حدثت التحذيرات التالية:
Warning [2] Undefined variable $newpmmsg - Line: 24 - File: global.php(958) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(958) : eval()'d code 24 errorHandler->error_callback
/global.php 958 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $unreadreports - Line: 25 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 25 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $board_messages - Line: 28 - File: global.php(961) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(961) : eval()'d code 28 errorHandler->error_callback
/global.php 961 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$bottomlinks_returncontent - Line: 6 - File: global.php(1070) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/global.php(1070) : eval()'d code 6 errorHandler->error_callback
/global.php 1070 eval
/showthread.php 28 require_once
Warning [2] Undefined variable $jumpsel - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Trying to access array offset on value of type null - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Undefined property: MyLanguage::$forumjump_select - Line: 5 - File: inc/functions.php(3442) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions.php(3442) : eval()'d code 5 errorHandler->error_callback
/inc/functions.php 3442 eval
/showthread.php 673 build_forum_jump
Warning [2] Undefined variable $avatar_width_height - Line: 2 - File: inc/functions_post.php(344) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions_post.php(344) : eval()'d code 2 errorHandler->error_callback
/inc/functions_post.php 344 eval
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumrcvtyls" - Line: 601 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 601 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumptyls" - Line: 601 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 601 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "tyl_unumtyls" - Line: 602 - File: inc/plugins/thankyoulike.php PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/plugins/thankyoulike.php 602 errorHandler->error_callback
/inc/class_plugins.php 142 thankyoulike_postbit
/inc/functions_post.php 898 pluginSystem->run_hooks
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined array key "posttime" - Line: 33 - File: inc/functions_post.php(947) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/inc/functions_post.php(947) : eval()'d code 33 errorHandler->error_callback
/inc/functions_post.php 947 eval
/showthread.php 1121 build_postbit
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval
Warning [2] Undefined variable $lastposttime - Line: 9 - File: showthread.php(1224) : eval()'d code PHP 8.1.2-1ubuntu2.19 (Linux)
File Line Function
/inc/class_error.php 153 errorHandler->error
/showthread.php(1224) : eval()'d code 9 errorHandler->error_callback
/showthread.php 1224 eval





{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
جيرار غرنيل : هوسرل ، ترجمة الطيب بوعزة
فيصل وزوز غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 113
الانضمام: Nov 2007
مشاركة: #1
جيرار غرنيل : هوسرل ، ترجمة الطيب بوعزة
هوسرل

جيرار غرنيل



ترجمة الطيب بوعزة

إن هوسرل هو بكل بساطة أكبر فيلسوف ظهر منذ الإغريق، وتبقى لهذا الحكم قيمته حتى دون اعتبار لوجهة نظر الفينومينولوجيين، وتبقى كذلك أيضا على الرغم من موقف المعارضين للفينومينولوجيا، لأنه يأخذ في تأليف مؤسس الفلسفة الفينومينولوجية دلالة عامة وبعدا تاريخيا يؤشران على أفق أبعد مما يحمله هذا التأليف ذاته، بما هو أيضا وبالفعل تجسيد لفلسفة من بين فلسفات لها مواطن قوتها وضعفها، ذلك لأنه يأخذ، في إنتاج مؤسس للفينومينولوجيا بشكل عام، بعدا أبعد مما يحمله هذا التأليف من "حدود" خاصة بفترة وبرجل وبمدرسة. إن هذا الحكم هو بالفعل يشير ويعترف بما في الفينومينولوجيا من جهد لجعل الإنسانية الحديثة قادرة على ما لم تكن أي إنسانية أخرى قادرة عليه: أي قادرة على الحياة ذاتها كحياة داخل "الفلسفي" وبه، بمعنى داخل وبواسطة المسؤولية الراديكالية، المسؤولية إزاء "الحقيقة" والكينونة، أي مركز ومنبع توحيد كل ممارسة وكل نظرية كيفما كان المستوى الذي تنتميان إليه.

وهذا المشروع الهوسرلي هو، من جهة الهدف السابق ذكره، أي إقدار الإنسانية فيما يخص مسألة الكينونة، ما تم أخذه من جديد، ولكن خارج الفينومينولوجيا، من طرف هيدغر. وهذا الخلف الهيدغري يجد دلالته في ذلك الاصطدام التقليدي بين عدم التفهم الأبوي من جهة، والخيانة الأوديبية من طرف الخلف من جهة أخرى. وباختصار إن هذا التعاقب هو نفسه تعاقب "إغريقي" وتراجيدي تماما، وهو بلاشك الأمر الوحيد الذي يهم هنا. ولكنه بالتأكيد، ليس الأمر الوحيد الذي يظهر في الحياة العقلية العامة، أي داخل الوسط الثقافي والجامعي. فكثيرون هم، أو هم بالأحرى عدد لا يحصى من الفلاسفة الذين يرجع الفضل إلى هوسرل في إيجادهم الوسيلة والشكل والطريق واللغة ليكونوا فلاسفة، وذلك في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والعشر سنوات التالية للحرب العالمية الثانية. وهذا يصدق عن ماكس شيلر (في كتابه "النزعة الصورية في الأخلاق" (1916)، وإلى مرلوبونتي مرورا بأوجين فنك، وإيمانويل ليفانس، وسارتر في مرحلته الأولى، دون الحديث عن أجيال من طلبة الفلسفة الذين قرؤوا هوسرل من 1930 إلى 1955 كما قرأ هيجل من 1806 إلى 1835. إلا أن هوسرل يمر اليوم بنوع من التطهير أو بالأحرى يتعرض لنوع من المحو الخفي الذي يصيب كما نعلم حتى أعظم المؤلفات، ولكن لا نعلم بالضبط الفترة والمدة التي يستغرقها. إلا أن زمن السقوط والانعزال السلبي لا يعني سوى الإرهاص بحدوث تحول نحو قراءة جديدة للفينومينولوجيا، قراءة بعيدة عن أي تمذهب مدرسي، وبعيدة عن أي رفض متحزب، قراءة تبحث الآن في سياق تفكيك قبر الفينومينولوجيا، هذا التفكيك الذي يتسم بنوع من التقوى، هو بالضبط بحث يتم في محيط هذا الفكر الإغريقي.

1- من الرياضيات وفرانز برنتانو إلى الفينومينولوجيا:

