جوزف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل للاقتصاد
يعرضها في كتابه الجديد ويشرحها لـ"النهار"
هـــذه كـــلــفـــة حــــرب الــعــراق
في أوج انهماك الاميركيين بالانتخابات الرئاسية التي تكاد تنسيهم اي موضوع آخر، بدأوا يسمعون أخباراً عن حربهم في العراق هي في احسن الاحوال مصدر قلق أو اضطراب كي لا نقول صدمة. فمع اقتراب الذكرى الخامسة لهذه الحرب بعد ايام، في 19 آذار الجاري، جاء جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 والمسؤول السابق في البنك الدولي والاستاذ حاليا في جامعة كولومبيا بنيويورك، ليقول لهم عمليا في كتاب وضعه مع زميلته في جامعة هارفرد ليندا بيلمز : انتم تعرفون انكم بالضرائب التي تدفعون تساهمون في تمويل الحرب، لكنكم قد لا تعرفون كلفتها والى متى ستواصلون الدفع، واذا كنتم تظنون ان الامر ينتهي بإنسحاب الجنود الاميركيين من العراق فانتم مخطئون. الانعكاسات ستستمر على الاقتصاد سنوات واولادكم لا بل احفادكم سيتحملّون الكثير من الاعباء المادية والمعنوية. انسوا ما سمعتموه من ادارة الرئيس جورج بوش عشية الحرب من ان الكلفة ستبلغ ما بين 50 ملياراً و60 مليار دولار، وانسوا حتى التقدير الذي وضعه لاري ليندسي المستشار الاقتصادي لبوش والذي بلغ 200 مليار دولار وبسببه خسر وظيفته، بل انسوا مئات المليارات التي اضافتها الادارة مذذاك علنا أو خفية، واسمعوا: الكلفة الحقيقية للحرب على الاميركيين لن تكون أقل من ثلاثة تريليون دولار والكلفة على العالم قد تكون ضعفي هذا المبلغ. وهذه التقديرات بحسب المؤلفين"متحفظّة". ومن يجد صعوبة في الحساب فليتذكر ان التيرليون يساوي مليوناً مضروباً بمليون.
هذا الرقم اختاره ستيغليتز وبيلمز عنواناً للكتاب الذي صدر في نيويورك قبل أيام، "حرب الثلاثة تريليون دولار: الكلفة الحقيقية لنزاع العراق". وهو حصيلة جهد استمر ثلاث سنوات لشخصين من أشد المعارضين للحرب منذ بدايتها ارادا احتساب كلفة الحرب واثبات خطأ القرار بالارقام وقد حاولا ذلك بجمع كم هائل منها ومن المعلومات المتاحة وغير المتاحة في الدفاتر الحكومية عن كل مجالات الانفاق على الحرب، معلنة كانت أم مكتومة، مباشرة أم مواربة، جارية أم مستقبلية، من كلفة العمليات العسكرية وانتشار الجنود الى انعكاساتها على الموازنة والاقتصاد، ومن كلفة معالجة الجرحى والرعاية الصحية الدائمة لهم الى تعويض الاعاقة واهالي الجنود القتلى، ومن الديون التي تتراكم الى الفوائد المتوقعة لهذه الديون. وقد يشكك كثيرون في المنهجية التي اتبعها المؤلفان، لكن ما يصعب التشكيك فيه هو الارقام والنفقات التي استندا اليها اذ كلها مستقاة من ارقام الحكومة والوزارات او الدوائر المعنية ومن الكونغرس والمؤسسات التي تعنى بشؤون الحرب ونتائجها.
ولعل هذا ما أثار غضب ادارة بوش فشنت هجوماً شرساً على ستيغليتز حتى قبل ان يدلي بشهادته أمام اللجنة الاقتصادية المشتركة في الكونغرس عشية اطلاق الكتاب، وقال البيت الابيض إن "أشخاصا مثل ستيغليتز تنقصهم الشجاعة لإجراء حساب كلفة عدم اتخاذ أي اجراء وكلفة الفشل. فالمرء لا يستطيع بعد أن يحصي كلفة اعتداءات 11 ايلول على البلاد".
