http://www.almasry-alyoum.com/article.as...eID=100650
Arrayمصر بين الإضراب الافتراضي والحقيقي
بقلم د.عمرو الشوبكى ١٠/٤/٢٠٠٨
جاءت المواجهات الدامية التي شهدتها مؤخرا مدينة المحلة لتكشف عن فارق كبير بين نمطين من الاحتجاجات انتشرا في ربوع مصر في الفترة الأخيرة، أحدهما افتراضي قادته مواقع علي الإنترنت وبعض النشطاء السياسيين في العاصمة وحدث علي المواقع الإلكترونية وعبر رسائل الهواتف المحمولة، والفضائيات، والثاني حقيقي يجري عمليا علي الأرض وشارك فيه آلاف العمال والمهمشين والمحرومين وسقط فيه قتيل وعشرات الجرحي، وهو امتداد أكثر عنفا لسلسلة الاحتجاجات الاجتماعية التي كتبنا عنها مرارا، واعتبرناها المتغير الأهم لكونها خارج الأطر السياسية والحزبية الموجودة، بصورة قد تغير من المشهد السياسي في أوساط الحكم أو المعارضة.
وأحدثت الدعوة «الافتراضية» لإضراب ٦ إبريل تأثيرًا نفسيا كبيرًا، دفع وزارة الداخلية لإصدار بيان شديد الحدة وقليل الحكمة، فيه من لغة التهديد والوعيد ما أقلق عموم المواطنين ودفعهم للبقاء في منازلهم خوفا من حالة افتراضية لم تحدث في الواقع، وبدت شوارع القاهرة شبه خالية نتيجة الخوف من إضراب لم يحدث.
والحقيقة أن هذا التفاوت بين الافتراضي والحقيقي جاء بعد أن تعثرت حركات الاحتجاج السياسية، وفشلت في التواصل مع الجماهير، رغم أنها فتحت لها بابًا تاريخيا في القدرة علي الاحتجاج وكسرت نسبيا، ثقافة الخوف من التظاهر والنزول إلي الشارع لقول كلمة حق في وجه حكم جائر.
وبدت أمراض السياسة لا تختلف كثيرا في أوساط المعارضة عن الحكومة، وإن ظل الفارق الأساسي أن الأخيرة هي التي تحكم وفي يدها كل مؤسسات الدولة، وبالتالي هي مسؤولة، بالمناخ الذي سيدته، عن انهيار قوي المعارضة، وفشلت، ليس فقط في أن تكون ديمقراطية، إنما في أن تلبي الحد الأدني من حاجيات الناس.
والحقيقة أن الحكومة تعاملت مع إضراب العمال بسياسة العصا والجزرة، فقمعت، بقسوة، المتظاهرين، وبسطت يدها، وأعطتهم مكافأة شهرا في سخاء لم يعتادوا عليه، وإن كان لا يخلو من دلالة، فالحكم ناضل «بكفاءة» يحسد عليها من أجل وضع «بتوع» السياسة في ناحية، وأصحاب المطالب الفئوية في ناحية أخري، ولا يسمح للطرف الأول إلا بالقيام بالإضرابات الافتراضية، ويسمح للطرف الثاني بأن يطالب فقط بمطالب فئوية تتعلق بتحسين الرواتب وظروف العمل دون أي حديث في السياسة.
وقام الحكم تطبيقا لهذا الفهم، بصرف مكافأة مالية فورية للعمال، حتي تصل الرسالة واضحة، بأن الحكومة هي التي في يدها المال وهي القادرة علي أن تلبي مطالب العمال، لا المتظاهرين وأصحاب الشعارات السياسية.
والمؤكد أن الحكومة حققت قدرًا كبيرًا من النجاح في فصل السياسة عن المطالب الاجتماعية، وابتكرت أساليب متعددة حتي قضت علي الأحزاب، وهمشت من دور الحركات السياسية الجديدة، وقضت علي استقلال النقابات ،وحولت معظمها إلي كيانات مسخ للحكومة والإدارة، دون أي تأثير حقيقي، ساعدها في ذلك تلك اللغة الخشبية التي لايزال يستخدمها كثير من السياسيين، وغياب ثقافة ديمقراطية عن أحزاب المعارضة، إلا أن مسؤولية الحكم عن قتل السياسة تظل أساسية.
ومن هنا فإن الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع نتائج الإضراب الحقيقي تؤكد المنحي السابق نفسه، وهو أن هناك مطالب اجتماعية مشروعة، يمكن حلها بالتلفيق تارة والترضية تارة أخري، وتكون عادة «حكمة الرئيس» هي المفتاح السحري لأي حل، وليس التظاهر أو المطالبة بالإصلاح السياسي.
