أستاذ ( الأحياء ) الذي كان يدرسني في الثانوية ، كان أحد تجار السلاح الذين يعملون مع بن لادن وقت أن كانت السعودية راضية عنه، وتعتبر نشاطه الجهادي في أفغانستان مشروعاً.
إياك أن تظن أن الذين يعملون مع بن لادن أغبياء أو غير مثقفين.
لقد كان الأستاذ ( م.و) من أكثر الناس الذين رأيتهم في حياتي ثقافة وديمقراطية أيضاً !
تخالفه الرأي فيستمع إليك بابتسامة مرحبة، ويهز رأسه علامة تفهمك ، ثم يرد عليك بهدوء وإن لم يقنعك، فخير ما يمكن أن يفعله معك هو أن يصل بك إلى نقطة التقاء.
لم يكن أستاذ الأحياء يدرسنا الأحياء، بل كان يدخل إلى الفصل فيقلب الفصل إلى غرفة دردشة واقعية (قبل ظهور التشات والإنترنت ) .
فبمجرد دخوله كان الطلبة يأخذون المقاعد والكراسي ويعملون بها حلقات في الفصل ثم يشكلون مجموعات يتحدثون مع بعضهم البعض أحاديث ودية حتى نهاية الحصة.
أما أنا فقد كنت أجلس في الصف الأخير ، في مرحلة الثانوية العامة ، حصل لي شيء مشابه لـ "هبة" التي كنت أدافع عنها منذ وقت قصير ولم أشعر بالراحة حتى عرفت أنها عادت إلى مصر بالسلامة.
وهي مرحلة الكفر من تلك البلد والطهقان ، والموت الإنساني!!!
بعد كل تلك السنين وكل هذا الجفاف والتصحر ، تشعر أنك مستعد ان تفعل أي شيء لتغادر إلى وطنك أياً كان ذلك الوطن. ولهذا كنت أجلس في الصف الأخير في الفصل.
لم أكن حتى أصطحب كتبي معي في الذهاب والإياب. بل كنت أتركها في درج المدرسة وأعود خفيف اليدين.
كان الأستاذ (م.و) صاحب بن لادن ، يترك الفصل كله ويشد كرسياً ويأتي به ليجلس إلى جواري ، حيث لم أكن أتحدث مع أحد وكنت أراقب المشهد متأملاً في صمت. وكان هو يستمتع بالحديث معي، وأنا كذلك !
كنا نتحدث مثلما أتحدث معك الآن ، في شتى أمور الحياة.. وليس حديثاً دينياً كما قد تتخيل! بل نادراً ما نذكر القرآن أو السنة! ولكن حديثنا "العادي" لم يكن ليخالف ما جاء بهما.
مرة من المرات دخل مدير المدرسة أبو وجه عكر إلى الفصل وهذا المشهد الذي وصفته لك حاضر.
لم يفعل شيئاً سوى أنه عبس وتولى ، وأغلق الباب خلفه.
نظرت إلى الأستاذ (م.و) بحرج وقلت له: أنا آسف لو تسببت لك بإحراج مع المدير.
فقال لي الأستاذ ، تاجر السلاح ، بابتسامة واسعة : ولا يهمك، يمكنه أن يخبط رأسه في الحيط لو أراد ، ذلك المدير لا يقدر على فعل شيء لي، لو أردت أن أشتري هذه المدرسة بمن فيها وبالمدير نفسه ، لفعلت، انا أقوم بالتدريس للتسلية فقط.
رغم هذا فقد كان الأستاذ (م.و) من الذكاء بحيث أنه يستطيع أن يلم منهج الأحياء كله في ثلاثة حصص في نهاية العام، ويشرحه على السبورة ، والعجيب أن أحداً لم يكن يرسب في مادته رغم أن المصححين كانوا من الوزارة أي أن التصحيح كان محايداً.
كان الأستاذ ( م.و) يقوم بتجنيد الطلبة السعوديين والمصريين وغيرهم من المدرسة كل عام، وفي إجازة الصيف يذهب بهم إلى أفغانستان، ثم يعود وحده في بداية العام الدراسي التالي!
وعندما يسأله الطلاب : يا أستاذ ! أين ذهب فلان وفلان وفلان وفلان من زملائنا الذين كانوا معك؟
فيقول لهم : رحمهم الله...استشهدوا في الحرب.
ثم يبدأ الأستاذ ( م ) في شرح كيفية مقتل كل واحد من الطلبة الذين ذهبوا معه، يقول :
- فاكرين زميلكم الله يرحمه فلان ؟
يقولون "نعم"
فيقول لهم :
- هذا بالذات ، حزنت عليه كثيراً ، كنا نتعرض للقصف الشديد، فأمرت الجميع أن ينبطحوا أرضاً ، ونزلنا كلنا على الأرض، ولكنه ، الله يرضى عليه بس ! (يقولها بحزن)..قام لوحده هكذا دون سبب، فنزل عليه الصاروخ مباشرة ولم نستطع إلا أن نجده أشلاء مبعثرة في كل مكان.
- وأما أنا ...
يمضي الأستاذ (م.و) في الشرح ، كاشفاً عن ساقه الرفيعة مثل عود الكبريت، حيث أنه كان نحيلاً ، من النوع القوي رغم كونه رفيعاً بلا عضلات ظاهرة ، وهو ما نسميه ( راجل عصب