ولد إدموند غوستاف ألبرت هوسرل في (بروسنيتز prossnitz النمسا-هنغاريا) من أدولف أبرهام هوسرل وجولي سيلنجر اللذين هما معها من أصول يهودية. وبعد دراساته الثانوية في Deutsche Staatsgymnasium بأولموتز OLMUTZ سيتابع في 1876-1877 ولمدة ثلاث دورات بجامعة ليبزغ دروسا في الفزياء والرياضيات، والفلك، والفلسفة، وابتداء من أبريل 1878 سيدرس بجامعة برلين، لمدة ست دورات، الرياضيات، بشكل خاص، بالإضافة إلى الفلسفة، وقد كان ليوبولد كرونكر Léopold Kronecker وكارل فيستراست Karl Weierstrass من بين أساتذته. وفي مارس 1881 سيتابع تعليمه في فيينا حيث سيحصل على لقب الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف ليو كنغسبرغ Knigsberger، في نوفمبر 1882 على رسالته المعنونة ب"مساهمة في نظرية حساب المتغيرات". ليعين خلال دورة صيف 1883 في منصب أستاذ مساعد للأستاذ فيستراست Weierstrass ببرلين. لكنه ابتداء من 1883-1884 سيرجع إلى فيينا لمتابعة دراسته في الفلسفة على يد فرانز برنتانو الذي سرعان ما سيرتبط به هوسرل ارتباطا فكريا. وفي الثامن من أبريل 1886 سيعتنق هوسرل المسيحية وينضم إلى الكنيسة اللوثرية الإنجيلية حيث سيحصل على التعميد في فاتح غشت من نفس السنة. وفي أكتوبر، ونزولا عند طلب فرانز برنتانو سيلتحق هوسرل بكارل شتمف Carl Stumpf في جامعة هال حيث سيكمل خلال عام واحد رسالته الثانية للدكتوراه بدراسته حول "مفهوم العدد". وفي السادس من غشت 1887 سيتزوج بمعلمة من أصل يهودي كانت، هي أيضا، قد اعتنقت المسيحية منذ مدة قصيرة، إسكها مالفينا ستيشنيدر Malvina Steinschneider التي سيكون له معها ثلاثة أطفال. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر 1887 سيلقي درسه الافتتاحي بجامعة هال حول "غايات ومهمات الميتافيزيقيا". ومن صيف 1887 إلى 1894 سيدرس بصفة أستاذ privatdozent بجامعة هال حيث سيتم تسميته أستاذا برسم شخصي personnel à titre professeur في فاتح غشت 1894 وفي سبتمبر 1901 ستنادي كلية الفلسفة بجامعة غوتنغن على هوسرل لتعيينه كprofessor extraordinarius بيد أن هذه الكلية نفسها سترفض في ماي 1905 تمتيعه بلقب professor ordinarius بدعوى "نقص في تأهيله العلمي". غير أنها ستمنحه هذا اللقب في يونيو 1906. وفي فاتح أبريل 1916 سيتم المناداة عليه كأستاذ ordinarius من طرف جامعة فريبورغ حيث سيخلف هنريخ رايكارت. وكان موضوع درسه الافتتاحي في الثالث من ماي 1917 معنونا ب"الفينومينولوجيا الخالصة: موضوعها ومنهجها". وبتسميته مستشارا سريا لمحكمة باد BADE من طرف الدوق الأكبر سيمنح هوسرل في الثالث من غشت 1919 لقب الدكتوراه الفخرية من طرف جامعة بون. وقد كان الأمل يراود هوسرل في المناداة عليه من جامعة برلين في يوليو 1923 ليخلف إرنست ترولتش Ernst Troeltsch أنه لن يحصل على هذا المنصب إلا في 23 مارس 1928 فيصبح professeur honoraire وسيكون مارتن هيدجر هو خلف هوسرل في هذا المنصب. وفي مارس 1933 سيشطب هوسرل من قائمة الأساتذة بسبب أصله اليهودي. غير أن هذا الاستعباد سيتم تعليقه بسبب كونه قد فقد، من أجل ألمانيا، أحد أبنائه في الحرب العالمية الأولى. إلا أنه سيستعبد نهائيا في سنة 1936. وفي سن التاسع والسبعين سيموت هوسرل بمدينة فريبورغ.

2- هوسرل الإغريقي: الدلالة الأساسية للفينومينولوجيا:

لنقتطف في البداية، كلمات لهوسرل من آخر كتبه "أزمة العلوم الأوروبية" 1936، كتاب "الوصية" testament لمفكر لا يوصي بشيء غير الوصية ذاتها، أي لا يوصي إلا بذلك "التحالف" الذي كان يتحدث دائما انطلاقا منه، والذي عنه تحدث "من خلال" كل الموضوعات والأبحاث التي خلفها في ذلك الكم الهائل من تأليفه، أي التحالف بين الحقيقة والإنسانية: يقول هوسرل: "أن ندفع بالعقل الكامن إلى فهم قدراته الخاصة، وأن نفتح على هذا النحو أمام نظرنا إمكانية ميتافيزيقا بما هي إمكانية حقيقية فهذا هو وحده المسار الذي يمكن أن نوجه فيه ذلك العمل الضخم الذي يستهدف تحقيق ميتافيزيقا ما، أو بتعبير آخر تحقيق فلسفة كلية. وهكذا سيتم البث في مسألة معرفة هل التيلوس الذي ولد بالنسبة للإنسانية الأوروبية مع ميلاد الفلسفة الإغريقية، تلك الإنسانية الراغبة في أن تكون نابعة من العقل الفلسفي، والتي لا يمكنها إلا أن تكون كذلك- في سياق الصيرورة اللانهائية حيث يمر العقل من حالة الكمون إلى حالة الظهور، مع نزوع لانهائي نحو حالته السوية بفضل الحقيقة والأصالة الإنسانية التي يتميز بها هل كان -هذا التيلوس- مجرد هذيان ساذج لواقع قابل للتعيين تاريخيا، وإرثا عرضيا لإنسانية عرضية، ضائعة وسط إنسانيات وتواريخ أخرى، أم على العكس، إن ما تفتح لأول مرة في الإنسانية الإغريقية هو بالأحرى هذا الذي كان ك"كمال أول" محايثا ماهويا في الإنسانية بما هي كذلك "(Die Krisis der europنischen)6§ Wissenschaften ?6).

إن أسوأ طريقة للتعامل مع نص كهذا هو إخفاء ما يثيره فينا، قراره التاريخي القوي، من خوف يظل يعتما بداخلنا رغم مختلف "أشكال الاستعلاء" التي نحس أننا قادرين على ممارستها تجاهه وتجاه التأليف الهوسرلي بأكمله. وخاصة أن لدينا اليوم كل الوسائل التي تكفينا، ليس فقط لكي لا نوافق على الخلط بين عمل الفلسفة -حتى إذا استمررنا في استخدام هذا اللفظ القديم- وعمل العقل، بل لدينا كل الوسائل التي تكفينا لكي نمسك، قبل ذلك، داخل تلك الصفة اللانهائية لهذا العمل العقلي المتمظهر -أي صفته ك"تتابع" خالص وبسيط لمشروع لامتناهي- نمسك بالوجه السلبي لهذه الصفة اللانهائية في معنى آخر أكثر راديكالية، أي في معنى اللاتحديد الأصيل. وبالارتفاع إلى مستوى وضوح العبارة الشهيرة التي أطلقها كانط في لحظة كان فيها مبدأ قانونية النقد لا يزال غامضا، تلك العبارة التي تقول: إن "الحقيقة" ليست سوى "كلمة جذابة"، سنكون بهذا الارتفاع قادرين أيضا على أن نضرب هوسرل عرض الحائط بمفهوم كهذا، مفهوم غامض، كان هو نفسه، في الواقع، بدل تضخيمه، يعمل على تذليله وتمهيده إلى أقصى حد، بمعنى إلى المستوى المطلق لفكرة "الأبودكتيكية" (أو الحضور الخالص).

إننا باختصار علماء أكبر بكثير وأقوى مما كان عليه هوسرل، لأننا أكبر مما كان بإمكانه هو أن يكونه. والأمر هنا لا يتعلق باختلاف بين الأشخاص بل باختلاف بين أعمار الإنسانية، أي باختلاف بين عصور ينتمي إليها الأشخاص مع مجموع إنتاجاتهم وكفاءاتهم، فالبعض محدد والآخر مستخدم ضمن حدود أساسية، التي هي حدود "لعبة الممكن" التي لا أحد بمناسب لها، ولا أحد بقادر على خرقها، بل حتى حرية الفكر نفسها هي هنا ملتبسة بلعب هذا اللعب. فلا ماركس، ولا فرويد، ولا دي سوسير، ولا حتى نيتشه، ولا هيدغر (لكي نجعل من كل هذه الأسماء العلامات المحددة لقواعد وحدود عصرنا ولعبنا، بمعنى لعصر وللعب يحددان "النحن" كما يحددان ما لهذا "النحن" كل هؤلاء لا يسمحون إلا بأن نستعيد شيئا من الانتباه إلى الرسالة التي عاش ومات من أجلها هوسرل. فشبكة الاقتصاد، واللاشعور، واللغة، والتفكيك، والاختلاف ليست فقط يستحيل عليها أن تتصل بالروابط النهائية لشبكة الشعور والمثالية، والبناء، والحضور، ولكنها أيضا تفكك في تقلبات قوتها الخاصة الروابط الأصلية لهذه الشبكة، ومبادئها حيث تعترف، ابتداء، بنتاج وخلفية نسيج آخر منسي، وتغمر آفاق تلك الشبكة، وتغطيها، وتوقف حتى حركة سيرها، وتستبعد آلهتها وتحولها إلى مجرد تماثيل تافهة. وهكذا أصبح اليوم أن تكون هوسرليا ليس له من المعنى أكثر من معنى أن تكون لايبنزيا أو أرسطيا، وبغياب هوسرل خلال سنوات الخمسينات أصبح من البدهي أن كل ميتافيزيقا، وكل الميتافيزيقا، قد تم إسقاطها من عليائها، فسماء جديدة من الانشغالات قد امتدت في كل اتجاه، سماء ذات ليل لامع ورقم غامض مجهول.

فما الذي يمكننا فعله غير الاعتراف بهذا الغياب، وبالاقتصار على اللف من حول المحور، الذي على الرغم من كل التقدير الذي أحيط به مرلوبونتي مثلا -والذي بفضله تحديدا تمتعت الفلسفة وخاصة فلسفة هوسرل بدفق كامل في السنوات القليلة الماضية- ثمة فراغ كبير وأكثر حسما من موت مرلوبونتي المفاجئ، والذي يبدو أنه كما لو كان ينادي عليه. وعندما تدور عجلة العالم، وعندما يتصاعد بدفق قوي أولئك المنتصرون الكبار والصغار مع سيولة لغة جديدة، فإن كل النازلين سواء كانوا كبارا أو صغارا، أحياء أو أمواتا، هم أموات على أي حال.

وعندما يكون هذا صحيحا، وكل هذا صحيح على نحو ما، فإننا كنا من قبل وخلال كل ما قلناه مسبوقين بنص هوسرل، فالجيل واختلاف الأجيال، المدرك هنا بمعناه كوضع يقود الجميع بالضبط، وينجز الأمر المحتوم، هما بالضرورة جيل واختلاف أجيال الإنسانية، وليس اختلاف أعمار أشخاص، ولا هو ذلك الاختلاف الذي يحدثه هذا التطور أو ذاك داخل محتوى مجال معرفي معين، أو محتوى ممارسة معينة، ولا هو بطبيعة الحال اختلاف في ظواهر الموضة. وإن كل ما قلناه هو إما التباس مسكون بإدعاء الاستعلاء المزعوم، وإما تعداد لعدد من أسماء الأعلام التي كشف بالفعل أن "بيننا" وبين الفينومينولوجيا مسافة تغيرت خلالها الإنسانية. وهنا بالضبط يتقدمنا هوسرل، كما أن مفهومه عن الإنسانية هو حتى الآن لا يزال بالنسبة لنا مفهوما صعبا جدا.

مفهوم الإنسانية وإمكانية الفلسفة:

لعل من المفروض لكي نفهم هذا أن نكون قادرين على فهم مصطلح الإنسانية ذاته. سيكون من الخطإ الاعتقاد بأن مفهوم "الإنسانية" المستعمل هنا من طرف هوسرل، هو مفهوم عام غامض (مفهوم ملتبس الدلالة)، أو الاعتقاد بأنه مجرد إعادة إنتاج هوسرلية للعبارة الشهيرة "طبيعة إنسانية" التي وضعتها العلوم (وبالأخص العلوم الإنسانية) داخل النعش. إن الصعوبة تأتي، بالعكس، أي من كون مفهوم الإنسانية عند هوسرل هو مفهوم خاص ومتميز، وتاريخي على نحو تام، يفصل بين الإنسانية L’Humanité كإنسانية، وتاريخها كتاريخ عن "إنسانيات وتواريخ أخرى". فما هي هذه الإنسانية المحددة هنا، والمشار إليها بوضوح في هذا النص؟

إنها الإنسانية "الإغريقية". ولا تسمى "إغريقية" إلا تلك الإنسانية التي تكون قادرة على إمكانية الفلسفة. وإنها سميت كذلك ليس فقط لأن أول إنسانية أبانت عن هذه المقدرة هي الشعب الإغريقي، ولكن أيضا لأن تفكير وأي إرادة وجود قادرة لا يمكن أن يتحققا إلا في علاقة واضحة ومحددة بشكل وحدود المحاولة الإغريقية، وبالضبط ضمن تلك الحدود التي ينكشف فيها أن الإنسانية الحديثة لم تستطع في أي لحظة أن تظهر قدرة على الإمساك بتلك الإمكانية، بمعنى القدرة على الإمساك بماهية العمل الفلسفي ذاته -على الرغم من أنه قد حضرت فيها- بالإضافة إلى علم الرياضيات وعلم الطبيعة سلسلة من المشكلات الميتافيزيقية المجمعة والمدروسة في مؤلفات ميتافيزيقية، كان بعضها ضخما- هذا العمل الفلسفي الذي لم يحظ لحد الآن (والذي نستطيع أن نضيف هذه المرة ضدا على هوسرل، انه لن يحظى أبدا) بإنسانية حديثة. أو بتعبير أدق إن الإنسانية الحديثة ما هي إلا جزء من هذه الإنسانيات، وتاريخها جزء من تواريخها، تلك التي أشير إليها بإشارات غامضة اقتصرت على وصفها بإنسانيات وتواريخ "أخرى" غير أن الإنسانية والتاريخ "الإغريقيين".

فبأي معنى هي "أخرى"؟

إذا كانت الإنسانية الإغريقية هما الإنسانية والتاريخ اللذين تحقق فيهم لأول مرة اكتمال الكائن البشري، فإن الإنسانيات الأخرى هي التي تتميز بكون الكائن البشري بقي فيها في "حال القوة"، أي كمادة طبيعية غير محددة لم تجد بعد الإنجاز الذي فيه ستظهر "بلباسها في لحظة الاكتمال". والتمايز الذي نتحدث عنه هنا هو مثل التمايز بين البرابرة واليونانيين الذي يشكل قاعدة التاريخ بالنسبة لتوكيديد، وقاعدة السياسة بالنسبة لأرسطو، وهو بالضبط التمايز الذي تم تضييعه بفعل كل أشكال الاستعلاء على الفلسفة التي مارسها عصرنا هذا. وهنا نحن نخاطر بألا يكون إمكاننا أن نخاطر من جديد، وذلك بسبب نقص في فهمنا لهذا التمايز، بل وعدم إدراكه من طرفنا. والأمر هنا شبيه بحال شعب لا يعرف ذاته، أو حال إله يتردى: إنها إذن بطولة عتيقة قد تراجعت واستحالت إلى مجرد خرافة. ونفس الشأن بالنسبة للمؤسس الذي يميز التاريخ -بطولة اللوغوس- تاريخ الطبيعي والقدسي، ويشيد البوليس (المدينة) من أجل حمايته. إن هوسرل يوقط في الإنسانية الأوربية فكرة التمايز هذه. إنه يمايزنا عن غيرنا من الإنسانيات باعتبارنا الشعب الوحيد الذي يعرف الكينونة والحق، بمعنى الشعب الذي يسكن أولا وينجز، ثم بعد ذلك يدرك نظريا ويفعل من خلال إمكانية "الفلسفي" ذاتها. وعن هذا القرار الذي يرى هوسرل أننا لازلنا قادرين على اتخاذه يكتب: "به وحده سيتم الحسم في شأن الإنسانية الأوربية، وهل تحمل في ذاتها فكرة مطلقة بدل أن تكون مجرد نمط أنثروبولوجي بسيط كما لو كانت شعب الصين أو الهند. وبه أيضا سيتم الحسم في شأن أوربة الإنسانيات الأخرى، هل هي أوربة بذاتها عن معنى مطلق نابع من معنى العالم، أم مجرد أوربة نابعة من حادث تاريخي بلا معنى (Krissis6).

