Array
صديقي:
بما أن المقال قديم وابن العسال ليس له حقوق طبع هههههه سأقوم على تصويره قريباً وأرفعه هنا.
على فكرة.. اليوم كنت أتصفح كتاب بالانكليزية لـ فنسنك وهو عن الميامر النسكية لـ مار اسحق السرياني. فاكر فنسنك؟ بتاع الحديث [ مفتاح كنوز السنة : هو معجم مفهرس عام تفصيلي / المؤلف: فنسنك، أرنت يان. عبد الباقي، محمد فؤاد.].. المرجع القيم إياه اللي نزلناه من المكتبة الإالكترونية. في أول صفحة للكتاب يتعرض للتصوف الإسلامي ويقابل بين مفاهيم مثل الـ "أسباب" means ويتحدث عن قيمة الـ "ملامة" في التصوف الإسلامي/ المسيحي كمفاهيم مشتركة وربط الاتنين بالإمام الغزالي المتصوف. أحببت أن أذكر لك هذا فلربما تعرف صديق يعمل رسالة ماجستير ويبحث عن التقارب في التصوف بين الاتنين... وطبعا في ميمر الحمامة قام البطريرك إغناطيوس زكا عيواص بالربط بين ابن العبري والإمام الغزالي ربط جميل ممتع.
[/quote]
الملامتية في التصوف الإسلامي
حقيقتهم، وأنواعهم، وصورتهم عند السلفيين الجدد
د. مصعب الخير إدريس السيد مصطفى الإدريسي
أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد ـ كلية أصول الدين
الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد ـ باكستان
الحمد لله المتوحد بجلال ذاته وكمال صفاته، المتقدس في نعوت الجبروت عن النقص وسماته. والصلاة والسلام على نبيه سيدنا محمد المؤيد بساطع حججه وواضح بيناته، وعلى آله عِتْرَةِ النبي وذُرِّيَاتِه، والرضا على أصحابه هُداةِ طريق الحقِّ وحُماتِه، وعلى سائر الصالحين التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فقد حضرتُ لبعض الشيوخ دروسا تُلقَى في حدود ضيقة، وكانوا مع سعة علمهم بفنون اللغة وعلوم الشريعة، وما يدركه القريبون منهم من حسن عبادتهم وإخباتهم لربهم، لا يَتعرَّضُون للخطابة العامة، ولا يشتغلون بالفتوى، ويسيرون في الناس سِيرَةَ العَوَامِّ لا يتميزون عنهم بسَمْتٍ مَخْصُوص.
وسمعتُ في أوَّلِ صباي عن أبي وأعمامي ـ رحمهم الله ـ أنَّ درويشا فقيرا كان يحضر إلى ديوان الأسرة في صعيد مصر، وكان إذا سمع القرآن يُتْلَى في مجلسٍ سارع إلى الهرب من المكان، وكان يعتذر عن ذلك إذا سئل بأنه لا يتحمل السماع؛ لأنه يسمع القرآن بكُلِّ جوارحه لا بأذنه فقط.
ورأيت شابًّا في إحدى القرى القريبة من قريتي تبدو عليه سِمَاتُ التخلُّفِ العقلي، والظاهر أنه ليس من أهل التكليف، ومع ذلك كان في الناس من يَعدُّه من أهل الولاية؛ فلما تَوفَّاه الله ـ تعالى ـ جعلوا قبره ضريحا، وأقاموا له مولدا كبيرا بزعم أنه من أهل الولاية الخَفِيَّةِ.
وكان يقال في هؤلاء وغيرهم: إنهم ملامتية. ولم أكن في ذلك الزمان البعيد أعرف حقيقة أهل الملامة بوضوح، ولا أدرك رتب أنواعهم المختلفة بصورة ظاهرة عند سالكي الطريق بالحق؛ غير أني حفظت من الحديث ما سمعته على ألسنة الشيوخ مما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النَّبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ قال: «رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ» . وما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً؛ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَأرْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلا تَعُدُّوهُ». قالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بالأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا؛ إِلاّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» . وَمِنْ وُجُوهِ بَيَانِهِ أَنَّه يُشِيرُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلَيْهِ بأَصَابِعِهِمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلانٌ الْعَـابِدُ، أَوْ الْعَالِمُ. وَيُطْرُونَ فِي مَدْحِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بَلاءٌ وَمِحْنَةٌ لَهُ. وَمَنْ عَصَمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ فقد حَفِظَهُ وجَعَلَ لَهُ مَلَكَةً يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى قَهْرِ نَفْسِهِ؛ بِحَيْثُ لا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ، وَلا يَسْتَنْفِرُهُ الشَّيْطَانُ بسَبَبِهِ ؛ لكن هذا لم يكن يعني عندي أنَّ كُلَّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ، ولا كل من ابْتَدَعَ في الدين أو ابْتُدِعَ له أو بسببه ـ يمكن أن يُعَدَّ في الملامتية والصوفية.
