية ... وفي 631م عين هرقل بطريكاً ملكانياً أو ملكياً اسمه " كيرس " وهو الذي اشتهر باسم " المقوقس " وهو الذي عاصر فتح العرب بمصر ، زاد اضطهاد المصريين اضطهاداً رهيباً مما نفرهم منها في وقت كانت فيه محتاجة أشد الاحتياج إلى استرضاء الأقباط بسبب حرج موقفها في حربها مع الفرس ) ( د إبراهيم صبحي ، " مصر في عهد الرومان " ص225 ) .

وكانت النتيجة المحتومة أن رحبت الشعوب المضطهدة ومنهم المصريون ( أيما ترحيب بالفاتحين " العرب " لينقذوهم مما يشكون من اضطهاد ) ( والتر السون فيلبس ، ص376 في الفصل الذي عنوانه " حرب المذاهب " من كتاب تاريخ العالم) وهذا ما أجمع عليه المؤرخون كافة ( أن تلك الشقوق - أي الناجمة عن الاضطهاد ظلت تتسع اتساعاً مضطرداً فأضعفت روح الولاء نحو القسطنطينية لا سيما في مصر والشام ومهدت الطريق للفتوح الإسلامية ) ( هـ . أ . ل فيشر ، تاريخ أوروبا ـ العصور الوسطى ، ص85 ) . ومما يذكر بالحمد والثناء لأقباط مصر صلابتهم وتمسكهم بمذهبهم رغم المحن الشديدة التي تعرضوا لها على أيدي الرومان الطغاة ( أن الكنيسة القبطية ثبتت على مر الأيام ولا تزال تقوم على صخرة المونوفيزتية القديمة ) ( المرجع السابق ) ، ولقد فعل الأقباط هذا بينما خارت قوى غالبية أسقفيات العالم المسيحي واضطرت إلى الخضوع لسيطرة الرومان وبابوات روما ـ ولم يقف إلى جوار الإسكندرية غير أسقفية أنطاكية التي لاقت صورة مشابهة من الاضطهاد وتحمل أساقفتها العزل والنفي وتحمل شعبها الاضطهاد ) ( د . إبراهيم صبحي ، ص220 ، المرجع السابق ) . (شخصيا استغرب هذا الطرح بالرغم من وجود مايكفي للقول ان الاقباط دافعوا عن وطنهم ضد الاحتلال وحاربوا التمييز والوصاية والاذلال).

كانت هناك مشكلة أخرى تتعلق بالدين إذ مورس تعصب وتعنت بالغان ضد فرقاء من مواطني الإمبراطورية الرومانية الشرقية ، مما جعلهم يضيقون ذرعاً بحكامها حتى تمنوا زوالها بل عمل بعضهم على ذلك . لم يتسع صدر الأباطرة لمخالفيهم في المذاهب وأن اتحدوا معهم في الملة فما بالكم بمن لا يتبعون دينهم وهم : الوثنيون ، السامريون ، اليهود . أما عن الوثنيون فمنذ منتصف القرن الرابع الميلادي أصدر الإمبراطور قنسطانز والإمبراطور قنسطنيوس سنة 342م قانونا نص على إغلاق معابد الوثنين في كل مكان ، ومصادرة أملاكهم وتحويلها إلى خزانة الدولة ) ( د . محمد فنحي الشاعر ، السياسة الشرقية ، ص124 ) . واهتدى جوسنتيان بسنة أسلافه في ذلك حتى قضى على الوثنيين والوثنية بشكل نهائي .

*******

يتمركز السامريون في فلسطين ، وبينهم وبين المسيحيين خلاف عقائدي ، وهم بعكس الوثنيين لهم كتاب مقدس ويؤمنون برسالات السماء ولهم شعائرهم وطقوسهم ، ولكن هذا جميعه لم يشفع لهم عند حكام بيزنطة الذين حاولوا تنصيرهم ، ولما خاب مسعاهم نالهم الاضطهاد ومصادرة الأموال والأملاك وهدم المعابد وشرع شطر منهم في الانتفاض ضد السلطة وتظاهر الآخرون بالدخول في دين المسيح عليه السلام ـ حتى تتاح لهم الفرصة في الثورة ، وهي نظرية معروفة في كل الملل باسم " التمكن " .
وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم مما وقع عليهم من اضطهاد فأغروا ( قباذ ) ملك الفرس باحتلال فلسطين ( وهكذا نجح السامريون في عرقلة جهود السلام بين القوتين العظميين ومن الانتقام لأنفسهم من الرومان الذين اضطهدوهم في فلسطين سنة 529م ) ( المرجع السابق ، ص193 ) ، وظل السامريون يواصلون العنف والانتفاضة والثورة مما اضطر جوستنيان في آخر الأمر إلى إلحاق أقسى صنوف العذاب بهم .

بدأت مضايقات الرومان لليهود مع فجر القرن الخامس الميلادي منذ عهد تيودوسيوس الثاني 408 / 450م مثل فرض الضرائب على المعابد ورفض التصريح ببناء معابد جديدة ، وإذا بنى منها شيء دون ترخيص صودر ، وتحريم الختان ونفي من يباشره ، ومنعهم من تولي الوظائف المتقدمة ... الخ ودرج الأباطرة على نهج هذه السياسة المتعصبة حتى أمسك جوستنيان بيديه صولجان الملك وكان مسيحياً تقياً يتوقد حماسة لدينه ، ويعمل على نشره ، ويمقت أتباع الديانات الأخرى ويود في قرارة نفسه لو ألقى بهم خارج حدود إمبراطوريته ومن ثم فلم يكتف بتلك الأعمال التعسفية التي كان ينزلها من سبقوه من الأباطرة على اليهود بل ( مس جوهر عقيدتهم ذاتها مستهدفاً تعديل مفاهيمهم عن المسيح بما يتطابق مع العقيدة المسيحية ) ( د . محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية ، ص151 )
ومن نافلة القول أن نضيف أن اليهود لم يذعنوا له لأنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الديانة الإبراهيمية الأولى التي تفرعت عنها باقي الديانات وأنهم الأساس والأصل وكيف يتبع الأصل الفرع الذي نبت منه ؟
تلك الممارسات القمعية من قبل أباطرة بيزنطة ضد الطوائف اللا مسيحية وما نجم عنها من تداعيات كانت من أسباب تضعضع بنيان إمبراطورية الشرق الرومانية .

* * * *

عندما تناولنا الدولة الفارسية بالدراسة ، ذكرنا أن من بين أسباب انهيارها :
الحروب الطاحنة التي دارت بينها وبين الدولة البيزنطية وإذ أنها قاسم مشترك بينهما فلا موجب لسرد وقائعها مرة أخرى هنا ونحن بصدد بحث أحوال دولة الروامن في الشرق . بيد أننا سوف نوضح جانباً حربياً آخر ونعني به المعارك التي استخدمت كل واحدة منهما الدويلة العربية التي كانت تتبعها وتدين لها بالولاء .
كانت دولة الغساسنة تقع على مشارف الشام وسبقهم إليها الضجاعم ولكنهم غلبوهم وأنشأوا لأنفسهم دولة دخلت في تبعية مع الروم الذين درجوا على النظر إليها باستعلاء واستكبار ولكن بعد احتدام حروبهم مع الفرس خاصة في القرن الخامس الميلادي ( اضطروا إلى استنصار عرب الشام وهم الغساسنة) ( جرجي زيدان ، العرب قبل الإسلام ، طبعة جديدة ،ص214 ، دار الهلال ) .

قدر ملوك العرب عدد الملوك في غسان باثنين وثلاثين ملكا ، ولكن نولدكة نزل بهم إلى عشرة ملوك فحسب ، انما يهمنا منهم الحارث بن جبلة إذ أنه كان من أكبر أعوان بلزاريوس القائد الروماني في محاربة الفرس سنة 531 ) ( المرجع السابق ، ص216 ) .
لما أفلح كسرى أنو شروان في اجتياح الشام وآسيا الصغرى وكاد يفتح القسطنطينية العاصمة واهتزت مملكة الروم المشارقة ( وارتعدت فرائض القيصر فاستنهض قائده بليزاريوس واستنصر عرب غسان ، وخلع زعيمهم الحارث بن جبلة ، فمشى جند الروم بقيادة هذين الرجلين وتقدم بليزاريوس في معظم هذا الجيش ، حتى خالف جند كسرى في الطريق فنزل ما بين النهرين وتجاوز نصيبين إلى بلاد فارس وخلف الحارث وراءه ليستأثر بثمار الفتح والنهب ) ( جرجي زيدان ، العرب قبل الإسلام ، ص214)
وبلغ الحارث لدى الروم مكانة رفيعة حتى أن قيصرهم خلع عليه عدة ألقاب مثل : الصفي والمحترم والملك والمختار والأمجد والشريف ، كذلك استعمل الرومان الحارث في إنزال ضربات موجعة بدويلة المناذرة التابعة للفرس إذ نجح جوسنتيان في زيادة التوتر القائم بين عرب إمارة الحيرة ـ أي المناذرة ـ وبين الحارث بن جبلة وحرضه على القيام بغزوة انتقامية على أراضي الحيرة والقلاع الفارسية المجاورة ) ( د . محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية ، ص176 )
وكان ذلك هو الرد البليغ على ما قام به المنذر سنة 527 م من الإغارة على ثلاثة اقاليم رومانية قريبة من الحدود الفارسية وأنزل بها خراباً شديداً .

وبهذا يبين أن الرومان والفرس لم يكفيا بالمواجهة المباشرة بينهما بل عمل كل فريق على تحريض الدويلة التابعة له ، وكانت هذه الحروب غير المباشرة تكلف كلاً منهما الكثير من أسباب الوهن الذي أصاب كليهما .هذا بالإضافة إلي وجود قبائل عربية كانت تعمل لحسابها الخاص وتغير علي تخوم كل منهما ، وتنهب ما تسطيع نهبه مما كان ينال من هيبتهما ويكبدهما الكثير من الخسائر ( وهكذا نجد أن البدو يقومون في تاريخ الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية بدوري المغير والتاجر . وحاولت الإمبراطوريتان بشتى الطرق الدفاع عن نفسيهما من الغارات المعادية التي يشنها البدو للسلب والنهب ) ( مادة " بدوي " دائرة المعارف الإسلامية ، المجلد السادس ، ص194 ،إعداد وتحرير إبراهيم زكي خورشيد وآخرين ، طبعة دار الشعب بمصر ) .