نستطيع أن نتجاهل هذا النداء، الذي يطالبنا باتخاذ القرار التاريخي، بأن نتوهم مث أن فيه نوعا من المركزية العرقية تخدعنا على نحو ماكر بفكرة أوربا، نداء يقلقنا بهذا الاستخدام الصاخب ل"المفهوم الأرسطي القديم "الكائن الكامل" إلى درجة أن نرى بأن "الإثنوس" -والشعب هنا مستحضر- ما هو إلا شعب كينونة "أوربا" جغرافية هذا الاختلاف الخيالية، و"التيلوس" الذي يمنح لباسه للتاريخ غير الطبيعي للكائن – الإنسان كتاريخ ل"العالم" الذي بالمقارنة معه فإن كل الإنسانيات القديمة والحالية – وبالمقارنة معنا أيضا، وبالأخص نحن "كأوربيين طيبين" جنود العلم والوعي – فإن هذه الإنسانيات ليست سوى حاملات لقدر خالد ودائم يتحرك بالحضارات وكأنها قطيع داخل العالم، واضعا على الجدران (أو الأروقة) الفن الأكثر رقيا، مرتفعا في ضجيج شعري مثير، ذاك الذي يؤشر دائما على وجود تجمع لرجال وخطابات الحكمة الأكثر رقيا، والحب الأكثر إيلاما، قدر يصوغ أخلاقا، ويهيئ حروبا، وصناعات، ويترقى في الأخير بآلياته النظرية نحو السماء، في اتجاه الأجسام والأرواح، وأولا وأخيرا بالارتفاع نحو التقنية الآلية الخالصة التي تتميز بها المنظومة الرياضية. لكن بدون هذا القرار التاريخي فإن هذا الكائن هو حيوان مسلوب من طرف اللوغوس وليس كائنا حيا يمسك باللوغوس، أي كائن يتميز بالقدرة على الثورة عليه، كما تطوقه وتؤسسه القوى اللاطبيعية على نحو مطلق لكائن إنساني على نحو مطلق. هذا هو الإنسان الإغريقي المولود الأول من بين الأموات، والذي هو نفسه ميت تماما، وحي كميت، وراجع إلى العالم داخل الطبيعة المرحة التي لا تعرف أبدا حدودها غير أنها قادرة على استخدام تلك الحدود. هذا الإنسان الإغريقي العائد هو مع وضعه القلق هو وحده القادر على القرار، إنه أوديب الثاني.

يمكن أن نتخلى عن التشبث بفكرة اختلاف الإنسانية الإغريقية عن كل إنسانية أخرى، وأن نتراجع عن قرارالكينونة، وحالة وعينا كحالة أعين الحيوانات أمام النار، ولكن مع ذلك فإننا نستمر في نقل العدوى إلى الإنسانيات "الأخرى" بواسطة القوة ذاتها التي يتميز بها العلم والتقنية والثقافة -أو بتعبير جامع- بواسطة القوة التي يتميز بها "نمط الكينونة" الأوربي. وذلك لأن العقل الحديث يرتكز على قاعدة ميتافيزيقية تحتية مشكلة مسبقا (بتشكيل هو نفسه طبيعي)، وكل نتاجات هذا العقل تستمد من هذه القاعدة قوة قاتلة تجاه كل النتاجات الطبيعية التي للإنسانيات التي ظلت خارد هذا القرار، قرار الكينونة، وإذا لم تكن لدينا هذه البطولة فإننا لا نزال نحمل المرض. وكيفما كان الحال، بمعنى سواء أردناه أم لا وسواء عرفناه أو لا، فإننا في سبيل توحيد الأرض بما تحمله من شعوب تحت الإنتاج اللانهائي للعقل "الخالص" والوعي "الخالص". إلا أن السؤال هو فقط معرفة هل الإنسانية الحديثة، التي "تؤنسن" الإنسانيات الأخرى، أي تجعلها حديثة، قد تهربت هي نفسها منذ زمن طويل من مهمة معرفة ذاتها، أي اكتشاف وتحديد قاعدته الميتافيزيقية من حيث طبيعتها وحدودها، وهي المهمة التي تستلزم هي نفسها وجود القدرة على إنجاز إمكانية (أو ماهية) الميتافيزيقا بما هي كذلك، أو بتعبير آخر القدرة على جعل الكينونة والحقيقة من جديد، سؤالا ومجال معركة وموضوع قرار. إن امتناع الإنسانية الحديثة عن أن تكون إنسانية غير عرضية، بنفس الإحساس البطولي الذي كان للإغريق ولكن نحو مجهول حتى لديهم، يدل على أن الإنسان الأوربي يخضع لقدره كعبد، ويقود غيره كمستبد.

إن السؤال الهوسرلي، ذاك الذي يضمن لكتاباته كلها قيمتها التاريخية ودلالتها الأساسية، هو سؤال حول معنى وأساس الحداثة. وأكيد إن هذا السؤال لم يدرك منذ البداية بنفس الصورة، وبنفس الحسم الذي صيغ به في كتاب "الوصية" (Testament أزمة العلوم الأوربية) الذي بدأنا منه مقالتنا هذه. ولكن يمكن أن نقول إنه هو أيضا كان المبدأ الموجه لكل "الأبحاث" -المنطقية ثم المتعالية، وأخيرا المطلقة- التي عبرها أظهرت الفينومينولوجيا، شيئا فشيئا، ما هي "قادرة" عليه. وهذه المراحل هي على الرغم مما تحمله من وحدة لا يمكن إنكارها، ثمة بينها اختلاف شديد. وهذا ما ينبغي أن نؤكد عليه كل مرة خلال الإيغال في تفاصيل هذا العرض، والذي ستتبين فيه، مرات متعددة، التساؤلات الأساسية التي ظهرت لحد الآن.

3- "التأسيس الأفلاطوني للمنطق":

إن السؤال عن معنى الحداثة وأساسها، هذا السؤال الذي تتجمع فيه كل الأسئلة الأخرى للفينومينولوجيا، هو السؤال الذي كان عند هوسرل في فترة "أبحاث منطقية: (1900) في موضع تهميش غير محدد، ولكنها كانت ذات قائدة بالنسبة للنمطين العلميين الحديثين اللذين هما وحدهما -أو كما يزعمان- "قادرين" إزاء إشكالية "المنطقية" بشكل عام: أي السيكولوجيا (التي كفرع لعلم الطبيعة الحديث) و"نظرية المعرفة" (كفرع لعلم الوعي الحديث). أما الفلسفة التي كان ينبغي أن تتأكد في هذه الأبحاث، والتي كان من المفروض أن تمسك بفكرتها تحت تعبير "فينومينولوجيا"، فقد كان حظها يتمثل بالتأكيد في أن هوسرل لم يكن أولا فيلسوفا، بل كان رياضيا. وهكذا، وللمرة ثانية، وتحديدا بين (1891 فلسفة الحساب) و(1900 أبحاث منطقية)، تحققت الحكمة الفيثاغورية التي سجلها أفلاطون على مدخل الميتافيزيقا "لا يدخلها إلا من كان رياضيا".