ولما انتقلت إلى القاهرة مع بدء الدراسة الجامعية؛ عرفت أقواما ينكرون التصوَّفَ جُمْلَةً بلا تمييز بين الحقِّ الظاهرِ والباطلِ البَيِّن، ولا تَوَقُّفٍ عند النظر فيما يشتبه من أحكام بعض المعاملات والعبارات، وسمعتُ من ذلك وقرأتُ ما لم أكنْ أتصوَّرُ من قبلُ أنه يُقالُ ويُكتَب. ثمَّ درستُ مادَّةَ التصوُّفِ في كُليَّةِ دار العلوم مع الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه «قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة»؛ فعرفتُ أنَّ في الساحةِ اتجاهًا ناقِدًا مُعتدلا يَقبلُ ما يَثبُتُ في رؤيته أنَّ له أصلا في الكتاب والسنَّةِ، ويَردُّ ما يَثبُتُ أنَّه مُخالفٌ لهما، أو مُعارِضٌ لما هو مَعروفٌ عنده من سيرة السلف الصالح. ولئن خَالفَهُ الصُّوفِيُّ أو المُتَصَوِّفُ في بعضِ آرائه وأحكامه؛ فهناك مِساحَةٌ رَحْبَةٌ للنِّقاشِ وَرَجْعِ النَّظَرِ ومُعارَضَةِ الدليل بالدليل؛ فليس من الصَّوابِ تركُ الحقِّ لتَسَتُّرِ بعض المُبطلين به، ولا حَمْلُ الباطل عليه لإشاعة قَبُولِه أو السكوتِ عنه بين الناس.
وليس من باب الاستطراد أن أُسَجِّلَ إعجابي بأستاذنا الدكتور الجليند حينما درَّسَ لنا في مرحلة تمهيدي الماجستير في مكتبه الخاص بعيدًا عن قاعات المُحَاضَراتِ العامَّة، فكلَّف طلابَه أن يُقدِّم كُلُّ واحدٍ منهم تقريرًا عن كتابٍ من مكتبة الفلسفة الإسلامية التي تضم مجال التصوف، فكتبتُ عن كتاب الحارث بن أسد المحاسبي «الرعاية لحقوق الله»، وكتب أحد زملائي عن كتاب لأبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني، وحينما شرع ذلك الزميل في تقديم تقريره أخذ في الثناء على الإمام الشعراني قُطْبِ زمانه الأوحد، ثمَّ عمد إلى استئذانه في عرض الكتاب وبيان ما فيه.
ولقد سمعتُ صدرَ خُطبةِ الزميل الذي كان مجلسه عن يميني، ثُمَّ أخذني وَهْمُ تَخيُّلِ الأستاذ يُلقي عليه مَكْتبَهُ، أو يَنفُضُ على رأسه ما بين يديه، وكدتُ أغادرُ مجلسي إلى جوارِ المُتَحَدِّثِ نَجَاةً بنفسي؛ لكنَّ الأستاذ كان يسمع في وَقَارِهِ المعهود، ولا يبدو عليه شَيْءٌ من سماتِ الدَّهْشَةِ والاستغراب. وحينما سَخِرَ أحدُ الزملاء الحاضرين مِمَّا يسمعُ عَنَّفَهُ الأستاذُ وتَهدَّدَهُ بالفَصْلِ والطَّرْدِ من مجلس الدراسة؛ حتى إذا انتهى المُتَحَدِّثُ من تقريره علَّقَ الأستاذُ عليه بما ينبغي في العلم من حيثُ المنهجُ والأفكارُ المطروحة، ثم أتاح لنا مُناقشته.
ولقد تابعتُ دراستي بعد ذلك تحت إشراف شيخي الأستاذ الدكتور حسن الشافعي الذي يَلْتَحِمُ في حياته السلوكُ بالعلم؛ فلا تعرف أهو صُوفِيٌّ مُتَكَلِّمٌ، أم مُتَكَلِّمٌ صُوفِيٌّ، ومعَ إدراكِكَ أنَّه العالمُ الفَذُّ المنشغلُ بالعلم جمعًا وعطاءً ونقدًا في مجال اختصاصه، وَمُتابَعَةً لِكُلِّ جديدٍ في العُلُومِ والآدابِ وأحوالِ النَّاس، تُوشِكُ أن تَزْعُمَ من حُسْنِ لقائه للخلق وسعيه في خدمة عباد الله ـ تعالى ـ ومشاركاته في المجامع العلمية أنه لا يفرغ من ذلك لشيء سواه!!
