أثارتْ فيّ قاهرةُ ما بعد الحرب لأول مرة شعوراً بالتمايز الشديد من حيث التراتب الاجتماعيّ . وكان التبدّل الكبير هو حلول الأميركيين المنتصرين محلَّ البريطانيين ، مؤسساتٍ وأفراداً ، وقد أَخْلَت الإمبراطوريةُ القديمة المكانَ للإمبراطورية الجديدة ، فيما راح أبي يَنْعم بالمزيد من النجاحات في حلبة الأعمال . في احتفالات " إعدادية الجزيرة " ، كانت الهَيصة تتعالى عند ظهور اللّيْدي بادِن باول أو روي تشابمان أندروز* ، رمزَي السلطان البريطانيّ اللذيْن لا يحتاجان إلى أيّ ندّ مصريّ أو عربيّ يَفْضح أجنبيتَهما إذ يعتليان منصّة الخطابة . آنذاك ، كانت بريطانيا تَحْكم البلد متفوّقةً ، وجميعُنا يسلّم بذلك تسليماً . فإذا بظهور شفيق غربال ، المؤرِّخ المصريّ المرموق والموظّف في وزارة التربية ، في أول احتفال أتذكره لـ" مدرسة القاهرة للأولاد الأميركيين " ، يسجِّل الفارقَ بين المقاربتين ، الإمبرياليتين ، الأميركية والبريطانية . فلما كنا ، نحن الأميركيين ، شركاءَ المصريين ، فأيُّ شيءٍ أنسب من أن نعطيهم الكلام في مناسبات مثل افتتاح البرلمان أو عيد ميلاد الملك فاروق ، وهي مناسبات لا تكترث لها " إعداديةُ الجزيرة " ؟ ذلك أنّ مطلع نشيد " كلُّ الأشياء البرّاقة والجميلة " يعني إنكلترا البرّاقة الجميلة ، نجمَ السَعد البعيد الذي يُشِعّ علينا جميعاً . لقد انتهى ذلك الزمن إلى غير رجعة ، وحَذَفتُ النشيد من برنامج أغانيّ المفضّلة . على أني دُهشتُ عند اكتشافي أنّ تعليم العربية لجميع الأطفال يشكّل جزءاً من البرنامج الأميركيّ . ولما كنتُ قد ادّعيتُ أنّ " سِغيد " هو اسمي الأميركيّ ، فقد عانيتُ الأمرّيْن في درس العربية . إذ اضطررتُ إلى أن أخفي مَلَكَتي الممتازة للُغَتي الأم انسجاماً مع الصيغ الفارغة التي تُوزَّع وتُمَرُّ على الشباب الأمريكيّ بوصفها العربية المحكية ( وهي إلى عربية المطبخ أقرب ) . لم أتطوع لأية مهمة ، ولم أتكلم إلا نادراً ، وغالباً ما كنت متقوقِعاً على نفسي في مؤخّر الصف . ولكنّ الأمر لم يَخْلُ من الاستفزاز ، من مثل استفزازات معلِّمة اللغة العربية الشابة الجميلة ، التي في معرض وصفها لمغامراتها في مدينة الملاهي ، المُفتَتَحةِ حديثاً في " الجزيرة " ، أصرّتْ على رواية رحلةٍ جوّيةٍ سُمّيتْ " سعيدة " على اسم شركة الطيران المصرية المنشأة حديثاً . وفي صفٍّ مُنمنمٍ من أربعة تلامذة ، انتصبتْ قبالتي وشرعتْ تفصِّل ما أثارته فيها " سعيدة " من مشاعر ، مكرّرةً الاسمَ المرةَ تلوَ الأُخرى كأنما لتؤكد الصفة العربية الضامرة لاسمي ، وقد جهدتُ لتخفيض ذلك الاسم إلى مستوى معايير اللفظ الأميركية الدارجة . " لا ، يا إدوارد " ، قالت بتشديد ، " لن تستطيع الادعاء أنك اختبرتَ أروع تحليق في الجوّ إنْ أنتَ لم تجرّب " سعيدة " . هل تدري كم مرةً ركبتُ " سعيدة " ؟ أربعَ مرات ، على الأقل . " سعيدة " هي الطيران . " سعيدة " رائعة " . ولن تستطيع إنكار الصلة بين الاثنين .
عُيِّنتُ في الصف السادس في قاعة تقع في الطبقة الثانية ، مَنَحَها النباتُ وأصصُ الزهور على النافذة جوَّ الغرفة البيتية . تتسلطن على الصف جلوازةٌ ساديّة هي أول الجلوازات والساديّات في حياتي : مِسّ كلارك ، التي أدى اضطهادُها الحثيثُ لي إلى ثلم كبريائي المزعزّعِ أصلاً . كانت في منتصف الثلاثين ، شديدة التحفظ في سلوكها ، هادئةً جداً ورابطةَ الجأش إلى درجة بغيضة . وإذ فكَرتُ فيها عبر السنوات ، ألفيتُ تلك " البيضاء الانكلو- سكسونية البروتستانتية " WASP من شمال غربيّ الولايات المتحدة نموذجاً عن أهالي تلك المنطقة المُكتفين مادياً والمستقيمين أخلاقياً والواثقين من أنفسهم والمتعالين على سائر البشر . لستُ أدري ما الذي سلّطها عليّ ، على أنه لم يكد يمرّ أسبوع أو عشرة أيام على بدء العام الدراسيّ ، حتى شَهَرَتْ عليّ العداءَ الصريحَ في صفٍّ لا يحتوي على أكثر من دستةٍ من الصبيان والبنات .
بعد اختباري النظامَ الإنكليزيّ التراتبيّ الجامد ، بدت المدرسة الأميركية تعيش في حال من رفع الكلفة بكل ما للكلمة من معنى . فالكراسي والطاولات مبعثرة عبر قاعة الدرس ، بينما كنا في " إعدادية الجزيرة " نجلس في صفوف عسكرية مرصوصة من المقرِئات والمقاعد . وباستثناء معلِّمي الفرنسية والعربية والفن ، يتولى التعليمَ هنا معلّماتٌ أميركياتٌ ( كثيفاتُ الأصباغ يرتدين الفساطين المبهرجة الألوان ويختلفن كلياً عن الوجوه العادية الكالحة والتنانير المحتشمة لمِسِز ويلسن وأَضرابها ) ومعلّمٌ أميركيٌّ وحيد هو مارك وانِك ، الذي يقوم أيضاً مقام مدرِّب الـ" سُوفت بُول " وكرة السلة . وفي إحدى المناسبات ، ارتدى مارك زيَّ لاعبي كرة السلّة في ولاية أوهايو ، الأصفرَ اللمّاعَ ، ليلعب معنا . وفي ظهيرة القاهرة القائظة ، وعلى خلفية من حقولٍ غبراء وفلاحين سُمرٍ يرتدون الجلابيات ويسوقون الحمير أو الثيران كما كان دأبهم منذ آلاف السنين ، بدا منظرُ السيّد وانِك سوريالياً إلى أبعد حدّ في بذلته الفاقعة الألوان وذراعيْه ورجليْه المكسوّةِ بالشَعر وقَصَّةِ شَعره العسكرية وحذائه القماشيّ والمطاطيّ الأسود ونظارتيْه الرقيقتَين اللتين لا إطار لهما .
وجدتُ التعليم الأميركيّ نظاماً تربوياً صُمِّم ليكون جذاباً وبيتياً ومفصَّلاً على مقاس أطفال في طور النمو . في " إعدادية الجزيرة " ، كانت الكتب متماثلةً من حيث حروفها الطباعية الصغيرة وخاليةً من التزيينات وصارمةً في جفاف أسلوبها . فمادة التاريخ ومادة الأدب مثلاً يجرى تقديمهما بطريقة أكثر ما تكون بداهةً ، وهو ما يجعل من قراءة كل صفحة في أيّ منهما تحدّياً قائماً بذاته . وكانت دروس الحساب تفتقر إلى أيّ تنازل لعالم التجارب المعيشة . وكنّا نُعطَى مسلسلاتٍ من الأرقام لنَجْمعها ونَطْرحها ونَقْسمها ونَضْربها ، إضافةً إلى عدد كبير من القواعد والجداول لنحفظها عن ظهر قلب ( كجداول الضرب والأوزان والمقاسات والمسافات والأمتار والياردات والإنشات ) . والهدف من كل هذا هو حلّ مسائل حسابية ، وهي مهمة لا يضاهي صعوبتَها إلا مللُها الممنهَج . وأما في المدرسة الأميركية ، فقد وزّعوا علينا دفاتر تمارين تختلف كلياً عن دفاتر الخط في " الإعدادية " ، وذلك أنّ الثانية كراريسُ خطٍّ مُسَطَّرةٌ مثل بطاقات الباص المُغفَلَة ، في حين أنّ الأولى تتضمّن أسئلة جذابة ومشجعة على الحوار إضافةً إلى رسوم وصور معدّة لأن نتذوقها ونستمتعَ بها أو نكملها عند الحاجة . وفي الوقت الذي كانت فيه الكتابة على كتاب مدرسيّ في " إعدادية الجزيرة " تشكّل جنحة خطيرة ، إذا بدفاتر التمارين الأميركيةً مُعَدّةٌ أصلاً لأن يُكْتَب عليها .


* زوجة اللورد بادن باول ، مؤسس الحركة الكشفيّة ، وموظف كبير في الخارجيَّة البريطانيَّة في ذلك الزمان .


