هذا الكتاب*, للمستشرق و الباحث الفرنسي جيل كيبيل" Gilles Kepel" **.

ينشر فيه يومياته إثر أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001 , و يرتحل بعدها في البلاد العربية التي يعرفها سابقاً (مصر , سوريا , لبنان , قطر, الإمارات) , محاولاً فهم تداعيات ذاك الحدث البن لادني.

الكتاب يختلف عن سابقه (الجهاد, توسع و إنحسار الإسلامية) إذ أنه هنا ينشر بدقة يومياته و تفاصيل رحلته و لقاءاته مع الشباب العربي في طريقه.طبيعة الأنظمة ,تطلعات الشباب و معاناتهم و تناقضهم.

سأحاول هنا نشر ترجمة كاملة للكتاب على شكل يوميات وفية للكتاب مع بعض الإختصار أحياناً.

مع فائق المحبة.
ابن سوريا.

* يوميات حرب شرقية .
عنوان الكتاب الأصلي : Chronique d'une guerre d'orient .
دار الطباعة : Gallimard.

** الدكتور جيل كيبيل (Gille Kepel) مستشرق و باحث فرنسي حاصل على ديبلومين في اللغة العربية و اللغة الإنكليزية, و على دكتوراه في علم الإجتماع و دكتوراه في العلوم السياسية. هو حالياً بروفيسور في معهد الدراسات السياسية في باريس حيث يتابع برنامجاً للحلقة الثالثة (الدكتوراه) حول العالم العربي-الإسلامي.

من أشهر كتبه:

الجهاد , توسع و إنحسار الإسلامية. عن غاليمار . عام 2000 (نشرت العزيزة نادين ملخصاً عنه منذ سنتين كما دار نقاش حوله في نادي الفكر العربي وقتها)
Jihad,Expansion et Déclin de l'islamisme
Gallimard .2000



النبي و فرعون : دراسة لمنابع الحركات الأصولية 1984

ضواحي الإسلام , 1987
إنتقام الله , 1991

السبت 13 أوكتوبر/تشرين الأول 2001 :

مضى على آخر زيارة لي للقاهرة 4 سنوات. وهاهي الطائرة تحلق فوق المدينة قبل أن تحط, أستطيع أن أتعرف للشوارع المألوفة في حي "هيليوبوليس" .اللوحة البراقة المكتوب عليها باللغة العربية محل "عمر أفندي" .و ألاحظ أيضاً الإضاءات على بعض المنارات التي نخمن ظهورها في الليل.
و عندما سأهم بمغادرة المطار ٍسأحس بتلك الروائح الخاصة للمدينة , إحساس يتسرب و ينجلي سريعاً بتأثير العادة.
مصر تمر بفصول خاصة بها منذ أبد الدهر متأثرة بحركات نهرها "النيل" . عندما كنت أعود من الخارج لمصر كنت أستطيع أن أميز بمجرد إستنشاق هوائها إن كان الفصل خريفاً أم ربيعاً. و وقتها أعرف أني وصلت . مصر تشعرك بوجودها, مصر تُشم.
العيد الذي يجمع المسلمين و المسيحيين بمصر يسمى "شم النسيم" ,فقط المسلمون الأصوليون يقاطعونه, لأن ذلك حسب إدعائهم يحرف المؤمنين عن عبادة الله وحده. و لكن كل تعاليمهم لا تستطيع أن تمنع قصب السكر المطحونة أن ينشر رائحته أو إنتشار رائحة المانجا.

حين خروجي لصالة الإستقبال لم ألحظ أي إنتشار غير معتاد لقوى الأمن - بالرغم من "بن لادن" - و كل التوتر الذي كنا نتخيله في منطقة الشرق الأوسط .
لقد إستطعت الخروج من المطار بسرعة لدرجة أن صديقي أبو إسكندر و الذي قام بحساب كل الوقت الذي يجب أن أقضيه بين الجمرك و الشرطة, لم يكن قد وصل بعد للمطار ليستقبلني.
و أبقى وحيداً في الليل لأستنشق هذه الرائحة التي لم أعد أعرفها. الهواء كان مشحوناً برائحة بنزين السيارات ممتزجاً بضباب غامق. ثم وصل صديقي.
يشرح لي بأننا لم نكن نعرف هذه الرائحة سابقاً, إنها رائحة حرق قش الرز , فلقد تم تخصيص و تحرير الإقتصاد الزراعي منذ ثلاث سنوات في دلتا النيل. و راح "الفلاحة" يعملون في زراعة الرز, لأنها أكثر فائدة مادياً. مفيدة لدرجة كبيرة . ثم أنهم يحرقون قش الرز ليزرعوا مكانها الفول و القمح. منع الحكومة لذلك لا يكترثون به , و هكذا فإنهم يخنقون أهل المدينة بهذه الرائحة القوية.

بيت أبو إسكندر مضاء بمجموعة كبيرة من اللمبات المتعددة الألوان. في المبنى جنرال يزوج إبنته و نصادف على السلم بعض من العسكر و رجال الجيش , البطن الظاهر من القميص الأبيض (قميص الخدمة) و بيدهم "تالكي والكي" , و على جنبهم زوجاتهم بمكياج معتنى به جيداً. و أغلبهن يلبسن "فولار" يغطي شعرهن. الجمهور يغني أغاني شعبية , الأغنية الأكثر شعبية منذ بدء الإنتفاضة هي "أنا بكره إسرائيل" . نفس مصدر الفعل "كره" يعني في حالات أخرى للقواعد العربية "الإكراه" . و يستعمل في الدين الإسلامي ضمن عبارة شهيرة و هي "لا إكراه في الدين".
لكن ربما أنه و منذ 11 سبتمبر, فإن الديانة لم تكن إلا وعاء و قناة للتعبير عن صراع أشمل و أوسع, و الذي يعبر عن معاناة في الشارع الإسلامي, عن هذه العلاقة المتناقضة الحميمية و الخلافية بآن معاً مع العالم الغربي .

في الصباح قمت مفزوعاً على صوت المكبر, إنه المؤذن يدعو للصلاة . بأعلى صوته . لقد نسيت المؤذن.
خلال بضعة ليال لن أعود أحس به مثل الجميع هنا و يصبح جزءً من المشهد اليومي.

يتبع ... يوم الأحد

مع فائق التحيات
ابن سوريا.