والمؤكد أن هذه الطريقة التي طبقت حرفيا ــ وبسخاء ــ عقب إضرابات المحلة، هي امتداد للسياق نفسه الذي تعيشه مصر منذ ٢٥ سنة، وأوصلها إلي ما هي علية، ويعني، ببساطة، أن عدم حل أي مشكلة حلا جذريا أو حقيقيا إنما جعلها تمشي لبعض الوقت حتي تقع، ثم تقوم وتمشي علي عكاز وتقع مرة أخري، وتعود وتوضع علي نقالة في انتظار مصيرها المجهول.
وهذا في الحقيقة ما نشاهده الآن، فالاحتجاجات الاجتماعية المتزايدة والتي تقع خارج كل الأحزاب والكيانات السياسية، لا يمكن حلها علي طريقة «العلاوة ياريس»، فليس في طاقة الحكومة فعل ذلك طول الوقت، لأن المشكلة في طريقة الحكم، وليس في عدم وصول المعلومات الصحيحة إلي الرئيس، أو في عدم تطبيق الوزراء توجيهاته أو عدم تنفيذ برنامجه الانتخابي، إنما المشكلة في استمرار طريقة وفهم واحد للحكم تعامل مع المشكلات بطريقة المسكنات لمدة ٢٧ عاما.
ومن المؤكد أن مصر لم تعرف عهدا امتلك مهارة تسكين الأزمات وترحيل المشكلات، مثلما جري في العصر الحالي، فعلي مدار أكثر من ربع قرن امتلك الحكم مهارات نادرة في تمييع كل شيء وفي عدم حسم أي أمر، ورحل ببراعة نادرة مشكلات متراكمة، حتي تفاقمت وصارت مستعصية علي الحل.
وعلينا أن نقر ببراعته في تسكين أحوال البلاد والعباد، بصورة جعلته يستمر كل هذه الفترة رغم محدودية فكر وسوء إداراته، ونجح عبر هذه المسكنات أن يصمد أكثر من ربع قرن، ولكن علي ما يبدو أنه لن يستطيع الفكاك من خطر النهاية، حين بدأت الاحتجاجات الاجتماعية تأخذ منحي خطرا معلنا مرحلة «الانهيارات الأخيرة»، واتضح معها أنه لا توجد أي قدرة للحكم الحالي علي مواجهة أسباب المرض، إلا بالمسكنات حتي أصبحت تقيحات أصابت الجسد برمته.
إن سياسة إدارة الدولة المصرية بطريقة المسكنات جعلت هناك إحساسا عاما وغير مسبوق بأن النظام ليس له صاحب، وأن معظم من يؤيدون الحكم في العلن وينتقدونه في السر، لأنه بلا ملامح سياسية واضحة ولا يتحرك إلا في اللحظة الأخيرة حين تتحول المشكلة إلي مصيبة، أما ما دون ذلك فهو يستعمل قفاز التسكين الناعم في مظهره الخارجي، فتتعقد المشكلة وتتفاقم، حتي تصبح معضلة وأزمة مستعصية علي الحل.
واهم من يتصور أن إضراب المحلة لن يتكرر في مواقع أخري وبصورة أكثر عنفا وخطرا، وواهم أيضا من يتصور أن القوي الاحتجاجية الجديدة لها أي علاقة بأحداث المحلة، إنما الخطر الحقيقي الذي بات يهدد مصر أن هناك «قوي افتراضية» في الحكم والمعارضة يبدو وكأنها تحكم وأخري تبدو وكأنها تعارض وكلاهما يعيش في واقع افتراضي ليس له أدني علاقة بالواقع المعاش، ونمت عنهما أنماط من الفوضي والعشوائية والاحتجاجات الاجتماعية من المستحيل إيقافها بالحكم الحالي، وسيدفع الجميع ثمنًا باهظًا لتغيب السياسة، وإيقاف عملية الإصلاح والتطور الديمقراطي.
من المؤكد أن الواقع الحقيقي أصبح ينبئ بانفجارات كبري وعشوائية، لا يجب البحث عن أسبابها عند السياسيين ولا صحف المعارضة، لأنها ستكون احتجاجات خام لم تمر عبر مصفاة حزب أو نقابة، تهذب من سلوكها ومطالبها وتضعها في قالب تفاوضي مع السلطة كما يجري في الدول الديمقراطية، إنما ستكون شديدة العنف والقسوة ولن يستطيع أحد إيقافها.
علي الحكومة أن تجهز من الآن شهرًا من خزينة الدولة لتصرفه للمضربين كل مرة، وإلا ستكون العواقب وخيمة، والمؤكد أنه لا الإضرابات ستتوقف، ولا الحكومة ستكون قادرة كل مرة علي الدفع وسداد فاتورة البقاء الطويل في الحكم.[/quote]