ومن المشكلات التي عانت منها بيزنطة أن الدولة الفارسية قد ضيقت عليها الخناق في التجارة العالمية مما أصاب ماليتها بالعسر .. ( … هكذا أصبح من الواضح أن السياسة الرومانية فشلت أثناء عهد جوسنيان في مقاومة الاحتكار الفارسي للتجارة العالمية سواء في جزيرة سبلان أو في المواني الفارسية ذاتها ، وكان على رأس هذه السلع التجارية الحرير الصيني ) ( د . محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية .. ص179 ) . كذلك قام ذو نواس الحميري اليمني ببتر شريان التجارة بين الأحباش والرومان ، بأن قتل التجار الرومان وقطع طريق القوافل بين الحبشة وبيزنطة فأوعز قيصرها إلى ملك الحبشة لتأديب ذي نواس فاستجاب لندائه وأرسل قائديه أرياط وأبرهة فقاما بذلك ، ولكن الأخير خيب آمال قيصر بيزنطة ، إذ سلك سياسية شبه مستقلة ثم امتدت أطماعه إلى مكة لأنها كانت مركزاً تجارياً هاماً وطريقاً حيوياً للقوافل ، ولكنه فشل في ذلك لأن جيشه لم يتحمل حرارة جو الصحراء ، وهكذا يبين أن الدوافع وراء قتل ذي نواس لأصحاب الأخدود ، تجار الرومان النصارى ، وغزو أبرهة لمكة المعروفة بـ " واقعة الفيل " لم تكن دينية غيبية بل كانت بواعث اقتصادية وتجارية ( سيف على مقبل ، دراسات في التاريخ اليمني ، ص44 ، ط1 ، 1988 نشرته دار الهمداني ، عدن ـ اليمن ) .

لم يكن للفرس وغيرهم هم الذين حرموا بيزنطة من هذا الشريان التجاري الحيوي بل انضم إليهم اليمنيون وإلى حد ما الأحباش . وافتقاد دولة الرومان المشارقة لهذا المورد المالي ضاعف من مصاعبها وسارع في خطوات انهيارها .انقسم المجتمع الروماني المشرقي إلى طبقة الأشراف وطبقة العامة ، وهذه الأخيرة كانت محرومة من معظم حقوقها ولو أن أحوالها خاصة في العاصمة والمدن كانت أحسن بعض الشيء من نظيرتها في الدولة الفارسية ، إذ وجد بعض الأباطرة الذين حاولوا أن يقوموا ببعض الإصلاحات التشريعية والإدارية التي تنصف الشعب وعلى رأسهم جو ستنيان ، وفي المدن ( مما حال دون التقدم الاقتصادي ظهور نظام طوائف الصناع والتجار وقد كان هذا النظام يحول دون حرية التجارة والصناعة بعد أن أصبحت المهن وراثية ) ( د . محمد عبد المنعم بدر ود . عبد المنعم بدراوي ، مبادئ القانون الروماني ، ص129 ـ 130 ، ط 1956م ، نشرته دار الكتاب العربي بمصر ) . كما أن الضرائب كانت شديدة الوطأة على العامة ( وقد بلغ من قسوة الضرائب حتى وقت السلم أن الأغلبية العظمى من الإمبراطورية كانت فيما يبدو تعيش على الدوام فوق حد الكفاف بقليل وكان يزيد من شر هذه الضرائب الفادحة ما كان يتبع في جبايتها من أساليب ممقوته ، وكان المألوف أن تجمع الضرائب بطريقة الالتزام أي أن أتباع ضرائب الإقليم مقابل مبلغ من المال يدفع فوراً على حساب دافعي الضرائب المنكوبين وكثيراً ما كان يلجأ إلى العنف والتعذيب لاغتصاب آخر درهم لديهم ، وقد ألغى جستنيان هذا النظام في يوم من الأيام إلا أنه سرعان ما عاد إليه لشدة الحاجة إلى النقد ، إذا ما ذكرنا ازدهار العمارة والمجد الحربي أيام جستنيان فإن علينا أن نذكر الوجه الآخر في صورة الدولة في عهده ) ( ف . ن . بريس " القسطنطينية في عصر جستنيان " ص331 من الفصل الخامس والثمانين من تاريخ العالم ) .

كذلك كانت الألقاب والوظائف كبيرها وصغيرها تشتري بالمال ذلك أن الوظائف كانت موارد دخل تدور حولها المساومات ) ( ف.هـ . مارشال " الحركة البيزنطية في مظاهرها المختلفة " ص702 من الفصل الواحد بعد المائة من تاريخ العالم ) . وساءت حال الفلاحين الذين كانوا ( يعيشون في حماية كبار الزراع في حالة بين الحرية والرق ) ( د.محمد عبد المنعم بدر وآخر ، مبادئ القانون الروماني ، ص130 ) ويؤكد ف.ن. بريس هذه الحقيقة بقوله ( غير أنه لم يكن لأهل العاصمة ما يشكون منه إلا القليل فإنه علينا أن نذكر أن حظ أهل الريف كان تعساً إلى أقصى حدود التعاسة فكثيراً ما كان الغزاة يغيرون على أحسن أقاليم إمبراطورية جوستنيان ويخربونها فيحرقون منازلها ويتلفون زرعها ومحصولها ويتخذون أهلها التعساء عبيدا لهم يقتلونهم تقتيلاً ) ( ف. ن. بريس ، ص331 ) ويمكن إجمالاً أن يقال أنه ( من الناحية الاقتصادية كان العصر عصر تدهور فقد قل الرخاء بسبب القلاقل والاضطرابات التي سادت في هذا العصر ونتيجة للغزوات التي تعرضت لها الإمبراطورية فزال الأمن اللازم لازدهار المعاملات الاقتصادية ولذلك ارتفعت الأسعار ) ( د.محمد عبد المنعم بدر وآخر ، ص129 ) .

هذا البؤس الذي رزح تحت نيره الشعب هو الوجه الآخر من العملة ، أما وجهها الأول فهو الإسراف الذي كان سمة مميزة للأباطرة البيزنطيين ، بدءاً بالإمبراطور قسطنطين الذي أسس مدينة القسطنطينية وبذل في إنشائها الأموال الطائلة واستقدم العمال ومواد البناء من جميع الأرجاء حتى تكون جديرة بحاضرة الملك وتقف على قدم المساواة وتنافس روما عاصمة إمبراطورية الغرب ، وسار خلفاؤه على منواله إلى أن جلس على سرير الملك الإمبراطور جستنيان الذي كان ( دون ريب من كبار البناة في العالم ، إلا أن هذا الجهد الكبير استنزف موارد الإمبراطورية ) ( ف. ن. بريس ، ص326 ) .
فما هو هذا الجهد الكبير الذي استنزف المواد ؟ بنى العشرات من القصور والكنائس والتماثيل .. الخ وأعاد بناء القصر الإمبراطوري ومبنى مجلس الشيوخ وكنيسة الحكمة المقدسة ـ أيا صوفيا التي احترقت من بين ما احترق في ( ثورة انيقا ) ، وأنفق على تجديدها مبالغ أسطورية والأوصاف التي يوردها المؤرخون عن هذه الكنيسة تفوق ما يتصوره الخيال ، كذلك وحتى يخلد خاله الإمبراطور جوستين وزوجته تيودورا بنى باسم كل منهما مدينة ، أما المدن التي حملت اسم جستنيان بالشرق فهي عديدة ) ( د.محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية .. ص107 ) ولكن هذه المدن لم تخلد ذكره بقدر ما خلدته مجموعته القانونية ، لأن الأعمال الفكرية أبقى على الزمن من المنشآت المادية .

هذا الإسراف الجنوني في البناء والتشييد لمؤسسات لا يفيد منها الشعب فائدة مباشرة مع المبالغة المفرطة في الإنفاق عليها في حين أن الشعب كان يتكدس في مساكن متواضعة أشد ما يكون من التواضع وتفتقر في معظمها إلى المرافق الضرورية مع إحاطته بالمصاعب الحياتية من كل مكان ـ كل هذا شكل البواعث الدافعة لانتفاضة الشعب أو ثورته على جستنيان ثورة مسلحة حاول جهده فيها خلعه عن العرش وتنصيب آخر بدلاً منه وكاد النجاح يحالف الثائرين لولا رباطة جأش تيودورا زوجة الإمبراطور ودموية بلزاريوس الذي أجهز على ثلاثين ألف رجل من الثوار في ساعات قلائل عرفت في كتب التاريخ بـ " ثورة نيقا " أو " انتفاضة نيقا " .
وإذا عد جستنيان من أعاظم البناءين من بين الأباطرة أو حتى من بين حكام على مدار التاريخ فإن ذلك قد تم على حساب القاعدة الجماهيرية العريضة التي عاشت في أحوال متردية مزرية ـ نذكر هنا بما جاء سبق أن قلناه أنها كانت أحسن من نظيرتها الفارسية ـ ولكن ( كان النبلاء على ثراء حسن ، يعيشون في ترف ، وكان الذهب والعاج اللذان يطعم بهما أثاث القصور الفخمة يتلألأن في تلك القصور ، ولم يكن من غير المألوف على الإطلاق أن يقوم على خدمة صاحب القصر ألفان من العبيد أو ثلاثة آلاف ) ( ف. ن. بريس " القسطنطينية في عصر جستنتيان " ص331 ) .
هذا السفه الإمبراطوري والتفاوت الطبقي الرهيب هما إفراز طبيعي لمجتمع منحل متهرئ ، ولهذا لم نستغرب عندما نقرأ أن الدعارة كانت متفشية فيه لدرجة كبير حتى نساء الطبقة الراقية لم يفلتن من شباكها ، أما الفقراء والمعوزون فكانت ظروفهم البائسة تضطرهم وتدفعهم إلى بيع بناتهن في سوق البغاء بأبخس الأثمان ومن ثم انتشرت تجارة الرقيق الأبيض ، وغدت شوارع المدن وخاصة العاصمة تكتظ بالبغايا .حارب جستنيان هذا الداء الاجتماعي الوبيل بطريقة عملية بمعونة زوجته تيودورا التي قيل أنها تمارس تلك المهنة البغيضة قبل زواجها منه ـ بأن أقاما للبغايا اللائى كففن عن مزاولة البغاء دارا أطلقا عليها ( قصر التوبة ) وذلك بعد إصدار قانون يحرم البغاء ويقضي بمطاردة المتكسبين من تجارته ونفيهم إلى الخارج .كذلك كان اللواط متفشياً بين الطبقات كافة حتى القسس ، الأمر الذي حد الإمبراطور جستنيان إلى محاربة اللوطية وعقابهم والتشهير بهم وكان من بين الشواذ الذين شهر بهم بعض القساوسة .
ولم يكن هذا هو مظهر الفساد الوحيد في الكنيسة بل أنه سرى إلى شرايينها ( كان منصب الأسقف قد تطرق إليه الفساد والتدهور ، إذ كان في استطاعة أي أمي لا يعرف القليل عن مبادئ الإيمان المسيحي أن يصل إلى هذا المنصب طالما في مقدوره دفع الثمن المطلوب حتى ولو كانت حياته ملطخة بالوحل ) ( د.محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية ، ص129 ـ 130 ) .