عزيزي
الموضوع شيق بشكل استثنائي ، فلقد عدت بعد المؤلف أيضا و لكن بحوالي أسبوعين ، و أيضا بعد إرتحال طويل .
و مثله أيضا فوجئت بقاهرة جديدة ،و لكنه كان أكثر تسامحا مني تجاه تلك المدينة العجوز الهرمة التي امتصت شبابنا ،و أرسلته دخانا في الشوارع .
أتمنى أن يكون عندك الوقت لتستكمل هذا العمل ،و سأتابعه مثل غيري ،و لكن لا تنظر أن نقطع صمتك بعبارات الإشادة .
فقط تابع بقدر طاقتك .
وتأكد انه خلف البحار من ينتظرون .
و شكرا

الأحد 14 أكتوبر/تشرين الأول

عناوين الصحف الثلاثة المهمة والتي تعكس وجهة نظر النظام الحاكم بمصر, توازن بين التصريحات المناهضة للإرهاب و تلك المستاءة من القصف على المدنيين في أفغانستان.
و بذلك فإنها و بنفس الوقت تقوم بتحاشي الإساءة للحليف الأمريكي الذي يزود مصر بحوالي 2 مليار دولار سنوياً, و الشعور الشعبي المتعاطف مع أفغانستان.
و لكن أكثر عناوين الصحف المصرية كانت اليوم مشغولة بالإحتفال بمرور 20 عاماً على حكم الرئيس حسني مبارك. صحيفة "الأخبار" مثلاً خصصت ملفاً واسعاً لتغطية الحدث و تمجيداً لمحاسن حكم "الريس" في كل المجالات الممكنة. الشركات التجارية تتنافس لنشر دعاياتها في أفضل الصفحات لإعلان تهنئتها للرئيس.
البرلمانيون و رجال الدولة, رجال الجيش و الجامعيون, المهندسون و الأطباء, الفلاحون, النساء أو الصحفيون , كلهم يعلنون ولاءهم و تهنئتهم للرئيس في المجالات التي تخصهم.

قبل عشرين سنة و في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981 و في حفل عسكري , قام إسلامي بإغتيال السادات. إسلامي ينتمي لمجموعة "الجهاد". مبارك و الذي حضر الحادث و جرح خلال العملية تولى قيادة البلاد بعده.
ثم في عام 1984 تم إخلاء سبيل العديد من الإسلاميين و إرسالهم لمكة عن طريق الحج ثم لأفغانستان بترحيب و رعاية المملكة العربية السعودية و ال CIA الأمريكية. و الذين كانوا يدعمون هذه الحرب ضد الإلحاد الشيوعي.
بالنسبة لبعض المسؤولين المصريين فقد كانت فرصة فريدة , بعض المشاغبين المصريين يتم إرسالهم ليحاربوا بجانب الحليف الأمريكي , و إن هم ماتوا خلالها فإنها ستكون : "المشيئة الإلهية" ...

سخرية القدر أن تعود الخطط ضد مؤسسيها. الملتحون الذين عادوا بعد سنين من الحرب و التي جعلتهم أكثر خبرة في أفغانستان قاموا بعمليات مضنية ضد الحكم المصري بين عامي 1992-1997 .
و اليوم فإن "إبن عائلة مهمة في مصر" الطبيب المصري أيمن الزواهري يظهر بجانب "بن لادن" في كاسيتات الفيديو التي تنشرها محطة الجزيرة منذ فترة.

في خريف ذاك العام 1981 , كنت أسكن في القاهرة و أحضّر أطروحة الدكتوراة عن الحركات الإسلامية, و التي ظهر منها قاتل أنور السادات.
أتذكر جيداً يوم إغتيال "الريس" .
الشابة التي كانت تعمل عندي و المتزوجة من رجل شرطة , عادت راكضة بعد إنتهاء خدمتها بحدود الساعة الثالثة بعد الظهر , لم أرها بهذا الحماس يوماً , ثم قالت :
" مسيو جيل , لقد أطلقوا النار على "الريس" , إنشالله يموتوه ".
مع ذلك فكم من مقالات "مدح" خطتها الصحف الغربية عن "رجل السلام المصري" . الذي وقع معاهدة السلام مع إسرائيل.
و كم من مداحين كانوا تحت قدميه يومياً...

اليوم فقط صحيفة الوفد تمتنع عن كيل المديح للرئيس و تظهر صوراً للمدنيين الأفغان أو المظاهرات المعادية لأمريكا بجاكرتا أو كويتا. و في اليوم التالي فإنها تستنكر بمقال خاص منح جائزة نوبل للسلام ل "نايبول" و ل "كوفي عنان" , و التي تصورهم كأعداء للإسلام.

عادة , فالوفد كانت تعتبر صحيفة علمانية و قد قادها مجموعة من البروجوازيين المعتدلين و كان الأقباط حاضرين بها بشكل قوي . أما اليوم فإن نبرة الصحيفة تذكرك باللهجة الإسلامية . هل سبب ذلك أن أسلمة الأخلاق و الأعراف و العقليات صار أقوى من ذي قبل كما يعتبره البعض سبباً لذلك؟
كما يعتبرون بالعكس مني بأن التأثير الإسلامي يتطور, بينما و بالرغم من أن نصف النساء اللواتي أصادفهن بالشارع يلبسن الحجاب و لكني لم أره يتغير منذ سنوات بل تناقص منذ آخر زيارة لي لمصر منذ أربع سنوات.
لكي أفهم أكثر عن الموضوع ذهبت لأسأل "جمال الغيطاني" , الذي أعرفه منذ عشرين عاماً.و الذي يعتبر اليوم من أكبر الكتاب العرب المعاصرين.
للوصول لمكتبه في صحيفة الأخبار حيث يدير ملحقها (أخبار الأدب) يجب المرور بمجموعة من الصالات و المكاتب و يظهر لي أن الناس غير مهتمة و غير مشغولة و تقضي وقتها بشرب الشاي أو القهوة.
بالعكس من ذلك فإن مكتب جمال يغص بالمتجولين و الناس التي تفد إليه و تخرج منه بدون توقف.و يمتلئ بالكتب المرصوصة بكل مكان .

المرة الأخيرة التي زرته بها كان يستقبل شباباً من آسيا الوسطى( من الإتحاد السوفييتي السابق) و الذين كانوا يحضرون أطروحة حول أحد رواياته.

