يحتار كثيرون في سر شعبية الراحل غازي القصيبي، الرجل الذي ملأ السعودية وأشغلها على مدى ثلاثة عقود، لأنه لم يكن أعظم شاعر، ولا أبرز روائي، بل ولا أهم وزير!
سر غازي في شخصية غازي، كان الروح المحركة للمجتمع السعودي، ومن دونه ربما عاشت البلاد ردحا أطول من الرتابة التي اعتادت عليها. هو الذي فجر فيها الكثير من الأفكار والقضايا والجدل بشجاعة لا تبارى، في الاختلاف مع المتطرفين، أو مسائل التنمية والإدارة، أو في مقارعته للدعاية العراقية إبان محنة السعودية والكويت، أو في خروجه على المألوف الدبلوماسي بقصيدة سياسية عندما كان سفيرا لدى بريطانيا.
باختصار شديد، غازي القصيبي كان أكثر مثقف له شعبية، وشعبيته كان يصنعها بشكل جيني تلقائي، ولدت معه، وبعضها صنعه، وتعب كثيرا من أجلها. ويندر أن تجد شخصا بلا قصة مع القصيبي، وأنا واحد من عشاقه كإنسان ومفكر أثر في تفكيري الليبرالي كما أثر في تفكير أجيال متعاقبة. فهو بعد أن عين وزيرا في الحكومة لأول مرة في السبعينات صرنا نراه كمسؤول حكومي يضيق ذرعا بنقدنا في الصحافة، حينها كنت صغيرا ومراسلا محليا في صحيفة «الجزيرة»، أعمل بعد الدراسة اليومية. وقد كتبت فيه نقدا قاسيا، من دون أن أسميه، ملخصه أن هناك مثقفا صار مسؤولا، انقلب من ناقد إلى كاره للنقد، ومن مدافع عن الفقراء إلى خادم للأغنياء، ومن محب للمتنبي إلى عاشق لجرير. لاحقا فاجأني برسالة يهاجمني فيها لأنني لم أكن شجاعا وأنتقده بالاسم، وأنه يعرف أنه هو المقصود بالهجوم المبطن. فاجأني باهتمامه بواحد من صغار الصحافيين الذين لا يلقى لهم البال عادة. أجبته بقسوة بأنه ما كانت تنقصني الشجاعة لولا أن نظام النشر آنذاك يمنع نقد الوزراء وبالتالي يستحيل أن ينشر الموضوع. وقد اجتهد القصيبي وبعث لي بكل ما يؤكد أنني كنت على خطأ فيما كتبته، وكنت بالفعل مخطئا، ومن حينها صرت واحدا من جمهوره العريض. حدث هذا قبل نحو ثلاثين عاما تقريبا واستمر يتابع صغار الصحافيين والأدباء ويهتم برأي عامة الناس ويراسل كل الناس ويناقشهم، ويجتهد لإقناعهم وكسبهم إلى صفه، حتى إنه أرسل هدية ذات مرة لمخرج الجريدة الذي لم يلتقه في حياته عندما عرف أنه رزق بمولودة.
وخارج إطار التواصل والعلاقات العامة كان يملك الكثير ويقدمه، وكان طرفا في كل القضايا الرئيسية التي بسببها انقسمت الناس حوله. ولا شك أن الساحة السعودية بوفاته خسرت ما هو أكثر من أديب آخر، خسرت روحها، وفقدت إنسانا عظيما بمواصفات استثنائية، ولا أعرف أحدا في ساحة المبدعين والمثقفين يملك الحب والتقدير والإعجاب كما ملكه غازي، حتى عند خصومه الذين اجتهدوا كثيرا لتشويه صورته، وكان في كل مرة أقابله وهو حانق بسبب مقالات تنشر ضده، يردد كلمته: يا أخي ما أعرف لماذا يصنفونني معكم. فأجيبه: حتى تعرف أنهم يكرهون كل الناس.