يتبع إن شاء الله

وكانت الكرّاسات المدرسية التي توزّعها مِسّ كلارك في بداية اليوم هي أكثرها جاذبيةً . ومحورُ كلّ درسٍ عائلةٌ يتعرّف إليها التلميذُ منذ البداية ، وتتكوّن دوماً من شقيقة وأب وأم إضافةً إلى الأقارب المتنوعين وحاشيةِ البيت بمن فيها مدبّرتُه السوداءُ السمينة التي تتضخم أساريرُها على نحوٍ كاريكاتوريٍّ في حالَيِ الحزن والفرح . ومن خلال تلك العائلة ، يتعلم التلميذُ الجمعَ والطرحَ أو التربيةَ المدنية أو التاريخَ الأمريكيّ ( كنا نتعلّم الأدب على حِدة ) . والمقصود بها جعلُ التعلّم عمليةً ميسّرة ، مثلها مثل قضاء يوم في مزرعة أو في إحدى ضواحي سانت لويس أو لوس آنجيليس . وقد حيّرتني تماماً الإشارتُ إلى الـ" دراغستور " والـ" هارد وير ستور " والـ" دايم ستور " * ، مع أنها لم تكن تحتاج إلى شرح لزملائي وجميعُهم عاش في أماكن مثل سانت لويس ولوس آنجيليس في حين أن لا صلة لتلك المواقع بتجربتي الخالية من نافورة الصودا أو المشروبات المخلوطة بالمياه الغازيّة ، وهما كانا الأشدّ إثارةُ لفضولي .
كان المفترض أن أجد ذلك مسلّياً ، وقد وجدتُه بالفعل خلال الشهر الأول . على أنّ مِسّ كلارك لم تتركني لحالي، ولم يفعل ذلك الأطفال الآخرون أيضاً ، فسرعان ما دب التنافر بيني وبينهم . وإذا بي ، بعد ذلك الشهر الممتع ، يعاودني الحنين إلى " إعدادية الجزيرة " ، بخطوط انضباطها الواضحة ودروسِها الروتينية وقواعدِ سلوكها الشديدة الصرامة . ولم يكن المعلمون في المدرسة الأميركية يلجؤون إلى العنف أو حتى يهدِّدون باللجوء إليه ، ولكنّ التلامذة الذكور كانوا بالغي الفظاظة واحدهم تجاه الآخر ، ولاسيما أنّ الصبيان على شيء من ضخامة البنية والاستعداد لاستعمال العنف بعضهم ضد بعض في مباريات صمود أو سباق . وما إنْ حلّ عيد الميلاد حتى صار كلُّ يوم من أيام المدرسة يومَ محنةٍ يتطلب منّي الخوض في غِمار الأذرع الملوِّحة والقَبضاتِ المتطايرة في الباص ، يَعْقبها القمعُ الرهيب والتأنيبُ القاسي من مِسّ كلارك في قاعة الدرس .
جاءت اللحظة الأكثر إذلالاً في عامي الأول بعد أن عاد الصف من " رحلة ميدانية " ، وهي مفهوم جديد كلَّ الجدّة بالنسبة إليّ ، إلى مصنعِ سُكّرٍ ضخم عبر النيل قبالة " المعادي " . أعترفُ أنه بعد مضيّ الدقائق العشرين الأولى ، صارت الزيارة مملةً إلى درجة لا تستحق معها أيّ اهتمام . ولكنْ لم يكن لي خيار غير أن أبقى مع الجماعة ، نُقاد معاً من راقود الغلي إلى المخزن فغرفة التقطيع ، على إيقاع شروح دليلنا المستمتع بهذره لتهوين الأمر علينا ، شارحاً خلال نصف ساعة أمراً لا يحتاج إلى أكثر من دقيقة واحدة ، في فيض من المصطلحات التقنية وفي غمرة جوّ عجيب من الرضى الذاتيّ . ودليلنا هذا رجلٌ مُتطربِش في منتصف العمر ، عيّنتْه إحدى الوزارات لمرافقتنا في تلك الزيارة . وكانت مِس كلارك هناك طبعاً . ولكني لم أُعرها أو لم أكد أعرها أيّ اهتمام ، وتلك غلطتي الكبرى . أجدها تطأطئ الرأس كلما دخلتْ مرمى نظري ( أهو دليل موافقة أَمْ فهم أَمْ رضى تجاه طوفان المعلومات عن قصب السكّر وتاريخه وتكوينه والتركيب الكيماويّ للسكّر ، الخ . ؟ ) ولكنّي لم أكترث لها . كانت الرحلة كلها مختلفة كلياً ، وعلى نحوٍ عجيب ، عن أيّ نشاط قد تنظِّمه مدرستي الكولونيالية السابقة ، إلى درجة أنه لم تستوقفني مجردُ المقارنةِ بين البريطانيين الاستبداديين والأميركيين العطوفين ، والأكثر رغبةً في أن يوفِّروا للمصريين الفرصةَ الديمقراطيةَ ليحققوا ذواتهم .
اجتمعنا في اليوم التالي في قاعة الدرس كالعادة ، ومِسّ كلارك جالسة خلف مكتبها تبدو متماسكةً وغامضةً كحالها دائماً . شرعتْ تقول " لنُمضِ بعض الوقت في الحديث عن رحلة الأمس الميدانية " ثم التفتتْ فجأةً إلى ب . ج . ، الفتاة القصيرة الشَعر التي أعطتها نبرتُها السريعة وطريقتُها التِجارية صفةَ لولب الصف . فقدمتْ ب. ج . تقويماً مفصَّلاً لأحداث ذلك اليوم . " وما قولُكَ ، يا أرنست ؟ " سألت المعلّمةُ أرنست براندت ، وهو الأضخم جثةً بين الصبيان وأقواهم بنيةً وإنْ يكن أقلهم تعبيراً . لم يكن هناك الكثيرُ يضاف إلى تلاوة ب. ج . المرهِقة ، ولم يكد أرنست يَبذل أيّ جهد أصلاً . " لا بأس " ، كان ذلك كلَّ ما صَدَرَ عنه . كنتُ قابعاً في مكاني أَشْرد شيئاً فشيئاً في حلمِ يقظةٍ ولا أعير غرائز مِس كلارك الافتراسية الاهتمامَ الكافي . " لقد تصرفتم بتهذيب شديد أمس وأنا فخورة بكم " ، قالت ، وظننتُها سوف تنتقل من ثم إلى تسميع درس الإنكليزية . " أعني : كلكم ، خلا واحداً منكم . واحداً لم يكترث لشروح إبراهيم أفندي الساحرة والعظيمةِ الفائدة . واحداً تخلّف على الدوام عن باقي المجموعة . واحداً كان يتململ كل الوقت . واحداً لم يلقِ نظرةً واحدة على الآلات والمراجل . واحداً لا غيره كان يَقضم أظافره . واحداً وحده أخزى الصف كله " . وصمتتْ لبرهة ، فيما أنا أتساءل من يكون ذلك الواحد .
" أنتَ ، يا إدوارد ، أنت تصرفتَ بطريقة فظيعة . لم أعرف في حياتي كلها من هو مثلك : فاقداً القدرة على التركيز ، وعديمَ المراعاة للآخرين ، وكسولاً ، ومتقاعساً إلى هذا الحد . راقبتُك دقيقةً بدقيقة ، فلم تأتِ عملاً واحداً يَشْفع لك . سوف أُبلغ عنك مِس ويليس ( مديرة المدرسة ) وأَطْلب منها استدعاءَ أهلك " . توقفتْ وهي ترمقني بنظرة كراهية ظاهرة ، ثم أردفتْ قائلة : " لو كنتَ من التلامذة المجتهدين في هذا الصف ، لربما غفرتُ لك سلوكك . لو كنتَ مثل ب. ج . مثلاً . ولكنْ لأنك أسوأ تلاميذ هذا الصف بلا منازع ، فما أقدمتَ عليه يومَ أمس لا يُغتفر " . وكانت تشدّد على كلماتها بحياد تام .
لقد حدّدتني مِس كلارك ، عن قصد وسابق تصوّر وتصميم وبطريقة نيّقة ، ونفذتْ إلى دواخلي ، إذا جاز التعبير ، فرأتني كما لا أستطيع أو لا أريد أن أرى نفسي ، وأذاعتْ مكتشفاتها على الملأ . فتسمّرتُ في مكاني ، لا ألوي على شيء ، أحمرَ الوجه ، أتظاهر بالأسف والقوة معاً ، وقد بدأتُ أكره أفراد الصفّ الشاخصين ، ويتملّكُني شعورٌ بأنّ كل واحد منهم يحدّق إليّ باستهجان وفضول غير مبرَّريْن . " من هو هذا الشخص ؟ " ، تخيلتهم يتساءلون ، " إنه مجرد صبيّ عربيّ مسكين . فما الذي جاء به إلى مدرسةٍ للأطفال الأميركيين ؟ ومِنْ أين جاء ؟ " . في تلك الأثناء كانت مِس كلارك تحرّك كتبها وأقلامها على المكتب ثم عادت إلى تسميع الدرس كأنّ شيئاً لم يكن . ألقيتُ عليها نظرة عجلى بعد عشر دقائق أتبيّن احتمال أن تَبْدر منها نظرةُ لِين تجاهي ، فألفيتُها باردةً وعصِيَّةً على الصَفح كما هي على الدوام .
كَمَن مصدرُ القوة في ما قالته مِس كلارك عني في أنها جمّعتْ كل الملاحظات السلبية والنقدية المحيطة بي بشكل عام ، في البيت كما في " إعدادية الجزيرة " ، وركّزتْها كلَّها في حاوية فولاذية مَقيتة وكبَّتْني فيها كَباً مثلما يُكبّ هُلام الـ" جيلو " في القالب . فشعرتُ أني بلا تاريخ يقيني ذلك الحُكمَ الذي أصدرتْه بحقي مِس كلارك أو يقاوم الخزيَ العلنيّ . على أن الأفدح وقعاً عليّ من ذلك الفضح الساكن ، هو خشيتي الدائمة ، بل كرهي ، لإعلان الأخبار السيئة على نحو مباغت ، بما لا يتيح لي فرصة الردّ عليها والتمييز بين " إدوارد " ، في جماع إعاقاته وخطاياه المعروفة ، وبين الكائن الجوّاني الذي أَعتبره ذاتي الحقيقيةَ والفضلى ( وهي ذاتٌ غامضةُ التخوم ، حرّة ، فضولية ، سريعة ، شابة وحسّاسة ، بل ومحبوبة ) . والآن لم يعد في مستطاعي استظهارُ تلك الذات إذ تواجهني ذاتٌ وحيدة لا مناص منها ، منقوصةٌ بل محكومٌ عليها بالإخفاق ، لا تستقيم مرةً ، بل إنها بالتأكيد شاذة وفي غير مكانها .
بَلَغ بي الأمرُ حدّ كراهية تلك الهوية ، ولكني لم أكن أملك بديلاً عنها . وقد بتّ موضع استهجان إلى درجةِ أني اضطررتُ ، طبعاً ، إلى مقابلة مَس ويليس ،وهي امرأة من الغرب الاوسط الأميركيّ ، شيباءُ الشعر ، ضعيفةُ الشكيمة ، في المنقلب الثاني من العمر ، بدتْ حائرة أكثر منها غاضبةً أمام ارتكاباتي . لم تحضر مِس كلارك المقابَلةَ . ولكنْ لا مجال للمقارنة إطلاقاً بين إدانة مِس كلارك الوجودية لي وبين محاضرة مِس ويليس الغامضةِ المتعلثمةِ عن فضائل المواطنية الصحيحة . وهذه العبارة الأخيرة لم تكن لتخطر على البال في الإطار الكولونياليّ البريطانيّ الذي غادرتُه للتوّ ، إذ نحن جميعاً في مرتبة الرعايا ، في أحسن تقدير ، نكتفي بواجب الطاعة من غير سؤال . وفي نهاية المطاف ، جاء أهلي هم أيضاً لمقابلة مِس كلارك ومِس ويليس . فتركتِ الأولى انطباعاً بيّناً على أمي التي سمعتْ ، في نبرة المرأة الثاقبة ، سرداً متماسكاً وبليغاً لنقاط ضعف ابنها يفوق أيَّ سردٍ آخر . لن أعرف أبداً ما قيل عني في ذلك اللقاء . ولكنّ صداه ظل يتردّد في مواعظ أمي عبر السنوات . " تذكّرْ ماذا قالت مِس كلارك " ، كانت اللازمةَ المستخدمةَ لتفسير ضعفِ التعيين والتركيز لديّ وعجزي المزمنِ عن إتيان الأعمال الصالحة في آن معاً . هكذا طوّرتْ أمي رأي مِس كلارك المستفظع ووسَّعتْ مداه . ولم يخطر في بالي أن أسألها لماذا تحالفتْ بهذه الطريقة العمياء مع شخصٍ لا تحركه الاعتباراتُ التربوية وإنما تحرّكه النوازعُ الغريزية والسادية ؟
كان يُفترض بي أن أكون بين أبناء جِلدتي في المدرسة الأميركية ، على أنه قُدِّر لي أن أصير غريباً فيها أكثر مما كنتُه في" إعدادية الجزيرة " . لقد ساد المدرسةَ الأميركيةَ الكثيرُ من ر فع الكلفة - حيث تحيات " غود مورنِنغ " و هاي " هي الدارجة ، خلافاً لما كان عليه الأمرُ في " الإعدادية " - والكثيرُ من الشديد على مَنْ يجلس قرب مَنْ في الباص أو في قاعة الدرس أو المطعم . ومع ذلك ، قامت تراتبية خفية بين الصبيان ، ولكنها موضع إجماع ، لا ترتكز إلى الأقدمية أو الموقع الاجتماعيّ وإنما إلى القوة والإرادة والبراعة الرياضية . زعيم المدرسة يدعى ستان هنري ، وهو تلميذ في الصف التاسع ، وشقيقته بادي أدنى مني بصف واحد ، ووالدهما موظف كبير في شركة " ستاندرد أويل " . وستان ، الذي يتجاوز ست أقدام طولاً ، سبّاح ماهر ورياضيّ مكتمل تشعّ منه الثقةُ بالنفس والذكاءُ ، وله ضحكة مثل صهيل الحصان تشي بدهاء تنافسيّ حادّ يهيمن بواسطته على استراحاتنا المعتادة في الحديقة . خصمه الوحيد من حيث الضخامة هو أرنست براندت ، وقد شاهدتُ ستان يذلّه ذاتَ مرة فأمسك به من يديه لاوياً سلامياته ، وهو ما أجبره على الركوع أرضاً . ولما نهض أرنست أخيراً ، ظل جامداً في مكانه لا يتحرك ، فيما الدموع تنهمر على وجهه . ولما كان ستان هو " القائد " أيضاً ( وهي مفردة تعلّمتُها في المدرسة الأميركية ) فسرعان ما أخذْنا نتحلّق حوله . ظل المدى المحيط به موضع نزاع حاد بيننا . وفي حين لم يكن أحد ينازع ستان موقعَه المتفوقّ ، كنا ، نحن البقيةَ ، في حالٍ من التقلّب الدائم قرباً منه وبعداً عنه .


" الدراغستور " مزيج من صيدلية ومن حانوت متعدّد الخدمات بما فيها بيع المشروبات الخفيفة . " الهاردوير ستور " محل لبيع الأدوات والأواني المعدنية . و" الدايم ستور " ، محل لبيع سلع متنوّعة جداً بسعر رخيص وموحَّد .


