الدولار، نهاية اسطورة عمّرت ستة عقود
عمر نجيب - خسر الدولار الأميركي نحو 13 في المائة من قيمته أمام سلة تضم سبع عملات رئيسية في العالم خلال سنة 2009. وفقد الدولار 17 في المائة من قيمته أمام اليورو منذ 18 شباط-فبراير 2009، وتراجع يوم 6 تشرين الأول-اكتوبر وحده بنسبة 0.7 في المائة من قيمته مع عودة معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى الارتفاع.
في نهاية عام 2007 وبداية عام 2008 انهار سعر الدولار ووصل إلى ادنى مستوياته في القرن الحادي والعشرين، وذلك بسبب الأزمة المالية وازمة الرهن العقاري حيث سجل اليورو مستوى قياسي امام الدولار في شهر مارس وصل إلى 1.60 وسجل الجنيه إسترليني أكثر من دولارين و هبط الدولار دون الفرنك السويسري لاول مرة ووصل الدولار إلى ادنى مستوياته في 13 عاما امام الين دون 97 ين وهبط أيضا امام جميع العملات العالمية.
ومنذ العام 1971 انخفضت القيمة الحقيقة للدولار الأميركي حوالي 40 مرة.
سنة 1971 لها مكانتها في التحولات الكبرى على الصعيد الاقتصادي العالمي حيث أن الولايات المتحدة الأميركية رفعت في تلك السنة الغطاء الذهبي عن الدولار، وذلك عندما طالب رئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول استبدال ما هو متوفر لدي البنك المركزي الفرنسي من دولارات أميركية بما يعادلها ذهب.
الدولار الأميركي أصبح خاصة بعد الحرب العالمية الثانية أهم عملة في العالم لأسباب من بينها أن الولايات المتحدة تملك أقوى اقتصاد دولي وأكبر قدرة انتاجية، زيادة على أنه مغطى بقيمته ذهبا. إلا أنه في الواقع ومن سنة 1967 الى سنة 1971 لا أحد يستطيع أن يثبت أنه في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة الأميركية مخلصة في الوفاء بهذا الالتزام، حيث انها امتنعت أو ماطلت احيانا كثيرة في أستبدال الدولار بما يعادل قيمته ذهبا، مع أن الذهب يسعر عالميا بالدولار، وسعر الذهب (أوقية الذهب) تحدد حسب سعر البورصة وتقيم بالدولار.
بعدما عصفت الأزمة المالية سنة 2007 بالولايات المتحدة وافلست الكثير من الشركات والبنوك الضخمة والتي اثرت سلبا على الدولار انتقلت الأزمة إلى القارة الاوروبية وبريطانيا واثرت سلبا على اليورو والجنيه الاسترليني وذلك ابتداء من شهر يوليو 2008 والذي شهد أيضا انخفاض سعر النفط عن السعر القياسي 147.27 دولار للبرميل. ووصل اليورو في شهر أكتوبر 2008 إلى ادنى مستوى منذ عامين ونصف العام عند 1.24 دولار ووصل الجنيه الاسترليني إلى ادنى مستوى في 6 اعوام عند 1.55 دولار ولكن الدولار واصل انخفاضه امام الين الياباني إلى ادنى مستوى في 13 عام.
تحسن سعر العملة الأميركية ولو مرحليا لم يكن من السهل تفسيره على أساس معطيات علمية، ذلك ان الحالة الإقتصادية للولايات المتحدة لم تكن تسمح أبدا بذلك.
عوامل خفية
لقد اجتمعت عوامل لتحول دون انهيار الدولار تحت وطأة الأزمة، من بينها الطلب العالمي الهائل على السيولة الدولارية من جانب البنوك المركزية الكبرى التي كانت تسعى لتحصيل تلك السيولة لغرض ضخ مليارات الدولارات في المصارف للحد من أزمة السيولة العالمية الخانقة.
وقد غذى ذلك الطلب الهائل مساعي تمويل خطط الحفز الاقتصادي التي تبنتها القوى الاقتصادية العالمية الرئيسة -على غرار الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي والصين- التي بلغت حوالي 5 آلاف مليار دولار.
ومن العوامل الأخرى التي حالت -مؤقتا- دون انهيار العملة الأميركية في ذروة الأزمة تراجع العملات الرئيسة مقابل الدولار بسبب الخشية من أن تضرب موجات من الركود الاقتصادي أكبر الاقتصادات في أوروبا وآسيا.
بيد أن صمود الدولار لم يستمر طويلا، إذ بدأ يتراجع بوتيرة سريعة مع شروع إدارة الرئيس الأميركي باراك اوباما في تنفيذ خطط الإنقاذ الاقتصادي بقيمة مئات المليارات من الدولارات، وتبني سياسات نقدية كانت تعني عمليا طبع تريليونات من أوراق الـ"بنك نوت" ومراكمة القروض من الداخل والخارج.
وفاقمت خطط الإنقاذ تلك العجز في الميزانية الأميركية الذي يتوقع أن يقارب أو يبلغ تسعة آلاف مليار دولار على مدار عشر سنوات في وقت ارتفع فيه الدين العام الأميركي إلى أكثر من 11500 مليار دولار.
ودفع تراجع الدولار قوى اقتصادية صاعدة في مقدمتها الصين وروسيا إلى المجاهرة بالدعوة لإيجاد عملة احتياط عالمية بدلا من الدولار.
لكن إدارة باراك أوباما ردت بحدة على مثل هذه الدعوات، وقالت إن الدولار قوي وسيظل لسنوات كثيرة قادمة عملة الاحتياط العالمية الوحيدة.
وما تم الكشف عنه لاحقا اعطى تفسيرا اضافيا لهذا الوضع في عدم انهيار الدولار، فقد مارست الإدارة الأميركية ضغوطا ضخمة على العديد من الدول الصناعية والنفطية لكي تشتري الدولار من الأسواق وتلتزم بمنع انهيار اسعاره.كتب الخبير الاقتصادي جورغن أورستروم مولر في أبريل 2009، لقد ظل الدولار طوال الأعوام الخمسين الماضية هو العملة الاحتياطية، كما زودت الولايات المتحدة النظام النقدي العالمي بالسيولة، حتى أصبح التضخم العالمي يعتمد إلى حد كبير على كمية الأوراق النقدية التي تقوم الولايات المتحدة بطباعتها. وتستخدم عملة الاحتياطي الدولية لتمويل العمليات المالية، وذلك في صورة احتياطي نقدي للدول، كما أنها وحدة الحساب لعدد من السلع الرئيسية، بما في ذلك النفط. ويعود تحرك الرئيس الفرنسي السابق، شارل ديغول ضد هيمنة الدولار، إلى ستينيات القرن الماضي، ومن بين أسباب ذلك قيام الولايات المتحدة بطباعة النقود لتمويل نشاطاتها الخارجية دون أي سند ذهبي كما نصت على ذلك الإتفاقيات الدولية التي وضعت أسس الاقتصاد الدولي مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
فرنسا ديغول والعديد من الاقتصاديين رأوا ان لا هدف لواشنطن سوى مواصلة الحفاظ على القوة الاقتصادية للولايات المتحدة دون قواعد ومقومات فعلية.
كان الدولار حتى بداية عقد السبعينات مربوطا بالذهب، ولم تطلب إلا قلة استبدال الدولارات بالذهب، والغالبية كانت تدرك أن الذهب المتوافر في الولايات المتحدة لا يكفي لذلك، ولكن ظلت صورة الوهم صامدة. وأجبرت الأوضاع الاقتصادية الولايات المتحدة على التخلي عن معيار الذهب عام 1971، وإلغاء حق المطالبة بالقيمة الذهبية للدولار. وبالتالي تم اختراع عملة احتياطية دولية جديدة، هي حقوق السحب الخاصة، وذلك في صورة سلة من العملات يستخدمها صندوق النقد الدولي في عملياته، ولكنها لا تحل محل الدولار كعملة احتياطية عالمية تحتفظ بها الدول الأخرى.