عمل جمال الغيطاني يعتني بالتأكيد على إنسانية الثقافة العربية الإسلامية و إنتمائها للحضارة العالمية.
خلال عمله حارب و ناهض الإسلاميين في محاولاتهم لمنع "ألف ليلة و ليلة" بإعتبارها عملاً منحلاً , و إعتراضهم على أعماله بمجرد وجود تمليح بسيط بها للإسلام.
جمال لا يكن أي إحتراماً لبن لادن و أعماله و كما يبدو فإن الجميع بمكتبه يعترض على أعمال بن لادن التي لا يمكن إيجاد عذر لها و قتل المدنيين بدون سبب.
و لكننا سنأتي بسرعة لسياسة أمريكا المنحازة في المنطقة.
الصحفيون الذين استمعوا للمحادثة تدخلوا ليتحدثوا عن حصار العراق و معاناة المجتمع العراقي و أن صدام حسين خرج أكثر قوة بعد الحرب. و يتسائلون عن معنى عدم تدخل أمريكا بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ إنتفاضة الأقصى عام 2000.
نفس القوميين أو أباؤهم الذين يدينون اليوم عدم تدخل أمريكاو تركها للأقوى يفعل ما يشاء بفلسطين , كانوا يدينونها سابقاً لتدخلها بأمورهم و صراعاتهم في المنطقة.
إنها علاقة مثيرة مع أمريكا,و الغرب بشكل عام.و التي نشأت بعالمنا . هناك نوع من التحدي المعلن و بنفس الوقت نوع من الجاذبية القوية نحوه.
رفض النموذج الغربي , و الإعجاب بالديمقراطية التي تبقى محرومة منها أغلب الدول العربية.
إعلان الخصوصية بقوة ,و بنفس الوقت الرغبة بإعتراف الغرب ورغبة خفية بالمشاركة بشكل متساو مع الغرب في هذه الثقافة العالمية.
و بيأس من أمريكاو فإنهم يسألون لماذا لا تشارك أوروبا و لا تتدخل, لماذا لا تلعب القارة القديمة و القوة الإستعمارية السابقة دوراً في المشهد الحالي و هي التي تعرف دول الجنوب و دول المتوسط أكثر.لمنع كوارث للعالم العربي و الإسلامي و قطعاً للعلاقة بين العالمين العربي و الغربي. خصوصاً إذا نجح بن لادن و الطالبان بغزو الخيال و الإعجاب الشعبي.




العزيز بهجت و سأتابع كل الكتاب , و لا أنتظر أي إحتفاء بالموضوع فهو أولاً موضوع للقراءة , و أفضل أن نتناقش حوله في نهايته.
سأحاول الإنتهاء منه بأقرب ما يمكن . أسبوع أو إثنين. و قد جعلت له الأولوية حالياً.
(f)

مع فائق تحياتي
ابن سوريا

الإثنين 15 أكتوبر/تشرين الأول

جزيرة الروضة مأوى هادئ وسط ضجة القاهرة,و فيها يقع مقر الإخوان المسلمين ضمن مبنى عادي على ضفة النيل.
و يتوجب عليك خلع حذاءك قبل الدخول و تركه قرب العتبة.
الصالة الرئيسة المغطاة بنوع من الموكيت العتيق. تستخدم كصالة للصلاة كما قيل لي, أو أنها ربما وسيلة لفرض مراسيم العادات و ثقافة الحركة على الزائر. أو أيضاً لتذكير الغربي بأن عليه أن يخلع تكبره و قناعاته مع حذائه على عتبة الباب.
أتذكر جيداً تلك الصور التي شاهدناها على شاشات التلفزة حيث نرى شيفرنادزة و الذي كان وزير خارجية روسيا للشؤون الخارجية, و كيف استقبله الخميني بجواربه فقط لا غير في مقابلة رسمية معه.
لدي موعد مع عصام العريان- رجل في الخمسينيات من عمره , أكبر مني بعدة سنوات فقط –
عصام يشغل منصب نائب رئيس نقابة الأطباء و التي تعتبر من أول النقابات التي سيطرت عليها حركة الأخوان , إذ أن نقابتي الأطباء و المهندسين أصبحت وكراً طلابياً للحركة في السبعينيات من القرن الماضي , و قد قمت بتقديم و ترجمة أحد مقالات عصام عندما كان طالباً في كلية الطب. و ذلك ضمن تحضيري لرسالة الدكتوراه منذ عشرين سنة.
إلتقينا بعدها في هولندا خلال أحد المؤتمرات, كان قد قرأ ترجمة لأحد كتبي (إنتقام الله) ,و قد عاتبني على تركيزي في الكتاب على المتطرفين وتجاهل المعتدلين مثله. و قد أخذت جيداً بملاحظته فيما بعد. و كان لملاحظته تأثيراً كبيراً لتنبيهي فيما بعد للمطالب الخاصة للطبقات الوسطى التقية , مما شكل لدي المفتاح لقراءة الحركات الإسلامية المعاصرة و تكاملها مع الشباب الفقير الحضري, أو تعارضها معهم.

بداً إستقباله لي حاراً, و شرعنا نتحدث عن السنوات التي تلت آخر لقاء لنا. لقد قضى خمس سنوات في السجن, و سألني إن كنت أراه متغيراً .
شارباه أصبحا بيضاويين تماماً .
السجين السابق سجل موقفاً لصالح إطلاق سراح سجين الرأي سعد الدين إبراهيم, الجامعي المصري/ الأمريكي, و أحد أعداء الأخوان اللدودين . و رغم أنه كان مقرباً من النظام على ما يبدو فإن سجنه كان له علاقة بإدانته للإنتخابات الأخيرة بمصر و طلبه أن تجري تحت رقابة عالمية.
رسمياً فإن إبراهيم محكوم لأسباب الإختلاس و الفساد المالي, و لكن هيئة التعاضد معه لا تصدق الصيغة الرسمية.
و من خلال موقفه فإن الطبيب الإسلامي المشاكس و المنتمي للطبقات الوسطى التقية, يكسب إحترام الديمقراطيين و العلمانيين بمصر.
عصام على علم بالنقاشات و الحوارات بين الإختصاصيين الفرنسيين و يعرف بأني بالعكس من الكثير من بعض الزملاء الجامعيين و الذين يرون بالقضية الإسلامية نوعاً من خصوصية لشعوب الجنوب و أني أنظر للأمور بشكل حيادي دون إتخاذ موقف, و هو ما لا يجعل صورتي محببة لدى الحركة.
و لكنها بالنسبة لعصام الفرصة بلا شك لينقل من خلالي بعض الرسائل الهادفة للعالم, في المجالات التي لم يعد لرفاق طريق الإسلاميين أي ثقة و مصداقية.
و عليه فلقد مرر لي بعض المنشورات للأخوان المسلمين و غيرها من المنظمات الإسلامية أو الأئمة, كالشيخ يوسف القرضاوي النجم العالمي للدعوة الإسلامية من خلال برنامجه الشهير على قناة الجزيرة : "الشريعة و الحياة".