ولقد أسعدني أنَّ الشيخ الجليل ردَّني إلى ما كان يشغلُني في أوَّلِ صباي، حينما كلفني كتابة تعريف موجز بالملامتية في التصوف الإسلامي؛ ليكون من مادة التعريف بهم في موسوعةٍ علميَّةٍ يُزمِعُ إصدارَها المجلسُ الأعلى للشئون الإسلامية التابعُ لوزارة الأوقاف بمصر، ولئن اقتصرت مادة ذلك التعريف الموجز على كلام الصوفية أنفسهم، وبيان صورة الملامتية ورتبتهم في طريقهم؛ فإنني وجدت في ذلك فرصة طيبة لإنشاء بحث أوسع يتناول بيان حقيقة الملامتية، وأنواعهم، وأصول المتحققين منهم ومسالكهم في التربية وتزكية النفس من خلال التراث الصوفي، ثم يتعرض لبيان صورة الملامتية عند خصوم التصوف والصوفية من السلفيين الجدد، الذين لقيت من عَنَتِهِمْ عندَ أوِّلِ مَقْدِمِي للدراسة بالقاهرة ما لقيت.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ..
اسم الملامتية وحقيقتهم:
اسم «الملامتية» اشتهر على طائفة من صوفية المسلمين، والنسبة فيه على غير قياس إلى «الملامة»؛ أي العَذْل، وكذا اللَّومُ واللّوْماءُ واللَّوْمَى واللائمة، وقد أنشد الخليل بن أحمد:
ألا يا جارتي غُضِّي عن اللَّوْماءِ والعَذْلِ
ويقال: لامَه على كذا يَلومُه لَوْمًا ومَلامًا وملامةً ولوْمةً؛ فهو مَلُومٌ ومَلِيمٌ. وَألامَهُ بمعناه. ويقال: أَلامَ الرجلُ؛ أَتى ما يُلامُ عليه. وقال سيبويه: ألامَ؛ صارَ ذا لائمة، ولامه أخبر بأمره، واسْـتلامَ الرجلُ إلى الناس؛ أي استَذَمَّ. واستَلامَ إليهم؛ أَتى إليهم بما يَلُومُونه عليه. قال القُطامي التغلبي:
فمنْ يكن اسْتلامَ إلى ثَوِيٍّ فقد أَكْرَمْتَ يا زُفَر المتاعا
ويقال: أَلامَ الرجلُ فهو مُليم؛ إذا أَتى ذَنْباً يُلامُ عليه. قال الله ـ تعالى ـ: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات/ 142]. وفي النوادر: لامَني فلانٌ فالْتَمْتُ، ومَعّضَني فامْتَعَضْت؛ وعَذَلَني فاعْتَذَلْتُ...
ورجل لُومَةٌ يَلُومُه النَّاسُ، وَلُوَمَة يَلُومُ النَّاسَ؛ مثل: هُزْأَة وهُزَأَة. ولاوَمْتُه؛ لُمْته ولامَني. وتَلاوَمَ الرجُلان لامَ كلُّ واحد منهما صاحبَه. وجاءَ بلَوْمَةٍ؛ أي ما يُلامُ عليه .
ولقد كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (تـ638هـ) يعترض على اسم «الملامتية»، ويرى أن هذه النسبة لغة ضعيفة، ويسميهم «الملامية» ، ومن قبل كان الهجويري علي بن عثمان الجلابي (تـ465هـ) قد عقد في كتابه «كشف المحجوب» بابا لبيان الملامة، ثم سمَّى أصحابها في الكلام عن فرق الصوفية الفرقة «القصارية» نسبة إلى شيخهم الأول أبي صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار (تـ271هـ) .
وأول صوفي أفردهم بالكتابة هو الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي (تـ411هـ) في رسالته «أصول الملامتية»، وقد قرر في صدرها أنه لا يوجد لهم كتب مصنفة، ولا حكايات مؤلفة، وإنما هي أخلاق وشمائل ورياضات ، ثم روى عن أبي حفص عمر بن سَلَمة النيسابوري (تـ270هـ) في بيان سبب نسبتهم إلى الملامة أنه قال: «أهل الملامة قومٌ قاموا مع الله ـ تعالى ـ على حفظ أوقاتهم، ومراعاة أسرارهم، ولاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا مِن أنواع القُرَب من الصلاة وغيرها، وكتموا عنهم محاسنَهم عن الخلق، وأظهروا لهم قبائح ما هم فيه؛ فلامهم الخلْقُ على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفون مِن بواطنهم؛ فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب، وتصحيح الفِراسة في الخلق، وإظهار الكرامات عليهم؛ فأخفوا ما كان من الله ـ تعالى ـ إليهم بإظهار ما كان منهم في بدء الأمر من ملامة النفس ومخالفتها؛ ليتنافر الخلق عنهم ويسلم لهم حالهم مع الله ـ تعالى». وعن الشيخ حمدون القصار أنه قال عن طريق الملامة: «ترك التزين للخلق بكل حال، وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأفعال، وألا يأخذك فيما عليك لله لومة لائم بحال» .
وذكر السلمي أنه سمع جده أبا عمرو إسماعيل بن نجيد يقول: «لا يبلغ الرجل شيئا من مقام هؤلاء القوم؛ حتى تكون أفعاله عنده كلها رياء، وأحواله كلها دعاوى». وروى جواب بعض شيوخ الملامتية عن أصل طريقتهم: «تذليل النفس وتحقيرها، ومنعها مما تسكن إليه، أو يكون لها فيه راحة وإليه ركون» .