تمويل العجز
إن بلد العملة العالمية الاحتياطية يقطف بسياسته ثمار إدارة سياسته النقدية دون اعتبار للظروف الخارجية، حيث يتم تمويل عجز ميزان المدفوعات الأميركي من خلال ضخ الدولارات في النظام العالمي بدلا من اللجوء إلى التعديل، من خلال شد الأحزمة المؤلم، وتقليص الاستهلاك، والاستثمار. وبما أن معظم السلع المهمة مقيمة بالدولار فإن الدولار القوي مرتبط بارتفاع أسعار السلع بالنسبة لكل بلدان العالم، ما عدا الولايات المتحدة المحصنة من الآثار التي يحدثها على اقتصادها المحلي. وأما الخاصية السلبية في ذلك فهي تراكم الدولارات في الخارج، الأمر الذي يؤثر في عملات الدول ذات الارتباط بالعملة الأميركية.
وبلغة مبسطة فإن الولايات المتحدة تعيش على الاستدانة من العالم، مثلها مثل صاحب مصنع أو متجر أو مزارع يسجل دخلا صافيا مثلا ب 100 الف دولار خلال فترة زمنية محددة، ولكنه ينفق ويشتري سلعا ويدفع أجور عمال ويدخل في نزاعات ومضاربات بقيمة تفوق المليون دولار خلال نفس الفترة، وهو لا يستدين مباشرة من البنوك ولكن يصدر كوبونات أو وصولات وشيكات للذين يتعامل معهم تغطي ذلك الفارق الذي يصل الى 900 الف دولار لنقول مثالا كل شهر. هؤلاء الذين يملكون الوصولات والشيكات التي تمثل دين الطرف الأول يحتفظون بها معتبرين أنها رصيد ويشترون بها ما يحتاجونه، ولكن في النهاية فإن هذه الأصول ليست ذات قيمة حقيقية فهي التزامات من جانب الطرف الأول، يعجز عن سدادها لو طلب جزء كبير منها في آن واحد.
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة عاجزة عن تسديد ديونها الخارجية أو الدولارات المملوكة لدول اخرى بسلع من انتاجها.
ان الولايات المتحدة أكبر مستورد في العالم حيث بلغت وارداتها السلعية 1919 مليار دولار أي 15.5 في المائة من الواردات العالمية (إحصاءات التجارة الخارجية لعام 2006 الصادرة عن منظمة التجارة العالمية).
وفي الولايات المتحدة يغلب الطابع العسكري على النفقات العامة والطابع السياسي على الضرائب. بحيث لا يهدف الإنفاق العام إلى التشغيل بقدر ما يهدف إلى تمويل العمليات الحربية الخارجية. كما أن الضرائب تستخدم كوسيلة للحصول على أصوات الناخبين بدلا من الحصول على إيرادات لتمويل العجز المالي.
ووفقا لأرقام وزارة الخزانة الأميركية الصادرة في يونيو 2006 "فإن الدول الأجنبية تمتلك ما نسبته 44 في المائة (أي 2090 مليار دولار) من مجموع الدين العام الفيدرالي، والبالغ قيمته 4797 مليار دولار (حتى يونيو 2006). وتأتي كل من اليابان والصين والمملكة المتّحدة على رأس هذه الدول بقيمة تبلغ 635.3 مليار دولار، 327.7 مليار دولار و201.4 مليار دولار".
النظام الإقتصادي الأميركي يبتلع من الديون ما لا يستطيع تسديده. فقد ارتفعت رهونات المنازل في الولايات المتحدة منذ العام 1987 من 1800 مليار دولار إلى 8200 مليار دولار، وعندما انفجرت الأزمة، شملت آثارها بالضرر جميع بنوك وصناديق الإئتمان في العالم. أما دين المستهلك الأميركي (بطاقات الائتمان) فقد تصاعد من 2700 مليار دولار إلى 11000 مليار دولار.