النصوص تدين بلهجة حازمة أحداث 11 أيلول/سبتمبر, بوصفها كأعمال إرهابية تتعارض تماماً مع رسالة الإسلام.و يدينون المسئولين عن هذه الأعمال "أياً كانوا".
الإدانة الشديدة هذه ستكون حجة ببقية النص لإدانة "الإرهاب الصهيوني" في فلسطين على قدم المساواة.و الإعتراض على أي قصف أمريكي ضد الشعب الأفغاني "الشقيق".

لا يجب علينا أن نستهين بالإدانة الإسلامية الشديدة اللهجة للعمليات الإرهابية , و لو أنها لا تذكر اسم بن لادن مباشرةً و تطلب الأدلة من الإدارة الأمريكية حول المسئولين عن العمليات. فإن الحركات الإسلامية القريبة من الأخوان و التي تعتبر الناطق الرسمي عن الطبقات الوسطى التقية لا تريد أن تجد نفسها في أزمة لا تستطيع التحكم بها و ستسيء إليها قبل أي شيء آخر, وترغب أن تبعد عن نفسها أي شبهة تجعل منها هدفاً أمريكياً , و تجعل من الأنظمة الحاكمة المتهيأة لإستغلال الفرصة و الإنقضاض عليها و تحويل الوضع بالنسبة للإسلاميين بإعلانها للجهاد وضعاً عبثياً لن تستفيد منه إلا الأنظمة الحاكمة.

بين جزيرة الروضة و الجامعة الأمريكية, لا يوجد إلا بضع الكيلومترات من زحمة السير, خلال حي سكني قديم . حيث تم تأميم العديد من المباني و "فيلات العهد الإستعماري" التي كانت تنتمي للباشوات أو لإنكليز, فرنسيين, يهود. إذ تم تأميمها بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 و تحويلها لمبانٍ حكومية . المبان اليوم تبدو وسخة و مهترئة و لكن ذلك حماها من التدمير ضمن الحمى السكنية الحالية بالقاهرة.

الجامعة الأمركية تعتبر حكراً بجدرانه العالية وموقعه على العائلات الغنية , رسوم الدخول التي تختلف بحسب المجال الدراسي و مستوى الدراسة تقترب وسطياً من 15 ألف يورو سنوياً , هذا عدا الكتب المستوردة و المعدات المدرسية , و من غير النادر رؤية الطلاب يصلون للجامعة بسيارات فارهة برفقة السائق الخاص.
في الوقت الذي يتحمل فيه زملاؤهم في الجامعة المصرية مشاق المواصلات العامة يومياً , و من الجدير بالذكر أن الإخوان كانوا قد كسبوا الكثير من طلاب الجامعات منذ خمس و عشرون سنة من خلال شبكة "ميني باصات" قاموا بإنشائها لتسهيل وصول الطلاب للجامعة , وقد ضمن لهم ذلك الكثير من الشعبية.

في الجامعة الأمريكية هناك أقلية من المحجبات و من الملتحين, حيث يطغى الجنز و الألبسة الباهظة الثمن و قصات الشعر الآتية من الغرب و التي تذكرك بدعاية ل"شامبو"[معتبر].

في منتصف الحي الجامعي يظهر مينى كبير على شكل "هنغار"معتنى به كما بقية الأبنية بالحي, يحمل لائحة مكتوب عليهاباللغة الإنكليزية "Praying Ground" .
مكان للصلاة.
طالبة كندية غير معتادة على رؤية أماكن للصلاة في الجامعة إعتقدت في البدء أن اللوحة تقول . playing Ground . صالة لعب . و مع ذلك فإنه مسجد بالفعل. و نسمع فجأة صوت الدعوة للصلاة خارجاً منه.
في أحد المقالات لطالبة في المجلة الدورية التي تصدر باللغتين العربية و الإنكليزية , القافلة/Caravan ,بأن الإسلام يتقدم في الجامعة , و أن لا تعارض بين الشكل الأمريكي الغربي للحياة و العودة لمنابع حضارية ثقافية للمجتمع الذي ننتمي إليه.
منذ فترة قامت الجامعات بمنع تدريس بعض مقولات اعتبرها الأهالي الذين يدفعون الإشتراكات "لا أخلاقية" و هكذا تم منع تدريس "ماكسيم رودينسون" و رميه لمكتبة الجامعة.

هنا بالذات بإمكاننا أن نفهم كل تناقض العلاقة مع الغرب ,و أمريكا بالذات . العائلات التي ذهبت للخليج للعمل عادت ثرية و سجلت بناتها المحجبات في الجامعة الأمريكية و أبنائها بدلاً من الجامعات المصرية الشعبية .
أمريكا تجذب تستقطب الإهتمام , هناك جاذبية قوية لأنماط الحياة الغربية لطرق الإستهلاك فيها لديمقراطيتها , و لحضارتها و لكنهم يبحثون في نفس الوقت على وضع بصمتهم في هذا الإطار المعيشي , على أن يكون لهم هويتهم الخاصة و لما لا تأثيرهم في هذه الحضارة لدى الأكثر تعبئة.
لسنا نشهد هنا كما يعتقد البعض صراعاً بين الحضارات بل محاولة لدى البعض ضمن هذه السيطرة العالمية لحضارة ما على التأثير من خلال الهوية الخاصة.

خلف الجامعة , ميدان الفلكي , مازال أحد الأسواق مكتوب عليه باللغة الفرنسية "marché de Bab el Louk"

, محلات تبيع الساتلايت(الصحون) بكل القياسات , لمشاهدة قناة الجزيرة , و أيضاً محطة ARTE
و التي يتابعها عدد لا بأس به بين المثقفين , و تبقى نافذة فريدة من نوعها على ثقافة القارة الأوروبية القديمة.
كذلك فإنها فرصة لمشاهدة القنوات الأمريكية أو محطات الجنس ال هارد التركية.
حسبما أخبروني فإن أسعار الصحون إرتفعت بشكل غير معتاد بعد أحداث ال11 أيلول/سبتمبر لا سيما لمشاهدة قناة الجزيرة . و لكني أعتقد بأنها طريقة للوصول للحرية أيضاً, و المعلومة في عالم تبقى به الأخبار حكراً على أدوات إعلامية مراقبة من قبل السلطة. الساتيلايت يسمح بالإختيار.

على بعد خطوات نجد القهوة الوحيدة الشعبية التي ما زالت تبيع البيرة "ستيلا" بعد إجتياز حائط فاصل . و في هذه القهوة نجد بعض الرجال على طاولتهم يشربون البراندي أيضاً.
المقهى يديره أقباط, يمكن التعرف عليهم من خلال الوشم على ساعدهم . طريقةلإثبات الوجود في عالم المد الإسلامي المحيط بهم و الذي يمارس عليهم ضغطاً قوياً لكي يتحولوا للإسلام : الديانة الطاغية. الكنيسة القبطية ترى بذلك خطراً على سلطتها على أتباعها.
البارحة رفضوا بإحدى القهاوي أن يقدموا لي البيرة مع أنها قهوة يرتادها الأجانب, و ذلك لأنها كانت ذكرى الإسراء و المعراج.
اسم المقهى كان "الحرية".