إن نقطة الانطلاق في كل علم هي أن لا ندرك الأمر بمعنى تبعية المنطق لنظام العلوم، ولكن بالعكس كتأسيس لكل العلوم داخل المنطق تماما كداخل "إمكانيتها المبدئية"، وهذا هو ما سيسميه هوسرل لاحقا (في مقدمة "المنطق الصوري والمنطق المتعالي") ب"التأسيس الأفلاطوني للمنطق". والإحالة على أفلاطون هنا أساسية، إذ تحدد هذه الإحالة الاختلاف المحوري للعمل الهوسرلي بالمقارنة مع كل عمل فلسفي (ومن ثم ففيه يظهر على نحو آخر ذلك "الإغريقي" في شخص هوسرل، وتظهر فيه قدرته على القرار). وبالفعل إن الأطروحة الهوسرلية هي أن "العلاقة الأصلية بين المنطق والعلم قد قلبت على نحو ظاهر في الأزمنة الحديثة" (مقدمة "المنطق الصوري والمنطق المتعالي"). الأمر الذي يعني أن الرياضيات الحديثة ليست وحدها فقط ولا علوم الطبيعية الحديثة فحسب، ولكن الميتافيزيقا الحديثة تفسها ليست هي أيضا سوى علوم. ويقصد ب"العلم" هنا "الإنجاز الساذج والتلقائي للعقل النظري"، بمعنى إنجاز معرفة مفصولة عن سؤال "الحقيقة" نفسه، معرفة لا تستهدف بتاتا "الراديكالية" الأساسية في الفهم والبرهنة على الذات" معرفة لا تستهدف أبدا "الفكرة" واللوغوس.

وعلى عكس ذلك، إنه بأخذ هذه الرؤية الأفلاطونية استعاد هوسرل القرار الفلسفي على مستوى لم يكن معروفا عند فلاسفة الحداثة. هذا القرار الذي سيسميه ب"المنطقي". وينبغي فهم "المنطقي" في كتاب "أبحاث منطقية" كنعت للوغوس. وليس مهما أن تدين هذه الأبحاث باسمها إلى كون "موضوع" بحثها يشمل بالفعل مجموع المجالات التي تتضمنه -تأملات حول الرياضيات، وتأملات حول الأنساق الصورية بشكل عام، ثم عموميات حول العلوم، وربما أيضا حول مفهوم الدلالة نفسه. بالفعل إن أبحاثا أساسية لا تدين أبدا بتسميتها إلى موضوعها، بل تدين به إلى نظامها وإلى مبدإ هذا النظام. ولذا تضم أبحاث هوسرل ليس فقط، الموضوعات المنطقية المحددة سابقا، ولكن أيضا، بل وخاصة تحليلات من الممكن بالنسبة لنا نحن المحدثين، أن تتبع من حقول علمية غير حقلنا "المنطقي"، حقول عادة ما توضع في درج خلفي حيث تلقي الفلسفة الحديثة، بفعل عقلي ساذج، ما كان بإمكانه أن يشكل صورتها، الذي هو ليس أبدا عمومية موضوعها الغامضة، ولكنه "الفلسفة العامة". وكذلك الشأن بالنسبة لما تتضمنه أبحاث هوسرل من تحليلات أخرى كتلك التي تتعلق بفكرة "النحو الخالص" والمعيش القصدي، والحدس المقولي الخ..

الميتافيزيقا الحديثة والرياضيات:

ينبغي أن نقدم هنا ملاحظتين فيما يخص الارتباط الأصيل بين نقطة الانطلاق الرياضية والبعد الأفلاطوني للمنطق عند هوسرل في مرحلته الأولى.

تتعلق الملاحظة الأولى بميتافيزيقا المحدثين التي تم اتهامها مرات عديدة بكونها نابعة من اشتغال طبيعي أو ساذج للقدرة التنظيرية. وهنا ثمة بالفعل شيء ربما لا يكون قد فهم جيدا: فمن جهة إن الرياضيات قبل أن تكون مناسبة لإعادة اكتشاف هوسرل للوغوس والإيدوس "الإغريقيين"، هي أولا علم حظي بتطوير حديث (بين جيل فرمات، باسكال، ديكارت، وجيل لايبنتز ونيوتن) وقد جذبت معها في سياق تطورها هذا ليس فقط علم الفيزياء، أي الفيزياء الرياضية، ولكنها جذبت معها أيضا مشروع ميتافيزيقا حديثة، تلك التي تم تصوريها أيضا ك"رياضيات كلية" أو فلسفة هندسية. ومن ثم فالرياضيات ليس هي نفسها التي ستقود الفكر نحو "راديكالية أساسية" من نمط "إغريقي" بل بالعكس إن نموذجها نفسه -الذي يعتبره كانط للسبب السابق ذكره النموذج التحريفي للميتافيزيقا بامتياز- يمكن أن يوجه لكي يستعمل التفكير ببساطة كما لو كان الحال في علم قائم على قاعدة "ساذجة" أو "طبيعية" وليس تحويل هذا التفكير عن هذه القاعدة الساذجة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن الفلسفة الحديثة لا تجهل (ولا يجهل هوسرل أنها لا تجهل) "الجهود... التي تنزع نحو تأسيس... المنطق الحقيقي". أي المجهود الراديكالي الذي بداخله "يسبق المنطق العلوم". وبالنسبة لهوسرل فإن في هذا بالضبط يكمن معنى هذه "الفلسفة الأولى" التي تتجسد في تأملات ديكارت. فكيف نفهم ضمن هذه الشروط أن "فرصة الفينومينولوجيا" كما أكدناها من قبل" هي "بالتأكيد في كون هوسرل لم يكن أولا فيلسوفا بل كان رياضيا"، وكما أكدها هو نفسه بقوله: إن "العلاقة الأصلية بين المنطق والعلم قد قلبت على نحو تام في الأزمنة الحديثة"؟

بالنسبة للنقطة الأولى، من المؤكد أن الرياضيات ليست أقدر من غيرها من المعارف، التي هي ليست معارف الحق واللوغوس بالذات، ولكنها كعلم يتلقى موضوعات على أساس مأخوذ من منطقيته المعطاة مسبقا؛ أو المأخوذ من ماهويته الخفية، لا يمكنها أن تقود التفكير نحو الراديكالية الأساسية، ولكن اعتبار هوسرل قد اكتشف ذلك الموقف الفينومينولوجي بسبب كونه رياضيا، هو تبسيط للمسألة. لأن الاعتبار الصحيح هو أنه بسبب انهماك هوسرل في الممارسة الرياضية، لم يتمكن من إدراك التباعد بين الاشتغال المحدد من طرف المثالية الرياضية، وبين الخطابات "السيكولوجية" أو خطابات "نظرية المعرفة" التي تحاول أن تأخذ بعين الاعتبار توجهها نحو نوع من الأساس أو المرتكز "المنطقي" الذي هو أصيل بالمقارنة مع المقاربة البحثية للخطابات التي تزعم أنها تفسيرية ونهائية. بل إن هذه الخطابات تظهر، على العكس، كوجهات نظر خارجية محددة طبيعيا أو موضوعيا في الخارج في الشيء الرياضي ذاته، أي محددة "داخل العالم" في منطقة واقعية مفصولة في الخارج عن الفكر، أي مفصولة عن منطقة "الروح الإنسانية". والنقطة الثانية التي تبينت لهوسرل شيئا فشيئا هي أن كل تفسير للمعرفة (وليس فقط للمعرفة الرياضية) لم يأخذ نقطة انطلاقه من بداهة مفهومه للمعرفة كنوع من قدرة الروح الإنسانية، أي تفسير يرى في الروح ذاتها -وكما يفيد بالفعل هذا اللفظ من حيث ترسانته الدلالية التقليدية- الميزة الخاصة لهذا الكائن الحي الطبيعي الملتقى به داخل العالم والمسمى "إنسانا"، هو تفسير يفقد وسط نتائج "بداهة" بدايات الحدث وبداهة الانتماءات الواقعية، كل إمكانيات لاتباع محكم لنظام آخر، وتعاقب آخر، نظام وتعاقب "المنابع" (الماهوية، المنطقية، الواردة هنا بمعنى اللوغوس، والراديكالية، أي باختصار: "المنابع الفينومينولوجية") وبالفعل إن هذه المنابع ليس لها أي عهلاقة ب"بدايات الحدث" تماما كما أن المبدأ لم يكن له عند الإغريق أية علاقة بمéميïيهيïي أو بعبارة أخرى إن نظام وتعاقب الانتماءات القصدية لا تلحق ولا تتقاطع مع نظام وتعاقب الواقعيات، فبالأحرى أن ينبع منها.