مضاربات الوهم هي أحد عناصر الأزمة الأميركية، حيث ترفع قيم السلع دون سبب حقيقي تفرضه قوانين السوق. في عام 2000 ظهرت فقاعة ترتبط بالقطاع العقاري. ومنذ ذلك العام أخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة بالارتفاع بصورة مستمرة في جميع أنحاء العالم خاصة في الولايات المتحدة حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار في حين أن الأنشطة الأخرى بما فيها التكنولوجيا الحديثة معرضة للخسارة.
وأقبل الأميركيون أفرادا وشركات على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار الطويل الأجل أو المضاربة. واتسعت التسهيلات العقارية إلى درجة أن المصارف منحت قروضا حتى للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة.
وانتفخت الفقاعة العقارية حتى وصلت إلى ذروتها فانفجرت في صيف عام 2007 حيث هبطت قيمة العقارات ولم يعد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة. وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيتهم العقارية وأصبحوا مكبلين بالالتزامات المالية طيلة حياتهم. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة وأعلنت شركات عقارية عديدة عن إفلاسها.
ولكن انهيار القيم لم يتوقف عند العقارات بل امتد إلى أسواق المالية وجميع القطاعات. وأدى انفجار الفقاعة العقارية إلى تراجع الاستهلاك اليومي وبالتالي إلى ظهور ملامح الكساد.
التخلص من الدولار
كل هذا يفرض طرح تساؤل عن السبب الذي يحول بين دول العالم والتخلص من الدولار كعملة تعامل عالمية تسهم في نقل ثقل مشاكل وعجز الاقتصاد الأميركي الى اعناق الآخرين؟.
يقول الكثير من خبراء الاقتصاد أنه قد يكون هنالك مجال ما من أجل تنويع الاحتياطيات المالية بإدخال عملات مثل اليورو، والين، ولكن الإمكانات محدودة في هذا الصدد. لأنه إذا تخلى مالكو الدولارات عن دولاراتهم فإن ذلك سوف يعمل على تآكل قوتهم الشرائية، وهو أمر في غير مصلحتهم. وبالتالي فإن الولايات المتحدة، وكبار دائنيها يحتجزون بعضهم بعضا كرهائن لديهم هدف مشترك يتمثل في استمرارية النظام، غير أن هنالك قضيتين تبرزان هنا حسب المدافعين عن استمرار دور الدولار لسنوات عديدة اضافية.
أولا، رغم أن الوقت ليس ملائما الآن لدور أميركي متراجع، إلا أن ذلك خيار يمكن تحويله إلى واقع في وقت ما في المستقبل. وفي ضوء ذلك فإن من الأفضل أن تبدأ الولايات المتحدة في إدراك هذا الأمر، وكذلك معرفة أن ضعف الاقتصاد الأميركي يقلل من قدرتها على خدمة ديونها. ويمكن للولايات المتحدة أن تبدي رد فعل لهذه الحتمية في ظل ظروف مشوهة للمسار الاقتصادي، ولكنها لا تستطيع منع تراجع قيمة الدولار. وكلما طال انتظارها وعدم اتخاذها لهذا الخيار ازدادت فرص حدوث تغير قاس، ومزعج للغاية.
وقد أعلنت الصين فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، وبصورة فظة حسب التعبيرات الأميركية، أن الاقتصاد العالمي لا يستطيع أن يوجد قواعد مفصلة خصيصا للولايات المتحدة، بما يسمح لها بإهمال العمل على إعادة التوازن فيما يتعلق بعجز ميزانيتها الجاري. ويضاف إلى ذلك أن الصينيين أوضحوا أن العجز لا يمكن أن يمول من خلال طباعة الأوراق النقدية، وإرغام الدول الأخرى على مراكمة الدولارات لديها.