وزارة الخارجية تملك مبنى عظيماً على ضفة النيل مقابل القصر الذي كانت تسكنه الإمبراطورة أوجين في جزيرة الزمالك عندما جاءت لتدشين قناة السويس و أوبرا القاهرة. حيث أبدع فيردي أوبراه المشهورة "عايدة".

معالم الرأسمالية و الثقافة الغربية مزروعة بقلب العاصمة المصرية , بثمار حنونة و مرة بآن معاً.
في يومنا هذا فالقصر التاريخي بلوحاته عن نابليون الثالث و عظمته يبدو محاطاً بمباني "البيتون" الحديثة بدون أي جاذبية. صحيح أن مبنى الوزارة يحمل زهوراً مصرية , و لكنها مبنية بشكل تربيعي حديث . هذا المكان حيث يتم إستقبال الدبلوماسيين الغربيين.
منذ الأحداث الأخيرة فإن السياح لا يتدافعون هنا.
في مبنى الوزارة فإن الأسلوب و الغرف تذكرك بأن مصر ذات تقاليد عريقة في السياسة و الدبلوماسية .

في هذه الفترة المتأزمة في تاريخ المنطقة حيث تختل الميازين, فإن الدبلوماسية المصرية تحمل عبئاً كبيراً من العمل و لا سيماأحمد ماهر أحد أحفاد عائلة من الباشوات, أخوه سفير مصر بباريس و يلقى إحتراماً كبيراً هناك.
أحد أجداده كان وزيراً للملك فاروق. بمصر هناك دوماً تأثير للدولة الحاضرة دون مثيل مقابل بالمنطقة بأكملها. خصوصاً أن ثبات و قدرة دول المنطقة على إجتياز الأزمة تبدو إحدى أهم مشاغل المحافل الغربية هذه الأيام.

الوزير أحمد ماهر إختار الجامعة الأمريكية ليلقي بها خطابه موضحاً موقف بلاده من الأزمة.
كل الصحافة الأمريكية كانت حاضرة , إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية الجريحة اليوم, تتذمر من برودة رد الفعل المصري الرسمي إزاء هذه الأحداث.
عائلة ماهر كانت قد عرفت منذ قرنين من الزمان فيلسوفاً قاد خطواتي الأولى كما غيري لفهم و التعرف على حضارة النيل, مسيحي إنجيلي و معلم للكثير منا, مسلمين أو مسيحيين , ملحدين أو مؤمنين. "موريس مارتان" .

يتبع.
مع فائق الإحترام.
ابن سوريا.

هذا الجزء من ترجمة الزميل "إلياس رفيق" *


الثلاثاء 16 أكتوبر

أنا في "كلية الآداب" لجامعة "عين شمس" ( وعين تعني بين جملة ما تعنيه "النبع" أيضاً). طالما أحببت هذا الإسم "المضيء" لمكان يدرج الشباب على مدارج العلم فيه. كلمة عين أيضاً قد تعني بمعناها البعيد "الجاسوس"، وهذا المعنى ذو السحر الخافت يذكر بالمراقبة البوليسية وعهد المخابرات. إنه ذلك الظل القاتم الثقيل الذي ميز جزءاً من عهد "عبد الناصر". هذا الظل المخيم المقيم الذي لم تنكشح عتمته نهائياً عن المنطقة بعد.
بجانب بوابات المدخل تتواجد بضعة شاحنات "لبوليس مكافحة الشغب"، يذرع الطلبة بينها في جو من المرح والفوضى يميز "كليات" العالم أجمع.

عندما يأتي " أبو اسكندر" من " هليوبوليس" إلى " القاهرة" ، فإنه يمر أمام الجامعة. وهو قد جعل هذا المكان بمثابة عينة يرصد من خلالها تقدم وانحسار الحجاب الاسلامي. ولقد لاحظته، منكراً، وهو يولي الناحية النوعية أهمية أكبر من الناحية الكمية خلال رصده. ولعلنا نقول في سياق تبرئته بأن منظر الطالبات في الشرق الأوسط لا يترك الناظرين علىحياد. فلقد أصبح الوضع في الجامعات في القاهرة ودمشق وبيروت حساساً جداً، حتى أن الحجاب نفسه أصبح – كما يبدو – ضرباً من "صرعة عصرية". واندرج تحت ثوب "الموضة و التزين والتجمل" عوضاً عن محو معالم "الأنوثة والإغراء" عند المرأة كما يريد له مروجوه. ولعله من المثير النظر إلى هذه "الأطياف" المتشحة بالسواد و التي لا يبرز منها غير فتحة في الوجه تطلان منها عينان سوداوان. هؤلاء يخطرن بين أخريات من رفيقاتهن اللواتي يتركن شعرهن يختال على ظهورهن . ويخطرن بخطو وئيد يعطي لكل ثنية من ثنايا أجسامهن الملفوفة بالثوب الضيق الملتصق حقها واعتبارها.
إن هذا الخليط بين المحجبات والسافرات (العاريات بلغة الاسلامانيين)يعطي لكل منهن حقها. بل وأن هذا الاختلاط يزيد من جمالهن.

لقد دعيت في هذا اليوم إلى سماع محاضرة يلقيها أحد الزملاء الأصدقاء تخللها حديث بين الحضور حول آخر الأحداث الراهنة. لقد مضى أسبوع ونيف على خطاب "أسامة بن لادن"، الذي بثته الجزيرة في 7 أكتوبر، والذي يحلف به "بالذي رفع السماء بلا عمد بأنه لن يهدأ بال لأمريكا وأعوان أمريكا ما دامت اسرائيل تمارس اضطهادها ضد الفلسطينيين".
ربع الطلاب ونيف، فقط، كان قد رأى خطاب "أسامة بن لادن"، فالطلاب هنا ينحدر أغلبهم من وسط شعبي فقير، لعله لا يملك امكانية شراء "جهاز التقاط|اسطوانة" للفضائيات. لقد كان في القاعة نوع من إجماع على إدانة الإرهاب الذي يقتل "المواطنين الأبرياء"، تجسد عبر يافطة كبيرة معلقة في القاعة؛ إنه إدانة للإرهاب الذي أوقع بضحايا 11 سبتمبر وإدانة من ناحية أخرى للقصف الأمريكي- البريطاني لإفغانستان.
بعض الطلبة قام يذكر بأن "الإرهاب" قد عض مصر نفسها وأوقع بها ضحايا في السنين الأخيرة. ثم قامت طالبة تشرح مدعية بأن هذه الأحداث جميعها لا تخرج عن نطاق "المؤامرة"، وبأن 4500 شخصاً من "كبار اليهود" كانوا قد حُذرّوا قبلها بيوم عن طريق بريدهم الألكتروني بأن لا يأتوا إلى مراكز عملهم في "البرج التوأم". وبينما كانت الفتاة ماضية في شرح هذه "المؤامرة" التي لم أكف عن سماعها مراراً وتكراراً خلال رحلتي، حانت مني التفاتة إلى باب القاعة الذي رأيت عليه جملة مكتوبة بالطبشور: " لا إله إلا الله ، إسرائيل عدوة الله".
هناك طالبة أخرى بين الحضور سافرة ليست محجبة، كانت غير ملتفتة "لبن لادن" حتى رأته وأعجبت به عبر "قناة الجزيرة". وهو عندها الآن الوحيد الذي يقوم بغسل عار العرب والمسلمين في وجه الاستكبار الأمريكي الداعم "لشارون". هو الوحيد، عندها، الذي تنبه إلى عذاب الفلسطينيين والعراقيين حتى لو لم يفعل شيئاً لهم قبل اليوم. إن منظر هذه الفتاة لا يوحي أبداً "بالاسلام الزميت المتطرف" الذي يجسده "بن لادن"، فهل استطاع هذا الأخير أن يكسب، عبر مواهبه الخطابية، أتباعاً جدداً خارج الدوائر التي تؤيد نهجه ومنهجه؟

لقد رووا لي "نكته" .. نادرة لطيفة يتنفس الشرق الأوسط عبرها خارج نطاق اللغة الرسمية المقولبة . "النكتة" تقول بأن امرأة كانت في طريقها إلى "تواليت" الرجال في أحد المطاعم. فقال لها في ذلك بعض العمال، وحاولوا إرشادها إلى "تواليت" النساء، فتوقفت وسألتهم: هل "أسامة بن لادن" موجود الآن في "تواليت" الرجال الذي تحاولون أن تثنوني عنه ؟ فأجابوا: لا، طبعاً .. قالت: إذاً أتركوني في طريقي، فليس هناك رجال آخرين في العالم العربي والإسلامي.
بغض النظر عن الوجه التبسيطي الساذج لهذه النكتة، فهي تمثل ملخصاً شاملاً لما لاحظته في محادثاتي؛ " أسامة بن لادن" هو "الفحل" .. قال لي أحد المحللين النفسييين النادرين في هذا العالم.



* إتفقت مع الزميل "إلياس رفيق" على التناوب حالياً على ترجمة الكتاب . و كل جزء من ترجمته سأبدأه بالتنويه بذلك.

الأربعاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2001

أمام شباك شرطة مطار القاهرة, فإن جواز سفري الممتلئ بتأشيرات سفر لبلاد عربية يثير شكوك الموظف.مما يدفعه لإرسالي إلى صالة خاصة للتحقق من الجواز. و هناك فإن الموظف سيمرره ضمن آلة خاصة تلقي عليه أنواعاً من الأشعة (بيضاء, حمراء, زرقاء) بلا شك فإن دورها أن تتأكد من زوايا و خطوط و التغييرات أو التعديلات التي يمكن أن تكون أصابته.
الشرطي الذي يتحقق من الجواز , رجل طويل و ضخم و كان يتصبب عرقاً بينما هو جالس على كرسي صغير بالنسبة لحجمه ,و بالقرب منه شرطي آخر يجري مكالمة لا يبدو أنها ستنتهي مع والدته. خلال هذهالأثناء, قمت بالنظر حولي و معاينة الغرفة , هناك طاولة تمتلئ بكؤوس الشاي الفارغة .سقف صالة المطار عالية جداً ووسيعة و معلق عليها صورة لا أدري من أين جاءوا بها و تظهر مدينة نيويورك يتوسطها بشكل ظاهر برجي التجارة العالمي "الوورد تريد سنتر".

عدت بعد الإفراج عني :) , لقاعة الإنتظار حيث ينتظرني صديقي جمال الغيطاني و مجموعة من الصحفيين و الكتاب الذين يرافقونه في رحلة لفرنسا.
و قد لاحظنا مجموعة من أربع شباب في القاعة ركبوا معنا , سواعد مفتولة و أحدهم ملتحي .و يتمازحون برفق . أشكالهم تذكرك بصور الذين قاموا بعمليات 11 سبتمر/أيلول.
جاري في المقعد المجاور بالطائرة كان يتمتم صلاةً شفوية و يبدو عليه ملامح خوفٍ شديد , لن تكون هذه آخر المفاجآت بالنسبة لي.

الشباب الأربعة و عندما حان موعد الصلاة و بعد وضوء قاموا به في "تواليت" الطائرة ,أقاموا صلاة جماعية و قد مدوا سجاداتهم أمام مخرج النجاة . حتى "جمال" تفاجأ بذلك و قال لي بأنها المرة الأولى التي يرى بها هكذا مشهد.
يذكرني هذا بالزيارة التي قمت لها لنيويورك منذ عشرة أعوام و اليهود "لوبافيتش" على ظهر الطائرة و كيف كانوا يتمتمون صلاتهم , عند ذهابي للقاء الحاخام "شنيرسون" في بروكلين لكتابة جزءً من كتابي "إنتقام الله" عن تلك الحركة. و كيف أنهم حاولوا إقناع كل المسافرين الذين تبدو عليهم ملامح يهودية بلبس ال"تيفيلين" .
بعد إنتهاء الصلاة , فإن الشباب الأربعة عادوا لمقاعدهم , فتحوا حواسبهم المحمولة و بدأوا جولة بلعبة فيديو.

الجمعة 19أكتوبر/تشرين الأول 2001

في الطائرة المتوجهة لبيروت (باريس-بيروت) إلتقيت بصديقيين لبنانيين , في هذه الرحلة كنت في الجزء المتقدم من الطائرة . و من غير المحتمل أن أحضر صلاة جماعية هنا.
ضمن المرات القليلة التي يتسنى لي بها السفر في هذه الظروف على الطائرات المتوجهة للشرق الأوسط أو لشمال إفريقيا فإني ألاحظ أن الكل يعرف بعضه البعض تقريباً . إنه عالم السلطة و المال العربيين, حيث نجد طبقة مميزة و تقضي أيامهاً بين البلاد و أوروبا.
السنة الماضية و برحلة لي للجزائر كان جاري في الطائرة رجلاً لا يتوقف عن إستقبال الذين يأتون ليسألوا عنه و عن صحته, أو الرد على الإتصالات الهاتفية و السؤال عن أولاده بشكل يجعلك تنتبه لأهمية الشخصية, بعد وصولي للمطار سألت عن جاري فعلمت بأنه رئيس مؤسسة SONATRANCH أكبر مؤسسة بترولية في الجزائر و المسئولة عن 100 بالمائة من صادرات البلاد البترولية.