يتبع إن شاء الله

كنتُ في عراك دائم مع صبيَّين بنوع خاص ، هما ألِكس ميلر ( ابن موظف سفارة ، على ما أظن ) وكلُود برندكارت ، البلجيكيّ – الأميركيّ الذي يعمل أبوه وكيلاً لشركة " كالتكس " في مصر . ولكل منهما شقيقةٌ جذابة – آماريلليس السمراء ومونيك الشقراء – تبدوان أقرب إلى امرأتين مكتملتي النضج منهما إلى ابنتََيْ ست عشرة أو سَبع عشرة سنة . أحياناً كانت آماريلليس تجلس قربي في الباص وتتصرّف بودّ ، بل بصداقة ، وقد صعقتْني عندما شاهدتُها ترتدي ثوب سباحة من قطعتين خلال رحلة مدرسية إلى بركة السباحة في " المعادي " . فلم أكن ، في حياتي المنعزلة ، قد شاهدتُ من قبل تلك المساحة من الجسد الأنثويّ مكشوفةً للعين . ولمفارقة في الأمر أني شعرتُ أنّ الحادثة باعدت المسافة بيننا بدل أن تقرّبها . أما مونيك فكان يحيط بها مناخٌ حُلميّ غامض ، إذ تطوف في أرجاء المدرسة بطريقة جدّ آسرة . ولم يكن للفتاتين من عميق صلة بأخويهما الأصغرين ، ولا كان هذان في عداد أصدقائي ، بل كانا خصميْن لدوديْن في جولات لا متناهية من المصارعة وحفلات التبجّح موضوعُها غامض وغيرُ قابل للنقاش في آن . وأذكر أني أعجبتُ بالطريقة التي بادَلَني بها ألِكس اللكمات على الباص ، واقفاً عند الطرف الآخر من المقعد ، مسدِّداً اللكمات إلى رأسي والبطن ، بصبر ومنهجية ، بل ببطء ، فيما أنا ، المقاتلَ النزقَ والضعيفَ السيطرةِ على ذاته ، أكيل له لكمةً متصالبة من هنا وضربةً فوقانية دوّارة من هناك ، ومعظمها طائش ، وقد تعلّمتُها على سايد ، مدرّبِ الملاكمة في " جمعية الشبّان المسيحيين " . والغريب حقاً أنّ ذلك المشهد ، التافه والزاخم في آن ، ظل عالقاً في ذاكرتي على امتداد تلك الفترة الطويلة مثل مسلسل متحرّك من صُوَر " مويبريدج " الفوتوغرافية * : " فما الذي كُنته آنذاك ؟ " ، أظل أسائل نفسي : ولماذا كنتُ مدفوعاً إلى مثل تلك العداوات الحادة وميالاً إلى الخوض فيها إلى ذلك الحد ؟
وخلافاً للحال في إعدادية الجزيرة ، حيث لا أمل في أن يستمر عراكٌ لأكثر من عشر ثوان قبل أن يهرع معلّمون عدة للفصل بين المتعاركين ، تبنّت المدرسةُ الأميركية فلسفةً مختلفة جذرياً ، هي توفير حلبة مكرّسة للعراك ولأشكال أخرى من تنفيس الصبيان عن فائض الطاقة المخزونة لديهم . ولذا ، فإنّي لا أذكر لحظةَ أمانٍ واحدةً خلال استراحات الغداء ، ولا أنا تنعّمتُ برفقة ممتعة ولو للحظة واحدة .
نشبتْ خصومةٌ بيني وبين كلود براندكارت – لأيّ سبب ؟ لستُ أدري – وكنا مستعديْن أبداً للمشاجرة أو لمبارزةٍ في البَصْق أو في قذف الحجارة أو لحفلة مفاخرة نواجه فيها بين أبوينا في مباريات وَهمية في كرة المضرب والمصارعة أو التجديف ، وكلاهما لا يجيد أياً منها في الحياة الحقيقية . وإذ بلغنا أنا وكلود ذروةَ العداوة ، فقد اقتضى الأمر خوض معركة شاملة فاصلة في الحقل المغبّر ، كلٌّ يشدّ بالآخر ويبادله اللكمات ، فإذا بنا نهوي معاً على الأرض متقابضَيْن في عناق عنيف . وقد تمكن من أن يعتليني ، وناضل لشراسة ليسمّرني أرضاً وليجبرني أخيراً على أن أقول " إني أستسلم " .
وكان جان – بيير سابيت في عداد المشاهدين ، وهو من سكان " المعادي " غير الأميركيين ، وقد قُبِل في المدرسة الأميركية لاستثناءٍ غير مفهوم الأسباب ، فقال عني بنبرة بدهية : " إنه يقاوم . ألا ترون أنه يقاوم ؟ لم تنته المبارزة " . وكان على حق . فقد شعرتُ أني هُزِمتُ ، بمعنى ما ، لأنّ " إدوارد " تخلى عن العراك وأَسْلم أمره وبات الآن تحت سيطرةِ مَن هو خليقٌ بأن يسيطر عليه . على أن الغريب في الأمر أنّ ذاتاً أخرى بدأتْ تفور في داخلي ، عندما كان " إدوارد " يتخلى عن العراك ويصبح أسير كلود براندكارت ، وهي ذاتٌ صادرة عن منطقة جوّانية أعلم بوجودها دون أن أستطيع إليها وصولاً إلا نادراً . وهكذا فإنّ جسمي بدلاً من أن يبقى منبطحاً بإذلال تحت براندكارت ، بدأ يدفع إلى أعلى ، فحررتُ يديّ أولاً ، ثم أخذتُ أضربه على صدره والرأس ، إلى أن أجبرتُه على أن يدافع عن نفسه ويفكّ قبضته عني ، وأخيراً دحرجتُه جانباً ونهضتُ وأنا أواصل تسديد اللكمات إليه . وبعد دقيقة ظهر المستر وانِك ، ففصل بيننا وأعادنا إلى مبنى المدرسة بعبارةِ ازدراءٍ مفادها : " ما أَمْرُكما أنتما ؟ " .
قبل سنة من ذلك ، عرفتُ تجربة مماثلة من الهزيمة والنهوض . وإني لأدرك الآن فقط أنّ الحادثتين تدلان على تلك الإرادة المباغتة لتجاوز القواعد القديمة والمُهَلِ المحددة التي كان " إدوارد " قد ارتضاها . فخلال عطلة نهاية الأسبوع ، التقيتُ غي موسيري في بركة السباحة في نادي " المعادي " ، وهو فتى نحيل قصير القامة من سكان " المعادي " وتلامذةِ المدرسة الأميركية . بدأنا لعبة مطاردة فكان عليّ أن أغطس في البركة وأسبح ثم أنتشل نفسي من الماء لأعاود الغطس والسباحة ثانيةً إلى أن يَقبض عليّ ، إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً . انطلقتُ في حال حبور ، أشق طريقي بين السابحين ، وغي يغذّ في أعقابي . إلا أني سرعان ما بدأتُ أتلاشى ، وتملّكني ذعرٌ شديد إذ أدركتُ أنّ غي لا يزال يطاردني بلا كلل ووجهُه خالٍ من أيّ تعبير . فإذا شعوري بالإخفاق الكاسح يزيد المطاردة كتامة وتضخيماً . وأخذ غِي يُطبِق عليّ فيما أنا أتباطأ ، دليلاً على أنّ " إدوارد " قد استسلم ، فإذا بي أكتشفُ طاقة مستجدة تحرِّك قدميّ وذراعيّ وتدفعني بعيداً عن موسيري ، الذي أربكه التغيّرُ الفجائيّ الذي طرأ على العلاقة بين الصيّاد والطريدة . فما كان منه إلا أن توقف عاجزاً عن الاستمرار بعد دقائق معدودة .
على أنّ مثل تلك المناسبات كانت نادرة . ذلك أنّ المدرسة الأميركية أجبرتني على أخذ " إدوارد " على محمل الجدّ أكثر من ذي قبل بما هو كائن معطوب وفَزِعٌ وضعيف الثقة بالنفس . وكان الشعور العام المسيطر عليّ هو شعوري بامتلاك هوية مُضطربة ، أنا الأميركيَّ الذي يُبطِن هويةً عربية أخرى لا أستمدّ منها أية قوة بل تورثني الخجل والانزعاج . ورأيتُ عند ستان هنري وألِكس ميلر هويةً أكثر اشتهاءً ، صَلْدة كالصخر ومتطابقة مع الواقع . بل إنّ جان بيير ثابت ومَلَك أبو العزّ وحتى ألبير كورونيل – رغم كونهم يهوداً مصريين يجملون جوازات سفر إسبانية – يستطيعون أن يحققوا ذواتهم ، فلا شيء عندهم يحتاج إلى إخفاء ولا هم مضطرون إلى تمثيل دور المواطنين الأميركيين . ومرةً خلال سنتي الثانية في تلك المدرسة ، ظهر صبيٌّ جديد أكبر مني سناً ، هو بوب سيمحا ، فظننتُ أني وجدتُ رفيقاً لي عندما شرح لي والداي أن سيمحا اسم يهوديّ وعربيّ معاً . فحاولتُ استكشاف شَبَهٍ خفيّ بيني وبينه ، ولكنّي حيّرتُه بأسئلتي عما إذا كان له أقرباء في حلب أو بغداد . " لا " صرفني بنزقٍ قائلاً ، " أنا من نيو روشيل " . ومنه تعلّمتُ تعبير " تُفٍّ على شارب أبيك " .


* إدوارد مويبردج ( 1830 – 1904 ) رائد من روّاد التصوير الفوتوغرافيّ والسينمائيّ . اشتُهر بتجاربه الناجحة في تصوير كامل حركات الأجسام ( جسم الحصان وجسم الإنسان بنوع خاص ) خلال العدْو . ففتح بذلك المجال أمام التصوير المتحرِّك ، أي السينمائيّ .