) .. يكشف عن ساقه، فإذا بصف كامل من الرصاص يخرم تلك الساق، وعلاماته واضحة ويكمل الأستاذ (م) :
- فقد أصبت بهذه الطلقات.
طبعاً يفزع الطلاب، ولكنه يطمئنهم قائلاً :
- هذه بسيطة! ، هاها، في الحقيقة أنا جسدي كله مخرم من الرصاص وشظايا الصواريخ! .
لو أردتم أن أحكي لكم عما حصل معي في المغرب، كنت في المغرب ذات مرة، ودخلت إلى القصر الملكي أثناء تجولي العادي في الشارع، ولم يقل لي أحد لا تدخل، وتجولت في الحديقة مجرد تمشية لا غير.
حتى صادفت رجلاً آخر يبدو متسللاً مثلي ، فقلت له على سبيل الدعابة:
وأنت أيضاً غافلتهم ودخلت ؟
ولم أكمل تلك الجملة حتى انهال علينا رصاص الحرس الملكي من كل مكان، وسقط الرجل صريعاً على الفور، وأما أنا...
وأشار الأستاذ (م) إلى تحت إبطه ماراً بيده عبر خط مستقيم حتى الفخذين ، واستدرك :
- فقد أصبت بصف من الرصاص على طول هذا الخط كله، واضطررت إلى عملية جراحية كبيرة.
من المواقف الطريفة التي تعرض لها زميلان لي في المدرسة مع الأستاذ (م.و) ،أنه مرة كان قد قرر أن يشرح درس الأحياء ويستعمل رسماً توضيحياً ، فتناول مفاتيح سيارته وأعطاها لطالب ، وقال له من فضلك إنزل بصحبة فلان (طالب آخر) إلى سيارتي ، افتح شنطة السيارة ، ستجد الرسم التوضيحي ، أحضراه وتعالا.
بعد الحصة ، ضحك الطالبان وجمعانا حولهما وقالا لنا : فتحنا الشنطة الخلفية للسيارة، ووجدنا إلى جانب الرسم التوضيحي الذي أحضرناه ، مدفع آر بي جي ، و بعض القنابل اليدوية
أما أطرف موقف حصل لي مع الأستاذ (م.و) فهو أنه مرة عرض علي أن يصطحبني إلى أفغانستان، ووعدني أن التجربة سوف تعجبني

ولكني قلت له : لا شكراً ، لأني أفكر في دخول الكلية بعد عودتي إلى مصر

وكما قلت لك، كان الأستاذ (م) ديمقراطياً ولم يزعل من رفضي (اللطيف) ، ولا أنا كذلك زعلت من عرضه (الطريف) لعلمي أنه يفعل ذلك حباً في الله، ونصرة لدينه (الحنيف)
ولولا أني كنت متمسكاً بالحياة لربما ذهبت معه ولم أعد.
يالله يا عم نيوترال، أخذت لك حكاية الموسم هذا اليوم ، والتي لم أخبر بها من قبل سوى قليل من معارفي المقربين.
ما رأيك بقى في اللعبة ؟