ولعل ما يؤكد وصول مجتمع الإمبراطورية الرومانية الشرقية قمة الانحلال والتفسخ هو استشراء الفساد في مؤسسة دينية أخرى قامت أساساً على العفة والطهارة وقمع الشهوات والإعراض عن اللذات … الخ ونعني بها (المؤسسة الديرية ) فقد تغلغلت الجنسية المثلية في الأديرة التي تضم نوعاً واحداً ( السحاق في أديرة الراهبات واللواط في أديرة الرهبان ) ـ أما في الأديرة المشتركة أي التي تضم الرجال والنساء فقد تفشى الزنا والمخاذنة بل بلغ إلى حد قيام بعض الرهبان باغتصاب عدد من الراهبات ( بالرغم من أن عقوبة الاعتداء على الراهبة كانت تساوي الإعدام منذ عهد الإمبراطور يوفيان أوجوفيان 363 / 943 ) ( المرجع السابق ، ص136 ) ومن المضحك المبكي أن الاتصال الجنسي مع الراهبات في أديرتهن كان يتم تحت ستار استقدام الرهبان بعض الطقوس العبادية بل والجنائزية ، ولم يكتف الرهبان بنزواتهم داخل الأديرة بل امتدت نزواتهم إلى خارجها مثل : التردد على أماكن اللهو وتعاطي الخمور وغشيان بيوت الفواحش مما كان مثار سخرية جميع فئات الشعب وهبط بسمعة رجال الدين بعمومهم إلى الحضيض نهذا حفز الإمبراطور جوستنيان إلى إصدار تشريع من تسعة فصول لإصلاح أحوال المؤسسة الديرية وهو الـ ( نوفلا رقم 5 لسنة 535م عن الرهبان ) ( المرجع السابق ، ص239 ) .

تلك صورة إجمالية أو موجزة للإمبراطورية الشرقية ( البيزنطية ) أيام تخلق دولة قريش في يثرب ثم نموها فاستوائها على عودها ، يبين منها أن الإمبراطورية المذكورة كانت تترنح وتوشك على السقوط ولهذا كان طبيعياً أن تجتاح الجيوش العربية الإسلامية شطراً كبيراً من البلاد التي بسطت يدها عليها في فترة وجيزة ولا زال هذا الأمر يثير دهشة المؤرخين ، ولكن في الحقيقة لو أمعنا النظر في ظروف الإمبراطورية الرومانية لارتفع العجب وتأكد لدينا أنه كان متوقعاً بل ومحتوماً ، وأياً كان الرأي في هذه النقطة التي ربما يرى البعض أنها تخرج عن نطاق بحثنا وأننا أوردناها من باب الاستطراد ، فأن الأمر المتيقن أنه في الوقت الذي طفقت فيه أركان دولة قريش تتوطد حتى تأسست في يثرب وأعلنت عن نفسها كانت تلك الإمبراطورية قد حكمت عليها أحوالها بالذبول والانكماش ، وهذا جميعه بلا ريب جاء متوافقا مع مصالح القرشيين .

يتبع..
( 3 ) الأنصار : المزاج النفسي والظروف الموضوعية
11-18-2007, 06:38 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #19
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

( 3 ) الأنصار : المزاج النفسي والظروف الموضوعية*
كان عقد بيعة العقبة علامة مميزة بل فارقة في تاريخ دولة قريش في يثرب ، فالأوس والخزرج (الأنصار فيما بعد ) الذين عاقدوا محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ أصبحوا من أشد اتباعه إخلاصاً وأكثرهم تضحية رحبوا بالقرشيين الذين هاجروا إلى بلدهم وشاركوهم تضحية ومعايشهم ، ( كانت الأنصار إذا جزوا تحلهم قسم الرجل ثمره قسمين أحدهما أقل من الآخر ، ثم يجعلون السعف مع أقلهما ، ثم يخيرون المسلمين فيأخذون أكثرهما ويأخذ الأنصار أقلهما مع السعف حتى فتحت خيبر ) ( أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه ) . وفي حديث آخر ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قدم المدينة فآخى رسول الله ( ص ) بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه فقال له سعد : أي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان أيتهما أعجب ) ( أخرجه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ) أي أيتهما أعجبتك أطلقها وتتزوجها ولكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رفض هذا العرض السخي وقال : (دلوني على السوق ، فدلوه فذهب فاشترى وباع وربح ، الخ ) ( الحديث نفسه ) والأحاديث في هذا الباب عديدة وقدموا الأنصار للرسول ( ص ) الأموال والمهج وحاربوا معه ببسالة نادرة كل من عاداه وقد أشاد بهم القرآن الكريم في كثير من الآيات ، كما اعترف محمد ( ص ) لهم بالفضل وبكل ما بذلوه وأنهم أؤوه ونصروه في الوقت الذي خذله فيه طواغيت قريش ( اللهم أعز الأنصار الذين أقام الله الدين بهم ، الذين آووني ونصروني وحموني ، وهم أصحابي في الدنيا وشيعتي في الآخرة وأول من يدخل الجنة من أمتي ) ( أخرجه البخاري عن عثمان رضي الله عنه وقال الهيثمي إسناده حسن ) . وفي حديث آخر ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولموالي الأنصار ) ( رواه الطبراني عن عوف الأنصاري رضي الله عنه ) والأحاديث في هذه المعاني كثيرة وكانت مؤازرة الأوس والخزرج لمحمد ( ص ) دون أي قيد أو شرط سوى ما وعدهم به من النعيم المقيم في الجنة ( قالوا أي الأنصار : أنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة ، فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا فذاكم لكم ) ( رواة البزار من طريقتين وفيهما مجالد وفيه خلاف : وبقية رجال إحداهما رجال الصحيح ) بخلاف غيرهم من القبائل التي علقت مؤزارتها لمحمد ( ص ) على شرط هو أن يكون لها الأمر من بعده ( عن العباس رضي الله عنه أن رسول الله ( ص ) ذهب إلى منازل بكر بن وائل ومنازل بني عامر بن صعصعة ... فبدأ بـ " كندة " وعرض عليهم الإسلام فقالت كندة أن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله ( ص ) ،إن الملك لله يجعله حيث يشاء ، فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به … ) ( أخرجه الحافظ أو نعيم عن العباس رض الله عنه ) وكان هذا يضاهي ما رد به عليه بنو عامر بن صعصعة ( قال بحيرة بن فراس : أرأيت أن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك يكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر لله يضعه حيث يشاء ، فقال له : أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه ) ( أخرجه الحافظ أبو نعيم ابن إسحاق عن الزهري ) والأمر في لغة العرب آنذاك يعني الحكم وهذا ما يتضح من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة .*ولم يكن الأنصار ( الأوس والخزرج ) بغافلين عن المخاطر التي سوف تواجههم من جراء إتباعهم لمحمد ( ص ) ومؤازرتهم إياه ( قال العباس بن عبادة بن فضلة الأنصاري أحد بني سالم بن عوف : هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم قال أنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنكم إذا وافون له بما دعوتموه إليه على نكهة المال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله عز الدنيا والآخرة قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ) ( أورده الشيخ محمد أبو زهرة ( كان أستاذي في كلية الحقوق ) في كتاب خاتم النبيين ( ص ) ص105 من المجلد الأول د.ت. نشرته دار الفكر العربي بالقاهرة ) ولكنهم كانوا يرون أن ذلك قليل في مقابل ما ينتظرهم في جنات الفردوس التي فيها ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر ، إذن العاطفة الدينية المتأججة في صدورهم كانت هي الباعث الدافع لهم على مسارعتهم لمناصرة محمد ( ص ) بل ( قد كانت حماسة الأنصار لهذه البيعة ( أي بيعة العقبة ) شديدة وبعضهم أراد تنفيذها ومحاربة قريش في عقر دارهم لقد قال العباس بن فضلة الذي نقلنا كلامه آنفا : يا رسول الله والذي بعثك بالحق : إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بسيوفنا ، فقال رسول الله ( ص ) ، لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم ) ( الشيخ محمد أبو زهرة ، خاتم النبيين ( ص ) ، ص502 ) .*ولا شك أن سكناهم مع اليهود في منطقة واحدة أعطتهم فكرة واضحة عن نظرية النبوة والحياة الأخرى والبعث والنشور والحساب والجزاء من الله تعالى لمن يعمل صالحاً ويجاهد في سبيله وذلك كله دون غيرهم من القبائل . إذاً الأوس والخزرج ( الأنصار ) نظروا في مسألة نصرهم للرسول محمد ( ص ) نظرة دينية أساسها العاطفة أما منظور الحكم والسياسة والإمارة والإدارة وما إليها فلم يخطر لهم على بال، على الأقل في بداية الأمر . إن مسارعتهم لمعاضدة محمد ( ص ) دون قيد أو شرط ـ خلا شرط الجنة ـ يقطع بأنهم كانوا يتمتعون بـ " شخصية عاطفية " وصاحب هذه الشخصية يتعامل مع الغير ومع الحياة بشكل عام بعاطفته أكثر مما يتعامل بعقله ، وفي حالة التضارب بينهما فإنه يغلب العاطفة على العقل ولذلك فإن أقواله تتسم بالمزاجية والاندفاع ) ( د. علي كمال ، النفس وانفعالاتها وأمراضها وعلاجها ، الجزء الأول ، ص91 ،ط4 ، 1989 م ، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع ) ولعل ما يؤكد ذلك أن محمداً ( ص) ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً ولم يتبعه سوى بضع عشرات لأن المكيين والقرشيين خاصة كانوا أصحاب " شخصية موضوعية " أو " شخصية طبيعية " وهي التي يتملك صاحبها خصائص ( يستطيع توجيهها بشكل متوازن نحو تحقيق هدف حياتي معين ) ( المرجع السابق ، ص82 ) والهدف عند صناديد قريش الذين عادوا محمداً ( ص ) كان هو كسب الأموال واكتنازها والعيش في بلهنية ، وفي الصورة المقابلة نرى أن استجابة الأوس والخزرج لمحمد ( ص ) لم تستغرق سوى أسابيع معدودة ، فبعد بيعة العقبة أرسل محمد(ص) مصعب بن عمير وكان يسمى القارئ والمقرئ لينشر الدعوة بين جموع الأوس والخزرج فآمن بها سريعاً كل من أسعد بن زرارة وسعد بن عبادة رضي الله عنهما وكانا من وجوههم ( ورجع سعد ومصعب إلى منزل سعد بن زرارة فأقاما عنده يدعون الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون ) ( أخرجه ابن أسحق عن عبد الله بن بكر عن محمد بن عمرو بن حزم وغيره ) ( فإن المجتمع ككل وخاصة البيئة الاجتماعية المحيطة بالإنسان تمارس تأثيراً حاسماً على تكوين شخصيته ) ( علوم الاجتماع ، ص263 ، الترجمة العربية ، ط 1988م ، دار التقدم ، موسكو ) إذ أنه كما يقول علماء الاجتماع يرتبط الفرد بالمجتمع عبر خيوط كثيرة ، فظروف حياته المادية تتوقف كلية على مستوى التطور الذي بلغه في العصر المعين تطور القوى المنتجة في المجتمع ، ثم أن اهتمامه الروحية ، ونمط تفكيره ومبادئه الأخلاقية إن هذا كله نتيجة للتأثير الاجتماعي ويصبغ بصبغة الأنظمة الاجتماعية القائمة والتقاليد " القومية أو الإنسانية " التي صاغتها سلسلة عديدة من الأجيال ) ( المرجع السابق ، ص262 ) .*أما عن الظروف المادية لمجتمع الأنصار ( الأوس والخزرج ) فسوف نتحدث عنها فيما بعد ، أما عن الاهتمامات فالثابت أنهم تأثروا بمواطنيهم من اليهود وهم أهل الكتاب وسمعوا منهم عن الحياة الأخرى وما فيها من بعث ونشور وحساب وجزاء ونار ... الخ وفي المبحث الخاص عن " اليهودية " ذكرنا أن لهم " مدارس " في يثرب فتجذر لدى الأوس والخزرج مزاج نفسي معين دون غيرهم من أبناء القبائل (والتكوين النفسي يتعرض لتأثير عناصر ثابتة نسبياً مثل التقاليد والسمات الطبقية أو السمات الخاصة لفئة معينة والمهنة والشعب والأمة أو أي مجموعة أخرى ، كما تمتزج السمات الثابتة للتكوين النفسي بالعادات أو نمط الحياة الموروث من الأجيال القديمة ومن البيئة ، وغالباً ما يتم اكتساب هذه السمات دون اعتراض أو تفكير ) ( ب . بروشنيف ، علم النفس الاجتماعي والتاريخ ، ترجمة سعد رحمي ، ط1 ، 1986 ، دار الثقافة الجديدة بالقاهرة ) ، ولما كان اليهود وهم أهل كتاب سماوي فقد تمتعوا بتقدم معرفي وثقافي وتراثي وعقائدي عن الأوس والخزرج فحدث من جراء ذلك إيحاء بسمو أفكارهم وديانتهم والثقة بهم ( وقد ثبت بعض القوانين التي تحدد في أية حال وفي أية ظروف يزداد مفعول الإيحاء ، ففي حالة الإيحاء الاجتماعي أقيم البرهان على تبعية مفعول الإيحاء للعمر والحالة البدنية ... الخ ولكن الأهم هو أن عوامل سيكولوجية اجتماعية خاصة تفعل فعلها في حالة الإيحاء ، وقد أثبتت بحوث اختيارية كثيرة أن الشرط الحاسم لفعالية الإيحاء هو مكانة الموحي الذي خلق عاملاً خاصاً إضافياً للتأثير هو " الثقة " بمصدر الإعلام ، إن " مفعول الثقة " يتوقف سواء على شخصية الموحي أم على الفئة الاجتماعية التي تمثلها الشخصية..) (غالينا أندرييفيا، البسيكولوجيا الاجتماعية ، ترجمة ألياس شاهين ، ص170 ، ط 1988، دار التقدم بموسكو) وبذلك تضافرت " الشخصية العاطفية " التي كان يتمتع بها الفرد في الأوس والخزرج ( الأنصار ) والمزاج النفسي الجماعي " أو المجتمعي " الذي تخلق نتيجة البيئة التي عاشوها والإيحاء الذي وصل إليهم من اليهود أصحاب الكتاب المقدس " التوراة " ـ تضافرت العوامل على سرعة الاستجابة لمحمد ( ص ) وتأييده ونصرته .*وسبق أن ذكرنا تأثر الأنصار باليهود في نظرية النبوة وقرب ظهور نبي ولا حاجة بنا إلى تكراره .***********لم تكن هذه هي العوامل المنفردة بل انضاف إليها ما تولد عن الظروف المادية التي عاشها ذلك المجتمع من انعكاسات ذلك أن الأوس والخزرج كانوا يشعرون بقدر ملحوظ من الإحباط نتيجة لسيطرة " اليهود " على مقدرات " يثرب " الاقتصادية إذ كانت الزراعة والصناعة والأموال في أيديهم ( انظر المبحث الخاص عن اليهودية في هذا الكتاب ) .*أما بخصوص مجتمعهم فقد كان ينقسم إلى أغنياء أصحاب مزارع وحيطان ( بساتين ) نخل وإلى عمال يعملون فيها بالأجر وحملت لنا كتب السيرة نتفا من أخبار أغنياء الأنصار نذكر منهم على سبيل المثال :أ ـ سعد بن الربيع رضي الله عنه وسبق أن أوردنا الحديث الذي يقول فيه " أنا أكثر أهل المدينة مالاً " .ب ـ سعد بن عبادة رضي الله عنه ـ وسوف نذكره بعد قليل ( سيد جواد فهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها ، وكان وجيهاً من الأنصار ـ ذا سيادة ورئاسة يعترف قومه له بها وكان يحمل إلى النبي(ص) كل يوم جفنة مملوءة ثريدا وكانت تدور معه حيث دار ) ( عز الدين بن الأثير ، أسد الغابة في معرفة الصحابة ، تحقيق محمد إبراهيم البنا وآخرين ، " حرف السين " المجلد الثاني ، ص356 ، كتاب الشعب ، د.ت.، دار الشعب بمصر ) .ج ـ أسعد بن حضير رضي الله عنه فقد ( كان أبوه فارس الأوس في حروبهم مع الخزرج وكان له حصن " واقم " وكان رئيس يوم بعاث وأسلم أسيد قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة ( عز الدين بن الأثير ، أسد العابة في معرفة الصحابة ، المجلد الأول ، ص112 ، " حرف الألف " ) وامتلاك آل " حضير " لحصن " واقم " دليل على الثراء الواسع فضلاً عن تقليد اليهود الذين عرف عنهم تلك الحصون في منطقة يثرب ، ولقد أيد " أبو هريرة قال : أنكم تقولون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ( ص ) والله الموعد ، كنت رجلاً مسكيناً أخدم رسول الله ( ص ) على ملء بطني ، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم … ) ويعني أبو هريرة رضي الله عنه بالأموال التي وردت في حديثه : المزارع والبساتين ( الحيطان ) لأنه ميز بينها وبين التجارة ( الصفق في الأسواق ) شغل المهاجرين .*لقد توافرت في منطقة يثرب عدة عوامل جعلتها صالحة للزراعة ومثابة للبساتين والمزارع ( فقد كانت الزراعة في يثرب ومنطقتها تقوم على الري الاصطناعي بصورة رئيسية .. وكانت فيها شبكة ري واسعة تقوم على استثمار المياه السطحية والجوفية .. وكانت أوديتها تفيض بمياه السيول فتروي أراضي يثرب وأخصبها وأكثرها غلة بأيدي اليهود وأحبارهم ووجهاء الأوس والخزرج .. وكان كبار الملاك يستثمرون أراضيهم بطريقة " المؤاجرة " أو " المغارسة " أو " المزارعة " بالريع الثلث أو نصف الناتج أو أقل من ذلك أو أكثر ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، المجلد الأول ، ص74 ـ 75 ) .*ذاك إذن كان مجتمع " يثرب " قبيل " بيعة العقبة " أو وقتها : ملاك أثرياء يمتلكون الأراضي الزراعية والمزارع والبساتين والحصون .. الخ أحاطوا أو أحيطوا علماً بمعتقدات اليهود واطلعوا أو طلع البعض عليها ووقف على خبرها . ومزارعون فقراء يعملون في الري والزراعة أما بالأجر أو بالحصص وسمعوا عن تلك المعتقدات بالإضافة إلى أن الشوق إلى العدالة الاجتماعية كان يؤرقهم ويقض مضاجعهم ، فوجد هؤلاء وأولئك ما كانوا ينشدونه لدى محمد ( ص ) ومن هنا جاءت الاستجابة السريعة إليه وإلى نصرته .*كان الأوس والخزرج يتميزون بخلال حميدة منها : الشهامة والمروءة والنجدة وقد تمثل في ذلك إقدامهم على نصرة عبد المطلب عندما جحده عمه " نوفل " حقه واستولى على أملاكه بـ " مكة " واستجابتهم السريعة لمحمد ( ص ) ولكن من استقراء أخبارهم نجد أن " الحنكة السياسية " كانت تنقصهم فهم لم يشترطوا على محمد ( ص ) أن يكون لهم الأمر " الحكم " من بعده كما فعل بعض القبائل وقدمنا فيما سلف تعليل بذلك كما لم يطالبوا أبا بكر رضي الله عنه بأن يوفي لهم بالعهد الذي قطعه على نفسه " سقيفة بني ساعدة " بأن يتخذ منهم وزراء ـ والبراهين على افتقار الأوس والخزرج للدربة في شئون السياسة كثيرة ومعددة تعج بها دواوين السنة الصحيحة وموسوعات التاريخ العربي الإسلامي ، ولكن هناك ملمح بارز لا يخفي بل أن شديد الوضوح وهو عدم تنبههم إلى أن الدولة التي كانت تتخلق في يثرب بلدهم كانت هي دولة القرشيين وحدهم بغير منازع أو شريك وهي نقطة بالغة الأهمية إذا أنها خدمت تلك الدولة خدمة لا تقدر ، إذ لو فطن الأنصار ذلك لكان الوضع سيختلف ، وكان ذلك من حسن الطالع للدولة الناشئة خاصة في سنواتها الأولى وهي تخطو خطواتها الوانية ـأما عن الأدلة والقرائن التي تقطع بذلك فهي عديدة ونكتفي بواقعتين ربما تكون فيهما المقنع : ـ*الأولى : في الطريق إلى " فتح مكة " نادى زعيم الأنصار " سعد بن عبادة " رضي الله عنه ، نادى أبا سفيان قائلاً : " يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً " ، وفزع أبو سفيان من قالته فزعاً شديداً وأسرع إلى محمد ونقل إليه وعيد سعد بن عبادة إلى قريش ثم أضاف : " يا رسول الله أمرت بقتل قومك ؟ … إني أنشدك فيهم فأنت أبر الناس وأوصل الناس " ولم يكن أبو سفيان هو الوحيد في ذلك بل اضطرب لتهديد ابن معاذ قرشيان آخران هما عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ فقالا للرسول ( ص ) " ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة " فقال محمد ( ص ) " يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعز الله فيه قريشاً " وأرسل إلى سعد فعزله ودفع الراية إلى ابنه قيس ( أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن رباح رضي الله عنه ) ، ولقد صدق الرسول فقد كان " فتح مكة " فعلاً عزا لقريش أبد الدهر ، إذ بعده دانت للجزيرة العربية كلها لدولتها في يثرب بالسيادة .*وظل سعد بن عبادة على وهمه أن الدولة التي قامت في موطنه ليست لقريش وحدها ، لذا لم يبايع أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بالخلافة ولا عمر رضي الله عنه من بعده ولم يصل بصلاتهما ولم يحج بحجهما وبعد أن تولى عمر الخلافة ولم يستوزر كلاهما أحداً من الأنصار ، أدرك سعد بن عبادة الحقيقة التي لم يتنبه لها عن دولة يثرب ، فلم يطق فيها وشد رحاله وسافر إلى الشام وهناك اغتيل بطريقة غامضة ـ والتصفية الجسدية للخصوم والمعارضين خاصة إذا كانوا من ذمي المكانة والخطر أمر عرفته البشرية منذ قديم وفي كل العهود والبقاع ـ وحتى لا تثير قتل سعد بن عبادة رحمه الله تعالى أي شكوك لدى قومه من الأنصار أو يسبب أي متاعب ، أشيعت عنه أسطورة واستخدم الأسطورة كان عرفاً مستقراً آنذاك ـ مفادها أن الجن هي التي اغتالته وأن البعض سمه هاتفا من الجن يصيح :نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادةإذا رمينا بسهم نافذ أدمى فؤاده
*رحم الله سعد بن عبادة فقد كان كما وصفته كتب السيرة والتواريخ سخياً جواداً شجاعاً ومن خيرة صحابة رسول الله ( ص ) ولكنه لم يكن سياسياً حصيفاً .*الأخرى : لم يدرك الأوس والخزرج أن أنصار الدولة الذين أذروهم في البداية سوف ينتهي دورهم ومها كانت أهميته وخطورته وستكون أمام الدولة مهام أخطر لابد من مواجهتها والعثور على حلول لها ، ومن بينها معالجة أعداء الأمس إما بالترغيب أو بالترهيب والنظر إلى الحلفاء الجدد .*في غزوة " حنين " أفاء الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغانم وفيرة ( كان السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألفاً والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ) ( أبن سيد الناس ، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ، المجلد الثاني ، ص193 ، الناشر : دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ) وإذ كانت " غزوة حنين " بعد فتح مكة بدأت الأفاق تتفتح أمام دولة قريش في يثرب للسيطرة على الجزيرة العربية ، وكانت البراعة السياسية وسعة الأفق تحتمان تأليف قلوب الخصوم السابقين واسترضاءهم ، ومد البصر باستمالة شيوخ القبائل الأخرى وهم أنصار المستقبل حتى يتوافقوا مع طموحات دولة قريش الفتية في يثرب ( وبدأ الرسول ( ص ) بالأموال فقسمها وأعطى " المؤلفة قولبهم " أول الناس : فأعطى أبا سفيان أربعين أوقية ومائة من الإبل ، وقال : أبني يزيد ، قال : أعطوه 40 أوقية ومائة من الإبل ، قال : لإبني معاوية قال : أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل ) ( المرجع السابق ) أعطى غيرهم من القرشيين منهم صفوان أبن أمية وآخرين عطايا أقل ، ثم ثنى برؤس القبائل الأخرى مثل أسيد بن حارثة الثقفي ، والأفرع بن حابس التميمي ، عيينة بن حصن الفزاري ، ومالك بن عوف وغيرهم ما بين مائة وأربعين من الإبل ، وكل هؤلاء سيد مطاع من قومه ، ولم يعط الرسول ( ص ) " الأنصار " شيئا ولكنهم لم يفطنوا إلى أنه في أمور السياسة وشئون الحكم ، لكل فريق دوره المحدد الذي يجب أن يقف عنده ولا يتعداه ، وأن الدور آنذاك كان لـ " المؤلفة قولبهم " سواء من أعداء الأمس أو من مؤيدي الغد ، أو من يرجح أن يصبحوا كذلك فأنشد أحد الشعراء معبراً عن عدم الرضى بما حدث مقروناً بضيق الأفق :*وأصبح نهبي ونهب الحصين : بين عيينة والأقرعوالحصين تصغير لـ " حصان الشاعر الذي شارك معه في الغزوة وعيينة والأقرع كانا من بين الذين / تألفهم الرسول محمد ( ص ) .*( وقال أناس من الأنصار ، حين أفاء الله على رسول ما أفاء من أموال " هوازن " وهي القبيلة التي هزمت في غزوة حنين ـ فطفق النبي ( ص ) يعطي رجالاً المائة من الإبل فقالوا أي الأنصار : يغفر الله لرسول الله ( ص ) يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ( أخرجه البخاري من حيث أنس بن مالك رضي الله عنه ) .*هكذا أثبت " الأنصار " بهذه المقولة افتقارهم للنظرة السياسية الصائبة ولم يتبينوا الغرض من وراء تأليف قلوب أبي سفيان وصفوان بن أمية والأقرع وعيينة وابن مرادس وإضرابهم وأهميته القصوى للدولة القرشية ، ووصلت إلى أسماع محمد ( ص ) احتجاجهم ، فجمعهم وخاطبهم بما يتفق ومزاجهم النفسي الذي كان هو أدرى الناس به ، ولا غرو فهو ـ عليه السلام ـ القائل ( خاطبوا الناس على قدر عقولهم ) ( فلما اجتمعوا قام النبي ( ص ) فجمعهم في قبة من أدم ـ جلد ـ ولم يدع معهم غيرهم وقال : ما حديث بلغني عنكم … إني لأعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا : يا رسول الله لقد رضينا ) (أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وهو تكملة الحديث السابق ) وفي رواية أخرى (أنتم الشعار والناس الدثار أما ترضون أن يذهب الناس بالشاه والبعير وتذهبون برسول الله ( ص ) إلى دياركم ؟ قالوا : بلى ، قال : الأنصار كرشي وعيبتي ، ( أي بطانتي وموضع سري وأمانتي ) لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعبهم ولولا الهجرة لكنت أمراء من الأنصار ) ( أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ) وأثمر خطاب الرسول ( ص ) ثمرته الطيبة المرجوة فجاشت منهم العواطف ورضوا بعد سخط ( … ثم بكوا فكثر بكاؤهم وبكى النبي ( ص ) معهم ) ( أخرجه الطبراني من حديث السائب بن يويد رضى الله عنه ، وقال الهيثمي فيه رشدي ابن سعد وحديثه في الرقاق وبقية رجاله ثقات ) .*وهكذا في لحظة تاريخية نادرة التقى محمد ( ص ) الأوس والخزرج ( الأنصار ) بنا لديهم من مزاج نفسي وظروف موضوعية ، لتتكامل شروط النماء والازدهار لدولة قريش في يثرب .*

