قضايا و اراء
42766 ‏السنه 127-العدد 2004 يناير 8 ‏15 من ذي القعده 1424 ه الخميس


‏..‏ ولكنه دارويني‏!‏
بقلم‏ :‏ د‏.‏ مصطفي ابراهيم فهمي
استاذ بالاكاديميه الطبيه العسكريه



دار النقاش اخيرا حول ظاهره التطور وتفسيرها بنظريه الانتخاب الطبيعي الداروينيه‏.‏ ونشر الاهرام بهذا الصدد مقالا لاداروينيا يري بطلان الداروينيه‏(‏ علميا‏).‏ وتستند الناحيه العلميه في هذا المقال الي بحث حديث للعالم برونيه نشر في مجله‏(‏ نيتشر‏)2002,‏ واي مشتغل بالعلم يرحب بان تناقش صحه النظريات العلميه بالاستناد الي حجج علميه‏.‏ علي ان هناك تقاليد وادابا معينه للنقاش العلمي حتي ولو كان بتوجه لغير المتخصصين‏.‏
ومن اهم هذه التقاليد انه عندما يستشهد كاتب براي لاحد العلماء يجب ان يذكر راي العالم المستشهد به بين اقواس التنصيص‏,‏ او علي الاقل الا يكتب الكاتب خالطا بين راي العالم وراي الكاتب الشخصي صحيحا كان ام خطا‏,‏ بحيث يبدو راي الكاتب الشخصي وكانه من كلام العالم نفسه ويلتبس الامر علي القارئ‏.‏ وقد سبق ان قرات ابحاثا لبرونيه تيبن انه تطوري دارويني‏,‏ وادهشني ما ورد بمقال الاهرام من ان برونيه يري ان الانسان خلق مستقلا عن سائر المخلوقات‏.‏

وعدت الي قراءه المقال المنشور في عدد نيتشر‏2002/7/11,‏ مثني وثلاث لعلنا فاتنا ما ورد فيه من انكار للداروينيه وتوجيه ضربه قاضيه لها‏!‏ ولم نجد في المقال ايا من ذلك‏,‏ وانما وجدنا ان المقال يتحدث عن دراسته لبقايا انسان بدائي او‏(‏ هومينيد‏)‏ واسمه العلمي هو ساحيلا نثروبس تشادرسز نسبه الي ساحل افريقيا والي تشاد‏,‏ ولندعوه اختصارا بالساحلي‏.‏ ويقول مقال بردينه بالنص تحت عنوان المناقشه ان دراسته للهومينيد الساحلي تبين خصائص واضحه بدائيه وخصائص مشتقه تتراكب معا كالفسيفساء وتدل الدراسه علي ان الخصائص المشتقه اقرب الي ملامح الهومينيد وان الخصائص البدائيه اقدم واقرب للقرده العليا‏.‏ وبالتالي فان وضع الساحلي الفيلوجيني‏(‏ وترجمتها وضعه في شجره النسب التطوري‏)‏ هو وضع قريب من اخر سلف مشترك للبشر والشمبانزي‏,‏ ثم يرد في فقره اخري في النص ان الساحلي قريب من نقطه التفرع بين افراد الهومينيد والشمبانزي ويقول في فقره اخري ان دراساته التي مازالت جاريه حول بقايا الهومينيد فيها ما يعد بان يضيء الفصل القديم في تاريخ التطور البشري‏.‏ العبارات التي بين اقواس التنصيص هي ما ورد بالحرف في مقال برونيه وفريقه دون ان توضع في افواههم اراء واستنتاجات شخصيه لي قد تكون صحيحه او مغلوطه‏.‏ هل من يتحدث عن اخر سلف مشترك للبشر والشمبانزي لا يومن بالداروينيه؟ وهل من يتحدث عن الوضع الفيلوجيني في شجره النسب التطوري‏,‏ وعن القريب من نقطه تفرع افراد الهومينيد والشمبانزي‏,‏ يهدم الداروينيه بضربه قاضيه؟‏.‏