جاري اليوم هو زميل و صديق شاركني ذات المكتب في جامعة العلوم السياسية بباريس لمدة عشر سنوات , "غسان سلامة" ,و قد تشاركنا بعدد من المحاضرات و البحث عن المنح أو العمل لطلاب الدكتوراة الذين كنا نشرف عليهم لقد تأسست بيننا صداقة قوية خلال هذه السنوات.
اليوم غسان يتزعم وزارة الثقافة و الفرانكوفونية اللبنانية ,و قلما أراه و ها نحن نستغل فرصة هذه الرحلةالمشتركة لقضاء خمس ساعات معاً كالأيام الخوالي. لنتحدث عن الزملاء بالعمل عن خلافاتنا ووجهات نظرنا حول طلاب الدكتوراة أو الثرثرة عن الحياة.

القمة العالمية للفرانكفونية كان يجب أن تقام في لبنان هذه الأيام و لقد عمل غسان بشكل حثيث و مضني ليجعل منها حدثاً ناجحاً بكل المقاييس , و لكن أحداث 11/سبتمبر غيرت خارطة الأشياء و التوقعات و سببت تأجيل هذه القمة "إنشالله" للسنة القادمة.
مع ذلك فإن القمة العالمية لجمعية التجارة العالمية و رغم أحداث سياتل و جنوى ستعقد تماماً كما كان متفقاً عليه. خلال خمسة عشر يوماً في "قطر". الإمارة التي تبث منها محطة الجزيرة.

الفرانكوفونية تبدو أكثر حذراً أو أقل عملاً و تصميماً , و من المؤسف فعلاً بأنها لم تستطع تأكيد ذاتها خلال السنوات التي يتم فيه التشكيك و التذمر من العالمية الأمريكية المسيطرة , لا سيما في عصر التعدد الثقافي في العالم الذي سنكون مضطرين لبنائه معاً.

ها أنا في طريقي إلى دمشق.
في بيروت فإن "طريق الشام",كما نسميه هنا, هو أولاً الخط الفاصل بين المنطقتين الغربية و الشرقية خلال الحرب الأهلية بين عامي 1975-1980 . في الشرق من الخط المنطقة "المسيحية الرجعية" , و بالغرب منه النطاق "المسلم- التقدمي" .
الحرب التي بدأت صراعاً بين أيديولوجيات العصر , إنتهت لحرب عصابات بلا رحمة و لا شفقة . سالت بها دماء الأطفال و النساء و الأطفال بمجرد وجودهم بالمكان غير المناسب و الوقت غير المناسب.
إنتهت الحرب في عام 1991 بعد إتفاق الطائف و تحت رعاية العربية السعودية (المملكة الوهابية السنية) , الإتفاق الذي كرس الوجود و الحماية السورية و إنتصار و هيمنة رئيس الوزراء (سني حتماً) على رئيس الجمهورية (مسيحي ماروني ).
اليوم فإن بيروت تبدو كورشة عمل كبيرة لإعادة البناء تحت رعاية رجل الأعمال ورئيس الوزراء "رفيق الحريري" .
تعود الحركة لوسط المدينة المدمر شيئاً فشيئاً بمقاهيه العصرية التي تذكرني بمقاهي "تل أبيب". اليوم فإن "السنة" و "الموارنة" ,المنتصرين و المهزومين, في الحرب يبدوان مهمشان ديموغرافياً أمام الوجود الشيعي و الذي إنتصر على الجيش الإسرائيلي و سجل له كأول إنتصار عربي في العصر الحديث على إسرائيل.
قبل أحداث 11 أيلول فإن الضربات الأكثر إيلاماً لأمريكا و الغرب في العالم الإسلامي, كانت آتية من جزئه الشيعي (ثورة إيران ,مجزرة المارينز الأمريكية و الجنود الفرنسيين التي قام بها حزب الله و التي أجبرتها على الرحيل عام 1983).
أحداث واشنطن غيرت المعطيات جذرياً.

جورج فيرانديز , أرسل لي منذ قليل "الألبوم" الذي قام به عن الحرب اللبنانية. لقد قمنا العام الماضي سوياً بعبور هذا الطريق حتى سهول البقاع , أستطيع اليوم أن أتعرف على الرسوم و التصويرات التي قام بها على البيوت التي مر بها خلال رحلته , كشاهد على وحشية الحرب و عمق الجرح اللبناني.في الوقتالذي تشعر به أمريكابالألم الشديد الذي يمكن أن تخلفه حرب متناقضة و بدون وجه كحرب لبنان.

على الحدود اللبنانية السورية , أستطيع التعرف على الجزء السوري بأبنيته التي تعود لعهد الإنتداب الفرنسي . لم أر هذا الجزء من الحدود على الطرف السوري منذ 24 عاماً.
و ذلك عندما كنت أدرس في المعهد الفرنسي بدمشق . عندما كنت أحاول و بدون نجاح أن أتعلم اللغة العربية تحت سلطة مدير المعهد البروتستانتي الذي لم يكن يتخيل تعلم اللغة إلا من خلال العذاب .
كنا نقوم أيامها مع بعض الرفاق في المعهد , بالهروب خلال عطلة نهاية الأسبوع "الويك أند" , من هذه المدينة التي تقبع تحت حكم ديكتاتوري يمكن الشعور بثقله حتى في العلاقات الشخصية. كنا نذهب إلى "ساحة المدافع" (رسمياً ساحة الشهداء , للأسف فإن هذا الإسم يناسبها أيضاً) , في هذه المدينة شبه المدمرة كنا نجد فيها كل ما كنا نفتقده في ظلال الحكم الإشتراكي السوري الذي كان يعاني من نقص في أغلبية المواد الأولية. لا سيما الخبز.
كانت تلك أول تجربة للطالب اليساري الذي كنته ,و التي نبهتني إلى "لا معقولية" و تناقض الإقتصاد الإشتراكي المدار من قبل الدولة.
الخدمات, "التاكسيات" التي كنا نكدس بها "ستة أشخاص",مرسيدس أو شيفروليه صفراء. و بعضها كان يحمل الخبز "الشامي" لبيروت . و في دمشق فقد كان الخبز المدعوم قاسي و بدون طعم و أحياناً خطير على الصحة, و يمكن أن تجد الحصى فيه أحياناً.
في محطة "التاكسي" لبيروت نجد سوقاً أيضاً حيث يباع الخبز اللبناني المصنوع من الطحين الأصلي. على الحدود فإن رجل الجمارك كان يغلق عينيه عن هذا التهريب, يفتح صندوق السيارة يأخذ نصيبه ثم يمضي.إنها عمولة الأرباح :).
أحياناً لسوء حظ عاثر لبعضهم كانوا يلاقون فيما بعد الجمارك المتحركة, و الذين سيفتشونه و يقلبون بضاعته رأساً على عقب. بعدها فإن سائق التاكسي سيلعن النظام غاضباً و يمضي مسرعاً بتهور إلى دمشق مصطدماً أحياناً بما يجد في طريقه من أعشاش الدجاج .

الطريق الذي كان ترابياً سابقاً قد أصبح "أوتوسترادا"اليوم , و نرى على الطريق لافتات ما زالت تعلن : "حافظ الأسد قائدنا".
لم أكن قد عدت إلى سوريا منذ موت الرئيس السابق حافظ الأسد و إستلام إبنه بشار الأسد دفة الحكم في البلاد. أتذكر أننا سخرنا طويلاً على هذه الجمهورية الإشتراكية و التي تحول بها الحكم إلى نوع من الوراثة, حتى أني سمعت من صلاح الدين إبراهيم في القاهرة مصطلحاً جديداً للتعبير عنها و هو "جملوكية": إنها لعنة السياسة العربية, القدر الذي نتوقعه لأبناء الرؤساء , عدي صدام حسين في العراق, أو جمال مبارك في مصر. منذ أن أصبح جورج بوش إبن الرئيس السابق بوش رئيساً بدورة ,فإن بشار صار يظهر كرائد لهذه الموضة :) .


يتبع الجزء الثاني.

مع فائق التحيات.
ابن سوريا.

سابقاً كنا نرى صورة الرئيس حافظ الأسد في كل مكان , تبقى صوره اليوم حاضرة مع علامة سوداء في زاوية الصورة وضعت بإعتناء .
ذكرني ذلك بالوضع بالمغرب حيث تبقى صور الملك حسن الثاني حاضرة مع صور الملك الجديد محمد السادس.
صور الرئيس الجديد بشار الأسد حاضرة أيضاً مع صورة الأب , و الإبن البكر المتوفى باسل الأسد ويظهر في الصورة كأنه يحمي أخيه الصغير الهش , بطلعته القوية .
باسل الأسد كان معداً لقيادة البلاد بإعتناء , و كان شخصية معروفة في البلاد قبل أن يتوفى بحادث سيارة بمرسيدسه التي قادها بسرعة, موت على طريقة الليدي ديانا.
نقول هنا بأن هذا الثلاثي يجسد الثلاثية في الديانة العلوية,طائفة أقلية في سورياو التي تتحكم بالسلطة بسوريا منذ عام 1963, و الذين يبجلون بالإضافة لمحمد , علي صهر الرسول و الصحابي سلمان الفارسي. مما يجعلهم كفرة بأعين السنة الأكثر أصولية كبن لادن.
بن لادن أراد كالرسول عندما هجر أهله (آل سعود في حالة بن لادن) و ذهابه لجبال أفغانستان أن يعود إليها كالرسول ليطرد منها اليهود و النصارى, كالرسول و صحابته.
قديماً كانت جماعة الرسول تغزو على قوافل التجارة بين بيزنطة و قريش , اليوم فإن ضربات بن لادن تتوجه نحو المصالح الغربية البترولية في الجزيرة العربية.

سوريا أصبحت أيضاً بلداً بترولياً , لم تكن كذلك منذ ربع قرن حين كنت أدرس بها .عندما كنت أسكن في حي أبو رمانة, شارع شكري العسلي . بحثت دون نجاح عن آثار ماري سورا المتسلقة وذكراهاو هي تقطف ثماراً صفراء لكي تحضر المربى.
أتذكر في ذلك الوقت ميشيل سورا* .الذي كان يسكن سوريا منذ أربع سنوات و يعتبر مدافعاً شرساً عن القضية العربية . كان يقرأ اللغة العربية بمهارة و يتقن اللهجة الدمشقية. زوجته كانت رائعة الجمال و كانت تأتي لتأخذه من المعهد الفرنسي في دمشق بعد إنتهاء المحاضرات بسيارة من نوع "الفا روميو" . ميشيل كان يصوت للشيوعيين.

عدة مرات دعانا عندهم للعشاء مع ضيوف يساريين سوريين, في بيتهم العربي خلف محطة الحجاز, و أتذكر مرة تلك الفتاة التي رأيتها بأحد السهرات. إمرأة بغاية الجمال و التي جعلت قلبي يخفق بشكل رهيب , كان اسمها شهرزاد و لم أرها بعدها.
كانت تلك السهرات الفرصة أيضاً -أعترف بذلك- لتذوق اللحم. فلقد كانت منحتنا قليلة بحيث كنا نقضي الوقت بأكل "المناقيش" (صفائح زعتر و زيت) .
في أحد أيام كانون الأول/ديسمبر 1977 و بينما كنا في مطعم في بيروت بدون علم مدير المعهد مع زميلنا بيير جان لويزار و الذي أصبح خبيرنا في العراق اليوم . فإن جيراننا في الطاولة المجاورة و بعد إنتهائهم من العشاء قاموا بسرقة المحل و التوجه إلينا و توجيه أسلحتهم بوجوهنا . أتذكر ذاك الخوف الشديد الذي إعتراني.
و رغم أننا شرحنا لهم بأننا قريبون فكرياً من جبهتهم التقدمية , فإننا لم نجد بالمقابل إلا الصفعات على وجوهنا.

في خريف عام 1985 و بعد أن رافقت ميشيل سورا إلى مطار أورلي في رحلة له إلى بيروت , قامت جماعة الجهاد الإسلامي و منذ وصوله للمطار بإختطافه و قتله فيما بعد في ظروف وحشية و مرعبة, بعد أن فصلوه عن بقية الرهائن و تركه يموت مختنقاً بنوبة سعاله. و هو يصيح : "لا أريد أن أموت هنا" , كما روى لنا جان بول كوفمان .
تصريح حركة الجهاد الإسلامي كان : " نعلن قتل الباحث الجاسوس المختص ..." . لن أنسى أبداً . طريقي إلى دمشق.



*Michel Seurat