وهذا ما عبَّر عنه شرف الدين أبو عبد الله محمد البوصيري (تـ695هـ) في قصيدة البردة حيث قال:
وَحَاذِرِ النَّفْسَ وَالشَّيْطانَ وَاعْصِهِمَا *** وَإنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يرى أنهم اختصوا بالاسم المنسوب إلى الملامة لوجهين: أحدهما أن الشيوخ أطلقوه على تلاميذهم لكونهم لا يزالون يلومون أنفسهم في جنب الله، ولا يخلصون لها عملا تفرح به تربية لهم؛ لأن الفرح بالأعمال لا يكون إلا بعد القبول، وهذا غائب عن التلاميذ. والوجه الثاني مختص عنده بالشيوخ الأكابر في سترهم أحوالَهم ومكانَتَهم من الله حين رأوا الناس إنما وقعوا في ذم الأفعال واللوم فيما بينهم فيها؛ لكونهم لم يروا الأفعال من الله، وإنما يرونها ممن ظهرت على يده فناطوا اللوم والذم بها.. قال: «فلو كشف الغطاء ورأوا أن الأفعال لله؛ لما تعلَّق اللومُ بمن ظهرت على يده، وصارت الأفعال عندهم في هذه الحالة كلها شريفة حسنة. وكذلك هذه الطائفة لو ظهرت مكانتهم من الله للناس لاتخذوهم آلهة، فلما احتجبوا عن العامة بالعادة انطلق عليهم في العامة ما ينطلق على العامة من الملام فيما يظهر عنها مما يوجب ذلك، وكأن المكانة تلومهم حيث لم يظهروا عزتها وسلطانها، فهذا سبب إطلاق هذا اللفظ في الاصطلاح عليهم. وهي طريقة مخصوصة لا يعرفها كل أحد انفرد بها أهل الله، وليس لهم في العامة حال يتميزون بها».
وقال ابن عربي عقب ذلك: «واعلم أن الحكيم من العباد هو الذي يُنزل كلَّ شيء منزلتَه ولا يَتعدَّى به مرتبتَه، ويُعطي كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا يحكمُ في شيء بغرضه ولا بهواه، ولا تؤثر فيه الأعراضُ الطارئة. فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي قد أسكنه اللهُ فيها إلى أجل، وينظر إلى ما شرع اللهُ له من التصرُّفِ فيها من غير زيادة ولا نقصان؛ فَيَجري على الأسلوبِ الذي قد أُبينَ له، ولا يضع من يده الميزان الذي قد وُضِعَ له في هذا الموطن، فإنه إن وَضَعَه جَهِلَ المقادير؛ فإمَّا يُخْسِر في وزنه أو يُطَفِّف وقد ذمَّ الله الحالتين». وهذا يعني في وضوح التزام أهل الملامة المتحققين بظواهر الشريعة وترك مخالفتها فيما يظهر من الأعمال، وفيما يعمدون إلى ستره وإخفائه؛ حتى إن ابن عربي ليقول: « فالشريعة كلها هي أحوال الملامية» .
ومن جملة هذا الكلام أخذ الشريف الجرجاني ما كتبه عن الملامية في «التعريفات»، فقال: «الملامية: هم الذين لم يظهروا ما في بواطنهم على ظواهرهم، وهم يجتهدون في تحقيق كمال الإخلاص، ويضعون الأمور مواضعها حسبما تقرر في عرضة الغيب؛ فلا تخالف إرادتهم وعلمهم إرادة الحق ـ تعالى ـ وعلمه، ولا ينفون الأسباب إلا في محل يقتضي نفيها، ولا يثبتونها إلا في محل يقتضي ثبوتها، فإن من رفع السبب من موضع أثبته واضعه فيه؛ فقد سفه وجهل قدره، ومن اعتمد عليه في موضع نفاه؛ فقد أشرك وألحد» .
وفي المسألة فقه ظاهر ومشربٌ صوفي سيأتي بيانه، وغاية القول هنا أن أكثر أهل الملامة منقادون في ستر أحوالهم وأعمالهم لمحاولة تمحيص الإخلاص والتحقق بكماله في عبادتهم لله ـ تعالى ـ قدر الطاقة، على نحو ما فصله الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السُّهْرُوَرْدي (تـ632هـ) في كتابه «عوارف المعارف»؛ حيث قال: «الملامتية لهم مزيد اختصاص بالإخلاص، يرون كتم الأحوال والأعمال ويتلذذون بكتمها؛ حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد استوحشوا من ذلك كما يستوحش العاصي من ظهور معصيته. فالملامتي عظم وقع الإخلاص وموضعه وتمسك به معتدا به، والصوفي غاب في إخلاصه عن إخلاصه». وحكى السهروردي أن بعض الملامتية دعي إلى سماع فامتنع، فقيل له في ذلك. فقال: «لأني إن حضرت يظهر عليَّ وَجْدٌ، ولا أوثر أن يعلم أحد حالي» .
إن السهروردي مع تقديره لحال هذا الملامتي لا يراه من أهل النهايات، وينتقد الركون إلى هذه الحال في لطف؛ فيورد قول الشيخ أبي يعقوب يوسف بن حمدان السوسي: «متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص؛ احتاج إخلاصهم إلى إخلاص». ويتبعه بقول ذي النون أبي الفيض ثوبان بن إبراهيم المصري (تـ245هـ): «ثلاث من علامات الإخلاص: استواء الذم والمدح من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، وترك اقتضاء ثواب العمل في الآخرة». وعن أبي الحسين أحمد بن أبي الحواري (تـ230هـ) أنه قال لشيخه أبي سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني (تـ215هـ): «إني إذا كنت في الخلوة أجد لمعاملتي لذة لا أجدها بين الناس. فقال له: إنك إذا لضعيف». وعلق السهروردي على ذلك قائلا: «فالملامتي وإن كان متمسكا بعروة الإخلاص، مستفرشا بساط الصدق؛ ولكن بقي عليه بقية رؤية الخلق، وما أحسنها من بقية تحقق الإخلاص والصدق. والصوفي صفا من هذه البقية في طرفي العمل والترك للخلق وعزلهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال» .
إن الشيخ السهروردي يميز بين الملامتي والصوفي المتحقق بأن الملامتي قد أخرج الخلق من عمله وحاله؛ لكنه أثبت نفسه فهو مُخْلِصٌ. أما الصوفي فقد أخرج نفسه من عمله كما أخرج غيره؛ فهو مُخْلَصٌ. قال السهروردي: «وقد يكون إخفاء الملامتي الحال على وجهين: أحد الوجهين لتحقيق الإخلاص والصدق، والوجه الآخر وهو الأتم لستر الحال عن غيره بنوع غيرة؛ فإن من خلا بمحبوبه يكره اطلاع الغير عليه؛ بل يبلغ في صدق المحبة أن يكره اطلاع أحد على حبه لمحبوبه. وهذا وإن علا ففي طريق الصوفي علة ونقص؛ فعلى هذا يَتَقَدَّمُ المَلامَتِيُّ عَلَى المُتَصَوِّفِ ويتأخَّرُ عن الصُّوفي» .
ولئن أرجع السهروردي الوجه الثاني إلى غيرة الملامتي نفسه، وعدَّ ذلك علة ونقصا في طريق الصوفي؛ فإن الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي قد سبق إلى ذكر تفسير مذهب أهل الملامة بغيرة الله ـ تعالى ـ على أحبائه . وقد تابعه الشيخ الهجويري الذي استفتح كلامه عن بيان الملامة بأن لها في خلوص المحبة تأثيرا عظيما، وكأنَّه يَلْمَحُ هذه العلاقة في إشارات قول الله ـ عز وجل ـ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة/ 54].
وذكر الهجويري أنه قد جرت سُنَّةُ الله ـ جل جلاله ـ في المشتغلين بمحبته على أن يجعلَهم محلَّ لوم الناس، ويحفظَ أسرارهم من الانشغال بلومهم.. قال: «وهذه غيرة الحق الذي يحفظُ أحباءه من ملاحظة الغير؛ حتى لا تقع على جمالهم عين، ويحميهم من رؤيتهم لأنفسهم؛ حتى لا يروا جمال أنفسهم ويعجبوا بها، ويقعوا في آفة العجب والكبرياء؛ فسلَّطَ عليهم الخلق ليطيلوا فيهم ألسنتهم، ومكَّنَ منهم النفس اللوامة لتلومهم على كل ما يفعلون، فإذا فعلوا الشر لامتهم به، وإذا فعلوا الخير رمتهم بالتقصير. وهذا أصل قوي في طريق الله ـ عز وجل ـ لأنه لا يوجد في الطريق آفة أو حجاب أصعب من أن يصير الإنسان معجبا بنفسه». وبين الشيخ الهجويري أن طريق العجب إلى نفس الإنسان له بابان: أحدهما رضا الناس ومدحهم، والآخر رضا الإنسان واستحسانه لأعماله. ثم قال: «وقد سدَّ اللهُ بفضله هذا الطريق على أحبائه؛ حتى إنَّ معاملاتِهم وإن تكن طيبةً لا يرتضيها الخلق؛ لأنهم لا يرونهم رؤية حقيقية. ومجاهداتهم وإن تكن كثيرة فإنهم لا يرونها بحولهم وقوتهم، ولا يعجبون بأنفسهم؛ حتى حفظوا من العجب بأنفسهم؛ فمن يرضى عنه الحق لا يرضى عنه الخلق، ومن يصطفي نفسه لا يصطفيه الحق» .