يتبع إن شاء الله

يوماً بعد يوم في المدرسة أخذتُ أشعر بالتفارق بين حياتي الشخصية ، أنا " إدوارد " ذا الهوية المزوّرة بل والإيديولوجية ، وحياني في البيت ، حيث تعاظمتْ ثروةُ أبي بعد الحرب ، لكونه رجل أعمال أميركياً . وبعد العام 1946 ، باشر هو وأمي رحلاتهما الأوروبية التي سوف تَعْقبها رحلاتٌ آسيوية وأميركية ، مرتين في السنة على الأقل . ولما كنت ولده الوحيد وكان لا يزال المالك والمدير لمصالحه التجارية المترامية الأطراف ، فقد كان لا بدّ من أن أبدأ بالاهتمام بمشاريعه التجارية . هكذا دخلتْ حياتَنا وبيتَنا ولغتَنا اليومية لائحةٌ طويلةٌ من أسماء الشركات التي كان وكيلاً لها ( أو " عميلاً " بحسب المصطلح السائد آنذاك ) . وقد وجدتْ معظمُ منتجات تلك الشركات طريقَها إلى رقم واحد ، شارع عزيز عثمان ، الشقة 20 ، الطبقة الخامسة : أقلام " شيفرز " ومحابر " سكريب " ، والأثاث الفولاذيّ لشركة " آرت ميتال " ، وكراسٍ وطاولات " سيبيل " ، وخزنات " شُوب " ، و" رويال " للآلات الكاتبة ، وحاسبات " مونرو " ، وسكاكين ومقصّات الفولاذ المقاوم للصدأ من صنع " سولِنجن " ، وآلات النسخ بواسطة الحبر أو الكحول من عند " إيلام " و " آي . بي . ديك " ، والأدوات المكتبية من ماركة " ماروزن " ومفكّرات " لِيتس " وأشرطة تسجيل وناسخات ودهانات " ثري إمّ " ، وآلات التسجيل الصوتيّ والتفريغ " ديكتافون " ، أضفْ إليها آلات الدَمْغ البريديّ الإنكليزية وآلة حاسبة سويدية و " طابعة شيكاغو الأوتوماتيكية " وآخر إصدارات شركة " فيبر – كوستيللو " لإنتاج مجسّمات الكرة الأرضية للأغراض التعليمية .
ولم يقتصر الأمر على منتجات تلك الشركات بل طاول مسافريها الذين صاروا من معارفنا ، وخصوصاً المدعوّ ألِكس كالدور ، وهو مَجَريّ ثقيلُ اللكنة ( ولعله رومانيّ ، وفي كل الأحوال ، كان ذا أصل غامض أثار جملة تأويلات ) وعازبٌ في مثل عمر أبي تقريباً ، يسافر لحساب شركة " رويال " للآلات الكاتبة ويتنقل بين فنادق الدرجات الأولى عبر العالم . يزور القاهرة مرّتين في السنة على الأقل ويتردد على بيتنا لاحتساء الكحول ولدعوة والديّ ، ودعوتي أنا بعد أن بلغتُ الرابعة عشرة ، إلى العشاء . وكان كالدور أول مَنْ قابلتُ مِن الأتباع الجذريين لمذهب الكلبيّة وأولَ المتعيّشين على كرم الآخرين . على أني أحببتُ طريقته في التظاهر بأن ما من عمل إلا وقد أتاه ( خلا الزواج ) وبأن لا شيء يعجبه بمن في ذلك أبي الذي كان يعامله بأبوية مسلّية . وكان سميناً ومُدمِناً تُوست " المِيلبا " . وأعتقد أنه سحرني لأنّ صوته يشبه صوت بيلا لوغوسي ، الذي مُنِعتُ من مشاهدة أفلامه ( بحجة أنها " غير مناسِبة للأطفال " ) مع أني توسلتُ إلى معرفة القليل عنه من خلال مقتطفات " قريباً على هذه الشاشة " التي ترافِقُ أفلامَ الأطفال في صالات السينما المحلية .
بعد الحرب ، بدأ أبي يجول بانتظام على مختلف المكاتب والمعامل العائدة للشركات الرئيسية التي يتعامل معها والموزعين والمتعاونين . وقد سعى دائماً للحصول على وكالات تجارية حصرية ، وقد حصل عليها بالفعل ، بحيث استطاع أن يبيع بدوره منتجات تلك الشركات لموزّعين آخرين وللزبائن بصفته الوكيل المحليّ الرئيسيّ . وعندما غادرتُ القاهرة ، كانت شركته لبيع التجهيزات المكتبية والقرطاسيات قد أضحتْ أكبر الشركات في الشرق الأوسط قاطبةً وتَسْبق مثيلاتها بأشواط . وقد نما عندي أيضاً حِسُّه التنافسيُّ الحاد تجاه المنتجات المزاحِمة ، فبتنا نعاملها وكأنها أعداء شخصيون : أُوليفِتّي ، رُونيو ، باركر ، جِسْتِتِنِر ، آدلر ، وغيرها ، نناقش دونيتها قياساً إلى " أصنافنا " بشغف " لا يُستهان به . وعلى الغرار ذاته ، نشأتْ ألفة أيضاً بيننا وبين الباعة الرئيسيين ومديري الأقسام في " المحل " وهم ، وإنْ لم يصيروا جزءاً من العائلة ، فالمؤكد أنهم كانوا أكثر من مجرد موظفين . وإذ أنظر إلى الوراء الآن ، ألاحظ أنّ معظمهم قد طال به الأمد على نحو لافت ، إلا واحداً هو السيد بانيكيان ، المُحاسِب الذي غادر إلى أوستراليا عام 1946 مع ولديه وزوجته – ذاتِ الأسنان الناتئة التي كانت تستعرض مواهبها الموسيقية ، خلال زيارتهما السنوية إلى منزلنا ، بالعزف على البيانو بواسطة برتقالات – فإذا كمية كبيرة من أموال الشركة قد اختفت بعد مغادرتهما ؛ والقولُ على ذمّة الموظف الذي خَلَفَه في مكتب أبي .
أما باقي الموظفين فقد لازموا الشركة سنواتٍ وسنوات ، وهم مزيج غريب من الأقليات المشرقية والمصريين ، مسلمين وأقباطاً ، وأُضِيف إليهم ، بعد العام 1948 ، عددٌ متزايد من اللاجئين الفلسطينيين الذين كانت تَضْغط عمتي نبيهة على والدي لتشغيلهم فيستجيب بلا تردد . لاحقاً ، قدّرتُ أنّ ما حققه أبي في مجال التنظيم العقلانيّ للعمل ومَنْحِ الحوافز لكل واحد من موظفيه المتكاثرين باستمرار كان عملاً فريداً ، لا بالقياس إليه وحسب وإنما قياساً أيضاً إلى منطقة الشرق الأوسط برمّتها . وكان لامباس ، اليونانيّ البدين وأقدمُ الموظفين عند أبي ، يدير المحل ، وبيتر الأرمنيّ يدير قسمَ الناقلات والناسخات ، وهاغوب ونيقولا سليم ، قسمَ الحاسبات ، وليون كريستشيفسكي ، قسمَ الآلات الكاتبة ، وصبحي القبطي ، الأثاثّ ، وفريد طبجي ، المفكراتِ والأقلامَ ، وشيمي المخزنَ ، وأحمد أمانةَ الصندوق . ولكل واحدٍ منهم فوجٌ من المساعدين يأتمر بأمره .
كان لأبي ، في مكتبه عبر الشارع ، سكرتيرةٌ شخصية وسكرتيرٌ للغة العربية اسمه محمد أبو العوف ، وهو رجل قصير القامة ذو نظارات ويتميّز بصبر أيوب وبانقباضيةٍ نيّقة تجعله أشبه بطالِب دائم الكدّ لكنه عديم الموهبة بحيث لا ينجح في إكمال دراسته . خلال طفولتي ، كانت السكرتيرة هي الآنسة آنّا ماندِل ، الأنيقة الملبس ، التي تزورنا بين الحين والآخر لتناول الشاي ، وقد اختفتْ فجأة بعد معركة العَلَمَين . بدأتْ آنّا العمل عند أبي قبل زواجه بسنة ، عام 1932 ، وأذكر أنّ أحاديثه في سنواتي الأولى كانت تتخللها إشاراتٌ متكررة إلى " مِسّ ماندِل " . وقد اكتشفتُ فيما بعد أنّ أمي هي التي جعلته يتخلى عن خدماتها ، لاعتقادها ، كما أسرّتْ إليَّ بهدوء بعد سنوات عديدة ، أنّ آنّا ماندِل " كانت ترغب في الزواج من أبيك " . هل كانا على علاقة ؟ سألتُها . فجاء الردّ : " لاشك أنها كانت تودّ ذلك . ولكنْ ، لا ، طبعاً ، لا " . غير أنّي لم أستطع التثبت من الأمر تأكيداً أو نفياً . وأما معظم النساء اللواتي خَلَفْن آنّا ماندِل في ذلك المنصب ( وقد شغله أيضاً بعضُ الرجال ) ، بموافقة أمي أو رضوخاً منها للأمر الواقع ، فكنّ إمّا شابات صغيرات السن وخرقاوات وإما نساء في منتصف العمر جسيمات ومتثاقلات وبطيئات الحركة ، لا يُشْبِهن في شيء الآنسّة ماندِل ، التي أَذْكرها ، على نحوٍ غامض ، امرأةً رشيقةً ومتناسقةَ الكسم .
قسمان إضافيان يكمّلان الجيش الصغير من الموظفّين العاملين عند أبي . القسم الأول هو " المحاسبة " ، ويديره أسعد كوكباني الذي شدّه أبي من شركة محاسبة بريطانية وجعله ساعده الأيمن . على أنّ هذا لم يمنع أبي من أن يعامله كآخر المغفّلين عندما ينسى أمراً ما أو يضيع فاتورة أو يخطئ في احتسابها . ويُشْرف أسعد أيضاً على مجموعة موظفين يتّبعون جميعهم القواعد المحاسبية الدقيقة التي وضعها " المستر سعيد " ، وهو الاسم الذي يناديه به الجميع . والقسم الثاني هو قسم " التصليحات " ، ويرأسه مجايِلٌ للامباس ، هو هراتش الأرمنيّ الصموت الذي لم أشاهده مرةً إلا متأزّراً بمِئزر جِلديّ . وكان أبي يعتقد أنّ هراتش عبقريّ يستطيع إصلاح أيّ شيء ، بما في ذلك ألعابنا وأدوات مطبخ أمي والأثاث . وكان أبي هو أيضاً رائداً في مجال التصليحات وخدماتِ ما بعد البيع ، وقد صمّم عَقد خدمةٍ لكل آلة يبيعها ، وهو ما يسمح له ببيعها بسعرٍ أرخص من أسعار منافسيه ، ثم يعوّض الفارقَ بإقناع الزبائن بشراء عقد الخدمة لسنوات عدة . ويرأس هراتش ما يزيد عن ثلاثين ميكانيكياً مزوَّدين بدرّاجات نارية أو هوائية يقودونها بسرعةٍ عبر شوارع المدينة كلها لإصلاح كلِّ ما تبيعه تقريباً " شركةُ الراية للقرطاسيات " ، أو " إس . إس . كو " كما كنا نسمّيها .



يتبع إن شاء الله

وكانت الشركة تَسْتخدم أيضاً طابوراً من " الخدم " كما يسمّيهم أبي ، أو " الفرّاشين " ، كما في العربية المصرية ، يَعْملون في تسليم البضائع وصنع القهوة أو يعملون حمّالين وعمَّال تنظيفات ، والبعضُ منهم يدور أيضاً عبر شوارع القاهرة على دراجات ذات ثلاث عجلات وتالياً في شاحناتِ تسليم صغيرة . على هذه المملكة الشاسعة والمتوسعة باستمرار ، يتسلطن أبي ، ملِكاً مطلقَ الصلاحيات وشخصيةً أبويةً كما في روايات شارلز ديكنز ، مستبِداً إذا غضب ، كريماً إذا رَضِيَ . وهو يعرف أكثر من أيّ واحدٍ آخر أدق دقائق مملكته ، ملمّاً بكل شاردة وواردة فيها ، لا يطيق اغتيابَ الناس ( ولا يَدخل في نقاش شخصيّ مع أحد في " موقع العمل " ، كما كان يسمّي ذلك المكان ، ولا حتى مع أفراد عائلته ) ، يحوز احترامَ موظفيه ، إنْ لم نقل محبَّتَهم ، بفضل تعدّد مواهبه وكفاءته التي لا تخطئ في عموم المهارات الإدارية والتجارية . ومن إنجازاته أنه حوّل البيروقراطية الحكومية المصرية تحويلاً شاملاً بإدخاله الآلات الكاتبة والناسخات والناقلات وخزائنَ الأرشفة إليها ، لتحلّ محلّ الوسائل الاعتباطية السابقة من ورق الكاربون وأقلام الكوبيا والأوراق المُسَتَّفة على حوافِّ النوافذ وفوق الطاولات . وطوّر بمساعدة أمي ، والأحرى القول إنه " اخترع " ، الآلةَ الكاتبةَ بالحروف العربية بالتعاون مع شركة " رويال " التي نَمَتْ علاقةٌ وثيقة بيننا وبين أصحابها الأرستقراطيين الأميركيين ، آل جون باري رايان . وكان أبي يتميّز بطاقتين جبارتين لا تخطئان لم يجمع بينهما أيٌّ سواه في تجربتي الشخصية : وهما تنفيذُه عملياتٍ حسابيةً بالغةَ التعقيد في رأسه وبسرعة الضوء من جهة ، وتمتُعُه ، من جهة ثانية ، بذاكرة ممتازة لتاريخ ابتياع كل سلعة من سلع تجارته وثمنها ( وكان منها الألوف ) . وكم كان مُحرِجاً أن تشاهده وراء مكتبه ، يحيط به أسعد وعدد من السكرتيريين والسكرتيرات ومديري الأقسام ، وكلُّهم يفتّشون في الملفات والأوراق . فيما هو يستخرج من الذاكرة كلَّ تاريخِ شراءِ وتسويقِ ملفِّ سلعٍ يعاني تسويقُها حالَ ركودٍ ، مثلاً ، أو صنفٍ من الحاسبات أو مجموع نماذج قلم حبر " شيفرز " .
لم يَجْعل منه هذا كلُّه ربَّ عملٍ صبوراً أو حتى مراعياً للآخرين ، ولكنّي أعتقد أنه كان دائم الاستقامة والإنصاف بقدرِ ما كان دائم السخاء . وقد ابتكر فكرة منح المكافآت لجميع موظفيه في أعياد الميلاد أو الأضحى أو روش هاشاناه ( رأس السنة العبرية ) ، ناهيك عن مشاريعه للضمان الصحيّ والمعاش التقاعديّ . لم يَترك أيٌّ من هذا كله أثراً يُذكر عليّ آنذاك ، وأنا منهمك في الرضوخ لسلطته أو في معاناة الشعور بالاضطهاد ، فلم أقدِّر عبقريتَه الاستثنائيّة في ميدان الأعمال حقَّ قدرها ، وقد طوّرها بذاته في عاصمة طَرْفية من عواصم العالم الثالث غارقةٍ في الاقتصادات الكولونيالية ومِلْكيّات الأرض الإقطاعية والمكاراة الفوضوية كبيرها وصغيرِها ( وإن تكن ناجحة أحياناً ) . الآن فقط إذ أعدّد كل هذه الإنجازات ، أدرِك كم هي مذهلة وأنّها ، للأسف ، لم تسجَّل له ولم يَنَلْ عليها ما يستحقه من الثناء . وحقيقة الأمر أنّ أبي كان ، في الأساس ، رأسمالياً حديثاً ذا قدرة هائلة على التفكير المنتظِم والمؤسساتيّ ، لا يخشى خوضَ المغامرات أو دفعَ الأثمان اللازمة لتحقيق الأرباح الطويلة المدى ، وكان يستغلّ الإعلانَ والعلاقات العامة بطريقة لامعة ، وكان فوق ذلك كله منظِّماً ومدبِّراً لمصالح زبائنه التجارية ، يزوّدهم أولاً بالقدرة على التعبير عن حاجاتهم والأهداف ، ويمدّهم ، من ثم ، بالمنتجات والخدمات اللازمة لتحقيقها .
ومن تجديداته إصدارُ دليل منتجات سنويٍّ لكل تقديماته ، وهو أمر لم يُقْدم عليه أحد في مجال عمله في مصر . وقد قال لي مرةً إنّ ابن عمه وشريكه المقدسيّ بولس لامَه على الكلفة المرتفعة لذلك الإصدار . بيد أنه ، مع تطوّر أعماله ، أَقْلع عن تلك الممارسة بملء إرادته واستعاضَ عنها بنشر لوائح " الزبائن الراضين " من كل صنف من الأصناف الرئيسية التي يتعاطاها . وهكذا ، لقاءَ كلفة زهيدة ، بات زبائنه ، بسبب تلك اللوائح، يعملون معه ومن أجله ، بمعنىً ما . فنمتْ أعمالُه وتوسعتْ ، رغم بعض الانتكاسات الكارثية أحياناً ، ووفّر من ثَمَّ لأسرته ، على طريقته المميزة منافعَ ذلك التوسع في الثروة والنفوذ كاملةً .
قبل مغادرتي إلى الولايات المتحدة عام 1951 ، لم يكن والداي قد دخلا المجتمع القاهريّ على نطاق واسع . فعلى الرغم من ثرائهما ، ظلت حلقةُ معارفهما وأصدقائهما محصورة إلى حد كبير في المعاونين وأفراد العائلة ، مثل إيزال غولدنبرغ ، جوهريّ العائلة ؛ والأُسطا إبراهيم ، النجّار الودود ذي الشارب المعكوف المتدلّي مثل مِقود درّاجة ، والذي يُنتج مشغلُه قطعَ الأثاث لمنزلنا مثلما ينتجها ، على نطاق أوسع ، لأعمال أبي ؛ ومحمود ، صهر الأُسطا إبراهيم ( وصهره الثاني هو محمد أبو العوف ) ، وخالي الأصغر ، إميل ، الذي انتقل للعمل عند أبي ؛ ومراد عصفور ، الموظف الشاب الصاعد في " جمعية الشبان المسيحيين " الذي ورّط أبي لاحقاً بألوف الجنيهات من الديون عندما أفلس محلُّه لبيع الأدوات الرياضية وأخذ الدائنون يطالبون بديونهم التي كان أبي قد كفلها ؛ ونجيب قلاده ، القبطيّ اللامع ، والسكرتير العام لـ" جمعية الشبان المسيحيين " وأحد شركاء والدي الأساسيين . وكانت ابنة قلادة ، إيزيس ، تملك صوتَ " آلتو " استثنائياً وترتّل القدّاس في كنيسة الإرسالية الأميركية . وتكتمل الحلقة بعددٍ يسير من الأقارب أمثال آنطي ميليا ، والعم آل وزوجته الغريبة المضحاك ، إميلي ، وولديهما وابنتهما ، إضافةً إلى هذا القريب أو ذاك من أهالي فلسطين يزور القاهرة بين الحين والآخر لغرض التسوّق أو الأعمال . وكان هؤلاء الأصدقاء والمعارف يأتون لتناول وجبات الطعام في أوقات وأيام معينة ( مثلاً ، يحضر النجّار لتناول الفطور يوم السبت ) فصرتُ أميّزهم من خلال عاداتهم الطعامية : فالأُسطا إبراهيم ، مثلاً ، يرفض تناول الخبز الأبيض ويحبّ الثوم ويؤثِر الفُول على اللحم . وكنتُ دقيق المراقبة لأدنى التفاصيل السطحية . وقد تمكنتْ مني تلك العادةُ إذ بدأتُ أعيش المفارقة بين البيئة الأميركية والبيئة المحلية بقوةٍ أشدّ بعد عامي الأول في " مدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين " : لماذا يرتدي الأميركيون الجوارب الملّونة ، والمصريون والعرب لا يرتدونها ؟ ولماذا " لديهم " قمصان " تي شيرت " وليس لدينا " نحن " مثلُ تلك القمصان ؟
وما لبث أن طاردني كرهُ مِس كلارك البارد واستهجانُها إلى البيت أيضاً ، حيث كانت تنهال عليّ النصائح المكرورة عن شرودي وقلة الجدّية ووَهَن العزيمة وضُعف الشخصية . لم تعلّمني تلك النصائحُ شيئاً ، وقد درّبتُ نفسي على مقاومتها بأن حوّلتُها في ذهني إلى مجرد جعجعة أصوات . وكانت كل الملذات مَحُوطة بالسماح الرسميّ حتى استحال عليّ الاستمتاعُ بها ، ما عدا تلك الممهورة بموافقة الأهل ، مثل اللعب بقطار " ليونيل " الكهربائيّ – وقد حمله أبي من الولايات المتحدة عام 1946 – وهو جهاز بالغ التعقيد يتطلب تركيبُه إخلاءَ طاولة السُفرة والاستعانةَ بكهربائيٍّ لأنّ الوصلات بين الحافلات لم تكن على ما يرام . وقد سُمِح لي بالاستماع إلى برنامجيْن إذاعييْن ، زيدا إلى ثلاثة برامج ، في الأسبوع الواحد ، هما برنامجان من " زاوية الأطفال " التي تذاع بعد ظهر الأحد ومساء الأربعاء ، وتضم مجموعةً " محتَرَمة " من العمّات والأعمام المنافقين على نحو مروّع ، كانوا بريطانيين خلال الحرب وما لبثوا أن تمصّروا بعدها ( وجميعهم يرطن بلهجات تقلّد اللهجة البريطانية على نحو شنيع ولهم أسماء مقززة مثل آنطي لولو وآنكل فؤاد ) وبرنامجٌ واحد هو " أمسيات في الأوبرا " ، يذاع على الـ" بي . بي . سي . " في الواحدة والربع من بعد ظهر الأحد ، حيث أصغيتُ إلى أوبرا كاملة لأول مرة . وحين أذيعتْ أوبرا " مقايضة زوجة " لسميتانا ، دخلتُ في جذبة فيما راح ذهني يَجْهد ليتخيّل مشهد احتفالات الزواج التشيكية وما تعنيه كلماتٌ تترامى إليّ عبر الأثير ولا أفقه منها شيئاً مع أنها منحتني متعةً فائقة .

يتبع إن شاء الله

كانت الموسيقى ، من جهة أولى ، تدريباً غير مُرضٍ ومملاً على تمارين البيانو ، قيّدتني بكتب بورغمولر وسزرني وهانون في تكرارات آلية لم تزدني مهارةً على لوحة المفاتيح . وكانت ، من جهة أخرى ، عالماً زاخراً وعشوائياً من الأصوات والمشاهد الرائعة لا تقتصر على ما أصغي إليه من ألحان وإنما تتضمن أيضاً نسخاً مجمّلة من الصُوَر الفوتوغرافية والرسوم الشخصية يَزْدان بها كتابُ غوستاف كوبيه الكامل في الأوبرا وكتابُ أرنست نيومان ليالي الأوبرا ، وكلاهما في مكتبة الوالدين . وكانت تلك الصور تمتزج بمشاهد متخيّلة للفرقة الموسيقية يُدَوْزِن أفرادُها آلاتهم قبل بدء العزف ، وقد تعلّمتُ أن أستسيغ سماعها في البرامج الإذاعية . وبدون أيّ منطق أو نظام واضحيْن ، وفّرتْ لي مجموعةُ الأسطوانات العائلية خبيصةً غريبةً من أعمال جانيت ماكدونالد ونلسون إدي وريتشارد شتراوس وباديريفسكي وبول روبسون وباخ ، بالإضافة إلى بعض الغرابات من مثل تأدية ديانا دوربِن لـ" هللويا " من أعمال موتزارت . وإذ كرّستُ نفسي لتجربة الموسيقي الشخصية ، تراءى لي مسرح ضخم تكثر فيه ربطاتُ العنق السوداء والأزياء النسائية المكشوفة الكتفين ( وقد اعتاد أبي ارتداء زيّ الـ" تاكسيدو " في الأماسيّ التي يذهب فيها إلى اجتماعات المحفل الماسونيّ البالغة السرّية ، فيما أخذتْ أمي ترتدي فساطين السهرة التي تزيد من بروز صدرها العارم وكتفَيٍها البيضاويْن ، وقد باشرا حضور الأمسيات الدورية الخاصة بالمشتركين في موسم الأوبرا والباليه القاهريّ ) . أَوْحى كلُّ هذا لمخيّلتي الضالة باستعراضات جِنسيّة منمّقة تنميقاً رائعاً حيث الأداءُ الموسيقيّ لامعٌ إلى حد المحال ، يكون أحياناً أوركسترالياً على طريقة أفلام " إم . جي . إم . " ( حيث جوزي إيتوري ، في ذروة تألقه ، يقود الأوركسترا بواسطة عصاً ضخمة يعلوها ضوء أحمر وامضٌ ، يحرِّكها يمنةً ويُسرةً بنتائج باهرة ) أو يكون ، أحياناً أخرى ، أوبرالياً ، تلمِّح إليه تلميحاً الصورُ المثيرةُ جنسياً التي أقتنصُها مِن كُتُب كوبيه ونيومان . وقد استحوذتْ على استيهاماتي واحدةٌ من تلك الصور بنوعٍ خاص ، هي صورة جُوبا فيليتش في دور " صالومي " ، ترتدي ثوبَ سباحة معدّلا ، فحوّلتِ الأوبرا إلى تجسيد لعالَم إيروتيكيّ شدّ ما أثارتني لُغاتُه غيرُ المفهومة وحَبكاتُه المتوحّشة ومشاعرُه المنفلتة من عُقُلِها وموسيقاه المدوّخة * .
وظل فاغنر اللغز الأكبر والأكثر تحدّياً بين المؤلّفين الموسيقيين قاطبةً . وقد تعرّفتُ إلى أوبرا " الخاتم " وأنا في حوالي العاشرة بواسطة أسطوانة شديدة الإلغاز من 78 دورة في الدقيقة سُجّلتْ عليها " حراسةُ هاغن " من جهة و " نداءُ هاغن " من جهة ثانية . ولم يتسنَّ لي أن أشاهد أو أسمع أياً منهما إلا عام 1958 ، عندما قمت بزيارتي الأولى إلى بايروث . وأدّى " هاغن " مؤدٍّ إنكليزيّ – أظنه ألبرت كوتس – أخذ يجأر ويهدر ويزمجر أصواتاً فرضتْ نفسَها بطريقة مناسِبة من حيث تمثيله لعامٍ ضبابيٍّ رائع من الأشرار الحاملي الرماح الذين يتعاقدون على عهود رهيبة ويرتكبون الجرائم الدموية ، وهذا أبعد ما يكون عن عالم الأطفال الأميركيين المحتشِم وعن حياتي في البيت تحت سيطرة الأهل . فلولا المدى الواسع والعشوائيّ الذي وفّرتْه تلك المجموعةُ المتنوعة من الأسطوانات – التي لم تُفْصح لي أبداً عن السرّ الخفيّ الجامع بينها ولا كشفتْ عن منطوق تاريخ الموسيقى الغربية بمدارسها وحقباتها المختلفة وأنواعها المتطورة – ولولا حفلةً موسيقية عَرَضية هنا أو هناك ، لاختنقتُ كلياً تحت وطأة التدريبات العقيمة ومقطوعات البيانو المعدّة " للأطفال " والمعلّمين الحسني النوايا الذين وقعتُ ، للأسف ، تحت سطوتهم .
في المدرسة الأميركية ، درستُ البيانو على يد مِس شيريدجيان ( وقد حلّتْ محلَّ معلمتي الأولى ، ليلى برباري اللطيفة والصبورة ) . وكان مجيئُها الأسبوعيّ لتعليمنا دروسنا ( جين أولاً ثم روزي وأخيراً أنا ) بمثابة مجابهات كريهة تدور مدار عجزي عن الانقياد لها وهي تزعق أوامرها – عُدَّ معي : " تا " " فا " " تي" " في" ، فورتي [ قويّ ] ، بيانو [ رقيق ] ، ستاكاتو [ متقطّع ] – تتخللها رشفاتُ قهوة تُحْدِثُ أزيزاً مدوّياً ، وقضماتٌ عفيّةٌ في الكعكة التي يقدّمها إليها أحمد ، كبيرُ السُفرجيين عندنا ، بإجلال لا يخلو من السخرية . لم تنجح شيري ، كما كنا نسميها ، إلا في إقناعي بأني تلميذ مهمِل وعازفُ بيانو فاشل ، فيما أنا ، بمعية أسطواناتي والكتب ، صبيٌّ عَليم بحبكات الأوبرات يعرف بعضاً من المؤدّين أمثال إدوين فيشر وفيلهلم كَمْبف وبرونسلاف هوبرمان ( وقد تعرفتُ إلى هذا الأخير من خلال تسجيله لكونشِرتو بتهوفن على الكمان يرافقه جورج سْزيل ) ولي تخييلات شديدة البهرجة عن حياة الحفلات الموسيقية .
في أواخر الأربعينيّات تمكنتُ أخيراً من حضور الحفلات الأوبرالية – أو " الموسم الغنائيّ الإيطاليّ " كما كان يُسمَّى – في دار الأوبرا القاهرية ، التي بناها في الأصل الخديوي إسماعيل لمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869 . وكان اشتراك والدي يشتمل على حضور باليه الـ" شان- ز- إيليزيه " الفرنسيّ ، بقيادة جان بابيليه وناتالي فيليبار التي لا تُنسى ، وهي عندي ، إلى الآن ، مؤسِّسةُ نوعٍ باهرٍ فتّانٍ من الرقص هو النوع الذي تنتمي إليه سِيْد شاريس المذهلة التي شاهدتُ أفلامها جميعاً . فالرقص عندي نوع مشهديّ من التجربة الجنسية التي لا تؤخذ إلا استبدالاً واختلاساً . والقاهرة آنذاك مدينة كوزموبوليتية يسيطر الأوروبيون – الذين يعرف أبي بعضهم من خلال عمله – على حياتها الثقافية ، أو هكذا بدا لي الأمر . وكنتُ دائم الشعور بأني بعيد جداً عما هو الأكثر إثارةً فيها ، مع أني شديد الامتنان لأخذي نصيبي منها وخصوصاً ما يندرج تحت عنوان " الفن " . أما المدرسة الأميركية التي مكثتُ فيها خلال العام الدراسيّ 1948 – 1949 ، فصارت أضيق مدى وأقل تحدياً عندما انتقلتُ إلى الصف التاسع ، بل قُلْ أقلَّ تحفيزاً من الناحية الفكرية وأكثرَ فأكثرَ انغلاقاً وتكبيلاً وهموداً وبلادة . فإذا ارتيادُ دار الأوبرا في شهور الشتاء إثراءٌ عظيم لمعارفي الموسيقية عن المؤلِّفين والبرامج والعازفين والتقاليد الموسيقية . ويعود إلى تلك السنوات نفادُ صبري من سيغموند سبايث ، " تحرّي الأنغام " الأميركيّ ، وكتبهِ السقيمةِ عن " كواليس الموسيقي العالمية العظيمة " ، كما ضقتُ ذرعاً بكتب الأطفال عن " كبار المؤلِّفين الموسيقيين " وكان لدينا منها الكثير . وحده فاغنر ظل بعيد المنال . وأذكر أنّ الحفلة التي أحياها لوهنغرين باللغة الإيطالية خلال " الموسم الغنائيّ " أدهشتني ، بيد أنها خيَّبتني أيضاً بسبب حركتها المبهمة وغموض النصّ الأدبيّ في المشهد الثاني الذي يتطاول إلى ما لا نهاية ، وبسبب الجّوّ العام من الكآبة والضياع المخيّم عليها . وصُدَمتُ إذ اكتشفتُ أنّ لوهنغرين ، المغنّي النابوليتانيّ القصير البدين ، هو النقيض تماما لما توسمتُه فيه من شهامة وفروسية .