يتبع ..الباب الرابع: المقدمات الاجتماعية
11-19-2007, 06:37 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #20
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة


الباب الرابع
المقدمات الاجتماعية

المجتمع القبلي

كان مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ينقسم إلى :
" عرب " وهم سكان المدن والمراكز الحضرية وكانوا يسمون بـ " أهل المدر " أي أصحاب البيوت المبنية و " أعراب " وهم الذين يقنطون البادية وكان يطلق عليهم " أهل الوبر " أي الذين يعيشون في الخيام . وكان العربي يغضب إذا قيل له يا أعرابي ـ والأعرابي يرضى ويسر إذا قيل له : يا عربي .

ولقد أقر القرآن الكريم هذه التفرقة في عدد من آياته . كان أهل البوادي أو الأعراب أو أهل الوبر قبائل ( يسكنون الخيام ولا يقرون في مكان ، ينتجعون الكلأ ويتبعون مساقط المياه ومنابت العشب يرحلون إليها بأنعامهم التي ينتفعون بلحومها وألبانها ويكتسون بأصوافها وأوبارها ـ وهم ـ لجدب بلادهم وانصرافهم هن أوجه الكسب الأخرى ـ كانوا يقنعون من العيش بالكفاف ولا يتفننون في المطاعم والملابس بل كانوا يعيشون على اللبن والتمر واللحم لقلة مواطن الكلأ لديهم ، ولميلهم إلى الانتقال كانوا يأنفون من الاشتغال بالزراعة ويرون أنهم لم يخلقوا إلا للقتال ولم يعدهم الدهر إلا للصراع والنزال وأنهم لا ينبغي أن يتناولوا رزقهم إلا من سيوفهم ورماحهم ) ( سمير عبد الرازق القطب ، أنساب العرب ، ص270 ، د ، ت ، دار الحياة ، بيروت ) .