وإذا كان الشيخ السهروردي البغدادي قد أنزل الملامتية عن رتب أهل النهايات بين سالكي طريق التصوف، وجعلهم في رتبة متوسطة بين المتصوف والصوفي؛ فإن الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي قد جعل لهم الطبقة الأعلى ودرجة الذروة في سُلَّم أرباب العلوم والأحوال؛ فأدنى هذه الطبقات من العوام ـ عنده ـ العلماء المشتغلون بأحكامهم في حفظ المسائل وجمعها ودراستها ونشرها، وهم علماء الشريعة الذين يحفظون أساسها، ويدفعون عن أصول الدين، وإليهم المرجع في تصحيح المعاملات وتقييدها بالكتاب والسنة، وهم أئمة الدين ما لم يخلطوا أعمالهم بطمع، أو يدنسوا أنفسهم بما يسقطهم عن محل الاقتداء؛ لكنهم لا يخبرون عما عليه الخواص من أحوال المعاملات والمنازلات والمشاهدات.
والطبقة الثانية: هم الخواص الذين خصهم الله ـ تعالى ـ بمعرفته والانقطاع إليه؛ فليس لهم حظ فيما يشتغل به الخلق من أمور الدنيا. أسرارهم إلى الحق ناظرة، وإلى الغيوب متطلعه، وجوارحهم بالعبادات مزينة، وقد خصهم الله ـ تعالى ـ بأنواع الكرامات واجتياز الأسباب؛ فكانوا له وبه وإليه في حفظ السر والمجاهدات . لا تخالف ظواهرهم شيئا من سير الشرع، ولا تغيب بواطنهم عن ملاحظة الغيب. وهؤلاء هم الصوفية الذين يُلمح باطنهم من ظاهرهم، ويكون ظاهرهم مترجما عما في باطنهم، وقد مدح بعضهم بأنه أشبه الناس علانيةً بسر، وسرًّا بعلانية.
والطبقة الثالثة: هم الملامتية الذين زين الله ـ تعالى ـ بواطنهم بأنواع الكرامات من القرب والأنس واستصحاب المعية. قال أبو عبد الرحمن السلمي: «تحققوا في سرهم معاني الغيب بحيث لم يكن للافتراق عليهم سبيل بحال، فلما تحققوا بالرتب السنية، وَأُثبتُوا في أهل الجمع والقربة والأنس والوصلة؛ غار الحق عليهم أن يجعلهم مكشوفين للخلق، فأظهر للخلق منهم ظواهرهم التي هي في معنى الافتراق من علوم الظواهر، والاشتغال بأحكام الشرع وأنواع الأدب وملازمة المعاملات؛ ليسلم لهم حالهم مع الحق في جمع الجمع والقربة». وذكر الشيخ السلمي بعد ذلك أن حال الملامتية هذه من أعلى الأحوال التي لا يظهر فيها أثر الباطن على الظاهر، وشبه حالهم بحال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما رفع إلى المحل الأعلى من القرب والدنو، وكان قاب قوسين أو أدنى، ثم إنه رجع إلى الخلق كواحد منهم؛ على حين أن حال أهل الطبقة الثانية مشبهة بحال سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ الذي لم يطق أحد النظر إلى وجهه بعدما كلمه الله ـ عز وجل .
وقال السلمي: «كان شيخ هذه الطائفة أبو حفص النيسابوري يقول: مريدو أهل الملامة متقلبون في الرجولية لا خطر لأنفسهم، ولا لما يبدو منها عليهم إلى مقامهم سبيل؛ لأن ظواهرهم مكشوفة وحقائقهم مستورة. ومريدو الصوفية يظهرون من رعونات الدعاوى والكرامات ما يضحك منه كل متحقق؛ لكثرة دعاويهم وقلة حقائقهم» .
وروى الشيخ السلمي عن بعض شيوخ الملامة أنه سئل عن طريق الملامة، فقال: «ترك الشهوة فيما يقع به التمييز من الخلق في اللباس والمشي والجلوس، والكون معهم على ظاهر الأحكام، والتفرد عنهم في السر بحسن المراقبة؛ فلا يخالف ظاهرُه ظاهرَهم بحيث يتميز عنهم، ولا يوافق باطنُه باطنَهم فيساعدهم على ما هم عليه من العادات والطبائع» .
وإلى نحو هذا ذهب الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في رفع منزلة الملامية على سائر الصوفية؛ فقد رأى أنهم سادة أهل الطريق وأئمتهم، ولم يكتف بأن يجعل لهم في رسول الله قدوة على نحو ما صرح به الهجويري ؛ بل زعم أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منهم؛ فقال: «هم سادات أهل طريق الله وأئمتهم، وسيد العالم فيهم ومنهم، وهو محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهم الحكماء الذين وضعوا الأمور مواضعها وأحكموها، وأقروا الأسباب في أماكنها ونفوها في المواضع التي ينبغي أن تنفى عنها، ولا أخَلُّوا بشيء مما رتَّبه الله في خلقه على حسب ما رتبوه؛ فما تقتضيه الدار الأولى تركوه للدار الأولى، وما تقتضيه الدار الآخرة تركوه للدار الآخرة» . ثم قال في صدر الباب الذي خصصه لمعرفة منزل الملامية من حضرة المحمدية: «وهذا مقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه. وممن تحقق به من الشيوخ حمدون القصار، وأبو سعيد الخراز، وأبو يزيد البسطامي. وكان في زماننا هذا أبو السعود بن الشبل، وعبد القادر الجيلي، ومحمد الأواني...» .