إن هذا القلب للواقعي إلى المثالي هو بالضبط ما لم تكن فلسفة الأزمنة الحديثة قادرة على إنجازه. الأمر الذي حرف شيئا فشيئا مفهومها عن الرياضيات والمنطق، وعلاقتهما، بعد أن كانت هذه الفلسفة دائما تضعه في سياق غامض، وانتهاء بتحريف علاقتها بذاتها بما هي فلسفة. وهكذا اعتقد الفلاسفة المحدثون، باعتبارهم "مناطقة"، بإمبراطورية صورية، ليست الرياضيات فيها سوى إقليم من بين أقاليم. في حين وعلى العكس من ذلك، اعتبرت فلسفة الأزمنة الحديثة هذه أن الصورة الرياضية للنظرية هي الصورة الوحيدة لكل مقاربة ممكنة، ولكل ما يمكن أن يوصف بتعبير محدد بكونه "صوريا". وهذا يرجع إلى كون الفلاسفة قد تخلوا عن الجهود التي تتطلب صياغة مثالية معينة، أو بتعبير آخر إن السبب راجع إلى الأسطورة الحديثة للبداهة العقلية التي تتلخص في ضرورة حصول شفافية الوعي أمام ذاته. وهكذا لم تكن فلسفتهم نفسها مدركة إلا بالطريقة التي يتم بها إدراك علم من العلوم، بمعنى أنها تدرك كمعرفة لمجال طبيعي. وهكذا تم تحليل الروح الإنسانية، وتقسيم قدراتها، والبحث عن تمفصلاتها. ومن ثم إذا كان الفكر ليس مجالا طبيعيا أو واقعيا، وإذا لم يكن خاصية كائن حي في العالم، ولكن عبارة عن إمبراطورية لا تتقوم على الإطلاق بمثاليات المبدإ، فإن الفلسفة الحديثة كعلم للروح، وكسيكولوجيا متعالية هي مجرد لغو كبير يتحدث عن شروط اللوغوس التي ينبغي أن يخضع فيها هي أيضا مفهوم العلم نفسه، ومفهوم المنطق، وكذلك مفهوم الفلسفة كعلم، لمقاربة جسورة تجعل من الميتافيزيقا الحديثة نتاجا خالصا لمعجزة عبقرية غامضة من حيث مبادئها ومتشعبة من حيث مضامينها، وقابلة في أي لحظة لأن تجعل من يقود خاضعا لسيطرة من هو مقاد، ميتافيزيقا محكوم عليها بالتدمير بالنقد أو الاستهجان الذوقي. أو أقبح من ذلك محكوم عليها بأن لا تفهم أبدا، وأن تصبح في نظر ذاتها مجرد بقايا دمار أو أثر غير قابل لفك رموزه، ميتافيزيقا متروكة في موقع خطر حيث تسكن الإنسانية الحديثة بكل علومها وفعالياتها التي هي بالنسبة لهذه الميتافيزيقا كجماعات القردة في معابد الأنغور Angkor.

إذ ليست الرياضيات كلها هي المسؤولة عن تحريف الميتافيزيقا الحديثة وليس هي أيضا أصل مفهوم الميتافيزيقا المنظور إليها ك"رياضات كلية" مهما كان الدور الذي لعبته الرياضيات في صياغة فكر ديكارت ولايبنز. لأن "الرياضيات الكلية" هذه تعني هنا، تماشيا مع أسطورة التذكر المفهومة بطريقة حديثة (أي بطريقة سيكولوجية وليس منطقية) أن النفس لا تتعلم أي شيء، بل كل ما تقوم به هو تذكره. وعلى أي حال ليس باتباع عربة الآلهة، كما هو الحال عند أفلاطون يتم تذكر اللوغوس. ولذا فبسبب كونها أخطأت "التأسيس الأفلاطوني للمنطق" لم تتذكر الفلسفة الحديثة، أي لم تستعد ولم تصل، شأنها في ذلك شأن منبع كل مثالية، إلا إلى حضور الوعي أمام ذاته داخل عملية اشتغاله. وفي هذا فقط وعلى أساس هذه القاعدة وحدها كان من الضروري أن يكون لديها نموذج معاش بهذا القدر من الشفافية. ولذا فالرياضيات مع بقائها هذا الهذر الذي يبحثه الميتافيزيقي من الأعلى، تظل، مع ذلك، النموذج والقالب.

صورة المعرفة ومادتها:

والملاحظة الثانية التي تفرض نفسها هنا تتعلق بالطبيعة المادية ل"المنطق"، فالأمر الأكيد هو أن المنطق لا يكتسب خاصية أفلاطونية راديكالية ماهوية عندما لا يصبح موضوع بحث من خلال منظور إشكالية سيكولوجية فقط، بل إنه يكتسب أيضا تلك الخاصية عندما لا يصبح ملتبسا بإمبراطورية "الصوري". ويفسر هوسرل بشكل واضح في تمهيده للطبعة الأولى من "أبحاث منطقية" كيف أن دراسة اللوغوس الرياضي بعد أن قادته خارج بداهة الكمي، أي نحو الماهية الأكثر عمومية للعلوم الرياضية بما هي "علوم صورية" (والتي هي كما يعتبرها الفصل الحادي عشر من كتاب "المقدمات" "prolégomènes" العلوم الصورية الوحيدة) ألزمته تلك الدراسة للوغوس بالتحول على نحو طبيعي نحو الأسئلة الأكثر أساسية أسئلة الماهية والصورة والمعرفة، في مقابل مادة المعرفة، ومادة عنى التمييز بين التعيينات والحقائق والقوانين التي هي صورية (أو خالصة)، وبين مادة التعيينات والحقائق والقوانين التي هي مادية".

والحق يقال إن هذا التمييز بين الصورة والمادة الذي هو كما يبدو يكرر ببساطة المفهوم التقليدي للمنطق، هو تمييز غير قادر، حتى بالنسبة للنظريات الصورية (الرياضة) ذاتها، عن أن يأخذ بعين الاعتبار الوحدة المنطقية لمضمون الفكر أي "وحدة النظرية". ولكن بالنسبة لهوسرل فإن عدم فعالية هذا التمييز بين الصورة والمادة الذي عجز -حتى داخل النظريات الصورية (الرياضية) ذاتها- عن اعتبار "الوحدة المنطقية لمضمون الفكر، أي وحدة النظرية "هو الذي أرغم الفينومينولوجي -عندما تم التخلي عنه من طرف المنطق حيثما انتظر منه إضاءات حول الأسئلة المحددة التي يطرحها عليه- على أن يتخلى بدوره عن هذا المنطق المؤسس على هذا التمييز السيكولوجي، وليس الماهوي، بين "الصورة" و"المادة".

