عزيزي العلماني
- قد يكون أحدنا ، نهل من أمهات المراجع والكتب . وقرأ من الكتب ما لا يحصي عددها إلا الله . ولكن القراءة والإطلاع ، وعلى أمهات المراجع والكتب المطولة ؛ هذا الإطلاع ، لن يكون له أي قيمة إذا كان يقود بنا إلى نتائج وأحكام باطلة . هكذا ببساطة . :)
- أنت قلت عن المعتزلة أنهم من ضمن من حاول إفاقة العقل العربي من (
الحقيقة الكاملة الواحدة والوحيدة التي تزوده بها النصوص المقدسة، ولكنه لم يوفق في إفاقته ) .
بغض النظر عن الوصف القيمي ، الذي تعبر عنه بالإستفاقة . فأنت هنا تغالط .
أنت ، هنا ، تجعل المعتزلة كرجل يمسك دلو ماء ليسكبه على العقل العربي الغائب في سكرة النصوص المقدسة . أنت هنا ، تصور المعتزلة كفرقة رامت الخروج على سلطة النصوص المقدسة ، التي هي المصدر الذي يمد العقل العربي بالحقيقة الواحدة المطلقة ..إلخ.
الواقع كان على خلاف ما تصور . فالمعتزلة من أكثرهم تطرفا ، الذي كانه النظأم ، إلى أشدهم اعتدالا ؛ لم يكونوا يرومون الخروج على النصوص المقدسة ، المصدر للحقيقة المسكرة لعقل العربي .
إليك هذه الأدلة :
- المعتزلة ، بأبسط تعريف ، هي فرقة كلامية . وعلم الكلام ، علم إثبات أصول الدين . فهو ينطلق من مقدمات عقلية ، ليصل للحقيقة المطلقة التي قررتها النصوص المقدسة . المعتزلي عندما يعمل عقله ، لا يعمله ليصل إلى نتيجة جديدة ، وإنما يعمله ليثبت الحقائق المثبته بالنص .
أما لماذا يقومون بذلك ؟
فهذا يعود للأصل التاريخي لهذا العلم . عندما اكتمل الفتح ، وبدأ العرب يتفاعلون مع ثقافات الحضارات المفتوحة ، وكان أولها الثقافة الفارسية ، التي تقول بثنائية الظلمة والنور .
واصل عندما أراد أن يناقشهم ويحاججهم ، كان لا بد أن يتفق معهم على اطار : وسط ، ينطلقون منهم في تقرير قضاياهم ومناقشتها . كان هذا الإطار هو : العقل .
ولكن واصل الغزال، شيخ المعتزلة ومؤسسها ، عندما أراد إبطال الثنائية ، استمد أدلته من القرآن ، من النصوص الذي تزعم أنت أن المعتزلة ثاروا عليها .
انطلق واصل من قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله : ( ما اتخذ الله من ولدو ما كان معه من اله اذا لذهب كل اله بما خلق و لعلى بعضهم على بعض ) .
راجع " مذاهب الإسلاميين ، عبد الرحمن بدوي ، المعتزلة والأشاعرة " .
- أنت جعلت مبدأ " ثورة المعتزلة " : خروج واصل على الحسن البصري . وهذا أمر جد غريب ، وعجيب . هل تعلم ما هي القضية التي من أجلها اعتزل واصل الحسن ؟
القضية كانت : حكم مرتكب الكبيرة . هل هو مسلم كما كان الحسن يقول ، أم هو كافر كما كانت الأزارقة وعموم الخوارج يقولون ،أم أن المؤمن لا يزيد ولا ينقص مع المعاصي كما يقول الجهم بن صفوان ، أم أن مرتكب الكبيرة في " منزلة بين المنزلتين " كما سيقول واصل ؟
هل هذه القضية ، المطروحة في الساحة أصلا ، تجعل اتخاذ رأي فيها من بين جملة آراء ، بل هو رأي توفيقي ، يمثل ثورة على كل الخاضعين ضمن الإشكالية ؟
هل اختيار واصل لهذا القول ، كان بعد إعمال عقل ، أم بعد " تدبر القرآن " ؟
ألا ترى أنك تبالغ كثيرا هنا ؟
وفي هذه القضية راجع ( العقل الاخلاقي العربي ، محمد عابد الجابري ، في الفصل الذي عقده عن أزمة القيم )
- حتى ننفي الشيء ، فلنثبت نقيضه . أنت تصور المعتزلة على أنهم " ثورة " ضد " الحقيقة الواحدة المطلقة " التي تتغذى من " النصوص المقدسة " . ونفي هذا الأمر يكون بإثبات موقفهم من " الثورة " على " الحقيقة المطلقة " .
ابن الراوندي ، كان من المعتزلة ، ولكنه ما لبث إلا أن أنكر النبوة ، وألف كتبا يتحدى بها القرآن وغيرها . ( راجع رسالة الغفران ، وكلام ابو العلاء عنه ، وأيضا راجع " تغني " أدونيس فيه ، في الثابت والمتحول )
من ضمن كتبه التي ألفها : فضيحة المعتزلة . فهذا " الثائر " على " الحقيقة المطلقة " ، سدد ضربته الأولى لمن يعتقد أنهم أكثر الفرق ممثلين لهذه الحقيقة ، فرقته السابقة : المعتزلة .