"لم يقرأوا" قال لي ستيغليتز، لأن الكتاب "يتضمن حساب كلفة الفرصة الضائعة على صعيد الامن" وملخصها انه "في حين كنا (اميركا) نركّز على العراق صارت أفغانستان فشلاً جديداً. وفي حين كنا نركّز على العراق، حيث لم تكن هناك اسلحة دمار شامل، انضمت دولة جديدة هي كوريا الشمالية الى النادي النووي. لذا فان على كل من يفكّر في هذه الحرب ان يقول إنها جعلتنا أقلّ أمنا". لكنهم "يكررون ما فعلوه دائما أي محاولة تحويل الانظار عن فشلهم في العراق بالحديث عن 11 ايلول، ولا علاقة للعراق بـ11 ايلول". أما "قولهم إنني افتقدت الشجاعة لحساب ثمن الفشل، فارد عليه بالقول إنهم يفتقدون الشجاعة في معتقداتهم لانهم يؤمنون بالديموقراطية، والديموقراطية تعني ابقاء مواطنيك مطلعين على كل ما تفعل. هذا ليس إجراء دورياً. والمواطنون المطلّعون يجب ان يعرفوا ما هي كلفة قراراتك بما فيها قرار الحرب".
تشكيك ادارة بوش في أرقام ستيغليتز ليس مستغربا لان حساسيتها مفرطة حيال أية أرقام تناقض أرقامها وموقفها هذا صار نمطا. ففي تشرين الاول الماضي استخفت بدراسة لمكتب الموازنة في الكونغرس قدرت كلفة الحرب في العقد المقبل، أي حتى 2017 ، بنحو 2 تريليون دولار "كتقدير متحفظّ" ايضا، وتجاهل حتى الان طلبا من اللجنة لتقديم ارقامه بغية مناقشة الفوارق وجلاء أي التباس اذا كان هناك من التباس.
والسبب في رأي ستيغليتز "واضح جدا" وهو "ان الادارة لا تريد نقاشاً. لا تريد للاميركيين ان يفكروا في التكاليف التي نتحدث عنها".
والواقع ان التكاليف التي يتحدث عنها الكتاب مخيفة. ولكن قبل البدء بالجمع، قد يفيد بعض المقارنات الواقعية لاظهار اطار كلفة حرب العراق وحجمها:
- حرب العراق بسنواتها الخمس حتى الان هي أطول الحروب الاميركية بعد فيتنام. أطول من الحرب الاهلية بين الاميركيين التي استمرت أربع سنوات ومن مشاركة أميركا في الحرب العالمية الاولى والتي استمرت سنتين وشهرين ومشاركة أميركا في الحرب العالمية الثانية والتي استمرت ثلاث سنوات وثمانية أشهر وأطول من حربها على كوريا والتي استمرت ثلاث سنوات وشهراً.
- الكلفة المباشرة للعمليات العسكرية الاميركية في العراق من دون حساب التكاليف البعيدة المدى مثل الرعاية الصحية الدائمة للجنود المصابين تفوق حتى الان كلفة حرب فيتنام التي استمرت 12 عاما وتبلغ اكثر من ضعفي كلفة حرب كوريا. اما الحرب الوحيدة في تاريخ اميركا الاكثر كلفة، فهي الحرب العالمية الثانية اذ اشترك في القتال 3٫16 ملايين جندي وكلفت (بحسب قيمة دولار 2007) نحو خمسة تريليون دولار.
- بناء على الارقام المعروفة، تفوق القيمة الشهرية المقدرة لكلفة العمليات في 2008 (الكتاب انجز أواخر 2007) أو ما يسمى "النفقات الجارية" 12,5 مليار دولار في العراق في مقابل 4،4 مليارات شهريا عام 2003. واذا اضيفت النفقات المماثلة لافغانستان، يبلغ الرقم 16 مليار دولار شهريا، أي كلفة معدلها 138 دولاراً شهرياً على العائلة الاميركية الواحدة يذهب منها أكثر من مئة دولار الى العراق وحده. وهذا المبلغ الشهري، 16 مليار دولار، يعادل قيمة الموازنة السنوية للامم المتحدة ويبلغ ثلاثة اضعاف ما تنفقه أميركا سنوياً مساعدة للقارة الافريقية كلها.
- حتى كانون الثاني 2007 كانت أميركا لا تزال تدفع تعويضات للمحاربين القدامى في الحرب العالمية الاولى عندما توفي آخرهم بعد 90 سنة من انتهاء الحرب، ولا تزال حتى الان تدفع أكثر من 12 مليار دولار سنويا تعويضات اعاقة للمحاربين في فيتنام بعد 35 سنة من الانسحاب الاميركي. أما الحرب الاولى على العراق عام 1991، فمع انها استمرت بضعة أسابيع فقط وخلفت 147 قتيلاً و235 جريحاً، فإن 45% من أصل 700 الف جندي شاركوا فيها تقدموا بعدها بطلبات تعويض اعاقة وافقت الدوائر المختصة على 88% منها وهذه التعويضات تكلّف أميركا الان 4،3 مليارات سنويا.