أما القضية الأخرى، فتغطي دور الدولار كوحدة حساب للسلع، بما في ذلك النفط. وهنا لا تستطيع الولايات المتحدة المحافظة على موقفها المحمي من تقلبات قيمة الدولار في أسواق العملات. وفي ظل وجود سلة من العملات متمثلة في حقوق السحب الخاصة، كوحدة للحساب، فإن تقلبات الدولار سوف تؤثر في الأسعار التي تدفعها الولايات المتحدة في شراء السلع، شأنها في ذلك شأن جميع الدول الأخرى. وربما يكون على الولايات المتحدة أن تأخذ في الحسبان، للمرة الأولى منذ خمسين سنة، آثار تقلبات العملات في تكاليف السلع المستوردة.
الولايات المتحدة تفقد دورها
إن الأمر الواضح تماما هو أن الولايات المتحدة تفقد دورها كبلد وحيد ذي امتيازات خاصة تسمح لها بمساحة مناورة واسعة في ممارسة سياستها الاقتصادية بصورة متفوقة على بقية دول العالم. ويقف وراء النزاع حول هذا الموقف نزاع نشب منذ فترة طويلة بين مجموعتين من الدول: المدينة، والدائنة.
الدول المدينة تريد أن تتولى الدول الدائنة تعديلات في الاختلالات من خلال استمرار زيادة طلبها المحلي، وأن تتصرف بما يزيد من واردات الدول الدائنة، ودعم صادرات الدول المدينة، بما يسمح للمدينيين باستمرار السياسات الاقتصادية المتوسعة بما يتناسب مع طاقتهم الإنتاجية. وتفيد الخبرات المتوافرة أن هذه السياسات تميل إلى أن تكون تضخمية، حيث تقضي على القوة الشرائية للموجودات المتوافرة لدى الدائنين.
ومن السخرية أن الأميركيين علموا البريطانيين حين تم وضع قواعد النظام النقدي الدولي في برينتوودز عام 1944، أن على البريطانيين أن ينسوا أي أفكار لتحويل عبء إعادة التوازن إلى الولايات المتحدة. وهذا بالضبط هو ما يقوله الصينيون للأميركيين في الوقت الراهن.
شذوذ الاقتصاد
إن المشكلة الرئيسية هي شذوذ الاقتصاد العالمي، حيث إن الدول الدائنة كانت هي بلد الاحتياطي بحكم دورها كأعظم قوة اقتصادية، وهو الدور الذي مارسه البريطانيون قبل عام 1914، والأميركيون بعد عام 1945. وأصبح الألمان كذلك حين بدأ استخدام اليورو وعلى النطاق الأوروبي. وبسبب الإنفاق الأميركي المتجاوز للحدود، فإن البلد الدائن، أي الصين هو بلد فقير نسبيا، وكانت الأساسيات تقول إنه بعيد عن أن يصبح قويا اقتصاديا. ولم يواجه العالم حالة سابقة كهذه، حيث من الصعب وضع برنامج لمعالجة الأمور لدى الفقراء والضعاف اقتصاديا من جانب، ولدى الأقوياء اقتصاديا من الجانب الآخر. غير أن المؤشرات توضح بما يكفي أن الصين، كبلد دائن، وأميركا كبلد مدين، يحاولان تحويل عبء التعديل كل على الآخر. وتفيد توقعات الأجل الطويل أن البلد الدائن هو الذي سوف يفوز في ظل حرمان الولايات المتحدة من موقعها المتميز في الاقتصاد العالمي، وفتح الباب أمام تراجع دور الدولار، ناهيك عن احتمال انتهائه كعملة احتياطية عالمية.
إن الصين تحاول رسم حدود نظام ينهي النظام النقدي العالمي القائم حاليا، وبما يكفي لكي يحل محل بريتنوودز، حين يكون الدولار قد أنهى دوره. ومن الواضح تماما أن الصين تريد أن تصبح الدول الدائنة هي صاحبة القيادة المسؤولة في هذا الصدد.
في نهاية شهر سبتمبر 2009، حذر رئيس البنك الدولي روبرت زوليك الولايات المتحدة من أن استمرار الدولار عملة الاحتياط العالمية الوحيدة ليس مضمونا، معترضا بوضوح على تصريحات أميركية بأن الدولار سيظل طاغيا على ما سواه من العملات الدولية الرئيسية على المدى الطويل.
وقال في مقتطفات من كلمة القاها يوم الاثنين 28 سبتمبر 2009 في جامعة جون هوبكينز الأميركية "تخطئ الولايات المتحدة إذا اعتقدت أن محافظة الدولار على كونه عملة احتياط دولية، أمر مضمون".
وأضاف زوليك "حين نتطلع إلى المستقبل، ستكون هناك على نحو متزايد بدائل أخرى للدولار".
وحين لم يستبعد رئيس هذه المؤسسة النقدية الدولية نزول الدولار عن عرش العملات العالمية فإنه بدا كأنه يؤيد أو على الأقل يتفهم مطالبة قوى اقتصادية صاعدة مثل الصين وروسيا بوضع حد لهيمنة العملة الأميركية التي بدأت قبل ستة عقود واستبدال عملة احتياط دولية أخرى بها بعد كل ما حل بالاقتصاد العالمي.
"بعد الإمبراطورية"
في آخر كتاب للفرنسي إمانيول طود الذي تنبأ بإنهيار الاتحاد السوفيتي وبعنوان "بعد الإمبراطورية" والصادر في نهاية سنة 2004 يفتتح المؤلف كتابه بجملة قوية: "إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح مشكلة بالنسبة للعالم". فبينما "اعتدنا أن نرى فيها حلاً" وضامنة للحرية السياسية والنظام الاقتصادي خلال نصف قرن، فهي تظهر اليوم أكثر فأكثر عامل فوضى دولية، حيث تبقي ... على اللايقين والصراع". إن أميركا تحتم على العالم أن يعترف بأن دولا تشكل "محور الشر" يجب محاربتها، كما تستفز قوى أخرى مثل روسيا والصين، وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها مناطق متاخمة لهؤلاء الحلفاء.
ويرى أن حلفاءها (أوروبا واليابان) مترددون ومحرجون أكثر فأكثر. ففرنسا تنتهج موقفا استقلاليا، أما ألمانيا المستاءة فجاء موقفها مفاجئا، أما بريطانيا فهي على عادتها وفية للخط الأميركي. بينما يعبر الصمت الياباني عن انزعاج أكثر مما يعبر عن انخراط في سياسة أميركا. ويقول الكاتب إن "الأوروبيين لا يفهمون لماذا ترفض تسوية المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية رغم أن لها القدرة على ذلك. وبدؤوا يتساءلون عن ما إذا كانت واشنطن راضية بأن تدوم بؤرة توتر في الشرق الأوسط وأن تعبر الشعوب العربية عن عدائها المتنامي للعالم الغربي". ويضيف أن أميركا تريد أن تجعل من "القاعدة" قوة مستقرة وشريرة لتبرر التدخل في أي مكان وفي أي وقت بإسم الإرهاب.
نهاية الدولار
يوم الثلاثاء 6 تشرين الأول- أكتوبر 2009 فجر روبرت فيسك مراسل صحيفة ذي إندبندنت البريطانية بالشرق الأوسط قنبلة جديدة تحت اقدام العملة الأميركية حين كشف في مقال تحت عنوان "الدولار إلى زوال"، اتخاذ دول عربية خطوات سرية بالتعاون مع الصين وروسيا وفرنسا تستهدف وقف استخدام العملة الأميركية في المعاملات النفطية، ووصف ذلك بأنه دليل معبر عن شكل النظام العالمي الجديد.
وتمثل هذه الخطوة –حسب فيسك- أكثر التغيرات المالية عمقا في تاريخ الشرق الأوسط، إذ تخطط دول مجلس التعاون الخليجي بالتنسيق مع الصين واليابان وروسيا وفرنسا لاستبدال الدولار في تجارة النفط بسلة عملات تشمل الين الياباني واليوان الصيني واليورو والذهب والعملة الخليجية الموحدة التي تزمع دول مجلس التعاون الخليجي إصدارها.
وكشف الكاتب المعروف بسعة اطلاعه وعلاقاته الوثيقة بأصحاب القرار في المنطقة عن لقاءات سرية جرت بين وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في روسيا والصين واليابان والبرازيل للعمل على إنجاز هذا المخطط الذي سيعني أن النفط لن يسعر مستقبلا بالدولار.
وقال الكاتب إن الخطط المذكورة، التي أكدتها الإندبندنت مصادر مصرفية في دول الخليج العربي وهونغ كونغ، ربما تساعد على فهم أسباب الارتفاع المفاجئ لأسعار الذهب، لكنها قد تنذر بتحول غير عادي من أسواق الدولار في غضون تسعة أعوام.
ويشير الكاتب إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، التي تعلم بإنعقاد تلك الاجتماعات وإن كانت تجهل تفاصيل ما دار واثقة من قدرتها على التصدي لهذه "المؤامرة الدولية" التي سيشارك فيها بعض حلفائها المخلصين، على الأقل حتى الآن، كاليابان ودول الخليج العربية.
غير أن فيسك ينقل عن المبعوث الصيني الخاص السابق إلى الشرق الأوسط سون بيغان تحذيره في تصريح لدورية "إيجيا آند آفريكا ريفيو" من خطر تعميق الخلافات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية حول مسألة النفوذ والنفط في الشرق الأوسط، قائلا إن "الصدامات والمشاجرات أمر لا مفر منه بين الطرفين أي أميركا والصين".
وأضاف "لا يمكننا أن نخفض من مستوى يقظتنا إزاء الأعمال العدائية الناجمة عن صراع المصالح حول الطاقة والأمن في منطقة الشرق الأوسط".
وهذا ما يبدو –حسب فيسك- تنبؤا خطيرا بوقوع حرب اقتصادية مستقبلا بين الصين والولايات المتحدة الأميركية بسبب نفط الشرق الأوسط، مما يعيد صراعات المنطقة من جديد إلى معركة النفوذ الدائرة بين القوى العظمى.
وقال الكاتب إن انحطاط القوة الاقتصادية الأميركية المرتبط بالركود العالمي الحالي اعترف به ضمنيا رئيس البنك الدولي روبرت زوليك عندما قال في إسطنبول عشية اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إن الأزمة المالية الحالية ربما أدت إلى تغير في علاقات القوى الاقتصادية الكبرى.
وأضاف فيسك أن البرازيل أبدت هي الأخرى اهتماما بالتعاون في الجهود الرامية إلى التخلي عن استخدام الدولار في الصفقات النفطية وكذا فعلت الهند، "غير أن الصين تظل أكثر القوى الاقتصادية الكبيرة تحمسا لمثل هذا الأمر وذلك لأسباب ليس أقلها حجم تجارتها الهائل مع الشرق الأوسط".
فالصين -يقول فيسك- تستورد 60 في المائة من نفطها وجل ذلك من الشرق الأوسط وروسيا، كما أن لدى الصينيين امتيازات نفطية في العراق لا تزال واشنطن –حتى العام الحالي- تمنعها من الاستفادة منها، كما أبرمت الصين مع إيران صفقة بثمانية مليارات دولار لتطوير طاقة التكرير لدى هذا البلد وكذلك موارده من الغاز، كما أن للصين صفقات نفطية مع السودان، كما تتفاوض مع ليبيا لإنشاء مشاريع مشتركة والحصول على امتيازات نفطية.
أضف إلى ذلك أن صادرات الصين إلى الشرق الأوسط تمثل الآن ما لا يقل عن 10 في المائة من كل ما تستورده أي دولة من دوله، وتضم مجموعة واسعة من المنتجات تشمل السيارات والأسلحة والغذاء والملابس وحتى لعب الأطفال.
ويذكر فيسك بالإرهاصات الأولية للهيمنة الاقتصادية الأميركية فيقول إنه منذ اتفاقيات برتونوودز التي أبرمت بعيد الحرب العالمية الثانية ومهدت للنظام المالي العالمي الحديث، ظل شركاء واشنطن التجاريون مجبرين على التكيف مع الهيمنة الأميركية التجارية وكان عليهم في السنوات الأخيرة أن يكيفوا أنفسهم مع هيمنة الدولار بوصفه عملة الاحتياطي العالمي.
وينقل عن الصينيين قولهم إنهم يعتقدون أن واشنطن هي التي أقنعت بريطانيا بالبقاء خارج اليورو للحيلولة دون التخلي المبكر عن الدولار.
لكن هذه المرة
تنقل إندبندنت عن مصادر مصرفية صينية قولها إن المباحثات بشأن التخلي عن الدولار وصلت حدا يستحيل معه إعاقتها، خاصة أن الروس سيتمكنون لاحقا من إدخال الروبل إلى سلة العملات، أما البريطانيون فقد وجدوا أنفسهم عالقين في الوسط وسينضمون في النهاية إلى اليورو، ولن يكون أمامهم أي خيار آخر، إذ لن يستطيعوا أن يتعاملوا بالدولار" على حد تعبير أحد المصرفيين البارزين في هونغ كونغ.
وتنبأ مصرفي صيني آخر بأن تغير الخطط الحالية وجه المعاملات المالية الدولية، مضيفا أن "أميركا وبريطانيا لا بد ان تكونا قلقتين للغاية في الوقت الحاضر".
ويختم فيسك تقريره بالتذكير بما حصل للعراق عندما قرر رئيسه الراحل صدام حسين تسعير نفط بلاده باليورو بدل الدولار، إذ غزاه البلدان بعد ذلك بأشهر قليلة.
واذا كانت عدة عوامل قد أفضت الى نفي العديد من دول الخليج العربيوغيرها تقرير صحيفة "الإندبندنت"، فإن السوق الدولية سارت مسار في عكس هذا التكذيب، فيوم الخميس 8 أكتوبر أفاد متعاملون أن الذهب بلغ مستوى قياسيا جديدا في المعاملات الفورية والمعاملات الآجلة، إذ ظل الدولار الضعيف مصدر دعم لمعنويات السوق من خلال اجتذاب استثمارات جديدة للمعدن النفيس.
وسجل الذهب ارتفاعا تاريخيا، إذ وصل سعره إلى 1048.20 دولار للأوقية بعد أن بلغ 1046.60 دولار للأوقية، وذلك مقابل 1040.85 في أواخر المعاملات في بورصة نيويورك الثلاثاء الماضي. وسجلت العقود الآجلة للذهب الأميركي تسليم ديسمبر ارتفاعا جديدا عند 1049.70 دولار للأوقية.
واستفادت المعادن الأخرى من ارتفاع الذهب، إذ بلغ سعر البلاديوم 313.50 دولار للأوقية ليسجل أعلى مستوياته منذ أغسطس 2008 بينما سجل البلاتين أعلى مستوياته منذ أسبوعين كما قفزت الفضة لتسجل أعلى مستوياتها خلال ثلاثة أسابيع.
وسجل الذهب مكاسب بلغت نحو 20 في المائة هذا العام مدعومة بتراجع الدولار وبتصاعد المخاوف بشأن التضخم بعد أن ضخت البنوك المركزية والحكومات حول العالم مليارات الدولارات في النظام المالي من أجل إنعاش النمو.
وقال توماس هونيغ، رئيس بنك الاحتياطي الاتحادي في كانساس سيتي، إن الاقتراض الأميركي المتزايد لتمويل العجز المتنامي للميزانية ينطوي على مخاطر للاقتصاد الأميركي.
وقال ردا على سؤال بعد كلمة ألقاها "انه على أحسن تقدير خطر على الأجل الطويل".
الوهم، إذن، يقترب من نهايته.
عمر نجيب، كاتب وصحافي مصري مقيم في المغرب
http://www.mutawassetonline.com/index.ph...om_content&view=article&id=133:2009-10-24-00-32-39&catid=8:2009-10-08-16-00-24&Itemid=8