عندما تكتب عن لبنان، لا بد أن تلهث. الأحداث أسرع من القلم. ومن التفكير. كنت أعتزم الحديث هذا الأسبوع عن تجدد حرب المخابرات في لبنان، بين الأجهزة المختلفة في المنطقة، عندما فاجأني الصدام بين الميليشيات الشيعية والسنية في بيروت الغربية (السنية).
المضمون السياسي للصدام يفوق أهميته الميدانية. جرى تطويقه أمنيا بسرعة. لكن انعكاساته الشعبية الغاضبة تبيِّن مدى القلق إزاء خطر الصدام بين ميليشيات تنتمي إلى تكتل سياسي واحد، يبدو أنه واهٍ وهش للغاية. ويزداد الخطر، إزاء احتمال حدوث انشقاقات داخل هذه الميليشيات التي تضم ألوف المقاتلين. ومئات مستودعات الأسلحة والعتاد الموزعة داخل مدن وأحياء آهلة بالسكان.
أولا، الصدام الدموي جرى بين حزب الله، وتنظيم الأحباش. وقد تم على خلفية التباين بين موقف سورية الداعي إلى التهدئة في لبنان، بعد التنسيق مع السعودية، وموقف حزب الله المهدد بتفجير الوضع، إذا ما «سُمح» للمحكمة الدولية باتهامه بالتورط، في جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء السابق.
كلا التنظيمين ينتمي إلى المعسكر السياسي السوري / الإيراني في لبنان. حدة الصدام. دمويته. توقيته (في ساعة الإفطار). كلها تشير إلى توفر العزم والإرادة لاستخدام السلاح بين «المتعاقدين» في الخندق الواحد، من دون حرص كبير على الحلف. وبلا أي رادع. بلا خوف من الدولة. بلا حرص على الحكومة التي تشكل حدا أدنى من الوفاق الوطني الذي يجمع بين المعسكرات المتناحرة. وبالذات بين الشيعة والسنة.
هل هناك عناصر «غير منضبطة» داخل حزب الله تسعى إلى التفجير مع السنة. مع الدولة. الحكومة. قوى الأمن والجيش. وربما أيضا مع سورية؟ هل هذه العناصر - في حالة وجودها - هي التي تواجه احتمال اتهام المحكمة الدولية لها، بالمسؤولية عن اغتيال الحريري؟ هل تفجير الوضع في لبنان يرمي إلى طمس هذه المسؤولية؟
السيد حسن نصر الله ينفي بشدة وجود هذه العناصر. الواقع أن الحزب، منذ ولادته في أوائل الثمانينات، أظهر انضباطا تنظيميا دقيقا، بحكم كونه ميليشيا شبه عسكرية. غير أن الزعامة السياسية المنعقدة لرجل دين مسيَّس ناجح كحسن نصر الله، لا تلغي زعامات أخرى فيه تتولى مسؤوليات مهمة. وتثبت وجودها من خلال فقاعات إعلامية تطلقها بين الفينة والأخرى.
تم إبعاد مرشد الحزب الروحي محمد حسين فضل الله، إثر خلاف آيديولوجي معه، لرفضه «ولاية الفقيه» الإيراني. ثم لرفضه حرب الرهائن (التي خطفها الحزب لحساب المخابرات الإيرانية في الثمانينات). لكن ما زال هناك نعيم قاسم نائب رئيس الحزب. ونبيل فاروق مسؤول الحزب العسكري والسياسي في الجنوب. ما زال هناك صف طويل من القادة الشباب الذين خلفهم وراءه عماد مغنية المسؤول العسكري والأمني الذي اغتيل في دمشق قبل أكثر من عامين.
هؤلاء القادة الشباب تنتابهم، على الأرجح، المرارة لعدم اقتناعهم بنتائج التحقيق السوري في اغتيال قائدهم. ومعظمهم يرتبط مثله بمخابرات الحرس الثوري الإيراني. رفضت سورية إشراك إيران وحزب الله في التحقيق. بيد أنها قدمت تفسيرات وتحليلات لم تكن «كافية» في رؤية طهران وقادة الحزب الشباب. وبالتالي، تم دفع أرملة مغنية إلى اتهام سورية صراحة بالتورط في اغتياله، لخدمة مسيرتها «التصالحية» مع الغرب.
انقسامات جيش المهدي في العراق سابقة تدل على أن الحزب الديني هو أيضا معرض لما يتعرض له الحزب السياسي. من هنا، فـحزب الله ليس عصيا على الانشقاق. الخطر كبير. إذا ما استولت العناصر المنشقة على مخزون الحزب، من سلاح وعتاد. وتقاتلت بهما. أو تقاتلت مع ميليشيات أخرى. هذا الاحتمال هو الذي يدفع رئيس الحكومة سعد الحريري وزعماء السنة في لبنان، بمن فيهم سليم الحص، إلى المناداة بجعل بيروت مدينة خالية من السلاح.
هذا عن حزب الله.
لكن ماذا عن تنظيم الأحباش؟ أقول هنا إن اللواء غازي كنعان الذي حكم لبنان، خلال حياة الأسد الأب، استورد نحو 300 جهادي سني يشعرون «باضطهاد» المسيحيين لهم في بلدهم الحبشة (إثيوبيا).
وكان في تخطيط كنعان (قيل إنه انتحر بعدما أصبح وزيرا للداخلية في عهد الأسد الابن) تشكيل نواة لتنظيم سني قوي في لبنان يؤيد النظام السوري. ويناوئ التنظيمات السنية «الجهادية» المعارضة بعد حرب «تأديب» إمارة «التوحيد» السنية التي سيطرت على طرابلس في شمال لبنان، بدعم وتمويل من إيران في الثمانينات.
ازدهر «الأحباش». أنشأوا تنظيما ميليشيويا. اختاروا لبنانيا (الشيخ نزار الحلبي) على رأسه. تمددوا في بيروت. طرابلس. المخيمات الفلسطينية. صارت لهم مساجد. مدارس. جمعيات خيرية (حملوا اسمها). وباتت منطقة برج أبي حيدر (التي كانت مسرحا للنزاع المسلح الأخير) عاصمة سياسية لهم.
غير أن ظهور «الأحباش» كتنظيم مدلل لدى سورية، أثار نقمة وغيرة التنظيمات السنية المماثلة. وهكذا أيضا، اغتيل الشيخ نزار الحلبي (1995). تمت الملاحقة بلا هوادة. اعتقل القتلة. جرت محاكمتهم. تم إعدام ثلاثة منهم تبين أنهم ينتمون لتنظيم «جهادي» سني لبناني / فلسطيني (تنظيم الأنصار). غير أن قائد التنظيم أحمد عبد الكريم السعودي (أبو محجن) أفلت من المطاردة. وقام بعمليات دموية مروعة. ويقال إنه ما زال مختبئا في مخيم عين الحلوة.
بعد الانسحاب السوري من لبنان، تقلص نشاط تنظيم «الأحباش». لكن لم يغب وجوده، بحكم تحالفه مع تنظيمات وتيارات المعسكر السوري / الإيراني. يطل التنظيم برأسه ونشاطه بين الفينة والأخرى. استغل رمضان المبارك لإقامة حفل إفطار. دعا إليه حليفه الأقرب (منظمة أمل) الشيعية التي تزعمها نبيه بري الحليف الأكبر لسورية في لبنان.
أثارت الدعوة غيرة حزب الله. كلمة من هنا. كلمة من هناك. تطور العتاب إلى اشتباك دموي وخراب مدمر طال أحياء آمنة في عمق بيروت السنية. وقُتل فيه القائد الميداني لحزب الله في برج أبي حيدر.
زعماء السنة، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة سعد الحريري، ينادون ببيروت «مدينة مجردة من السلاح». إذا رضي «الأحباش». لا أظن أن حزب الله والإيرانيين يرضون، إلا بالإفطار بالأحباش.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=584777&issueno=11599