من مثل هذه الارقام والنسب لما تنفقه أميركا اليوم في العراق، يحتسب ستيغليتز وبيلمز نفقات الحرب المصنفة في أربع فئات: الاولى، المال الذي انفق لشن الحرب. الثانية، النفقات المستقبلية المترتبة على الحرب والتي ستستمر حتى بعد توقف العمليات وهذه تشمل كلفة الرعاية الطبية للجنود وتعويض الاعاقة واستبدال المعدات العسكرية والاسلحة وترميم قوة الجيش وكلفة اعادة الجنود الى أميركا. الثالثة، النفقات "المخفية" المتعلقة بالحرب مثل زيادة أساس قيمة موازنة الدفاع وكلفة توسيع حجم الجيش. والاخيرة، كلفة الفائدة على الاموال التي اقترضتها اميركا لشن الحرب. فصل تلو فصل يجمع الكتاب الكلفة بتفاصيل مذهلة لا تترك أي جانب مغفلاً ليتوصل الى التقديرات "المتحفظة" لاعباء حربي العراق وافغانستان على الموازنة وهي في خطوطها العريضة: 464 مليار دولار كلفة العمليات العسكرية الى حين انجاز الكتاب، 913 ملياراً كلفة العمليات العسكرية المستقبلية، 717 ملياراً الكلفة المستقبلية للرعاية الطبية وبدل اعاقة للجنود، 404 مليارات كلفة اجراءات عسكرية اخرى مثل ترميم الجيش والغاء حال التعبئة وغيرها. المجموع يكون 2,680 تريليون دولار من دون اضافة الفائدة المقدرةّ قيمتها بـ816 مليارا، وبعد اضافتها يصير 3,496 تريليون دولار. ولافغانستان في هذا المجموع 841 ملياراً. لكن هذا الرقم لا يشمل تقديرات كثيرة عن كلفة الحرب على الاقتصاد وانعكاسات ارتفاع اسعار النفط وكذلك التكاليف الاجتماعية والبشرية التي يتكبدها المصابون والمحيطون بهم، كما لا يشمل كلفة الحرب على العراقيين واقتصادهم ولا كلفتها على العالم.
وما ساهم في رفع الكلفة الى حد كبير "خصائص غير عادية" لهذه الحرب حددها لي ستيغليتز هي: أولاً، "عندما تذهب دولة الى الحرب تطلب من مواطنيها المشاركة في التضحيات، لكنها المرة الاولى تذهب أميركا الى الحرب وتتخذ اجراء بخفض الضرائب عن الاغنياء، وهكذا فإن كلفتها المالية اُلقيت كلياً عملياً على الاجيال المقبلة" وهؤلاء سيدفعون لسنوات آتية وربما أكثر.
ثانياً، "في معظم الحروب، يُفتح باب التطوع ليتقاسم المواطنون الاعباء ولا يكون الجيش جيش مرتزقة. والجيش الان عموماً مرتزقة يقاتل من أجل المال وليس تلبية لدعوة التطوع. بمعنى ان عدداً كبيراً من المحاربين ليس متطوعاً بل هو مجبر على القتال سواء من الحرس الوطني واحتياط الجيش الذين استدعتهم الادارة للقتال، أو مجبر على البقاء في ساحة الحرب مدداً أطول من مهماته المحددة".
لكن أعباء قرار كهذا لا تقف عند هذه الحدود بل تزيد الكلفة كثيراً. فبديهي ان يتقاضى كل عنصر من الحرس الوطني واحتياط الجيش يقاتل في العراق راتباً كاملاً ويحصل على حق متساو في التعويض والرعاية الطبية في حال اصابته. لكن هذا يحصل على حساب ابقاء هذه العناصر في وظيفتها الاصلية داخل الحدود وهي ليست القتال وعلى حساب دفع الرواتب كاملة وليس اعطاؤهما بدل عمل اسبوعياً أو شهرياً عندما تستدعي الحاجة اليهم.