إن ما كان يميز البدوي أو الأعرابي ـ وربما لازال ـ هو إيمانه الراسخ بأن رزقه يأتي من رمحه وسيفه فحسب وأنفته الشديدة من الزراعة والصناعة ويعتقد في قرارة نفسه أنهما لا تصلحان إلا للعبيد ومن على شاكلتهم ، ولم تكن الغزوات ـ والحال كذلك ـ أمراً عارضاً في حياة القبائل بل يصح القول أنها كانت في حالة غزو مستمر وأن أوقات " اللا غزو " أو " اللا إغارة " أو " اللا حرب " هي الاستثناء أو هي هدنة لالتقاط الأنفاس لشن غارة أو غزوة قادمة وشيكاً ، ومن هنا كانت القبيلة بحاجة لأن ترهب وتخاف وبحاجة لأن تعلم القبائل الأخرى مدى قوتها ، بل أنها بحاجة لأن يعلم أبناؤها هذا ويعتقدونه ، أو ليست حياتها حرباً دائمة ) ( د. عبد المجيد زراقط ، " الفرد والجماعة في الشعر الجاهلي " بحث بـ " الفكر العربي " مجلة الإنماء العربي للعلوم الإنسانية ، كانون الأول / ديسمبر 1988 ، العدد الرابع ، السنة التاسعة ، ص4) .

كانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية ولو أن البعض من المستشرقين يرى أن الأسرة هي الخلية الاجتماعية ونحن نرجح الرأي الأول باعتبار أن القبيلة هي منبع القيم الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك المجتمع لا الأسرة ، فالفرد كان يشعر بولاء مطلق لا لأسرته بل لقبيلته في المقام الأول ، فهو الذي يذود عنها في وقت الإغارة عليها بل ويستميت في الدفاع عنها ويرى الموت في سبيل ذلك شرفا رفيعا والفرار عارا فهو يشارك في غزواتها التي تشنها ضد القبائل الأخرى ، وفي مقابل ذلك فإن القبيلة تضفي عليه حمايتها حال حياته وتطالب بديته عند قتله ، وإذا تبرأت منه عد " خليعا " وفي هذا الضياع المطلق ، فالارتباط بالقبيلة مثل " الجنسية " بالنسبة لـ " المواطن " في العصر الحديث .

وإذا خلعت القبيلة واحداً من أبنائها اعتبرت غير مسئولة عما يرتكبه من أفعال ، أما إذا قتل فلا يحق لها أن تطالب بدينه ، أي أنه فقد اعتباره أو كيانه المعنوي .

كانت القبيلة تتكون من طبقتين :
الفقراء وهم أغلب أفرادها ( كانوا يعيشون عيشة الكفاف ، قانعين أحيانا وساخطين عليه أحياناً ) ( د. عبد الجواد الطيب ، هذيل في جاهليتها وإسلامها ، ص119 ، ط 1982م ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا ، تونس ) يسكنون في خيام حقيرة ويلبسون الأسمال البالية ويأكلون الطعام الخشن التافه ويقومون بالأعمال الشاقة ويقع على كواهلهم المكدودة العبء الأكبر في القتال ـ في الحرب ـ .

الأغنياء وهم الذين كانوا يمتلكون قطعان الإبل والشاه وعلى درجة ملحوظة من الغنى واليسار ويسكنون خياماً جيدة تحتوي على فرش وثير ويلبسون ملابس فاخرة ويأكلون طعاماً طيباً ، وبالجملة يتمتعون بقدر من الراحة والدعة والنعيم لا يتوافر لطبقة الفقراء ، وكان من بين هذه الطبقة فئة تسمى " السادة " يمتازون بأنهم يتحملون الكثير لإصلاح ذات البين أملاً بين عشائر وبطون وأفخاذ القبيلة ذاتها أو بين قبيلة وأخرى وكثيراً ما كانت مساعي الصلح هذه تؤدي إلى أن يتحملوا التزامات مالية قد تكون باهظة أو ضئيلة مثل دفع ديات القتلى من الطرفين المتنازعين . وبجانب هاتين الطبقتين كانت توجد فئة تسمى " الموالي " وتسميهم قواميس اللغة العربية " الزعانف " ويطلق على أحدهم " الزنيم " " والتنواط " وهو الذي يناط بالقوم أو يلتصق بهم وليس منهم (اللغوي : عيسى بن إبراهيم الحميري ، نظام الغريب في اللغة ، تحقيق محمد بن علي الأكوح ، ص83 ، ط1 ، 1400هـ / 1980 م ، دار المأمون للتراث ، دمشق )
، والموالي في الغالب عرب من أبناء قبيلة أخرى تركوها والتجئوا إلى أخرى تسبغ عليهم حمايتها أو من الأسرى الذين وقعوا في أسر القبيلة إثر غارة شنتها على قبيلتهم ثم من عليهم " أسيادهم " بفك أسرهم فتحولوا إلى " موالي " وقد يكونون من " الأعاجم" الذين كانوا " أرقاء " وافتدوا أنفسهم من ناتج أعمالهم من الحرف التي كانوا يجيدونها أو من عليهم سادتهم بـ " العتق " نظير خدمات أدورها لمن يملكهم أو للقبيلة كلها كإظهار شجاعة في إحدى الغزوات أو مهارة في أحد الأعمال وبعد عتقهم يظلون " ملتصقين " بالقبيلة ، والموالي فئة " بين بين " أقل مكانة من أبناء القبيلة " الخلص " أو الصرحاء " أو المحض " وأرفع رتبة أو درجة من " العبيد " أو " الرقيق " وكان يوجد نوع من التوارث بين الموالي وسادتهم .
و" الولاء " من الأنظمة الاجتماعية التي أخذها الإسلام من عرب ما قبله ( انظر كتابنا الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية ) وأحكامه مبسوطة في موسوعات الفقه الإسلامي.

وفي مقابل " الموالي " يجيء " الخلعاء " وقد أشرنا لهم فيما سلف إشارة عابرة ـ وهم الأشخاص الذين تلفظهم قبائلهم وتتبرأ منهم ومن فعالهم وقد يتم ذلك كتابة أو بموجب إعلان يذاع عادة في "الأسواق العامة" التي لها وظائف أخرى متنوعة بجانب الأنشطة التجارية ، إذ رغم ارتباط الفرد بقبيلته وقناعته بأن حياته بدونها لا قيمة لها بل وموته كذلك ، كان يوجد أشخاص يتميزون بروح التمرد ولا تعجبهم الأوضاع التي كانت تسود " مجتمع القبيلة " خاصة التمايز المالي الذي يؤدي بدوره إلى " التمايز الاجتماعي " الذي يشطره ‘إلى " أغنياء " وهم قلة مترفة أو منعمة نسبياً و " فقراء " وهم الأغلبية التي تعاني شظف العيش ، فيثورون ويتركون القبيلة ، أو أولئك الذين تطردهم القبيلة وجميعهم يسمون " الخلعاء " ( وقد تصل الأمور بالفرد طالما أنه امتلك مفهوماً جديداً للانتماء إلى جماعة إلى مغادرة القبيلة والبحث عن مصيره في إطار جماعة أخرى يختارها بنفسه ، وقد تفعل القبيلة ذلك فتطرد الخارجين على قرارتها وكان هؤلاء يسمون " الخلعاء " أو " الصعاليك " ) ( د . عبد المجيد زراقط ، الفرد والجماعة في الشعر الجاهلي ، ص77 ) .

الصعاليك أو الخلعاء هم شبان فقراء أمثال " عروة بن الورد " و " تأبط شراً " و " السليك بن السلكة " و " الشنفري " ويسمون " ذؤبان العرب " جمع ذئب لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو ، ولكن مع فقرهم كانوا نبلاء ومن نبلهم أنهم كانوا لا يهجمون إلا على الأشحاء البخلاء من الأغنياء وكانوا يسمون "العدائين" لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب والنهب ( أحمد أمين ، الصلعكة والفتوة في الإسلام ، ص47 ، سلسلة " اقرأ " ، العدد الحادي عشر بعد المائة ، ط2 ، 1981م ، دار المعارف بمصر )
وكانت ظاهرة الصلعكة إفرازاً طبيعياً للأوضاع المختلة في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام وتركز الثروة في أيدي طبقة محدودة من أبناء القبيلة وهم الأغنياء بينما أغلبية أفرادها يئنون تحت وطأة الفقر والحرمان ، ويؤيد أحمد أمين وجهة النظر هذه إذ يذكر ( وقد أنتجت الحالة الاجتماعية في جزيرة العرب هذه " الصلعكة " لأن أكثرهم كان من الفقراء ولا يجدون ما يأكلون وإذا حصلوا على شيء من غارة أو نحوها فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة الأسد وهم لا يأكلون إلا الفتات ) ( المرجع السابق ، نفس الصفحة )
كانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فر الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا لأنفسهم بأنفسهم مجتمعاً فوضوياً شريعته القوة ووسيلته الغزو والإغارة وهدفه السلب والنهب ( د.يوسف خليف ، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ، ص55 ، ط4 ، 1986 ، مكتبة الدراسات الأدبية ـ 8 ـ )
فعلى سبيل المثال في قبيلة " هذيل " ( أغلب أفراد هذه القبيلة كانوا من الدهماء يعيشون عيشة الكفاف قانعين أحياناً ساخطين عليه أحياناً أخرى وبعضهم أو كثير منهم كان يعد من " الصعاليك " و" الذؤبان " مثل " الأعلم " و " صخر الغي " و " أبي جندب " وغيرهم ومع هذا كان " الخلعاء " من " هذيل " أقل من غيرهم ) ( د. عبد الجواد الطيب ، هذيل في جاهليتها وإسلامها ، ص119 ) .

يأتي الصعاليك أو الخلعاء في مرتبة تالية لفئة " الموالي " التي ذكرناها ، وهم أعلى درجة من طبقة " الرقيق " أو " العبيد " التي تتكون من أسرى الغارات والحروب أو بالجلب من الخارج كالحبشة أو بالشراء من سوق " النخاسة " وكانوا يقومون بأشق الأعمال وأحقرها تلك التي كان يأنف العربي أو الأعرابي من مزاولتها حتى ولو كان من طبقة الفقراء في القبيلة والعبيد على ذلك ، ( كانوا في هذه الفترة قوة منتجة لا استهلاكية فقط ... إلى جانب كونهم كانوا يشكلون حينئذ إحدى السلع الشائعة والرابحة ) ( حسين مروة ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الأول ، ص200 )
وكانت المتاجرة بهم نافعة وتمثل دخلاً كبيراً لمن يزاولها ويذكر الإخباريون أن عبد الله بن جدعان كان من كبار " النخاسين " وكون ثروته الفاحشة من " النخاسة " ومن فائض كسب العبيد والإماء بل أنه كان لا يتورع عن تشغيل " الإماء " في الزنا ويحصل على أجورهن من ذلك كما أنه كان يبيع أولادهن من " الزنا " ( وكان الرقيق في الجاهلية من السبي والنخاسة ، وعبودية الدين ، أما الأرقاء من مصدر الأسر فهم أولئك من العرب من الرجال والنساء الذين كانوا يقعون في أيدي القبيلة في حروبها ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الأول ، ص168 ) .