هذا الكتاب مفقود ، ولكن الخياط في رده عليه نقل الكثير من أقواله . ولاحظ أن الخياط الذي رد عليه ، كان معتزلا أيضا.
فهل بعد هذا يكونون "ُ ثورة " وما إلى ذلك ؟
- كل الأقوال التي ذكرتها عن المعتزلة ، قال بها غيرهم من الفرق . فابن حزم قال بأن نظم القرآن غير معجز ، وأنكر القياس ، ونفى الجزء الذي لا يتجزأ .
وهناك من الفقهاء من لم يعتبروا خبر الآحاد قطعي الدلالة ، منهم النووي والغزالي وغيرهم .
ومحيي الدين ابن عربي قال أن فرعون كان صادقا بدعواه أنه : الرب الأعلى . وهو والعفيف التلمساني وغيرهم كانوا يقولون أن عبدة الأوثان لا يكفرون بعبادتهم الأوثان ، بل يكفرون باقتصارهم عليها .
- الغزالي ، الذي تصوره فارس المحافظة على العقلية العربية ، وطاردا للعقل من حظيرتها . قال في مقدمة تهافت الفلاسفة :
( فلذلك أنا لا ادخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر ، لا دخول مدع مثبت ، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة ، ألزمهم تارة مذهب المعتزلة واخرى مذهب الكرامية وطورا مذهب الواقفية ، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم ، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل ، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين ، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد ) اه
- تقول : ( "المعتزلة" لم تعد "النصوص المقدسة" وحدها تستأثر "بالحقيقة الواحدة والوحيدة" بل أضافوا إليها "العقل واستدلالاته". )
وكون العقل مصدرا من مصادر التشريع ، ليس مقتصرا على المعتزلة ، فالشيعة كذلك .
أتعلم ماالمشكلة ؟
أستطيع أن ألخصها في عدة أمور :
- " العقل " بالنسبة لك ، لا يكون عقلا إلا إذا كن " فلسفة " . و " النصوص " بالنسبة لك أيضا ، بالضرورة ، تعبر عن " مضادة للعقل وتجميدا له " .
بعيدا عن مواقفنا الحالية ، والأيديولوجيات التي نعتنقها .
هل عمل " الشافعي " في الرسالة عمل لا يمت للعقل بصلة ؟
وهل أصول الفقه لا علاقة له بالعقل ، لأنها ليست فلسفة أولا ، ومستمدة من النصوص ثانيا ؟
وهل عمل " أهل الحديث " النقدي للروايات التاريخية ، وتشريحها وغربلتها ، كان : لا شيء ، ولا علاقة له بالعقل أبدا ؟
وهل ما قام به سيبويه والفراهيدي والاصمعي من تدوين لعلوم العروض والنحو والبلاغة ، كله كان خارجا عن دائرة العقل لأنه كان لغرض ديني ؟
- عند اطلاعنا على التراث ، فنحن ، أبدا ، نصادف مأزقين اثنين : إما كتاب " متأثر " بالإستشراق " ، أو آخر ، يكرس " أيديولوجية " .
خذ ، كمثال ، كتاب نصر أبو زيد الذي استشهدت به . فتجده يكيل الاتهامات للشافعي ، وسعي لتكريس ايديولوجية وسطية للأمويين ....إلخ كلامه .
كل هذه الاتهامات ، تبطلها حقيقة تاريخية واحدة : وهي ان الشافعي ولد بعد سقوط دولة بني امية ! :D
:nocomment:
شكرا لك
عزيزي فضل ،
تقول :
اقتباس:الاسلام هو شىء اكبر وبما لا يقاس من مفهوم ايديولوجيا ....هو ثقافة وتاريخ وخلفية المشهد الوجودى وهو حالة منتصرة بشكل نهائى ولها ثباتية نهائية وشاملة
لكنه ايضا يمكن ان يكون ايديولوجيا لو طرح للاستخدام السياسى ( الاسلام السياسى ) وهذا شىء متغير تماما عبر التاريخ الاسلامى وظهر وسيستمر بالظهور بصور مختلفة
ايديولوجيا ، كلمة أعجمية معربة . واستعمالها يقترن ، ضرورة ، بما تعنيه عند اهلها .
ففي الثقافة الغربية ، تجد أن الايديولوجية تستخدم في أكثر من معنى .
استخدمها فلاسفة التنوير بمعنى الغشاوة أو القناع ، استخداما هجائيا للكنيسة .
وتطورت مع الفلسفة الألمانية ، خصوصا مع ماركس وماكس فيبر ، لتصبح النظرة الشاملة للكون . أو أنها تعني ، ما ذكرته أنت :( ثقافة وتاريخ وخلفية المشهد الوجودى وهو حالة منتصرة بشكل نهائى ولها ثباتية نهائية وشاملة ) .
لهذا يكون الإسلام : ايدولوجية ، والعلمانية كذلك ، وأي منظومة فكرية تخلع على الوجود معنى ما .
راجع ، ان احببت ، كتابا لعبد الله العروي : مفهوم الأيدوليجيا .
شكرا لك .