وليس هناك في تاريخ الفلسفة أي تحول أكثر أهمية من هذا. فهو بالضبط ذاك الذي يقود من "التأسيس الأفلاطوني للمنطق" إلى التحديد النقدي ل"ميتافيزيقا" المحدثين. ونعني بالتحديد النقدي أن هوسرل أبرز الحدود الأساسية التي بها تتحدد الصورة الفعلية للفلسفة الحديثة وتاريخها الفعلي. وهو يبرز هذه الحدود كنقص أو حيرة أساسية تماما كعدم التحديد التي يميز الصورة المعنية بالنظر إلى الشروط الخاصة بالتطور المحكم للوغوس. وهذا التطور المحكم للوغوس له "المبدأ العام الذي يميز كل منهج، والذي بالقياس عليه فإن كل معطى له حق أصيل "(أفكار Idées directrices) وكل معطى يعني بأن "كل كينونة فردية موضوعة تحت الحدس" ينبغي أن تكون "موزعة على مناطق الكينونة. وإن توزيعا أنطولوجيا كهذا لا يستبعد أي شيء من الكيفية التي يعطى بها المعطى في التجربة (أيا كان هذا المعطى وأيا كان مصدره). وبالعكس فإن ال"كيف" Le comment غير قابل للإرجاع إلى الطريقة التي يظهر بها المعطى، بل إن هذا ال"كيف"، الذي هو "الظاهرة" Le phénomène التي يعود إليها أصل تسمية الفينومينولوجيا، ينبغي أن يؤخذ كما هو. إن الدراسات التي هي منطقية بشكل تام والتي تنجز هذا الانتقاء من الوجود القبلي لكل كائن داخل ال"كيف" هي بالضبط ما نرى فيه نحو أفضل أن "المنطقي" Le logique هو بالتأكيد وفي آن واحد القرار والتحديد الدقيق لما يريده هوسرل بعبارة "اللوغوس الإغريقي". وهنا توجد النقطة التي ينبغي الإمساك بها قبل الاستمرار في دراسة دلالة الفينومينولوجيا الهوسرلية من منظور سلسلة أخرى من المفاهيم ومجموعة أخرى من النصوص -التي هي مع ذلك مشهورة، في فرنسا على الأقل، وأنجزت عليها تعاليق كثيرة بمبادرات شخصية- كالقصدية، ومناهج الإرجاع، والنزعة المتعالية، ومطلب العلمية والمطلق. لأن هذه السلسلة من المفاهيم والنصوص هي التي يتم خلالها تمتين تلك المفارقة الأنطلوجية العامة والعميقة التي سقط فيها التأليف الهوسرلي. وبالفعل إن الفينومينولوجيا استطاعت لأول مرة في تاريخ الفلسفة أن تحدد العقل الحديث في ماهيته كعقل تحليلي سيكولوجي متعال، أي بتعبير آخر كأنطولوجيا صورية لشبه منطقة "موضوع عام"، ولأول مرة أيضا منذ الإغريق كانت هذه الفينومينولوجيا على عتبة منح الفكر إمكانية متماسكة، وذلك بخطوها إلى الوراء خارج ميتافيزيقا المحدثين لكن المفارقة -التي سنؤخر تحليلها إلى اللحظة الأخيرة من هذا العرض- تتحدد في ذلك القلب الذي بواسطته استلبت الفينومينولوجيا من طرف عبقرية قدر هذه الميتافيزيقا، والتي كانت تكرر حدودها في مستوى درجة خاصة من العمومية. أضف إلى ذلك أن هذه المفارقة العميقة التي تسم الإنتاج الهوسرلي، هي مفارقة تسم حتى مؤلفاته التي استمرت في الانشغال بقضايا "المنطق" ("المنطق الصوري والمنطق المتعالي" 1929 و"التجربة والحكم" 1939 هذا إذا ذكرنا المؤلفات الأساسية فقط). ولا تظهر هذه المفارقة إلا إذا كنا مستوعبين للقيمة الأنطلوجية الجديدة كليا للدراسات المنطقية التي أنجزها هوسرل في مرحلته الأولى ومستوعبين لقوتها التاريخية الخاصة التي هي إظهار حدود العقل الحديث. وإذا كانت تفاصيل العمل قد تم إنجازها في مرحلة "الأبحاث المنطقية"، وإذا كان من الضروري أن نعيد خطوة خطوة هذا المسار مع هوسرل، فإن الدلالة العامة والقيمة التي لهذه الأبحاث لا تظهر أبدا بوضوح مثلما تظهر في الجزء الأول من "أفكار" إذ في هذا الجزء نرى بوضوح تام -على الرغم من الصعوبة التي تتسم بها هذه التحاليل، والتي هي صعوبة لا يمكن إنكارها- أن العقل الحديث يمكن أن يتصور كعقل المنطقة الصورية "أو عقل الموضوع بشكل عام" حيث تضيع أي داخل هذه المنطقة، التعيينات المادية للقبلي، ويصبح العقل الحديث مرغما على أن يكرر باستمرار إعادة بناء التعيينات القبلية للتجربة داخل لغة الرياضيات الكلية، ومن ثم داخل لغة الأنطلوجيا الصورية. وهذه التعيينات القبلية هي رغم ذلك لا يمكن أن تتناول إلا بأخذ ماديتها داخل "الأنطولوجيات المنطقية". وأن نجعل من المنطقية logicité الصورية الحديثة بديلا للمنطقية المادية "الإغريقية" وعلى نحو خاص (بمعنى في شبه خطاب للتجربة الذي هو في الواقع خطاب حول الجانب الخيالي لبداهة موجودة داخل الحكم)، هو نشر لتأويل معكوس وماهوي على نحو معمم، وهو أيضا يجعل الفلسفة الحديثة محكوم عليها بأن لا يكون لها من مجال خاص غير مجال "السرد الحكائي" أو مجال رواية الميتافيزيقا كما كان هيجل يقول عن لايبنز من قبل.

إن عظمة هوسرل هي بالتأكيد في قدرته على كشف، وفي نفس الوقت، وعلى نحو ما قدرته على خدش هذا القدر الذي هو قدر الإنسانية الحديثة. ولكن دراما هوسرل هو أن نفس القدر، لكن على نحو معمم ولامرئي، ولكنه وبشكل حاسم ارتد ضد هوسرل بقوة، وهكذا يمكن أن نرى في هذا القدر نفسه قبر هوسرل الإغريقي والأثر ذاته لانتهاء الحداثة.

4- هوسرل الحديث:

منذ البداية بقي البعد الخاص بالفينومينولوجيا مجالا جديدا تماما، بمعنى أنه بقي أيضا مجهولا حتى بالنسبة لها، والذي عليه أن يتحدد معناه الأكثر عمومية تزامنا مع تقدم واكتمال البحث الماهوي في تفاصيله الواقعية. وبالضبط بين العمومية والتفاصيل الواقعية -الذين هما مشروطين ببعضهما- وداخل هذا الجهد الذي يستهدف إنقاذ هذه الجدة المحيرة التي يتسم بها الفكر، من لا تعيينه، هو ما يجعلنا قادرين على إدراك أن النظرية هي نفسها أولا ممارسة، أي بمعنى أنها مخاطرة أساسية.

ومفهوم المخاطرة هنا وإن كان فيه شيء من الأسطورة الرومانسية، يظهر أن الفينومينولوجيا فشلت في المعركة التي خاضتها من أجل إخراج الإنسانية الحديثة من لاتعيينها الثقافي (الحالة التي يسميها هوسرل ب"الأزمة") إلى الإمكانية الإغريقية، أي إمكانية اتخاذ قرار الكينونة. لأن معنى الكينونة المتخذ من طرف المحدثين، أي بمعناها كـ"وعي" "خالص" هو الذي حول مسار السؤال "الأفلاطوني" الراديكالي مسقطا إياه على الأرض. ولكن المسألة هي في معرفة كيف أن هذه الوضعية قد تعززت شيئا فشيئا، وما الذي جعلها ممكنة، أو بالأحرى ما الذي جعلها وضعية حتمية الوقوع داخل مبدإ الممارسة الفينومينولوجية ذاتها.