* " صالومي "، أوبرا لريتشارد شتراوس ، و" رقصة صالومي " هي رقصة الغلالات السبع في الفصل الأخير منها ، تنزع صالومي خلالها الغلالات السبع عن جسدها غلالة غلالة ، إلى أن تتعرّى بالكامل ، لإقناع ميرودوتس الملك بتسليمها رأس يوحنا المعمدان . ( م )




يتبع إن شاء الله

أول أوبرا شاهدتُها ( ولم أعاود الكرّة ) هي " أندريه شينييه " لجيوردنو ، وكنتُ حينها في الثانية عشرة . وأذكر أني سألتُ أبي ما إذا " كانوا يغنّون خلال الأوبرا كلها أم أنه توجد فواصل للكلام ( كما في أقلام وأسطوانات نِلسون إدّي وجانيت ماكدونالد المألوفة لديّ ) " . " كل الوقت " ، كان جوابه النزق. على أنّ الجواب جاء بعد عدة أسابيع ، عقب أمسية موجِعة في " سينما دنيا " حضرنا خلالها حفلةً موسيقية للمطربة أم كلثوم لم تبدأ إلا في التاسعة والنصف وانتهت بعد انتصاف الليل : حفلةً بلا فواصل ، سادها نسقٌ غنائيّ وجدتُه رتيباً إلى حد مروِّع في اتساق كآبته اللا متناهية ونَدْبِه اليائس ، فإذا هو أشبه بالتأوه والنحيب المتواصلَيْن لامرئ يعاني نوبةً حادة من الألم المَعَويّ . ولم يقتصر الأمر على أني لم أفقه أية كلمة مما غنّتْ ، وإنما لم أستطع أن أميّز أيّ قوام أو شكل لتدفقاتها الرتيبة ، فوجدُها ، والتَخْتَ الموسيقيَّ الكبيرَ الذي يرافقها في جعجعةِ ألحانٍ أحاديةِ الصوت ، موجِعةً ومملّةً في آن . وفي المقابل ، كان لأوبرا " أندريه شينييه " حيوية درامية وحبكة مسرحية تكفّلتا بأن أستَغْرَقَ فيها كلياً . ومن أسطوانات الـ 78 دورة في الدقيقة في بيتنا " نيميكو ديلا باتريا * " ، وكنتُ أصغي إليها وأنتظرُ وصلات الغناء المنفرد إذ تتطور الدراما ، فلم أفلح مرةً في تعيينها . جينو بيتشي ، العضو الدائم في الفرقة الزائرة المجمَّعة أعضاؤها من فرقتَيْ " سان كارلو " في روما ونابولي ، مثّل دور جيرار بسموّ وكثافة حاولتُ تقليدهما لاحقاً وأنا أقفز وأنزلق في حميمية غرفتي . ومع أني لم أستوعب لِمَ تُغنّي الشخصيات الأوبرالية أصلاً ، فقد أسَرَني ذلك اللغزُ منذ أول اكتشافي له على المسرح القاهريّ .
بيد أني أستطيع ، في المقابل ، تعيينَ تواريخ مكتشفاتي الموسيقية الهامة ، وصولاً إلى الدقيقة التي تمّ فيها الاكتشاف . وقد وقعتْ تلك الاكتشافاتُ كلها وأنا في حال من التوحُّد ، بعيداً عن فروض البيانو الضاغطة التي عيّنها لي أبي والمعلِّمون من أمثال شيري . ويخيّل إليّ أنّ هذا الانشقاق بين شعوري تجاه الموسيقى وبين ممارستي الفعلية لها قد شَحَذَ ذاكرتي إلى حد بعيد ، وهو ما سمح لي بأن أحفظ ، ثم أن أؤدي على السمع ، عداً كبيراً من المؤلَفات الموسيقية المعدّة للأوركسترا والأدوات والغناء وأن أفقه الكثير عن فترة تأليفها أو مميزات أسلوبها . وقد عذبتني على الدوام ندرةُ تجربتي الموسيقية الـ " حيّة " ، وما تنطوي عليه من قيمة يصعب استيعابُها بالكامل ، وكنتُ دائم البحث عن وسائل للتشبث بها . فعندما شاهدتُ " حلاّق إشبيلية " لأول مرة ، وأنا في الثالثة عشرة ، فَتَنَني الأداء وتركني في حالٍ من الحرمان العجيب في الآن ذاته ، إذ أدركتُ أنّ ما أشاهده – مَرَحَ روسينيّ وقحّته ، وفكاهةَ تيتو غوبي وسطوتَه ، وأداءَ إيتّوري باستيانيني ذي الوَقَار الخادع لـ" لا كالُمنيا ** " - لن يتكرّر قريباً في أيّ شكل من الأشكال ، مع أني أملتُ أن يذيع برنامجُ " ليالٍ في الأوبرا " وَصْلةً أو أكثر من وَصْلات الغناء المنفرد ، وهذا ما لم يحصل لفترة من الزمن . ولكني ، بعد عام من ذلك تماماً ، حين كنتُ أنا المتسكّعَ اليقظَ ، بل المتلصِّصَ ، أحوم حول غرفة الأهل خلال عطلة الميلاد ، اِشتبهتُ في أني قد أتلقى منهم هدية من الأسطوانات الموسيقية . وفي حوالي الرابعة من فجر يوم الميلاد ، تسللتُ إلى غرفة الجلوس المعتمة ، متلمِّساً طريقي إلى الشجرة الاصطناعية ذات اللون الأخضر غير الطبيعيّ – التي تُنزلها أمي من السقِيفة وتزيّنها ثم تعيدها إلى مكانها ، عاماً بعد عام – حيث اكتشفتُ علبة تحوي ثماني أسطوانات من مختارات " حلاّق إشبيلية " ملقاة عند كعبها . وكان في عداد المغنين ريكاردو ستراكشياري ودينو بورجيولي وميرسيدس كابسير وسلفاتوري باكالوني .فتحتُ العلبة بعناية وأدرتُ الأسطوانات على الآلة فوراً ، من أولها إلى آخرها ، والأبوابُ مقفلةٌ ودرجةُ الصوت مخفّضةٌ جداً في الغرفة الداكنة التي أخذتْ تضيء تدريجياً بنور الصُبح الطالع . فإذا امتلاكي الأداءَ المسرحيَّ كما أتذكره ، وقد تكرّس في مثل ذلك الإطار الحميم جداً والخاص جداً ، شكّل ذروة المتعة / بيد أنّ تلك النوعية المميزة جداً أسَرَتني أيضاً في عام من الصمت وفي ذاتية مستحيلة لم أكن أملك القوة الكافية للمحافظة على أيّ منهما .
أَغْنى بتهوفن ، أكثرَ من أيّ موسيقي آخر ، تربيتي الذاتية الموسيقية على نحو هو الأكثر انتظاماً . لم يعتقد المعلّمون أني جدير بأداء سُوناتاته على البيانو ( كان موتزارت معذّبي في هذا المجال ) مع أني بذلتُ محاولات سرّية عدة لعزف سُوناتا " باتيتيك " ونَمَتْ عندي خلالها شهيةٌ للاستيعاب البصريّ تَفُوق بكثيرٍ طاقاتي على الأداء الإصبعيّ . وعندما يجري تأنيبي لأني لا أتمرن على فروض هانون وسزيرني التي كلّفتُ بها ، رغم حضور أمي مراقِباً دائماً ، كنتُ ألجأ إلى الأسطوانات فأفكّ ألغاز مقطوعات البيانو المحظورة " المعدّة للكبار " من تأليف ماندلسون وفوريه وهاندل وقد أسقِطَتْ من برنامجي الموسيقيّ لصالح الحثالة التي يفُرِض عليّ المواظبةُ عليها لساعات لا تنتهي . أخذني الأهل ذاتَ مرة إلى قاعة إيوارت ( داخل حرم الجامعة الأميركية في القاهرة ، وهي أكبر قاعات الاحتفالات الموسيقية من نوعها ، وكانت ولا تزال تُستخدَم للكونشرتات الهامة ) لحضور حفلة لفرقة " موزيكا فيفا " بقيادة هانس هيكمان ، وهو ضابطُ إيقاع يَدْفن رأسه في النوطة كما في مخدّة . أدّت العزفَ المنفردَ في كونشرتو البيانو الأول لبتهوفن – أم تراه الثاني ؟ - موريال هاوارد ، زوجةُ عميد الجامعة الأميركية في القاهرة ، وأمُّ كاثي ، زميلتي في المدرسة الأميركية . وكان أبي مقرَّباً من العميد وَارْث هاوارد ( وكنتُ أرى في الرنّة القويّة لاسمه الأول تجسيداً لكل جبروت القارة الأميركية ) فأَصَرّ على أن يصطحبني وأمي إليه وإلى زوجته المنطوية على ذاتها على نحوٍ غريبٍ ، حسبما اكتشفتُ ، وقد أتمّتْ للتوّ أداء الكونشرتو بطريقة سريعة خاطفة للأنفاس . " برافو " ، قال أبي ، والتفتَ مباشرةً إلى أمي طلباً للدعم . " رائع " ، أنجدته أمي ، قبل أن تلتفتْ إليَّ فجأة بنظرة تحذير . وأنا طبعاً معقود اللسان ، ألازم مكاني ، يفضحني شعوري بالحَرَج العميق . " أترى ؟ " ، قالت أمي بنبرة ظفراوية مع أنها كانت تخاطب موريال في الآن ذاته ، " أترى أهمية التمرين على السلالم الموسيقية ، يا إدوارد ؟ السلالم وهانون . أليس كذلك ، يا سيدة هاوارد ؟ " . أومأتِ السيدة هاوارد برأسها موافقةً ، ولكنْ بإحساسٍ واضحٍ أنّ التمرّن على السلالم هو آخرُ ما يهمها الحديثُ عنه في تلك اللحظات .
وبالمقارنة ، فإنّ تسجيل ستوكوفسكي لسمفونية بتهوفن التاسعة ( التي أَنشدتْ فيها الجوقةُ قصيدةَ شيللر " نشيدٌ للفرح " بالإنكليزية ( " افرحي ، أنتِ ، يا ابنة النعيم " ) قد أبهجني بتفسيره للحرية وباللُغز المرعب للفواصل الخماسية الطليقة ، فأصغيتُ والحسدُ يتآكلني إلى السهولة الروتينية التي ترقى بها الأوركسترا السلالمَ الموسيقية وتؤدّي التنويعات الشائكة ، بلا أدنى خطأ ، محاولاً ، بطريقة لا شعورية ، أن أترجمها إلى مواقع إصبعية ذهنية تَعْجز أصابعي غيرُ الدَرِبة عن عزفها على البيانو . واستمتعتُ استمتاعاً بالغاً بـ" رقصة صالومي " ، كما تعلن عنها الرقعةُ على الأسطوانة البُنّية ، وبتسجيل باديريفسكي لمسائية بتهوفن على مقام " إف " الحاد ، وبالفالس على مقام " سي " الصغير الحاد التي اعتبرتُها ذروةَ العزف على البيانو والنقيضَ من أدائي البائس .


* وَصْلة الغناء المنفرد يؤديها جيرار في أوبرا " اندريه شينيه " لجيوردانو .
** وصلة الغناء المنفرد لدون باسيليو في " حَلاَّق إشبيلية " لروسّيني .


يتبع إن شاء الله

على أنّ أعظم تجاربي الموسيقية قاطبةً ، خلال أيام المراهقة القاهرية ، هي الزيارات التي قام بها كليمينس كراوس وفِلهلم فورتفانغلر عامَيْ 1950 و 1951 مع فرقة فيينا الفلهارمونية وفرقة برلين الفلهارمونية على التوالي . ومع أني أُخِذتُ في الحالين إلى حفلتَيْ بعد ظهر يوم الأحد ، وقد غلبتْ عليها ، في حال كراوس ، " طقطوقاتٌ " من نمط افتتاحية " دونّا ديانا " و " بولكا بيتزيكاتو " لشتراوس ، فقد حررني النغمُ الرائع الجمال والحضورُ المتسلطن على المنصّة وحتى سحرُ الكلمات الألمانية ( من مثل " فينّر فيلهارمونيكر " ) من الابتذال . ولأني لم أستمع مباشرةً من قبلُ إلى أيّ شيء يبلغ ذلك المستوى من البراعة الغزيرة المباشرة ، فلا يزال يَحْضرني مدى الحبور الذي انتابني وكيف حاولتُ بشتى الوسائل أن أمدّد الساعتين الهزيلتين اللتين أُعطيتُهما في سينما ريفولي ( ولم أفهم قط لماذا لم تُختَر لكراوس وفورتفانغلر قاعةُ إيوارت الأنسبُ والأرصنُ ، واختيرت بدلاً منها صالةُ سينما فاحشةُ الزخرفة ، تكتمل عدّتُها بأُرغنٍ رنّان يُشعشع بأنوار النيون السُكّرية النابضة ، وبعازفِ أُرغن إنكليزيًّ ، هو جيرالد بيل ، الاستعراضيّ القرمزيّ الوجه الذي أدت قفزاتُه البلهوانية صعوداً إلى الآلة المدرّجة المهيبة ونزولاً منها ، إلى تسليتي بأكثر مما أداه عزفُه الذي لا ينتهي لأعمال كيتِلبي * وللباهت من الإيقاعات اللاتينية الراقصة . وفحوى محاولاتي تلك أني سعيتُ للاحتفاظ بالموسيقى في أذني ، وقيادةِ أوركسترا وهمية ، والبحثِ بلا نجاح يُذكر عن تسجيلات ( أغلى ثمناً بكثير مما تتحمله إمكاناتي المادية ) للمقطوعات ذاتها تؤديها الأوركسترا ذاتُها بقيادة القائد ذاته . وكنت أُحبَط بالتأكيد ، وأكتئِب ، في غالب الأحيان ، للسرعة التي تأتي بها مثلُ تلك الغبطة النادرة وتروح ، وللوقت الذي قضيته لاحقاً ساعياً لاستعادتها بل ولتكريسها بالبحث عن كتب ومقالات وبشر تحدِّثني عنها ، وتؤكّد لي حقيقتها ومتعتها، وتُحْيي فيّ ما بدا أنه على شفير الزوال .
بعد سنة على مشاهدتي كراوس ، اعتلى فورتفانغلر هو أيضاً منصّة " سينما ريفولي " في أصيل ذات يوم أحد . فكانت الحفلة الموسيقية التي طغت على السنوات الحادية والعشرين الأولى من حياتي ، لم يضارعها غيرُ سماعي ، عامَ 1958 ، الإيقاعاتِ الافتتاحيةَ لـ" ذهب نهر الراين " ** تتعالى من حلبة الأوركسترا المُعتمة في بايروث . لم أكن أعرف عن فورتفانغلر شيئاً باستثناء أنّ اسمه يَظْهر على الرُقعات الحمر لأسطوانات HMV في تسجيله لسِمفونية بتهوفن الخامسة . ولخمس سنوات على الأقل ، ظلّ ذاك التسجيل هو التسجيل الأثير لديّ والمحكَّ الذي به أَحْكم على الأداءات الموسيقية كافةً ، بل كان الذروةَ في قوة لا توصف يخيّل إليّ أنها تخرج لتخاطبني مباشرةً من الراديو – غرامافون الطولاني ، ماركة " ستيورت – وارنز " . أولَ الأمر ، بدا لي أنّ اسم فورتفانغلر هو مصدر تلك القوة ، أردده غالباً بيني وبين نفسي ( على جهلي باللغة الألمانية ) وأتخيّله كائناً ممشوق القوام ، فائقَ التهذيب ، كُتِبَتْ موسيقى بتهوفن خصيصاً له . وأَذْكر كيف أني تحلّيتُ بصبر عظيم وأنا أُناقِضُ ذات مرة تأملات ابن عمي القليلةَ الخبرة حين ادعى أنّ شعار السِمفونية الخامسة هو " القَدَر يدقّ الباب " . فما اكتشفتُه في المقطوعة ، بفضل فورتفانغلر ، عرفتُ بالغريزة أنه لا يحتمل مثلَ ذلك التأويل . " الموسيقى هي الموسيقى " ، أذكر أني أجبتُه ، من نفاد صبري ومن عجزي أيضاً عن التعبير عما يهزّني في الموسيقى بطريقةٍ جدِّ فريدةٍ وإلى درجة العَيّ عن الكلام .
جلسنا في مقاعد البلكون كالتي حجزناها لحفل كراوس – وكانت محجوزة في تلك الأيام ، لمن يسمّيهم أبي " طبقة أرقى من الناس " . ويبدو لي ، في نظرة استرجاعية ، أنّ كراوس شخصية جامدة وأشبهُ برجل أعمال . ثم إنّ برنامج فورتفانغلر ، مثله مثل الرجل نفسه ، كان أكثر تحدياً ، إذ ضمّ سِمفونية شوبرت " غير المكتملة " وسِمفونية موتزارت في مقام " جي" الصغير ، والسِمفونية الخامسة لبتهوفن . وفي برنامجه الآخر ، الذي لم أُؤْخذ إليه ، عَزَف سمفونية تشايكوفسكي السادسة والسابعة لبروكنر . وقد خلص والداي بداهةً إلى أنّ الرنامج الأول هو وحده المناسب لي ، ولعلّ بروكنر المجهول هو سبب نفورهم من ذاك البرنامج . أطلّ فورتفانغلر ببُنيته النحيلة ، الطويلة ، الخرقاء والحادة الملامح ، يتوِّجها رأسٌ أقرع مهيب . فأدى ذلك إلى خلق الانطباع المناسِب لديّ : هوذا موسيقيّ متقشف كأنه قادمٌ من عالم أُخرويّ ، رأيتُ في مظهره رمزاً للتجلّيات التي تستدعيها بالضرورة موسيقى بِتهوفن . بيد أني صدمتُ لأنّ فورتفانفلر ، خلافاً لكراوس السَلِس ، لم يكن يقود الأوركسترا ( بعصاً صغيرة إلى درجة أنها أثارت استغرابي ) بقدر ما كان يحرّك الموسيقى تحريكاً بمنكبيه وذراعيه الطويلين غير المتناسِبَين . فلا يستعين بالنوطات الموسيقية ولا يقلّب الصفحات ولا هو ضابط إيقاعات ، بحسب الطريقة المدّعية لهانز هيكمان ، قائِد الأوركسترا المحلية . بدلاً من ذلك ، خُيِّل إليّ أنّ الموسيقى تنمو عنده وتترعرع وفقاً لمنطق عنيد هو غايةٌ في الغبطة والكمال ، وإذا هي تتدفق أمامي ، على نحو لم يكن لي أن أختبره من قبل ، خلْواً من أيّ من " الأغلاط " التي تشلّني حَرَجَاً في حضرة شيري ، فلا حاجة للتوقف ريثما يجري تبديل الأسطوانة وما من صوت يُسمَع غير صوت موسيقى بتهوفن . وشعرتُ أيضاً أنّ هذه التجربة أفضل ، ومن ثمّ أندر ، من أية تجربة قد تمنحني إياها أسطوانةٌ ما ، مع أنه غمرني ،طبعاً ، أسفٌ لذيذ بعد انتهائها وقد بتّ عاجزاً عن استعادتها إلا من خلال المقاربات المتوافرة لديّ بواسطة الآلات الموسيقية أو الذاكرة المعطوبة . عندما أصغيتُ إلى تسجيل فورتفانغلر للسِمفونية الخامسة ، أمتعني لكنه لم يمنحني حالة الرضى التي حلّت عليّ في المسرح . إنّها الموسيقى الحقيقية تزيح النسخة المسجّلة وتأخذ مكانها ، مرةً وإلى الأبد . ومع ذلك ، ظللتُ أستسيغ تسجيل فورتفانغلر بما هو مقطوعة أثيرة أُصغي إليها وأستزيد .


* ألبرت كيتلبي ( 1875- 1959 ) موسيقيّ وقائد أوركسترا بريطانيّ ذاعت شهرته بسبب تأليفه مقطوعات من الموسيقى الخفيفة على الأُرغُن .
** Das Rheingold ( 1869 ) : أوبرا لفاغنر . ( م )




يتبع إن شاء الله

اصطدمتْ محاولاتي اللاحقة للعثور على المزيد من المعلومات عن فورتفانغلر بالمعوّقات الموجودة في القاهرة زمنَ مراهقتي . فلم تكن توجد حلقة ثقافية ألمانية في قاهرةِ ما بعد الحرب تضارع المؤسسات الثقافية التي أشادها المنتصرون من إنكليز وفرنسيين وأميركيين . فأخذتُ أنقّب في الصحف اليومية – الأهرام والـ إيدجبشان غازيت والـ بروغريه إيجِبسيان – والمجلات – روزا اليوسف والهلال – بحثاً عن معلومات عنه ، فلم أعثر على شيء . وكانت المدينة قد بدأتْ تستقبل طوفان مجلات هواة السينما الأميركية مثل فوتوبلاي وسيلفر سْكرِين . ومع أنَّك كنتَ تجد كل شيء يخصّ جانيت لِي وطوني كورتِس ، فلم تكن لتعثر على شيء يخصّ الشخصيات الغريبة التي تهمّني ( وتثير استغراب أصدقائي ) . ورغم أنّ الحرب وضعتْ أوزارها ، لم يتوافر أيّ توثيق عن مجريات الأمور داخل ألمانيا ( حيث برز فورتفانغلر على نحو مرموق ) . وفي عيد ميلادي الخامس عشر ، عام 1950 ، أهداني والداي كتاب بيرسي شول دليل أكسفورد للموسيقى الذي ما أزال أحتفظ به ، فعثرتُ فيه على نبذة مختصرة جداً عن فورتفانغلر ( " قائد أوركسترا ألمانيّ ولد عام 1866 ؛ راجِع : " المانيا والنمسا " ) . على أنها تتوسع قليلاً في الحديث عن الرجل من خلال بحث عام وجدّ موارِب عن الموسيقى في ظل الرايخ الثالث والدَّوْرِ الذي لعبه فورتفانغلر في قضية " ماثيس دِر مالر " * . ولكنّ تلك النبذة لم تفسّر لماذا أضحى فورتفانغلر شخصية مثيرة للجدل إلى ذلك الحدّ بعد الحرب ، ولا لماذا أثّرتْ فيه المسألةُ الأخلاقية ومسألةُ التعاون [ مع النازيين ] ذلك التأثيرَ القويَّ .
ومن الأسباب التي عوّقتْ نسبياً تعرّفي إلى فورتفانغلر إحساسي بالوقت أمراً بدائياً ومعوِّقاً في الأساس . إذ يخيِّل إليّ أنّ الوقت يعاندني على الدوام . وباستثناء فترة وجيزة في الصباح أتطلّع فيها إلى النهار الضاجّ بالاحتمالات ، أجدُني محشوراً حشراً بجداول الأعمال والمهمّات الروتينية والتكليفات ، وما من لحظة للتمتع بوقت فراغ أو لمجرد التأمل . أُعطِيتُ ساعتي اليدوية الأولى وأنا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة . وكانت ساعةً تافهةَ المظهر من صنع " تيسّو " . ولأيام عديدة كنتُ أقضي الساعات الطوال أحدّق إليها في استغراقٍ يحيّرني فيه عجزي عن مشاهدة حركة آلاتها ، وتُقلقني على الدوام خشيتي من أنْ تتوقف الساعة عن الحركة . ظننتُها مستعملةً ، أولَ الأمر ، لأنّ ثمة ما بدا بالياً فيها على نحو مثير للريبة . ولكنّ والديّ طمأناني أنها جديدة كلَّ الجدّة وأنّ مظهرها المُصفرّ ( والمَشُوب باللون البرتقاليّ ) هو من خصائص طراز تلك الساعات . ومهما يكن ، فقد ظللتُ مهووساً بساعتي . قارنتُها أولَ الأمر بما يستخدمه زملائي في المدرسة الأميركية ، فبدت لي ساعاتُهم أدنى نوعيةً من ساعتي ، خلا النماذج المرسومة عليها صورُ " ميكي مَاوس " و " بوباي " والتي ترمز إلى أميركا التي لا أشعر بالانتماء إليها . ثم أخذتُ ، منذ فترة مبكرة ، أجرِّب الطرق المختلفة لحَملها : ميناؤها نحو داخل اليد ، فوق كُمّ القميص ، تحت كُمّ القميص ، مشدودةً ، رخوةً ، عند أعلى المعصم ، وأخيراً ، محمولةً على اليد المنى . واستقرّ بي الأمر أن حملتُها في معصمي الأيسر ، فمنحتني لفترة طويلة الشعور الإيجابيَّ بأني متأنق .
على أنّ ساعتي لم تنفك تثير دهشتي بحركاتها المندفعة إلى أمام من غير مقاومة . وهذا ما زاد ، بأشكال مختلفة ، من شعوري بأنني متأخر عن مواعيدي ومقصِّر عن واجباتي والتزاماتي . لستُ أذكر أني كنتُ نوّاماً بأيّ حال ، ولكنني لن أنسى دقة مواعيد الاستيقاظ في الصباح الباكر وذلك الشعورَ المباشر بالإلحاح القلِق ينتابني لحظةَ مغادرة السرير . فلا وقت لتضييع الوقت أو التكاسل ، مع أني كنتُ ميّالاً إلى هذا وذاك . ونَمَتْ عندي عادةٌ سوف تلازمني مدى الحياة هي اختباري الوقتَ بما هو مهدورٌ ، ومقاومتُه من طريق تمديد الوقت المتوافر لديّ بإتيان المزيد والمزيد من الأعمال ( كاختلاس قراءات سريعة أو التحديق عبر النافذة أو البحث عن غرض تافه مثل سكّينِ جَيْب أو قميصٍ ارتديتُه بالأمس ) خلال اللحظات القليلة المتبقية لي قبل أن يحين موعدٌ نهائيٌّ لا يرحم . أحياناً ، كانت ساعتي اليدوية عنصراً مساعداً ، عندما تعلن أنّ ثمة ما تبقى من وقت ، على أنها كانت غالبَ الأحيان تَحْرس حياتي مثل ناطورٍ منحازٍ إلى نظامٍ برّاني فَرَضَه الأهل والمعلمون والمواعيدُ غيرُ القابلة للتأجيل .
في مراهقتي المُبكِرة ، وقعتُ كلياً في قبضة الوقت الذي ينقضي بما هو سلسلة من المواعيد النهائية ، يلتبس فيه المُبْهجُ والمزعجُ معاً ، وهي تجربة لازمتني منذ ذلك الحين . وقد وُضِعتْ علاماتُ الاستدلال لنهاري في مطلع تلك الفترة ولم تتبدّل تبديلاً . فموعدُ اليقظة هو السادسة والنصف ( أو السادسة ، في حالات الحشر العظيم ، وما أزال أستخدم عبارة " أستيقظ في السادسة وأتمّم هذا العمل " ) . وفي السابعة والنصف تكون الآلة قد بدأتْ تدور ، فأَدْخل في نظامٍ مرصوصٍ من الساعات وأنصافِ الساعات تتحكم فيها حصصُ الدراسة وقداديسُ الكنيسة والدروسُ الخصوصية والفروضُ المدرسية المنزلية والتمارينُ على البيانو والألعاب الرياضية إلى أن يحين موعد الإخلاد للنوم . لم يغادرني قط ذلك الإحساس ُبالنهار مقسّماً إلى فترات من الجهد المبرمج ، بل أخذ يتفاقم مع الوقت . ولا تزال الحادية عشرة تبثّ فيّ الإدراكَ المُذنِبَ أنّ الصباح قد انقضى ولمّا أُنجِز ما يكفي من المهمات – وأنا الآن أكتبُ هذه الكلمات في الحادية عشرة وعشرين دقيقة . ولا تزال التاسعةُ مساءً تمثّل " التأخر " ، أي اللحظاتِ التي تعلن نهاية النهار ، والحاجةَ الملحّة للبدء بالتفكير في الإيواء إلى السرير ، والوقتَ الذي يعني العملُ بعده أنك تعمل في الوقت غير المناسب .. وتعني أيضاً أنّ الإرهاقَ والإحساسَ بالإخفاق يزحفان عليك ... بل تعني أنّ الوقت قد تجاوز وقته ببطء .. وهي تعني ، في نهاية المطاف ، التأخُّرَ ، بكل ما للكلمة من معنى .
شكلّتْ ساعتي اليدوية الموضوع الرئيسيّ الكامن وراء ذلك كله ، فارضةً نوعاً من الانضباط الموضوعيّ الذي يحافظ على تشغيل نظام حياتي بطريقة أو بأخرى . لا وقت للراحة . وأذكر بوضوح مذهل أوامر أبي المبكرة التي نَهَتنا عن ارتداء المنامة و" الروب دو شامبر " بعد انقضاء ساعات الصباح الباكرة ، غير أنّ المّشّاية كانت تستحوذ على ازدرائه أكثر من أيّ شيء آخر . وما أزال عاجزاً عن أن أقضي أيّ وقت متكاسلاً في " الروب دو شامبر " : ذلك أنّ مزيجاً من الشعور بالذنب لتضييع الوقت ، ومن النظر إلى الكسل عيباً من العيوب ، يَسْحقني سحقاً . وللتحايل على هذا الانضباط الصارم ، كان المرض ( وأحياناً التمارُض ، وأحياناً أخرى ، تضخيمُ المرض ) يسوِّغ تخلّفي عن المدرسة . فصرتُ مَضْحكةَ العائلة لشدّة توسُلي الضمادات وامتناني لمن يتكرّم عليّ بضمادة غير ضرورية لإصبعي أو ركبتي أو ذراعي .
والآن ، تشاء مفارقةٌ شيطانية أن أُصاب بسرطان الدم العنيد الغادر ، فأحاول طرده من ذهني كلياً على طريقة النَعَامة ، ساعياً ، بنسبة معقولة من النجاح ، إلى أن أعيش حياتي وفق نظامي المِيقاتيّ ، فإذا أنا أَكدّ ، ويطاردني التأخُّرُ ، وترزح عليّ وطأةُ المواعيد النهائية ، ويسيطر ذلك الإحساسُ بالإنجاز غير الكافي الذي تعلمتُه منذ خمسين سنة واستبطنتُه منذ ذاك الوقت على نحو لافت . ولكنْ في انقلابٍ غريبٍ للأمور ، أجدني أتساءل في سرّي ما إذا كان نظامُ الواجبات والمواعيد النهائية سوف ينقذني الآن ، مع أني أدرك ، طبعاً ، أنّ مرضي يَزْحف زحفاً على نحو غير منظور ، وبسرّية أكبرَ وغدرٍ أعظمَ من سريان الوقت الذي كانت تعلنه ساعتي اليدويةُ الأولى ... وقد حملتُها وأنا غافل آنذاك عن حقيقةِ أنها ترقِّم فنائيتي ترقيماً ، وتقسِّمها إلى فواصل تامّة وغيرِ متبدّلةٍ من المواقيت غيرِ المتحقّقة إلى أبد الآبدين .


* " ماثيس الدَهّان " : أوبرا لبول هايديميث منعتها الرقابة النازيّة . ( م )



انتهى الفصل الخامس

يليه الفصل السادس إن شاء الله

الفصل السادس


أذكر الحِدّة المستغربة التي نعى بها ابنا عمّي المَقْدِسيان الأكبران ، يوسف وجورج ، يومَ الأول من تشرين الثاني 1947 ، وهو عيد ميلادي الثاني عشر ، عشية ذكرى وعد بلفور . فقد وصفاه بـ " اليوم الأشد إظلاماً في تاريخنا " , لم أفقه الإشارة ، لكني أدركتُ أنّ الأمر لا بد أن يكون على جانب عظيم من الأهمية . لعلهما افترضا ، ومعهما والداي ، وجميعهم جلوسٌ حول مائدةٍ تتوسطها كعكةُ عيد ميلادي ، أنه لا يجدر إعلامي بأمر بمثل تعقيد صراعنا مع الصهاينة والبريطانيين .
أمضيتُ ووالديَّ وشقيقاتي معظم العام 1947 في فلسطين التي غادرناها لآخر مرة في كانون الأول / ديسمبر من ذلك العام . وهكذا فاتتني عدة شهور من المدرسة الأميركية فسُجّلتُ في مدرسة سان جورج في القدس .
كانت كل معالم الأزمة الزاحفة تُحْدق بنا . المدينة منقسمة إلى مناطق متعددة يسيطر عليها الجيش البريطانيّ وحواجزُ الشرطة الني كان لزاماً على السيارات والمشاة وراكبي الدراجات المرورُ عبرها . وكان البالغون من أُسْرتي يحملون جميعاً أذونات مرور سُجّل عليها اسمُ المنطقة أو المناطق التي يُسمح لهم بالتجوّل فيها . حمل أبي ويوسف إذنَ مرور متعدد المناطق ( المناطق ألف وباء وجيم وتاء ) فيما اقتصرتْ أذوناتُ الباقين على منطقة واحدة أو ربما منطقتين اثنتين فقط . لم أكن في حاجة إلى إذن مرور إلى حين بلوغي الثانية عشرة ، وهو ما سمح لي بأن أتجول بحريةٍ مع ابنيْ عمي ألبرت وروبرت . وكانت القدس الرمادية الساكنة مدينة متوترة بسبب سياسات ذلك الزمان والمنافسات الدينية بين مختلف المذاهب المسيحية كما بين المسيحيين واليهود والمسلمين . وذاتَ مرة ، تلقيتُ تأنيباً عنيفاً من عمتي نبيهة لأني ارتَدْتُ الـ" ريجنت " ، دارَ السينما اليهودية ( لماذا لا تبقى مع العرب ؟ ألم تعد الـ " ريكس " تليق بك ؟ سألتْ بصوت مرتفع ، ثم أردفتْ : " في كل الأحوال ، هُم لا يرتادون صالاتنا السينمائية ! " ) . ومع أنّ إغراء ارتياد الـ"ريجنت " كان كبيراً جداً ، فقد امتنعنا عنه بعد ذلك الحين . وكان حديثنا اليوميّ في المدرسة والبيت هو بالعربية وحدها ، خلافاً لما كانت الحال في القاهرة ، حيث كانوا يشجّعونا على التكلم بالإنكليزية . وذلك لأنّ عائلتي " تنتمي " إلى القدس ، ولغتنا الأم سائدة أينما كان ، حتى عندما نتحدث عن أفلام هوليوود : فإذا " تارزَن " يصير " طَرَزَان " ، ولوريل وهاردي " البَنْصَ والرفيع " .
كنتُ أَمضي كلَّ صباح إلى مدرسة القديس جورج ، معظمَ الأحيان برفقة ابنَيْ عمّي التوأميْن ، روبرت وألبرت . وكانت القيادة معقودة اللواء لألبرت . فهو رئيس الفريق الرياضيّ والنجم اللامع في المدرسة ، يسبق توأمّه روبرت بصف واحد ( وهذا الأخير لم يكن رياضياً ) ، ثم إنه اجتماعيّ جداً وواحدٌ من " شلّة الشباب " . أما أنا فكنتُ الأصغر سنّاً ، مسجّلاً في السابع الابتدائيّ ، في مدرسة الصغار التي تقع عبر الشارع من مدرسة الكبار المتربِّعة على موقع أكثر ارتفاعاً حيث يَدْرس ابنا عمي . ومدرسة القديس جورج هي أول مدرسة ذكور أنتسب إليها وأول مدرسة عَقَدتُ فيها علاقات أوثق من علاقات المدارس القاهرية ، حيث كنتُ مجرد غريب يدفع الأقساط المدرسية . وكان أبي قد ارتاد تلك المدرسة ، وأظنّ أنّ جدي دَرَسَ فيها هو أيضاً ، ومثلما فعل معظمُ الأفراد الذكور من عائلتي باستثناء العم أسعد ( " آل " ) الذي دَرَسَ عند المطران غُبَاط . خلال اليومين الأوليْن ، شعرتُ أنّ غياب البنات والمعلِّمات مَحَضَ المدرسة طابعاً أكثر قساوةً وخشونةً وجسدانية وجعلها أقلّ أُنساً من مدارس القاهرة . على أني سرعان ما تكيفتُ مع الجوّ الجديد ، إذ وجدتُ نفسي للمرة الأولى والأخيرة في حياتي الدراسية بين صبيان يشبهوني ؛ فكل فرد من أفراد صفي تقريباً تعرفه أسرتي . ولأسابيع تَلَتْ بدء الدراسة ، ظل والدي وعماتي وابنُ عمي يوسف يسألونني أسئلة عن " أولاد الصّفوري في صفّك " أو يعلّقون تعليقات عرضية ولكنها عليمة عن زميلٍ من آل دجاني أو آل جمال كان والداه أو أعمامه أو عماته في عداد أصدقائهم .
كان معظم المعلّمين من البريطانيين ، خلا اثنين هما ميشيل مرمورة ، المجايِلُ لألبرت وابنُ القسّيس الأنغليكانيّ ، والسيد بويدجيان ، الأرمنيُّ المقدسيُّ ، الذي كان يافعاً عندما كان أبي في المدرسة . وكانت المرأة الوحيدة في المكان هي مِسّ فِنتون ، التي تُعلّمنا اللغة الإنكليزية بين حين وآخر بديلاً عن المعلمة الأصلية . وقد وَجَدْتُها جذّابة بشكل صاعق ، بشعرها الأسود وقامتها النحيلة ، تنتعل الصندل وترتدي قميصاً أبيض وتنّورة زرقاء بَحْرية . وكان تعاملي معها محدوداً جداً ، لندرة الفرص المتاحة بعيداً عن عالم الصبيان والأساتذة الخَشِن حيث أعيش . فظلّت طيفاً رومانسياً وكائناً يمنحني حضورُه الأنيقُ لذةً شخصية ، إذ أُشاهدها تطوف عبر أروقة المدرسة الابتدائية أو ألمحها من خلل نافذة غرفة الشاي الخاصة بالأساتذة . وبعد مضيّ سنوات عديدة ، اكتشفتُ أنها عمة الشاعر جيمس فِنتون . وعلى النقيض تماماً منها ، كان المستر صُغ ، الإنكليزيّ ذو العرجة الفادحة ، وكان مجردُ لفظ اسمه يثير عواصفَ من الضحك الساخر لمظهره والتأتأة التي يعانيها . وهو من أوائل الهامشيين الإنكليز الذين قابلتُهم ، وقد بدا منقطعاً عن وقائع المدرسة المعقّدة ( بل الشديدة التعقيد ) حيث يعلّم ، وعن التلامذة الذين يحاول تربيتهم دون كبير فَلاح . لم أكن أنا وزملائي نصغي إلى دروسه المملّة في الجغرافية أو ننجذب إليها . وكان ، في ياقته المنشّاة وبذلته البنّية الفاهية التي لا تتبدّل ، أشبه بكائن من عالم آخر يعجّ بأنهر الدانوب والثِيمز وجبال الآبيناين وأصقاع القطب المتجمّد ، لا يثير انتباه أحدٍ من الصبيان اللامبالين والمستغرقين أشدَّ الاستغراق في شؤونهم الذاتية .


يتبع إن شاء الله