ومع تنامي التجارة واتساع حركتها مع استشراء الربا تزايد عدد " الأرقاء " واستخدمهم رؤساء القبائل وكبار التجار مثل صناديد قريش في مكة ، في الأنشطة كافة بداية بالخدمة المنزلية والعمل الشاق في المزارع والبساتين والمهن المرهقة وفي حراسة القوال ... الخ

وفي السيرة نجد أكثر من صحابي كان يعمل ذلك مثل عداس في الطائف وسلمان الفارسي في يثرب ، وكذلك الاشتراك في الغارات التي كانت تشنها القبائل ضد يعضها البعض ولعلنا نذكر الحلف الذي عقدته قريش مع " الأحابيش " والجدل الذي ثار حول حقيقة الأخيرين ، ورغم ما كان يؤديه " الرقيق " من أعمال شاقة وخدمات متنوعة ويقدمونه من تضحيات في سبيل سادتهم فإنهم كانوا في غاية البؤس والمسغبة .
ولكن " الصعاليك " أو " الخلعاء " أو " الذؤبان " امتازوا على فئة " الموالي " وطبقة " العبيد " بالشهامة والمروءة إذ أنهم ما كانوا يستأثرون لأنفسهم بما كان ينهبونه من الأغنياء البخلاء بل كانوا يعطونه طواعية واختياراً للفقراء والمعدمين الذين حكم عليهم " المجتمع القبيل " آنذاك بالعوز والفاقة والحرمان في حين كانت طبقة محدودة قليلة العدد تتمتع وحدها بالخيرات وتعيش منعمة نبياً فـ " الصعاليك " امتازوا بـ ( نظرات إنسانية متقدمة إذ كانوا يعمدون إلى تلك المأتي لإغاثة المعوزين ) ( منذر الجبوري ، أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي ، ص66 ، ط2 ، 1986م ، دار الشئون الثقافية "آفاق " ، بغداد ـ العراق ) ،
وكان من بين " الصعاليك " شعراء معروفون جسدوا كل تلك المعاني في قصائدهم ( والذي يعنينا هو أن شعر هؤلاء الصعاليك كان مثالا لشعر سياسي طريف هو شعر الثورة والكفر بأوضاع فرضت عليهم الحرمان والفقر المدقع ) ( سمير عبد الرازق قطب ، أنساب العرب ، ص284 ) .

ونحن نخالف الباحث في مذهبه أن شعر " الصعاليك " هو شعر سياسي يمثل ثورة على الأوضاع ذلك أن " الصعاليك " أو " الذؤبان " أو " الخلعاء " لم يكن لديهم الوعي الكافي لتكوين تنظيم سياسي يقود ثورة تكتسح تلك الأوضاع الجائرة التي سادت آنذاك ، ولا تعدو أن تكون قصائدهم أو أشعارهم نفثات يعبرون بها عن تمردهم وسخطهم وشتان بين التمرد والثورة وفرق بين أبيات السخط والشعر السياسي ، وفي الحق أنه من الشطط أن نطالب " الصعاليك " بوعي يرقى إلى مستوى " ثورة " ، ويؤكد باحث آخر ما نذهب إليه إذ يقول ( وينعكس في أخبار الصعاليك وشعر شعرائهم إحساس مرير بوقع الفقر في نفوسهم وشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي وهو أن منزلتهم واستنكار للعبودية والتمييز العنصري ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الأول ، ص163 ) .

ويرى د. يوسف خليف أن الصلعكة ( كانت عند عروة بن الورد نزعة إنسانية نبيلة وضريبة يدفعها القوي للضعيف والغني للفقير وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الاغنياء وتجعل لهم نصيب فيه بل حقاً يغتصبونه إن لم يؤد إليهم وتهدف إلى اتحيق لون من ألوان العدالة) (د. يوسف خليف ، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ، ص49 ) ولو أننا نرى في استعمال كلمة " اشتراكية " من قبل د.خليف نوعاً من الشطط وعدم توخي الدقة العلمية المضبوطة في استعمال الألفاظ .

وأياً كان الأمر فإن ظاهرة " الصلعكة " كانت نتاجاً طبيعياً للأحوال المختلة التي اعترت " مجتمع القبيلة " والمجتمع العربي عامة في شبه الجزيرة قبل بعثة محمد ( ص ) ، وأن ذلك المجتمع قد بلغ درجة الأزمة الحادة وكان من البادي للعين الفاحصة أن استمراره على ذلك النمط كان ضرباً من المستحيل وأنه كان يسير نحو الحل الذي يتمثل في " التوحيد " بكافة صوره وفي مقدمتها التوحيد الاجتماعي والسياسي وهو ما لعبته بمهارة وبراعة فائقتين دولة القرشيين في " يثرب " .

وكما كانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية فقد كانت كذلك " الوحدة السياسية " ، إذ أنها بمثابة دولة صغيرة ، لها مقومات الدولة خلا عنصر الأرض الثابتة ، وذلك بسبب تنقلها وراء مصادر المياه والكلأ ، والمقصود بالأرض الثابتة الحدود المرسومة التي لا تتعداها ، فالواقع أنه كان لكل قبيلة مستقر تتحرك في أرجائه تتبع فيه موسم المطر ومنابت العشب حتى إذا انتهى الموسم عادت أدراجها إلى موطنها الأول ، ولذلك حفظ لنا الإخباريين مواطن بعض القبائل مثل :تميم وكانت تسكن بادية البصرة ، وهذيل تسكن جبالا قرب مكة ، وكنانة كانت تسكن جنوبي الحجاز ... الخ ( أحمد أمين ، فجر الإسلام ، ص8 ، ط13 ، 1982م ، مكتبة النهضة المصرية ) ، إذن المقصود أن عنصر الوطن كانت القبيلة تفتقر إليه .

أما حكم القبيلة فهو موكول إلى شيخها أو رئيسها أو سيدها ، ويشترط فيه أن يتميز بصفات معينة منها : الكرم والشجاعة والحلم والدهاء وسعة الصدر والحكمة والفصاحة ...الخ وبداهة يتعين أن يكون علة قدر من سعة الرزق وكثرة المال حتى يستطيع أن يفي بالتزامات الرئاسة ( فقد كان شيخ القبيلة أن يعين الضعفاء ويفتح بيته للنزلاء والأضياف ويدفع الديات عن فقراء القبيلة ) ( د. السيد عبد العزيز سالم ، تاريخ العرب قبل الإسلام ـ 1 ـ ص363 )
وكان يعاون شيخ القبيلة في إدارة شئونها " مجلس القبيلة " وهو يتكون من أفرادها ـ الأحرار الأصلاء ـ الذين بلغوا سن الأربعين ويتمتعون بعقل راجح وعادة ما يكونون على درجة من اليسر المالي ، ويجتمع المجلس غالباً في خيمة الشيخ ويتحاور أعضاؤه بحرية تامة في الأمور التي تهم القبيلة جميعها ، ولكن ليس شيخ القبيلة ملزما بأن يأخذ رأي " مجلس القبيلة " أو ما تستقر عليه أغلبيته وهو مطلق الحرية في القرار الذي ينتهي إليه فأحيانا يتبنى رأي المجلس وأخرى يطرب به عرض الحائط والثالثة يوافق على فكرة فرد واحد منهم …

ولعل هذا منشأ الفرق الجوهري بين نظامي " الشورى " و" الديمقراطية " التي يلزم فيها الأخذ برأي الأغلبية حتى لو خالف رأي الحاكم وهناك كثير من الباحثين لا يتلفت لهذا الفرق الجوهري ويخلط بين النظامين خلطاً معيباً ويعتبرهما شيئاً واحداً .

وفي مقابل حرية شيخ القبيلة المطلقة في إصدار القرار فأن عليه تقع المسئولية كاملة فإذا اتخذ قرارا أوقع القبيلة في مأزق أو نالها من ورائه خطر فأنه يكون عرضة للإطاحة به لأنه يكون قد أثبت عدم جدارته بادارة دفة شئون القبيلة .. وهو الذي يتولى قيادة مقاتلي القبيلة في الغارات أو الغزوات ـ وربما يشاركه في ذلك فرد منها يتميز بالمهارة القتالية أو الحنكة الحربية ، يطلق عليه لدى بعض القبائل " العقيد" .
وحكم سيد القبيلة نافذ على جميع أفرادها ولا يملك أحد عصيانه ، ولزعيم القبيلة بعض الامتيازات في الغنائم التي تنتج عن الغارة أو الغزو مثل :المرباع ( = ربع الغنيمة ) ، الصفايا ( = ما يصطفه لنفسه قبل قسمة الغنائم أو الفيء ) ، النشيطة ( = ما أصيب من مال نشوب القتال ) ، الفضول ( = ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة ) وهو ما ترى مقدار ليس بالهين أو البسيط ، وبعض هذه الامتيازات أقره الإسلام وكان النبي محمد ( ص ) يختص به .