ولا شك أنه كان يحب إثارة الآخرين حتى إن أحد كبار كتاب «التايمز» البريطانية أفرط في غضبه من غازي وكتب مقالا بذيئا تندر كتابته حتى بالمقاييس الغربية، وهو عندما جاء إلى لندن سفيرا كتبت الصحافة البريطانية قصته عندما وقع في مسبح المياه أمام الجمهور الكبير الذي جاء على شرفه، وبعد أن خرج مبللا بالمياه، وقف أمامهم مرتبكا ومبتسما وقال: إنني هنا، أي كسفير، لأحرك المياه!
alrashed
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=582821&issueno=11585
كان غازي القصيبي للحركة الفكرية والأدبية في الخليج، في النصف الأخير من القرن العشرين، ما كانه طه حسين للحركة الفكرية والأدبية في المشرق العربي، في النصف الأول من القرن: العميد.
كان طه حسين مثقفا وشجاعا ومواجها وأديبا وروائيا وشاعرا، وكذلك كان هذا العملاق الحبيب، الذي أحبه مبغضوه، واحترمه لاعنوه، وشهد له ناقدوه، وقدّرته الأمة برمتها.
مثل طه حسين أيضا، كان مكثارا وسيالا، لا الوزارة أشغلته ولا السفارة ألهته عن تلك الصناعة اليومية التي أتقنها كيفما حمل ورقة وقلما. وكان هذا الرجل العبقري، المتوازن الحر، في واجهة الولاء للدولة وصفوف المتقدمين، لكنه كان بكل بساطة يحمل كتبه إلى مصر أو بيروت، لكي يطبعها هناك. ترك الموظف يلتزم بكل ظروف الدولة وحساسيات علاقاتها، وأعطى للروائي حق القول والكتابة بعيدا عن دارة المسؤولية. وتواطأت معه الدولة فكانت تقرأه بالسر وتفاخر به في العلن. كانت تعرف أنه إحدى ثرواتها الإدارية والسياسية، فوظفت هذه الثروة على أعلى المستويات، وكانت تعرف أن الشعراء مغردون فتركته يغرد على جميع الأفنان.
فكرت كثيرا قبل أن أغامر بإطلاق لقب العميد. فالخليجيون شديدو الحساسية، وينظرون إلى الشعر والفكر كما ينظرون إلى الحصص في مجلس التعاون. وبعد تأمل طويل في منطقة أعرفها منذ نصف قرن، قلت في نفسي، لا عميد سواه، هذا الحبيب الذي كان مجموعة من الدكاترة والأساتذة والسفراء والوزراء والكتاب وشجاعة واحدة.
يغرينا الغياب بالمبالغات والمطلقات وأفعل التفضيل. وكنت أخشى أن أقع فيها. ففي قرارة نفسي، كانت لدي حسرة، لشعوري بأن غازي لم يكن يعرف كم أحبه. وربما كان يعتقد، على الرغم من كل ما جمعنا من مودات، أن كوني حرفيا، أحمل في داخلي شيئا من النقد له. وأحب أن أعترف لك الآن بأن الإعجاب بك كان يملأ نفسي، سواء قرأتك أم سمعتك أو كنت في سهرة تسيطر أنت دائما عليها، بفيض ذكائك وفيض ثقافتك وبعيد رؤيتك ومدى ترفعك على ما تمتلئ به الأيام من صغائر وصغارات.
كان له تلامذة في كل مكان. وهؤلاء كانوا يشعرون أن الجائزة الكبرى لم تكن الدكتوراه التي حصلوا عليها، بل الإفادة بأنهم مروا في محاضرات القصيبي. فقد كانت الجائزة هي الانتساب إليه. أدرك، من موقعه المرتقي، ومن مكانة عائلته التاريخية، أن هذه المنطقة مكتظة بالمجاملين، ولن ينضم إلى القافلة. سوف تكون له قافلة أخرى، يصغي إليها باحترام متبادل.
أصغى إلى غازي، الكبار والصغار. أهل الذروة وأهل الطموح. ومع السنين، نشأ من حوله إجماع جميل. والحزن عليه جمعي كما كان الفرح به. وليتقدم المريدون والمقلدون. فمحزن أن يخلو هذا المكان.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=582817&issueno=11585