اما الخلاف بين برونيه وغيره من انداده من العلماء فهو كما ورد في مجله‏(‏ سيانتيفيك اميركان‏)‏ ليس مطلقا خلافا حول التطور والانتخاب الطبيعي‏,‏ وانما هو خلاف حول تحديد زمن ظهور اولي بقايا للهومينيد‏,‏ ومدي انتشارها‏,‏ وحول زمن نقطه التفرع بين الهومينيد والشمبانزي‏,‏ وهذه كلها قضايا ليس فيها اي شبهه لضربه قاضيه او غير قاضيه للداروينيه‏.‏ وكما يقول عالمنا الثقه د‏.‏ عبد الحافظ حلمي الذي راجع ترجمه المقال‏,‏ فان برونيه عندما تساءل قائلا اين نسب الانسان؟ لم يكن يسال سوالا استنكاريا للداروينيه وانما كما هو واضح من سياق مقاله الاصلي فانه يسال فعلا عن مكان هذا النسب بعد التغيير الزمني والمكاني ويقول برونيه ان تحديد ذلك يحتاج للمزيد من البحث لاضاءه الفصل القديم في التطور البشري‏.‏
والاختلاف بين المدارس العلميه والفكريه امر شائع منذ الازل وهو ضروره وليس ترفا ليتقدم العلم ويتجدد ولا يصبح دوجما او عقيده متجمده‏.‏ ولا يعني الخلاف بين افراد مدرسه علميه واحده‏,‏ ان هذه هي طبيعه اتباع سبل الباطل بل ان الاختلاف يوجد بين المدارس المختلفه في الدين الواحد ولا يعني هذا ان المختلفين في ذلك يتبعون سبل الباطل‏,‏ وكما قال الامام الشافعي فان رايه صواب يحتمل الخطا‏,‏ وراي غيره خطا يحتمل الصواب‏,‏ وكما قال غيره فان اختلاف الفقهاء فيه رحمه بالعباد‏.‏ الا انه عندما ينتشر التخلف الفكري وينتشر التعصب تضيق الافاق الفكريه ويضع غشاوه علي اعين المتعصبين‏,‏ فلا يرون اي حق الا في جانبهم‏,‏ عندها يتجادل اتباع المدارس الفكريه المختلفه بخطاب الارهاب الفكري ويتبادلون تهم الزندقه والالحاد والتكفير ويهدر الواحد منهم دم الاخر مهما يكن الخلاف علي امر ثانوي مثل وضع اليدين اثناء تاديه الصلاه‏.‏

ومن الغريب ان المقال اللاتطوري‏(‏ العلمي‏)!‏ المنشور في الاهرام لا يرد فيه مطلقا اي ذكر ولا اي رد علي احدث ابحاث وبراهين البيولوجيا والوراثيات الجزئيه التي تثبت صحه التطور‏.‏ تعتمد هذه الابحاث علي دراسات دنا الحامض النووي الذي ترتكز عليه ايضا دراسات الهندسه الوراثيه‏,‏ ولا يمكن ان يكون هناك من يشتغل بحق علميا بالهندسه الوراثيه ولا يدرك دراسات دنا وما تدل عليه‏,‏ واذا كان كحامل اسفار لا يدرك مما يحمله الا ثقل وزنه‏.‏ واحدث الدراسات ورد ذكرها في ابحاث علماء عالميين كثيرين مثل دوكنز وبريان سايكس الانجليزيين وفرانسوا جاكوب الفرنسي وليونثين والراحل ستيفن مولد الامريكيين والكثير منها ابحاث اجريت في تسعينيات القرن الماضي حتي عام‏2003‏ الحالي‏,‏ ونشرت خلاصه الكثير منها ونتائجها في كتب موثقه بالمراجع شرفت بترجمه بعضها للعربيه‏.‏ وقد ذكرنا في مقال سابق بعض الادله من البيولوجيا الجزيئيه التي تثبت صحه الداروينيه مثل وجود لغه واحده وحيده للوراثه في كل الكائنات الحيه الباقيه والمندثره‏,‏ ووجود تركيب كيميائي واحد لدنا في كل الكائنات ايضا‏,‏ وتماثل وظيفه بعض الجينات في كائنات دنيا وعليا مثل جينات تنامي الاعين في الحشرات والفئران والانسان ولسنا نحب ان نفعل كما يفعل البعض ونكرر تفاصيل ذلك بما يبعث الملل‏,‏ ولكننا نود ان نضيف هنا دليلا اخر من البيولوجيا الجزيئيه موجودا داخل خلايا الانسان نفسه‏.‏ ذلك ان الخلايا البشريه تحوي مايكاد ان يكون حفريات من الفيروسات والبكتريا‏.‏ يحوي حامض دنا في نواه الخليه فقرات متكرره تتكرر عشوائيا بلا معني ولاتعد جينات حقيقيه للانسان‏,‏ وتسمي هي ومثيلاتها دنا اللغو‏.‏ تبين من ابحاث دنا في الجينوم البشري ان بعض هذه الفقرات اصلها نوع من فيروسات ارتجاعيه‏,‏ وهناك الاف من هذه الجينات الفيروسيه تكاد تكون مكتمله وتقبع وقد دمجت داخل الجينوم البشري بواسطه الفيروسات الارتجاعيه‏,‏ وكانها سفن غارقه في قاع المحيط منذ سالف الدهور‏.‏ واذا كان هناك من يستنكر تحدره من سلف مشترك مع القرده العليا‏,‏ فان عليه الان ان يعود نفسه علي تقبل فكره انحداره ايضا من الفيروسات‏.‏ كذلك يوجد داخل سيتوبلازم الخليه جهاز يسمي الميتوكوندريا مسئول عن امداد الخليه بالطاقه اللازمه لنشاطها‏.‏ تحوي الميتكوكوندريا جينات اخري غير الجينات التقليديه الموجوده في نواه الخليه‏.‏ ويتشكل دنا في جينات الميتكوكوندريا بطريقه تختلف عن دنا النواه‏,‏ فدنا الم
يتكوكوندريا يتخذ شكلا دائريا وليس خطيا‏.‏ وهذا يماثل الكروموسومات الدائريه الموجوده في البكتريا‏.‏ والنظريه السائده لتفسير دنا الدائري في الميتوكوندريا هي ان الميتوكوندريا كانت اصلا خلايا بكتيريه تعيش حره من مئات الملايين من السنين‏,‏ ثم غزت خلايا الكائنات الاكثر تقدما واتخذتها مقرا لها‏,‏ وعاشت فيها بمثابه نوع من طفيليات تعيش متكامله مع خلايا الكائنات الارقي‏,‏ واصبحت بمرور السنين حبيسه في الخلايا البشريه ولاتستطيع العوده الي العالم الخارجي‏.‏
ثم هناك قول اخر في المقال يثير العجب والذهول وهو ان داروين ومذهبه تحول الي نظريه علميه جمعت بين اراء كل من لامارك وداروين وهيكل تحت مسمي نظريه داروين‏.‏ لايعقل ان اي مشتغل بالبيولوجيا يجمع بين داروين ولامارك في نظريه واحده‏.‏ نظريه لامارك في لبها ضد الصميم من نظريه داروين‏.‏ ولامارك وان كان تطوريا يسبق داروين زمنيا‏,‏ الا ان ميكانيزم التطور عنده هو توارث الخصائص المكتسبه ومبدا الاستخدام وعدم الاستخدام‏,‏ وهذا امر يتناقض تماما مع ميكانيزم التطور عند داروين وهو الانتخاب الطبيعي ولا يمكن لاي شخص له درايه بالبيولوجيا ان يجمع بين هذين النقيضين في نظريه واحده‏.‏

مره اخري نقول اننا ينبغي ان نناقش مساله التطور والانتخاب الطبيعي بالحجج العلميه المنطقيه وحدها‏,‏ كاي مساله علميه اخري‏.‏ ولامفر هنا من ان نكرر ماسبق ان قلناه من ان خلط المبحث العلمي والمبحث الديني فيه مايضر بالدين والعلم معا‏.‏ وهذا ليس راي المشتغلين بالعلوم الاساسيه وحدهم وانما هو ايضا راي عدد كبير من كبار المفكرين الدينيين مثل الشيخ شلتوت والشيخ الخولي وزوجته بنت الشاطئ رحمهم الله جميعا‏.‏ وقد ابدي الشيخ شلتوت عدم رضاه عما يتسابق له بعض الاطباء في رمضان من ذكر فوائد صحيه للصيام وقال ان الصيام فرض ديني يلتزم به كل مسلم ولايصح ان يناقش امره طبيا سواء كان مفيدا او مضرا‏.‏ والخولي وبنت الشاطئ كتبا كثيرا في مهاجمه من يستولدون قسرا نظريات علم حديث من كتاب الله الكريم‏.‏
وحين الف اخيرا احد المفكرين الدينيين كتابا عن ابينا ادم غازل فيه نظريه التطور حاقت به تهم تكفير اذاقته من نفس الكاس التي اذاقها لغيره‏.‏ وعموما فانه عندما يلجا مشتغل بالعلم الي التماس حجج دينيه يناقش بها مساله علميه بمعني العلم الحديث فان هذا دليل قاطع علي انه ليس لديه حجج علميه لها وزنها‏.‏ وتاريخ العلوم الحديث والقديم يبين لنا انه يحدث دائما عندما يخرج عالم او مفكر بنظريه جديده يتصدي له المتفيقهون الذين يستمسكون بما وجدوا عليه اباءهم واجدادهم وينهالون عليه بتهم التكفير‏.‏

ونجد في تاريخ المجتمعات الاسلاميه ان اكثر من عالم ومفكر قد نالتهم تهم تتراوح بين الزندقه والالحاد كما حدث للطبيب والموسوعي الرازي صاحب كتاب الحاوي‏,‏ ولابن حيان ابو الكيمياء‏,‏ وابن رشد فيلسوف العلم الذي سرقته منا اوروبا في بدء نهضتها‏.‏ وقد اختفت اسماء كل المتفيقهين الذين اضطهدوا هولاء العباقره وخلدت اسماء هولاء العلماء والمفكرين في تاريخ العلم والفكر حتي الان لنستشهد ونفخر بهم‏.‏ وفي اوروبا كانت هناك ايضا محاكم التفتيش التي حاول رجالها ان يتخذوا دور الله سبحانه وتعالي عما يافكون ويعبثون فاخذوا بدورهم يفتشون في سرائر وضمائر العلماء والمفكرين واحرقوا برونو وحبسوا جاليليو لانهما قالا ان الارض الكرويه ليست مركزا للكون كما كانت الكنيسه تفترض‏.‏
ياتي في ختام المقال قول غريب حقا بان المنطق يجعلنا نسلم باللامنطق‏..‏ بالغيب‏..‏ والعلم المادي المحسوس يقودنا للتسليم باللامادي واللامحسوس وهذه مقوله تتلاعب بالالفاظ اجدر بها ان تكون بعض قصائد الشعر الحديث الملغزه او حوار بمسرحيه عبثيه لاتفهم‏,‏ مقوله تلغي العقل بالكامل بما يماثل الغاءه في مقوله ابي صلاح الدمشقي في القرن الثالث عشر‏,‏ وكان من غلاه اصحاب النقل وغلاه المتعصبين ضد اصحاب العقل‏,‏ فافتي بان من تمنطق فقد تزندق ورد عليه عالمنا الموسوعي الراحل د‏.‏ ابو شادي الروني في مقال عن الاستدلال العلمي في الطب استدل فيه علي ان من تمنطق تعمق وتحقق وتوثق وتفوق‏.‏
______________________________
الخلاصة :
القضية لم تحسم بعد لدى المتخصصين انفسهم كما يبدو لى مع التنويه بعدم إدعائى المعرفة فى هذا المجال و لكن لعل المقال و الرد به إفادة للمهتمين .
تحياتى