ولا يكاد الشيخ الأكبر يتكلم عن درجات مقام أو حال من مقامات القوم وأحوالهم حتى يجعل أكثر هذه الدرجات وأعلاها لأهل الملامة؛ مثل: المجاهدة، والشكر، واليقين، والصبر، والمراقبة، والحياء، والذكر . وقد يخصهم بما لم يتحقق فيه أحد من أهل طريق الله سواهم؛ مثل الفتوة .
ويرى ابن عربي أن رجال الله ـ تعالى ـ ثلاثة لا رابع لهم: الطبقة الأولى منهم هم العُبَّادُ الذين غلب عليهم الزهد، والتبتل والأفعال الظاهرة المحمودة، وطهروا بواطنهم من كل صفة مذمومة قد ذمها الشارع؛ غير أنهم لا يرون شيئا فوق ما هم عليه من هذه الأعمال، ولا معرفة لهم بالأحوال ولا المقامات ولا العلوم الوهبية اللدنية ولا الأسرار ولا الكشوف.
ثم الصوفية الذين يرون الأفعال كلها لله، وأنه لا فعل لهم أصلا؛ فزال عنهم الرياء جملة واحدة. وهم مثل العُبَّاد في الجد والاجتهاد والورع والزهد والتوكل وغير ذلك؛ غير أنهم مع ذلك يرون أنَّ ثمَّ شيئا فوق ما هم عليه من الأحوال والمقامات والعلوم والأسرار والكشوف والكرامات، فتتعلق هممهم بنيلها، فإذا نالوا شيئا من ذلك ظهروا به في العامة من الكرامات.. قال: «وهم بالنظر إلى الطبقة الثالثة أهل رعونة وأصحاب نفوس، وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يشمرون على كل أحد من خلق الله، ويظهرون الرياسة على رجال الله».
والطبقة الثالثة هم الملامية الذين لا يزيدون على الصلوات الخمس إلا الرواتب، ولا يتميزون عن المؤمنين المؤدين فرائض الله بحالة زائدة يعرفون بها .. قال: «لا يبصر أحد من خلق الله واحدا منهم يتميز عن العامة بشيء زائد من عمل مفروض أو سنة معتادة في العامة، قد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين...، وهم أرفع الرجال وتلامذتهم أكبر الرجال يتقلبون في أطوار الرجولية، وليس ثمَّ من حاز مقام الفُتُوَّةِ والخُلُقِ مع الله دون غيره سوى هؤلاء، فهم الذين حازوا جميع المنازل. ورأوا أن الله قد احتجب عن الخلق في الدنيا وهم الخواص له؛ فاحتجبوا عن الخلق لحجاب سيدهم؛ فهم من خلف الحجاب لا يشهدون في الخلق سوى سيدهم، فإذا كان في الدار الآخرة وتجلَّى الحقُّ؛ ظهر هؤلاء هناك لظهور سيدهم» .
وهذا الكلام يضم وجها رابعا إلى ما ذكرناه من قريب في بيان وجوه ستر الملامية لأعمالهم وأحوالهم؛ أعني: محاولة تمحيص الإخلاص، وغيرة السالك على محبته، وغيرة الله ـ تعالى ـ على أحبائه. وقد تكلم الشيخ ابن عربي نفسه عن الغيرة الإلهية التي تصون الأولياء والأصفياء في الباب الذي خصصه لمعرفة الأقطاب المصونين وأسرار صونهم؛ حيث يقول: «اعلم أيدك الله أن هذا الباب يتضمن ذكر عباد الله المسمين بالملامية، وهم الرجال الذين حلوا من الولاية في أقصى درجاتها، وما فوقهم إلا درجة النبوة، وهذا يسمى مقام القربة في الولاية، وآيتهم من القرآن: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن/72]. ينبه لنعوت نساء الجنة وحورها على نفوس رجال الله الذين اقتطعهم إليه، وصانهم وحبسهم في خيام صون الغيرة الإلهية في زوايا الكون؛ أن تمتد إليهم عين فتشغلهم. لا والله ما يشغلهم نظر الخلق إليهم...؛ فحبس ظواهرهم في خيمات العادات والعبادات من الأعمال الظاهرة، والمثابرة على الفرائض منها والنوافل؛ فلا يعرفون بخرق عادة فلا يعظمون ولا يشار إليهم بالصلاح الذي في عرف العامة، مع كونهم لا يكون منهم فساد فهم الأخفياء الأبرياء الأمناء في العالم الغامضون في الناس» .
وعلى حين انشغل هؤلاء الشيوخ ببيان صاحب الفضل والرتبة الأعلى بين أهل الطريق نجد أن الشيخ زروق شهاب الدين أبا العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي (تـ899هـ) يتجاوز ذلك في تمييزه بين الصوفي والفقير والملامتي، فيقول: «اختلاف النسب قد يكون لاختلاف الحقائق، وقد يكون لاختلاف المراتب في الحقيقة الواحدة. فقيل: إنّ التصوف الفقر والملامة، والتقريب من الأول. وقيل: من الثاني. وهو الصحيح؛ على أن الصوفي هو العامل في تصفية وقته عما سوى الحق، فإذا سقط ما سوى الحق من يده فهو الفقير، والملامتي منهما هو الذي لا يُظهر خيرا ولا يضمر شرا، كأصحاب الحرف والأسباب ونحوهم من أهل الطريق.
والمُقَرَّبُ من كَمُلَتْ أحواله، فكان بربه لربه، ليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غير الله قرار؛ فافهم» .
والشيخ محيي الدين بن عربي يجعل سعي الملامية إلى التخلق بستر أحوالهم مع الله ـ تعالى ـ عن الخلق مبنيا على ميزان الشريعة الظاهرة؛ فيقول: «فمن الميزان أن لا يعرض الحكيم بذكر الله ولا بذكر رسوله، ولا أحد ممن له قدر في الدين عند الله في الأماكن التي [يعرف هذا الحكيم أنه] إذا ذكر الله فيها أو رسوله، أو أحد ممن اعتنى الله به كالصحابة عند الشيعة؛ فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور وشتمه وإدخال الأذى في حقه؛ ففي مثل هذا الموطن لا يذكره. ألا تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهانا أن نسافر بالقرآن الذي هو المصحف إلى أرض العدو؛ فإنه يؤدي ذلك إلى التعرض لإهانته وعدم حرمته مما يطرأ عليه ممن لا يؤمن به» . وعلى هذا يجب ستر ما يكون في إظهاره فساد وضرر، وهذا ليس من «التَّقِيَّةِ» في مفهومها الشيعي في شيء؛ لأن صاحب الملامة عند الشيخ الأكبر لا يُظهر مخافة سطوة الخلق عليه ما يعتقد في نفسه أنه الباطل خلاف الحق؛ بل يستر كرامة لا يترتب على سترها ضرر، أو يصبر على أذى هو متمكن من دفعه، أو يرضى بأن يقوم بأداء عمل جائز شرعا مع كونه غير مناسب لمقامه أو مكانته بين الخلق؛ تهذيبا لنفسه وأخذا لها بالشدة، وقد قال الشيخ الهجويري: «وهناك أيضا جماعة يمارسون الملامة لرياضة النفس؛ لتتأدب باحتقار الخلق لهم، وينتصفون منها» .
وقد رد الهجويري هذا المسلك الأخير إلى ما حكاه عن ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يوما قادما من بستان نخل له، في زمان خلافته، وقد حمل حزمة حطب، وكان له أربعمائة غلام؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟! فقال: أريد أن أجرب نفسي. قال الهجويري: «هذا حتى لا يمنعه جاهه بين الخلق من أي عمل، وهذه الحكاية صريحة في إثبات الملامة» .
ويظهر المشرب الصوفي في تعلق الملامي بستر الله ـ تعالى ـ جلال ألوهيته في موطن الدنيا عن مداركِ العبادِ الواجبِ عليهم من التعظيم والإكبار والتقديس ما تستحقه الألوهية، مع تعدي بعض العبيد ومنازعتهم للحق في عظمته وكبريائه، وادعائهم الشركة في الربوبية.. قال ابن عربي: «وسبب ذلك أن الموطن اقتضى أن ينحجب الخلق عن الله، إذ لو أشهدهم نفسه في الدنيا لبطل حكم القضاء والقدر الذي هو علم الله في خلقه بما يكون عنهم وفيهم، فكان حجابه رحمة بهم وإبقاء عليهم؛ فإن تجليه سبحانه يعطي بذاته القهر فلا يتمكن معه دعوى. فلما كانت الألوهية تجري بحكم المواطن كان هذا الأصل الإلهي مشهود الملامية، إذ كانوا حكماء علماء فقالوا: نحن فروع هذا الأصل. إذ كان لكل ما يكون في العالم أصل إلهي؛ ولكن ما كل أصل إلهي يكون في حق العبد إذا اتصف به محمودًا فإن الكبرياء أصل إلهي بلا شك، ولكن إن اتصف به العبد، وصير نفسه فرعا لهذا الأصل، واستعمله باطنا؛ فإنه مذموم بكل وجه بلا...، ولهذا رأت الطائفة أن خرق العوائد واجب سترها على الأولياء، كما أن إظهارها واجب على الأنبياء لكونهم مشرعين لهم التحكم في النفوس والأموال والأهل...؛ فإن الرسول من الجنس فلا يسلم له دعواه ما ليس له بأصل إلا بدليل قاطع وبرهان، والذي ليس له التشريع ولا التحكم في العالم بوضع الأحكام فلأي شيء يظهر خرق العوائد حين مكنه الله من ذلك؟! ليجعلها دلالة له على قربه عنده، لا لتعرف الناس ذلك منه؛ فمتى أظهرها في العموم فلرعونة قامت به» .
لتحميل البحث كاملا ..
انقر هنا.