يبدو أن هناك سببين يمكن أن نرجع إليهما تطورات هذا الانعراج الذي حول هوسرل الأفلاطوني (أي هوسرل في مرحلة الأبحاث المنطقية) إلى هوسرل الديكارتي (في مرحلة "التأملات"). والسبب الأول يتمثل في كون المدخل إلى اللوغوس قد فهم منذ البداية وفق نظام الحدس، بمعنى وفق نظام الحضور، والسبب الثاني يتمثل في كون نقد سذاجة (الموقف الطبيعي) -فلسفة المحدثين- قد فهم كما لو كان مجرد تعليق هذه الفلسفة، أو ناتج داخلها من "موقف" معين. وإن هذا التعيين المزدوج، الذي هو من جهة تعيين للطريق الخاص بالفينومينولوجيا، ومن جهة أخرى توكيد على ضرورة الاحتياط الذي ينبغي أن اتخاذه تجاه الميتافيزيقا الحديثة يستلزم أن لا يكون هناك رابط أساسي بين مفهوم الكينونة كحضور والحدود السيكولوجية أو المنطقية (الصورية) للخطاب المتعالي حول الوعي، ويستلزم أيضا أن الحدود الطبيعية للفلسفة الحديثة لا ترتكز على لغتها حتى قبل تكوين "أطروحة" داخلها أو "موقف" يمكن أن تتخذه أو الذي يمكن أيضا أن لا يكون قد اتخذته. وإذا كان توجيه الماهوي نحو الإيدوس (نحو الرؤية)، أي توجيه اللوغوس نحو الحضور، يؤدي بحد ذاته إلى النزعة النفسية المتعالية وإلى افتقاد القدرة المنطقية (الصورية) والذي يسم لغة الفلسفة الحديثة نفسها، فإن طريق الفينومينولوجيا يختلط منذ البداية بذلك السبيل الخفي الذي هو سبيل فلاسفة الحداثة، كما أن قدر اللاقرار الذي يسم الإنسانية الحديثة داخل ميتافيزيقيتها يتكرر على نحو أساسي داخل الفينومينولوجيا التائهة داخل اشتغالها بالمعارك الجزئية ضد النتائج أو الصور الأكثر مرئية لهذا القدر داخل التاريخ.

إن الوضعية المحددة هنا هي أكثر صعوبة من أن تمسك من مبدئها، وأكثر بطئا في حركتها ونموها داخل التأليف الهوسرلي، أي من بداية الفينومينولوجيا إلى نهايتها، لكي نزعم القدرة على اختزالها داخل عرضنا هذا. وإنه من الممكن الإشارة فقط إلى بعض الخطوط للمسائل أو للنصوص التي عبرها يمكن أن نكون رأيا أكثر دقة. ومن بين هذه الخطوط -التي ليست متساوية من حيث الأهمية ولا من حيث الطول- يمكن في البداية أن نذكر مسألة ارتباط الفينومينولوجيا الناشئة بإشكالية برنتانو -التي كانت إشكالية سيكولوجية- (برنتانو الذي كان أستاذ هوسرل في الفلسفة) ونذكر أيضا مسألة غموض المبدأ الذي كان يوجه هوسرل دائما في اختياره لما "سيستعيره" ولما "سيتركه". وفي هذا السياق هناك بحث جيد فيما يخص المفهوم المحوري أي "القصدية" هو دراسة بوهيم R.Bohum المعنونة بـ"إلتباسات مفاهيم المحايثة" والترنسندنتالية الهوسرلية". (Revue philosophique de la France et de l’étranger n°1959) أما فيما يخص مسألة اللاتحديد الذي تتميز به تقنية استعارة هوسرل من أستاذه فهي مبحوثة في دراسة G.Granel حول "معنى الزمن والإدراك عند هوسرل.

ويجب أن نشير من جهة أخرى، إلى مسألة الدور المركزي الذي لعبته فينومينولوجيا الإدراك -التي منها صدر في فرنسا كل إنتاج مرلوبونتي- في بناء الفينومينولوجيا لإمكانيتها الخاصة، والدور الذي كان للعلاقة بين الفينومينولوجيا والفلسفة المتعالية الحديثة كما تم بناؤه على أرضية هذا النوع من المسائل، إن النص الأساسي فيما يخص هذا الموضوع هو الكتاب الثاني من "أفكار" أما الأبحاث التي يمكن أن توضح هذا الموضوع من جهة السؤال المطروح (أقصد مسألة المصير الحديث للإنتاج الهوسرلي) فهي مقدمة بول ريكور، مترجم "أفكار" 1 إلى الفرنسية، وملاحظات بويهم على هذه الترجمة، ودراسة G.Granel المذكورة سابقا.

ومن جهة ثالثة نلاحظ أن القراءة الممتازة التي أنجزها جاك دريدا لمذهب الدلالة كما تكون داخل الجزء الأول من "أبحاث منطقية" (في كتابه "الصورة والظاهرة") هي في الحقيقة نقطة الانطلاق لتأويل وضعية الفكر الهوسرلي في مجموعها، وهي القراءة الوحيدة التي أمسكت بالمعنى على النحو ذاته الذي تحدثنا عنه أعلاه، أي أمسكت بالطبيعة والقيمة الحاسمتين على نحو مطلق اللتين يتميز بهما سؤال "الحضور".

ويمكن أن نضيف على الرغم من مظهرها المحدود، تلك الملاحظات التي أنجزها رومان إنغاردن على "تأملات ديكارتية" والتي قدمها لأستاذه هوسرل غداة ظهور كتابه هذا الذي يتمظهر فيه هوسرل بطابع المثالية المتعالية الفينومينولوجية في إطلاقيتها. وحتى هوسرل نفسه لم يقلل من قيمة هذه الملاحظات التي تعبر عن رفض تلميذه القديم (أي تلميذه في مرحلته الأفلاطونية)، لهذا التكرار الإطلاقي للنزعة الديكارتية. ولهذا السبب نجد ناشري ال"هوسرليانا" قد أدرجوا هذه الملاحظات مع طبعتهم ل"تأملات ديكارتية" غير أن الناشرين الفرنسيين للأسف لم يفعلوا نفس الشيء.

إن هذه الإشارات هي بالفعل جزئية. ولا تستهدف استبعاد طرق أخرى يمكن أن تستخدم لإعادة معرفة كيف أن نقد حدود فلسفة الحداثة هو نقد يلتبس عند هوسرل بتكرار مشروع الحداثة في مستوى من العمومية و"الراديكالية" الذي كما يمكن أن يمر أمام عينيه في صعود الفرضية الطبيعية التي تهيمن في الصور التاريخية المتبلورة من الميتافيزيقا المستمدة من ديكارت، بينما هي في نظرنا نحن توكيد على عكس ذلك، أي تراجع الفكر الحديث، وحتى الفكر " الفينومينولوجي" نفسه أمام ارتياد المخاطرة التي يستلزمها سؤال الكينونة أي أولا كسؤال عن معنى الكينونة. لكن هذا السؤال الأخير هو كما نعلم سؤال هيدغر. ولم يتعرف هوسرل أبدا بكون هذا السؤال له ارتباط بالمشروع الفينومينولوجي أو حتى كاستمرار أصيل لهذا المشروع. بل إن هيدغر هو الذي سيخوض وحده المعركة الهوسرلية من أجل الوصول إلى إمكانية ظلت لحد الآن ممنوعة عن الإنسانية، إمكانية ثاوية داخل قرار الكينونة (هذا المضاف إليه الذي ينبغي أن يؤخذ بالمعنيين السابقين). وإذا أردنا أن نعوض النصوص السابق ذكرها، بنص واحد فلنعوضها بالمقدمة وبالكتاب الأول من متن هيدغر الوجود والزمان.



المصدر الأصلي للمقال من هنا : http://philosophiemaroc.org/madarat_04/madarat04_04.htm
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 08-25-2009, 01:49 AM بواسطة فيصل وزوز.)
08-25-2009, 01:46 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  المحطات الأساسية لفينومينولوجيا هوسرل فيصل وزوز 0 5,184 08-25-2009, 01:38 AM
آخر رد: فيصل وزوز
  الوظيفة التأسيسية للذات عند هوسرل فيصل وزوز 0 2,323 08-25-2009, 01:13 AM
آخر رد: فيصل وزوز
  إدموند هوسرل الفينومينولوجيا الترنسندنتالية: البداهة والمسؤولية فيصل وزوز 0 2,325 08-25-2009, 01:06 AM
آخر رد: فيصل وزوز

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS