ربيع داكن
بقلم منصورة عز الدين
في البداية ظهروا علي استحياء! فرادي يرتدون السواد, يسيرون بهدوء, ويدققون النظر في ما حولهم كأنما يقيسون الهواء بأعينهم. لم ننتبه لهم إلا بعد أن باتوا يتحركون في جماعات من خمسة أشخاص أو أكثر. بالهدوء نفسه والنظرة المدققة ذاتها,ش يزرعون الشوارع والميادين بلا كلل.
لم يعرف أحد من أين جاءوا ولا لماذا يتحركون بهذه الطريقة المتماثلة؟ كانوا مثلنا تماما لا يفرقهم عنا إلا زيهم الأسود وطريقتهم الغريبة في التحرك الذي يبدو بلا هدف ولا نهاية.
كنت إذا قابلت أحدهم في الشارع ألقي عليه التحية- بدافع الفضول- مبتسمة, فلا يرد علي, ولا ينظر حتي ناحيتي. لم أعرف أنهم يلفتون نظر الآخرين إلا حين جاءتني جارتي الستينية ذات الشعر المصبوغ بعناية والملامح التي لم تقدر السنوات علي النيل من نضارتها لتحذرني من الداكنين كما أسمتهم. بدت متحمسة بشكل طفولي وهي تخبرني بالشائعات المثارة حولهم, قالت إن هناك من يري أنهم أعضاء في جماعة سرية ذات علاقة بالماسونية, في حين أكد آخرون انهم من عبدة الشيطان, غير أن الرأي الذي رجحته هو أنهم ينتمون لحركة سياسية غامضة تتطلب من المؤمنين بها أن يعيشوا علي أطراف المدن, وألا يحتكوا بالسكان إلا بعد أن يزداد عددهم بحيث يبسطون سيطرتهم علي المدينة بسهولة. لم تقدم دليلا مقنعا علي أي من هذه الشائعات, غير أنها بدت مقتنعة تماما ولم ترتح لعدم تحمسي لكلامها.
انشغلت الصحف هي الأخري في تلفيق الحكاية تلو الأخري حولهم, ثم العودة لتفنيدها واحدة واحدة, مستبدلة إياها بحكايات أخري جديدة لا تقل طرافة. بدا الأمر أشبه بلعبة مسلية يتواطأ الجميع علي الاشتراك فيها. ثمة صحف قالت إن هؤلاء ما هم إلا تمثيلية لشغل الناس عن تدهور أوضاعهم المعيشية. وألمحت صحف أخري إلي أنهم مجموعة غريبة لكن مسالمة يتم متابعتها بدقة ترقبا لأي تغير محتمل في نشاطها. كنت أضحك كل صباح وأنا أتابع الانشغال الهيستيري للصحف بمتابعتهم, متخيلة أن جارتي الستينية هي من تمد المحررين بهذه التأويلات. ثم بدأت الكتابات علي الجدران: جمل غاضبة تلعن كل شيء, مكتوبة بقلم أسود عريض يشبه الفحم, وبخط كوفي دقيق معتن بجماله عناية تتناقض مع كم الغضب المبثوث في ثنايا الجمل. كل جدار في المدينة أصبح رقعة تفور بالكلمات الحانقة, ومع تزايد نبرة الغضب علي الجدران, كانت حركات الداكنين تزداد هدوءا, وملامحهم يطغي عليها نوع من السكينة الغامضة, وإن ظلوا علي نظرتهم المدققة في الأفق أمامهم. كانوا كأنما لا يبصروننا, وكنا نحن نطيل النظر فيهم أملا في أن يلتفتوا إلينا, لذا ارتفعت حوادث المرور في الأماكن التي يظهرون فيها لاشغال قائدي السيارات بمتابعتهم.
بعد أن كنت أحاول لفت نظرهم في البداية, أصبحت عندما أخرج لعملي, أو للتنزه في الحديقة المجاورة مع ابنتي الصغيرة, أحاول قدر طاقتي تحاشي النظر إليهم, وشددت علي طفلتي أن تحذو حذوي, ولما سألتني عن السبب لم أجد ردا مقنعا, فأخبرتها انهم مصابون بنوع نادر من الجنون يظهر فقط إذا التقت عيونهم بعيون الآخرين.
بعد ما يقرب من شهر, بدت الجدران غير كافية للتنفيس عن الغضب المكتوم, فبتنا نفاجأ حين نفتح أبواب بيوتنا كل صباح برسائل- مكتوبة بالخط الكوفي الجميل علي ورق مقوي ومطوية في شكل اسطواني ومربوطة بشريط أسود- تحمل الجمل نفسها علي الحوائط والجدران, وإن أضيفت لها جمل أخري من قبيل: الأسود هو أصل الأشياء, أو الأسود هو الكمال, يجب أن تنضموا للركب, العودة للكوفي.. عودة للجمال.
وصولهم, أيا كانوا, إلي عتبات البيوت أقلق الجميع. في العمل, في محال البقالة, وفي المتنزهات كنت أسمع الناس يتناقشون حول: من هؤلاء؟ وماذا يريدون بالفعل؟ وهل فعلا الداكنون هم مرسلو الرسائل؟ ترسخت خشية من أن يتطور الأمر إلي اقتحام البيوت نفسها, علي رغم عدم وجود قرائن تبشر بذلك.
كانت جارتي الستينية, تمر علي يوميا لتخبرني عن تزايد عدد مرتدي السواد في الشوارع, تجلس متململة في البداية وهي تضم ذراعيها فوق صدرها, ثم تبرق عيناها حين تبدأ في الحديث عنهم, ترفع خصلة من شعرها المصبوغ عن جبهتها فتبين الغضون المنثورة عليها, قبل أن تؤكد أن خطوتهم التالية هي التجول في غرف نومنا, والنوم فوق أسرتنا. أكاد أضحك حين أتصور أن هذا هو الهدف النهائي الذي يتكبدون من أجله كل هذا العناء, غير أني أتظاهر بالاهتمام بكلامها. تتحدث عنهم كأنهم شر مطلق مبررة ذلك بأنهم, حتي في رسائلهم, لا يعلنون هدفا محددا ولا مطالب واضحة, فقط يتذمرون ويكتبون هراءات غامضة عن اللون الأسود والخط الكوفي, ويملأون المدينة بملابسهم بالغة القتامة.
مع مقدم الربيع, كان الناس قد انشغلوا عن هؤلاء الداكنين, علي رغم تضاعف أعدادهم, واستمرارهم في مسيراتهم الطقوسية الصامتة ورسائلهم الحانقة وكتاباتهم بالخط الكوفي علي جدران المدينة. كان كل منا كأنما يرغب في التلهي عنهم, أو كأنهم- من فرط التكرار والتعود- قد أصبحوا تفصيلة من تفاصيل حياتنا اليومية, مثلهم مثل بائعي الجرائد بفرشاتهم علي النواصي, والمتسولين المنتشرين في كل مكان, والشجر المتشابه في طرقات المدينة وحدائقها الكثيرة. وحدها جارتي ظلت علي اهتمامها بهم, وعلي تصديعي بسيناريوهات عديدة تؤلفها عنهم.
مدينتنا في الربيع غيرها في أي وقت آخر من العام, والربيع فيها غيره في أي مكان آخر. ثمة أشجار لا تحصي تزنر الطرقات والشوارع والميادين, وحين يأتي الربيع تتوهج بألوان متألقة من الأخضر بدرجاته الزاهية للأوراق, والأحمر والوردي والبنفسجي للزهور المختلفة. الحدائق والمتنزهات أيضا تضيف بصمتها إلي لوحة الطبيعة, مهرجان الألوان هذا بدا كأنما وحده القادر علي معادلة اللون الأسود الذي كاد يستولي علي المشهد بأسره, وعلي تحرير المدينة من قتامتها الطارئة.
لكن كما في أفلام الرعب, حين يطل الخطر الحقيقي في اللحظة التي يبدأ فيها الأبطال في الإحساس بإنزياحه, كشفت الطمأنينة التي سربها الربيع عن هشاشتها مع رسائل إلكترونية بدأت تغزو بريدنا الإلكتروني بوتيرة متسارعة. رسائل أعادت الخوف لدرجات أعلي من السابق, وحفزت جارتي الستينية بملامحها الطفولية علي المكوث لفترات أطول عندي تحدثني عن مخاوفها وتوقعاتها.
علي مدار شهر كامل تسلمنا رسالة إلكترونية واحدة لا تتغير, تطالبنا بعدم الخروج من البيت في الأربعاء الأول من الشهر القادم وبرفع أعلام سود فوق شرفات منازلنا, وإذا حدث وخرجنا علينا أن نرتدي الأسود.
'خليك في البيت أو شاركنا في الميادين العامة باللون الأسود وبأعلام سودا. قل لأصحابك وأهلك مايروحوش الشغل هما كمان وخليهم ينضموا لنا. كل شيء لازم يتغير ولازم تساعدونا, لازم نرجع للأصل, للأسود, للكوفي.. وإلا فالفوضي الشاملة هي البديل الوحيد'. ما لفت النظر أن الرسالة كانت صورة لورقة مكتوبة أيضا بالخط الكوفي وبلون أسود فاحم.
مع تكرار إرسال هذه الرسالة, كان لابد من مواجهة مباشرة بين السلطات ومرتدي السواد, أصبح حضور العساكر والضباط أكثر كثافة من ذي قبل, سجنوا كثيرا من الداكنين, وطاردوهم في كل مكان من دون جدوي, كانوا كأنهم ينبتون من العدم, أعدادهم في ازديارد, ومسيراتهم الصامتة في الشوارع لا تنتهي. حذرنا بشدة من الإنضمام إليهم. صدرت قرارات مضحكة بمنع ارتداء اللون الأسود, وعدم الكتابة بالخط الكوفي, وتم القاء القبض علي كثير من الخطاطين للتحقيق معهم.
بدأ كثيرون منا في التعاطف مع الداكنين, حتي جارتي العجوز كفت عن نقمتها عليهم, ووجدت في ما يحدث فرصة إضافية للإقامة شبه الكاملة معي وهي تشرح لي أسباب تغير موقفها منهم. قالت إنها قرأت كثيرا في الأيام الماضية, وعرفت أن العلم الأسود كان رمزا للخلافة العباسية, وأن الخط الكوفي هو أحد أشهر الخطوط العربية, وأنه استخدم بالأساس في كتابة المصحف, واستنتجت من هذا أن الداكنين يدعوننا للعودة إلي أصول حضارتنا, ثم عادت في اليوم التالي لتقول إن العلم الأسود كان أيضا رمزا للفوضويين وإنها محتارة. بدأت الصحف في تسمية اليوم الموعود بيوم الإضراب, ودعتنا جميعا للنزول إلي أعمالنا بملابس ملونة مبهجة, والتحرك في الشارع بحرية لوقف هؤلاء الدخلاء عند حدهم. أعلنت تقارير مصورة أنهم عملاء لجهات أجنبية لم تحددها, وظهرت أصص لزهور ونباتات مشرقة بكثافة في الميادين العامة والشوارع كأن المدينة تشهد مهرجانا ما.
اليوم الذي حدده الداكنون للإضراب جاء عاصفا متربا, كأن الطبيعة أرادت دعمهم, عبر إجبارنا علي المكوث في بيوتنا, وعلي رغم هذا اضطررت للنزول للعمل خوفا من تهديدات مديري ووعيد نشرات الأخبار المهددة بعقوبات صارمة علي من يستجيب للمخربين كما أطلقت عليهم. لكن خوفي لم يكن كاملا إذ صممت علي ارتداء الأسود في إشارة دعم سلبي للداكنين.
استيقظت في موعدي وجمعت كل أشيائي في حقيبة يدي بسرعة, وساعدت ابنتي في حمل حقيبتها المدرسية المكتظة بالكتب والكراسات. نزلت علي الدرج بسرعة وحملت عنها حقيبتها فيما تبعتني هي بهدوء وهي تدندن بأغنية إنجليزية تعلمتها لتوها في المدرسة. دائما ما نصل لمدرستها متأخرتين, غير أني في هذا اليوم لم أكن مهتمة بذلك. كنت أعرف أن علي ألا أخرج أصلا. تذكرت كلمات المدير وهو يؤكد علينا ضرورة الحضور. قال باقتضاب إنها تعليمات علي لا يد له فيها واستدار خارجا دون أن يعطي لأحدنا فرصة للاعتراض. في الحقيقة لم أرغب في التغيب عن العمل تضامنا مع الداكنين. لست ضدهم, لكنني أيضا لست معهم. بالأحري لا أعرف عنهم ولا عن دوافعهم أي شيء. كما لا أثق في جدوي الإضراب, ولا أعرف ما الذي يمكن أن يؤول إليه في النهاية. خفت من فوضي محتملة قد تخرب كل شيء. هم طالبونا بعدم الخروج, لكنهم أعلنوا أنهم سيكونون في الميادين العامة بملابسهم الداكنة, والله وحده أعلم بما قد يؤدي إليه هذا. فكرت كثيرا في أن أجنب ابنتي إرهاق هذا اليوم, غير أن تهديدات المدير منعتني من المضي قدما. ابنتي أيضا وعلي رغم سنواتها السبع كانت مبتهجة وتشعر بقدر غير قليل من الإثارة, قطعت فجأة أغنيتها الإنجليزية وسألتني وعيناها تلمعان بفضول: يعني إيه إضراب يا مامي؟ اندهشت كيف عرفت به رغم أني لم أذكر الكلمة أمامها, وأجبت: يعني الناس تفضل في بيوتها وما تنزلش شغلها.
- طيب إيه هو الخط الكوفي؟!!
- ده خط قديم لكتابة اللغة العربية. ارتسمت علامة استفهام في عينيها وضحكت بجزل, وهي تحاول اللحاق بي في طريقي للسيارة الصغيرة المركونة أمام البيت. لدهشتي كانت الشوارع شبه خالية بالفعل, كأن كل سكان المدينة غادروها فجأة. العاصفة الترابية حولت السماء إلي لون يقترب من الأصفر الباهت مع أننا في الصباح, ورائحة التراب تتفوق علي ما عداها. القلائل المتواجدون في الشوارع والطرقات كانوا مثلي يرتدون الأسود. أوصلت ابنتي إلي مدرستها فكادت المشرفة تعيدها لي بحجة أنها الوحيدة التي حضرت, ولا يمكنهم أن يفتحوا المدرسة لطالبة واحدة, فهددتها بأن اليوم يوم دراسة عادي وليس إجازة ومن ثم لا يمكنها غلق المدرسة, استلمت المشرفة ابنتي متبرمة في حين نظرت لي الصغيرة نظرة معاتبة, خجلي من تصرفي.
وصلت إلي عملي, ففوجئت بأن معظم زملائي لم يأتوا, ومن جاءوا كانوا مثلي يرتدون الأسود, المدير نفسه كان يرتدي ملابس سوداء بالكامل, بدا مرتبكا حين نظرت له مندهشة, وتحاشي الكلام معنا طوال اليوم. فقط أخذ يتحرك بين المكاتب وهو يصيخ السمع لصوت الريح بالخارج. تحاشينا جميعا ذكر أي شيء عن الداكنين واكتفينا بالانكفاء علي عملنا, وتبادل حوارات سريعة حول العاصفة الترابية والرداءة المفاجئة للجو. في الأيام التالية ألحت الصحف وقنوات التليفزيون علي الفشل الذريع للداكنين, أكدوا أن من امتنعوا عن النزول للشارع فعلوا ذلك تفاديا للعاصفة الترابية لا استجابة لدعوات المخربين. تم الإعلان عن مهرجان كبير لزهور الربيع في الحدائق والمتنزهات العامة, اصطحبت ابنتي إليه, سرت معها في الشوارع حتي وصلنا لأقرب حديقة عامة لبيتنا. لم نقابل أي شخص في الطريق, إلا أن الحديقة كانت مزدحمة بالزوار ممن يرتدون السواد. تجولنا بين بائعي الزهور وشتلات النباتات بهدوء. التقطت لها صورا عديدة بجوار الزهور التي أحبتها. اشتريت بضعة أنواع من الصبار, في حين اختارت هي نبتة جاردينيا كي تعتني بها. وغادرنا الحديقة بسرعة وأنا أتجنب النظر لروادها الداكنين.
لم يعترف أحد أن المدينة كلها صارت ترتدي الأسود, بما في ذلك, المذيعون الذين هللوا لفشل' المخربين' والعساكر الذين اعتادوا ملاحقتهم.
أضحي الجميع يرفل في ملابس سوداء, ويسير بنظرات مدققة كأنما تقيس الهواء في مواجهتها, غير أن الرسائل والكتابات الغاضبة علي الجدران بالخط الكوفي باتت ذكريات هاربة كأنما تنتمي لأزمان غابرة.
................................................