والاهم كما يظهر الكتاب ان هذا يعكس الصعوبة التي واجهتها الادارة في انضواء عناصر جديدة الى الجيش نتيجة المعارضة للحرب والكلفة المتنامية للاحتفاظ بالجنود وتدريب جنود جدد يحلون محل من يصابون أو يقتلون، فاضطرت تدريجاً الى مزيد من الاغراءات. في البدء رفعت الرواتب بنسبة 28% ولم تنجح في 2005 في بلوغ العدد المستهدف للمنضوين الجدد فبدأت بالتخلي عن بعض مقاييسها. فرفعت السن المطلوبة للمنضوي من 35 عاما الى 42 عاما. وفي 2006 بدأت تسمح لبعض المدانين بجرائم معينة بالانضواء، وبلغت العدد المستهدف في 2007 ليتبين ان اكثر من 73% من الجدد هم تلامذة مدارس ثانوية. ونتيجة لهذه التغييرات وغيرها ارتفعت كلفة إعداد الجندي من نحو 15 الف دولار عام 2003 الى كلفة مقدرة هذه السنة بنحو 19 الف دولار.
ثالثا، ما يجعل هذه الحرب "غير عادية" كما قال ستيغليتز هو "انها المرة الاولى يعتمد تخصيص الحرب الى هذا الحد، اذ يبلغ عدد المتعاقدين في العراق اليوم مئة الف شخص".
والواقع ان تخصيص الحرب، على ما يظهر الكتاب، أمر لا سابق له وكلفته تتجاوز موازنة الدفاع لتشمل وزارة العمل التي تدير البرنامج وتدفع ما يراوح بين 10 الاف و21 الف دولار تأمينا عن كل رجل أمن خاص، واذا أصيب هذا المتعاقد أو قتل في "عمل حربي" فيحق له بتعويضات مثل الجندي. وهذا يضيف 780 مليون دولار الى الكلفة على أساس حساب دفع معدل الف دولار اسبوعيا لمئة الف متعاقد.
لكن الاعتماد على المتعاقدين يزداد في العراق وهم يقومون بكل الاعمال من الطبخ الى التنظيف الى القتال وتشغيل أنظمة الاسلحة وخصوصا لعدم قدرة الادارة على زيادة عدد جنودها، وحصلت شركات الامن الخاصة على فرص استثنائية. فوزارة الخارجية وحدها مثلا انفقت أكثر من اربعة مليارات دولار في 2007 على هؤلاء في مقابل مليار واحد قبل ثلاث سنوات. وشركة "بلاكووتر"، التي حصلت عام 2003 على التزام بالتراضي قيمته 27 مليون دولار، بلغت قيمة عقدها بعد سنة مئة مليون وفي 2007 مليارا و200 مليون دولار ولها الان 845 متعاقداً امنياً خاصاً في العراق.
ولعل ما يتثر غضب الاميركيين في هذا الامر ان الحارس الخاص من "بلاكووتر" أو "دينكورب" يتقاضى 1222 دولارا يوميا اي 445 الف دولار سنويا مقارنة مع ما يرواح بين 140 و190 دولارا يوميا للجندي الاميركي اي ما بين 51 الفاً و69 الفاً سنوياً. وهذا ، استناداً الى الكتاب، وضع الجيش في منافسة مع نفسه لان الجندي الذي ينهي مهمته ينتقل الى العمل لدى شركة خاصة من أجل تحسين أوضاعه المالية. والكلفة في النهاية تتجاوز القيمة المادية لتصيب معنويات الجيش.
وما يجعل الحرب "غير عادية" رابعاً، على ما حدد ستينغليتز، انه "ربما نتيجة التقدم في الطب يساوي معدل الجرحى بالنسبة الى القتلى سبعة في مقابل واحد" وهذا ليس الا المعدل الرسمي، لكن المعدل الحقيقي هو 15 جريحا في مقابل كل قتيل اذ تبين له خلال البحث ان الادارة لا تكشف اعداد كل المصابين وتضع تصنيفات مختلفة لهم كأن لا تشمل بينهم من يصاب بحوادث سير او تحطم طائرات لانها لا تعتبر السبب "عملا حربيا". في أي حال "هذه النسبة المرتفعة من المصابين الذين يبقون على قيد الحياة لحسن الحظ تعني في الوقت نفسه تعويضات اكبر وكلفة رعاية أكبر".
واضطرار ستيغليتز وزميلته الى اللجوء الى قانون حرية الحصول على المعلومات لمعرفة عدد الجرحى في الحرب اضاف بالنسبة اليه ميزة خامسة هي "مستوى عدم صدقية الادارة".
لكن هذه الخصائص والامثلة عليها لا تحتكر الهدر أو اسباب ارتفاع النفقات. فهناك، حسب نظام المحاسبة المليء بالثغرات وتعدد الدفاتر في كل ما يتعلق بنفقات الحرب، تضيع &