وبداهة أن القبائل في الجزيرة العربية ـ رغم كثرتها ، كانت متناثرة ولا رباط بينها سوى الغزو والغارات ، بيد أن عدداً محدوداً منها قد عقد حلفاً بينها أو نشأت بينها " مصاهرة " ولكنه الاستثناء الذي لا ينال من القاعدة الراسخة وهي أنها كانت مشتتة ومتنافرة بل ومتعادية وقد أوجد ذلك " فراغاً سياسياً استفادت منه على أكمل وجه دولة القرشيين في يثرب ( إذ في ظل هذه الظروف كان الإسلام قد نجح في إقامة نواة دولة قوية في المدينة المنورة امتد نفوذها على جميع الحجاز ومناطق أخرى من جزيرة العرب مستفيداً من الفراغ السياسي الذي كان يسود الجزيرة في ذلك الوقت ) ( د.إحسان صدقي العمد ، حركة الأسةد العنسي " بحث في المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، العدد الرابع والثلاثون ، المجلد السابق ، ربيع 1989م ، تصدر عن مجلس النشر العلمي ، جامعة الكويت ) ،
ولعله من نافلة القول أن نذكر أن تفرق قبائل الجزيرة العربي لم يكن هو العامل الوحيد لـ " الفراغ السياسي " بل كانت هناك عوامل أخرى أشرنا إليها فيما سلف ولقد أحس كثير من زعماء القبائل آنذاك بذلك " الفراغ السياسي " وحاولوا ملأه ولكن الظروف الموضوعية والقدرات الذاتية لديهم لم تؤهلهم لذلك ( قال ابن إسحق : وقدم على رسول الله ( ص ) وفد بني عامر بن الطفيل … وقال له قومه : يا أبا عامر أن الناس قد أسلموا فأسلم ، قال : والله لقد كنت آليت ألا انتهى حتى تتبع العرب عقبي ، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ) ( أورده الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير 701/774هـ ، في السيرة النبوية ، تحقيق د. مصطفى عبد الواحد ، الجزء الرابع ، ص109 ، ط 1966م دار إحياء الكتب العربية بمصر )
، فهنا نجد عامر بن الطفيل سيد بني عامر كان يؤمل في زعامة الجزيرة العربية حتى " تتبع العرب عقبة " ـ ولم يكن هو الوحيد الذي راودته تلك الفكرة بل شاركه آخرون ، ولكن يتحقق له أولهم النجاح في ملء " الفراغ السياسي " وبعد " فتح مكة " غدا واضحا لكل ذي عينين من رؤساء وشيوخ القبائل أن قريشاً أصبحت سيدة الجزيرة العربية دون منازع ، فتوافدت على يثرب " المدينة " عشرات الوفود من مختلف أرجاء الجزيرة ، تبايع محمدا ( ص ) ، حتى سمى ذلك العام بـ " عام الوفود" وتعلن ولاءها المطلق لسيد قريش وقائد دولتها ، وعن بعض وفد " بني عبد القيس " يخبرنا ابن كثير ( فلما رأوا رسول الله ( ص ) وثبوا من رواحهم فأتوا رسول الله ( ص ) فقبلوا يده ) ( ابن كثير ، المرجع السابق ، ص89 )

وتقبيل اليد قديماً وحديثاً وفي أركان الدنيا الأربعة دليل حاسم على الاعتراف بالسيادة والرئاسة . كذلك عندما قدم " أعشى بني مازن " على النبي ( ص ) خاطبه بقوله ( يا سيد الناس وديان العرب ) ( ابن كثير ، المرجع السابق ، ص143 ) ، والذين قارنوا بين محمد وسليمان ـ الملك النبي ـ عليهما السلام ( فقال قائل منا ـ هم قوم عبد الرحمن بن أبي عقيل ـ يا رسول الله ( ص ) ألا سألت ربك " ملكاً " كملك سليمان ؟ قال فضحك رسول الله ( ص ) ثم قال : فلعل صاحبك عند الله أفضل من ملك سليمان ) ( ابن كثير ، المرجع السابق ، ص165 ) .

وكانت الوفود التي وردت على يثرب في أواخر العام التاسع وأوائل العاشر الهجريين " وفوداً سياسية " جاءت لتعلن ولاءها لـ " دولة قريش " وقائدها ، ولم تكن وفوداً دينية والذي يؤكد هذه الحقيقة التي تنطق بها موسوعات السيرة النبوية ، هو أن بعض تلك الوفود كان يضم من بين أعضائه نصارى ( قدم على رسول الله ( ص ) الجاورد بن عمر بن حنش بن المعلي أخو " عبد القيس " في وفد " عبد القيس " وكان نصرانياً ) ( أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، 224/310هـ ، تاريخ الرسل والملوك ، الجزء الثالث ، ص136 ، ط2 ، 1969م ، دار المعارف بمصر )

وضم " وفد تغلب " ستة عشر رجلاً مسلمين ونصارى عليهم الصلب المذهبة فنزلوا دار رملة بنت الحارث) ( ابن كثير ، المرجع السابق ، ص178 ) أو يكون الوفد كله من " النصارى " مثل " وفد أهل نجران " ( وذكر محمد ابن اسحق أن وفد نصارى نجران " كانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم .. وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤول إلى ثلاثة منهم وهم " العاقب " وكان أمير القوم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، و" السيد " وكان ثمالهم أي ملجأهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان " أسقفهم " و حبرهم " ) ( ابن كثير ، المرجع السابق ، ص106 ، 107 ) .

وإذا كان بعض هذه الوفود قد دخل في الإسلام بعد مقبلة النبي ( ص ) فذلك لأن " الدين " كان أحد مكونات " الدولة القرشية " والدخول في الإسلام إعلان من الذي أسلم على خضوعه المطلق للدولة لا عن إيمان صادق ، بدليل أن كثيراً من تلك القبائل إرتد عن الإسلام وحارب دولة قريش ، ( عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عمته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت :
توفي رسول الله ( ص ) فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها : اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب فوالله ما اختلفوا في واحدة إلا طار بحظها وغنائها عن الإسلام ) ( أورده أحمد يحي بن جابر المعروف بـ " البلاذري " في كتاب فتوح البلدان ، حققه د . صلاح الدين المنجد ، القسم الأول ، ص144 ، د.ت. مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة ) .

كان ابن القبيلة يعتز بنفسه اعتزازاً كبيراً ، إذ أنه هو الذي يحدد هويته ، فبدونه يتحول إلى " دعي " وهو من ينتسب إلى غير قبيلته أو قومه ، وندر أن اعتزت أمة بأنسابها مثل العرب ، ومن ثم يمكن الجزم بأن النسب " ملمح " عربي أصيل ينفرد به العرب دون سائر الناس ( والعرب مهتمون بأسابهم محتفظون بكيانها ، ومن الضياع عند القوم أن يجهل امرؤ نسبه ، أو أن يكون دعياً أو ملصقاً أو زنيماً ) ( سمير عبد الرازق القطب ، أنساب العرب ، ص9 ) ، ويحكي لنا الإخباريين أن " النعمان بن المنذر " أثناء مفاخرته لـ " كسرى أنو شروان " تباهي وجد جده .. الخ بينما لا يعرف أعلى من أبيه . ولكن ما الباعث على اهتمام العربي بنسبه وحفظه إياه ؟
من المعلوم أن العرب " أمة أمية " ، لم يكن يعرف القراءة والكتابة فيها إلا عدد قليل غاية القلة ، أما الباقون وهم الألوف المؤلفة فقد جهلوها حتى ولو كانوا من سراتهم ، وكانوا يطلقون علة من يعرف القراءة والكتابة بالإضافة إلى صفتين أخريين " الكامل " من هنا تنبع أهمية حفظ الأنساب وأن تعيها الذاكرة الحافظة وتختزنها جيلا وراء جيل ، إذن المجتمع العربي آنذاك كان صاحب " ثقافة شفوية " بخلاف عدد من المجتمعات المعاصرة له كانت ذات " ثقافة مدونة " أو " كتابية " سواء تم ذلك على الورق أو على الحجر أو عليهما معاً .

ولسنا في حاجة إلى أن نذكر أننا نركز اهتمامنا في المقام الأول على المجتمع العربي وسط الجزيرة العربية وغربها حيث نشأت دولة قريش ، إذ الثابت أن " العربية الجنونية " أو " اليمن " عرفت " الثقافة المدونة " في صورها المتنوعة ، و " الثقافة الشفوية " تعتمد على الذاكرة الفردية ثم الذاكرة الجماعية ، ونظرا لأهمية النسب في حياة العربي فقد كان "حفظه " أحد روافد " الثقافة الشفوية " ، وتخصص بعض الأشخاص في هذا النوع من " الفن " إذا صح أن يوصف بذلك ، وكانت لهم مكانة ومهابة منهم أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ونذكر القارئ أنه اختير عضوا لحكومة الملأ وتولى الأشناق وهي الديات والمغارم بسبب أنه كان " نسابة " أي عالم بالأنساب ومن ثم كان في مقدوره تحديد الديات والمغارم حسب مكانة المجني عليه وما إذا كان محضا أو حليفا أو لصيقا أو زنيما …الخ ومعرفة الجاني ومكانه من القبيلة التي ينتمي إليها ، وحول النسب تحلقت الظواهر الاجتماعية التي تحدقنا عنها مثل : الخلع والولاء والحلف ..الخ كذلك تترتب على " النسب " آثار اجتماعية لا يمكن التهوين من شأنها : منها الميراث ، وتحديد مكانة الفرد في القبيلة فإن كان لصيقا أو زنيما فلا يحق له أن يشارك في " مجلس القبيلة " أو يتولى راستها ، وأيضا الكفاءة في الزواج فالمولى لا يحق له الزواج من امرأة ذات نسب صريح . لأن هذه الكفاءة انتقلت إلى الفقه الإسلامي فلا يجوز لغير الهاشمي أن ينكح ( يتزوج ) هاشمية ، وكذا تحديد المهور ، إذ أن مهر العربية الصريحة يفوق بما لا يقاس مهر غيرها .

يتبع..9
ومن منظور النسب ( تضم القبيلة عادة ثلاثة أصناف ):
11-20-2007, 04:13 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  العدد الجديد من مجلة أوراق فلسفية عن الفلسفة والثورة كريم الصياد 2 1,851 11-20-2012, 04:53 AM
آخر رد: كريم الصياد
  كُتب في الفلسفة والمنطق بصيغة exe فارس اللواء 3 1,861 04-27-2012, 07:06 PM
آخر رد: فارس اللواء
  نشأة الفلسفة العلمية ريشنباخ،ترجمة فؤاد زكريا pinno 1 2,345 10-21-2011, 02:23 AM
آخر رد: yasser_x
Wink حقيقة الحضارة الاسلامية، لفضيلة الشيخ ناصر بن حمد الفهد طريف سردست 4 3,016 09-27-2011, 03:19 PM
آخر رد: طريف سردست
  الجمهوريات الاسلامية بآسيا الوسطى منذ الفتح وحتى اليوم.بحجم 1 ميجا من اصل 37 ميجا ali alik 0 1,033 05-21-2010, 08:18 PM
آخر رد: ali alik

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS