لم تسمع اسمها في بداية المحاضرة، حين ذكر الدكتور فاروق اسماء الطلاّب، لوّحت بيدها: "أنا هنا"، هزّ رأسه وابتسم. لم تعد تتوقّع ظهور اسمها في المحاضرات التالية، لاحظته يُسقِط أسماءَ جديدة من قائمة الحضور. كان يجتهد في حفظ أسمائهم، كمَن يمتحن ذاكرتَته.
كانت امتحاناته المفاجئة تخيفها. يسمّيها "ألعاب ذاكرة"، وتسمّيها "ألعاب رعب"، هي التي تعيش بذاكرة ضعيفة، وتستعين بنجمةٍ على كفّها، لتساعدها على عدم النّسيان.
مرّة فاجأ طلاّبه باختبارٍ شفويٍ في جدول الضّرب. خبّأت رأسها خلف شاشة الكمبيوتر كي لا يراها، ستتلعثم، وستخونها ذاكرتها. أتعّبت أختها كثيراً حين علّمتها جدول الضّرب، كلّما سكبتْ جدولاً في رأسها، اندلق ما قبله. تتساءل كيف استطاعوا أن يحافظوا على جداول الضرب في رؤوسهم بعد كل هذه السنوات، ويستحضروها بكل سهولةٍ وسلاسة؟!
نجمةٌ مرسومةٌ بالقلم الأزرق الجاف على كفّها الأيسر. تذكّرها بشراء الخبز في طريق عودتها للبيت. إن كان عليها القيام بعملين في اليوم نفسه، رسمت نجمتين، أكثر من ذلك تضلّلها النّجوم فتزداد حيرتها.
ماذا يعني أن تعيش بذاكرةٍ ضعيفة؟ّ
***
بدأتْ برسم النّجمات وهي طالبة في المدرسة، بعد أن تكرّر نسيانها إحضار ديوان شعر لنزار قباني، طلبته صديقتها التي غضبتْ، وظنّت أنها لا ترغب في إعارتها الديوان.
رسمتْ نجمةً على كفّها الأيسر، كتبت تحتها: "الديـوان". لم تنسَ وعدها أخيراً. صارت النجمةُ ذاكرتَها، تنقذها كثيراً، وتخذلها أحياناً. يحصل أن تنسى لماذا رسمتها، تبقى مرسومةً بغباءٍ وعنادٍ شديدين، حتى تمحوها رغوة الصابون.
***
زارتْ الطبيبَ، شرحتْ له: "الأسماء والأرقام لا تستقر بذاكرتي أبداً، الدّروس تتبخّر من رأسي، كلما أردتُ أن أخبّئ شيئاً ضاع، تجبرني أمي على تناول سندويشات الزيت والزعتر لاعتقادها أنها تقوّي الذاكرة، كما أني أستعين على ضعف ذاكرتي برسم نجمةٍ على كفّي".
بعد أن أجْرَت فحوصات للدم، أكّد لها الطبيب أن ضعف ذاكرتها ناجمٌ عن نقصٍ حاد في فيتامين B12. حقنها بعشر إبر خلال شهر، تحسّن معدل الفيتامين في دمها، لكن ذاكرتها بقيت ضمن معدلها الضعيف.
***
كان يحثّهم الدكتور فاروق على تمارين الذاكرة. يرى أن إنساناً بلا ذاكرة هو إنسانٌ متقاعدٌ عن الحياة. هو الذي تعوَّد أن يلتقطَ صوراً لكل طلاّبه، يلصقها في ألبوم، يضع تحت الصورة: اسم صاحبها، سنة تدريسه، المادة، وعلامته في نهاية الفصل. تجمّعت عنده الألبومات على مدار خمس وعشرين سنة، كان سعيداً بها، مطمئنّاً لها، يتفاخر بأنّ له ذاكرة مصوّرة ومُوثّقة باليوم والتاريخ.
في أحد أيام سوء الطّالع. اشتعل حريق في بيتِه، كانت "ألبومات الذّاكرة" ضمن القائمة التي احترقت. ابتعد عن الجامعة تماماً ولم يقترب منها إلا مرةً واحدةً ليقدِّم استقالته للإدارة.
***
بعض الأمور لا تنفع معها النجمة، حتى لو رَسَمتْها كبيرةً بحجمِ عين!
لا تثق أمّها بذاكرتها أبداً منذ عرس أختها. أعطتها "ذهب العروس"، كي تحتفظ به في مكانٍ أمين قبل ذهابهم إلى قاعة العرس. خبّأتِ الذهب، لكنها نسيتْ أين خبّأتْه. في البداية ظنّت أمها أنها إحدى المقالب التي تحترف تدبيرها، لكن ما أن رأتها ترتجف وتلفّ حول نفسها بشكلٍ عشوائيٍ، حتى تيقّنت من نسيانها. تأخّرتا عن الحفل، حاولتْ ملء فراغات ذاكرة يومها، استعادتْ ما استطاعت من أحداثه، لكنّها لم تستطع أن تتذكّر مكان الذهب. لحسن حظّها أنّ أختها رأت أين وضعته، فأنقذت الموقف!
***
تعرفُ البنت أنّ نجمة الذاكرة أصبحت مشاعاً.
عشرات المرّات سُئلتْ عن سبب وجود النجمة على كفّها، وعشرات المرّات التي أجابت: "كي لا أنسى أن أفعل كذا وكذا، وأن أحضر كيت وكيت".
دفعتها النجمة للكذب مرّات عدّة، اختلقتْ أسباباً وهميّةً حين لم ترغب بالبوح عمّا تريد تذكّره، تقول لنفسها: "ذاكرتهم القوية تُخفي ما بها، أما أنا ذاكرتي علنيّة، مرسومة، وتلغي بعض خصوصيتي. وهذا ليس عدلاً..!"
***
عبستْ ملامح الصيّدلاني، صديق والدها، ما أنْ رأى النجمة، ناولها "البنادول" بعصبية وعينه تتأمل كفّها بفضول. خجلتْ من نجمتها، مسحتها: "رسمتُ النجمة كي أتذكّر البنادول!". انشرحتْ ملامحه، دُهِشَ من وشم يزول سريعاً، قال أنّه لم يصدق رؤية ابنة صديقه تَدُقُّ وشماً على كفّها. حذّرها من رسمها مرّة أخرى، كان يرى الوشمَ على البنتِ عيباً في أخلاقها!
***
كلّما التقيا، سألها عن النّجمةِ، تخبره: "هي أشياء لا يجب أن تهرب من رأسي"، تضحك عينه، فتبوح أكثر: "لا أخجل من ذاكرتي الضعيفة أمامك".
كانت النّجمة لعبة بينهما، يضع احتمالات للأشياء التي تودّ القيام بها، ينجح مرّات ويخفق أخرى.
في أحد اللقاءات لم تكن ثمّة نجمة مرسومة على كفّها. كانت المرّة الأولى التي يرى كفّها دون نجمة. تأمّله، مرّر أصبعه فوق مكانها المفترض، أخرج قلماً من جيب قميصه ورسمَ النّجمة، قال: "كي تتذكّري أنّي أحبّكِ".
"إنّه يحبّني، ولكنْ لماذا أرسم النّجمة الآن، حبيبي سرقَ نجمتي، أنا في ورطة ولا أدري ما البديل؟"
كانت تفكّرُ فيه بينما كانت ترسم نجمةً جديدة فوق كفّها...
30/9/2007
الأحد
:yes::blush: