على طريقة بسام الخوري :)
نهاية عهد المناضل المحترف
بقلم ياسر عبد العزيز ٢٧/٤/٢٠٠٨
كنت قد لاحظت، كما أنكم أكيد لاحظتم، اهتماماً كبيراً من قبل وسائل الإعلام معظمها بالتركيز علي صورة إسراء ودورها المفترض في إضراب ٦ أبريل، وهو الأمر الذي فسره لي أكثر من صحفي وإعلامي بأن «الناس تريد بطلاً، والبنت تستحق».
حدثني أحدهم باهتمام شديد عن «صورتها التي تشبه صورة بي نظير بوتو»، كما أسرف لي آخر في مديحها بشغف؛ معتبراً أن الذهول البادي علي ملامحها وقت ترحيلها إلي السجن «ثقة تليق ببطلة ومفجرة ثورة». وبالطبع، كنت حريصاً جداً علي محاولة ضبط مشاعر زملائي وأصدقائي، سواء من الكتاب أو القراء، حيال «البطل الغائب»، أو إسراء، وهو الأمر الذي لم يتسن تحقيقه بسهولة.
بعبارة واحدة لخصت إسراء وضعها الراهن في سياق التغيير السياسي الذي تشهده البلاد، كما أعطت لجمهورها ومؤيديها والمتعاطفين معها والمتابعين للعمل الوطني، في شقه النضالي، في آن واحد، الإشارات الدالة إلي طريقتها في التعامل المستقبلي مع المتغيرات والتطورات السياسية المتسارعة والحادة، العبارة المقصودة قالتها إسراء حين أمسكت بملابس محاميها أمير سالم صارخة: «والنبي ما تسيبني يا أستاذ أمير».
فقد خرجت إسراء من محنة الحبس والاعتقال «تائبة» عن كل الأنشطة التي أدت بها إلي هذا الموقف الحرج؛ ويبدو أنها أعلنت لمؤيديها «تنحيها تماماً ونهائياً عن أي دور سياسي، وأي منصب رسمي، لتعود إلي صفوف الجماهير، تؤدي واجبها بينها».
وعندما سئلت إسراء، في المقابلة التي أجرتها معها «المصري اليوم» إثر الإفراج عنها ووصولها إلي منزل أسرتها، عن إضراب ٤ مايو المزمع، أجابت بثبات: «لم أسمع عنه، ولن أسمع عنه، ولن أشارك فيه، فقد أعلنت التوبة».
من أول مواجهة «حقيقية غير إلكترونية» أعلنت إسراء التوبة، وشكرت وزير الداخلية علي «القرار الإنساني» الذي اتخذه بالإفراج عنها، وستتوجه أمها إلي العمرة لتدعو للوزير وللرئيس مبارك، بعدما ناشدتهما علي صفحات الجرائد الإفراج عن ابنتها. ولن تنسي أم إسراء أيضاً الدعاء لابنتها نفسها بأن «يكفيها شر ولاد الحرام وتفرح بيها».
أما عم إسراء فقد أكد أن الأسرة «تخلصت من الكمبيوتر»، بعد ما حصل للابنة، بنت الـ ٢٨ عاماً، بسببه، ويبدو أن الجميع عازمون علي عدم تكرار ما حصل مهما كانت الأسباب، بالرغم من إصرار إسراء علي أن السجن الذي اعتقلت به كان أقرب إلي فنادق الخمس نجوم «وكان فيه شيكولاته».
بدخول إسراء السجن علي خلفية اتهامها بـ «التحريض علي إضراب ٦ أبريل»، تكون تلك الفتاة الطيبة قد دخلت تاريخ البلاد باقتدار وعن جدارة، باعتبارها من أنهت عهد «المناضل المحترف»، ودشنت عهد «المناضل الإلكتروني».
وكما تعلمون جميعاً، فالمناضل المحترف هو ذلك الناشط، أو الناشطة، الذي امتهن النضال السياسي بأشكاله المختلفة. وعلي مر التاريخ في مصر كان هناك مناضلون يدفعون أثماناً باهظة لقاء نضالهم؛ منهم من حقق مبتغاه وحصد النجاح والمجد، ومنهم من تعرض لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل، ولقي ربه قبل أن يكتب له جني ثمار كفاحه، وتحقيق أهدافه السياسية التي أفني عمره من أجلها.
ولا شك أن أسماء العديد من الأبطال والبطلات سترد علي ذهن أي منا حين نتحدث عن محترفي النضال، خصوصاً أن العقود الأخيرة، منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي تحديداً، شهدت موجات من النضال المتباين، التي دفع بسببها سياسيون وتكنوقراط وفنانون وشعراء وأدباء وعمال وطلبة سنوات طويلة من أعمارهم في غياهب معتقلات حقيقية غير إلكترونية، أو قضوا تحت وطأة التعذيب بآلاته البشعة، ومعظمهم ما فرط فيما ذهب إليه وما بدل تبديلاً.
لكن التغيرات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة مع موجة التكنولوجيا الهائلة في زخمها وتطورها وتأثيرها، حوَّلت الكثير من أنشطة حياتنا إلي الآلية الإلكترونية؛ ومن ذلك التعليم الذي بات إلكترونياً في جانب منه مهم، والتسوق، والتعامل مع المصالح الحكومية، والتواصل مع الأهل والأصدقاء، والانخراط في العلاقات الإنسانية بأنواعها، والدعوة إلي الأديان والمعتقدات، وجميع أنشطة الإعلام، ومحاربة الأعداء، وأخيراً النضال السياسي.
لقد توهمنا بطلاً، في مرحلة عجزنا وتيهنا، فأسبغنا علي إسراء رداء البطولة، وتوسمنا فيها آياتها، فحمّلنا الابنة اللطيفة بأكثر مما تحتمل، وكان رد الفعل قاسياً «توبة نصوحاً عن النضال والفضاء الإلكتروني في آن».
سيغير المناضلون الإلكترونيون تكتيكاتهم؛ فلن يعلنوا أسماءهم الحقيقية، وستتواصل الدعوات إلي الإضرابات والاعتصامات، وستنهمر الرسائل التي تؤطر حالات اليأس والحنق والغيظ من سياسات الحكومة وفساد الإدارة والغلاء وقلة الأجور، ومن جانبها ستجتهد السلطات في تعقب «المتورطين»، وترقيع الرتوق، ودفع الرشاوي والإتاوات.
لا تعولوا علي المناضل الإلكتروني؛ فما أسرع ما سيتوب، ويغلق جهازه، ويرحل، أو يسجل في مجموعة بريدية أخري.