من المفترض أن الإنسان " يضبط " معتقداته لتتلائم مع العلم و المعارف التي تحظى بأعلى قدر من الأدلة القوية و المصداقية ،و ليس العكس أي يعتقد الإنسان فقط بالعلوم التي تتلائم مع ما يؤمن به .
............................................................
ملاحظة مبدئية : هذه المداخلة تم إعدادها و وضعها قبل أن أكتشف وجود رد للزميل ثندر . و لكني فضلت وضعها كما هي حتى أقرأ رد ثندر .
............................................................
الزميل المحترم ثندر .
عودة إلى مداخلتك ، هذه هي النقاط الرئيسية التي برزت من وجهة نظري ،وسوف أعلق عليها رغم أن الردود على كثير من ملاحظاتك وردت في متن الموضوع المعروض و الذي من الواضح أنك لم تقرأه معتقدآ أنه تكرار لما تعرفه عن نظرية التطور .
أولآ : أرى أنك تعاملت مع نظرية التطور كقضية أيديولوجية ، و تطرح زملاء لنا كمصدر لمعلوماتك عن النظرية بصفتهم ملحدين !.
1- في البداية أرجوا أن نتذكر جميعا أننا نتحدث عن نظرية "علمية" ذات مصداقية عالية ، و لها تطبيقاتها العديدة التي يقوم عليه معلم هام من حضارتنا المعاصرة ربما في أهم مفاصلها ، ولا نتحدث عن نظرية هشة تبحث عن أدلة ، أو عن عقيدة دينية أو قضية فكرية . ما تعتقده إختلافا في وجهات النظر في نظرية التطور هو ببساطة إما تعجل في القراءة منك أو في الكتابة من بعض الزملاء الذين تصدوا لشرح النظرية بحسن نية .فالنظرية علمية مستقرة تماما و لها مراجعها المعتمدة المحكمة .ولو أردت البحث في هذه المراجع مباشرة يمكنني أن أحدد لك بعضها مما يجمع بين دقة المادة العلمية و بساطة العرض ، و على رأس تلك المراجع " الشعبية " المتاحة للجميع كتب ريشارد داوكنز مثل " صانع الساعات الأعمى" .
2- " التطور البيولوجي " كغيره من العلوم النشطة ( ميكانيكا الكوانتم كمثال) يشهد تطورات متلاحقة بعضها مبهر يأخذ الأنفاس ، و لكن هذه التطورات في إطار الصحة العامة للنظرية و المفهوم ، هذه التطورات لا تؤدي إلى الاقتراب من الأساطير الدينية القديمة بل إلى تأكيد المفارقة و المخاصمة المعرفية .
3- الملحدون - بصفتهم الدينية - ليسوا مرجعا لنظرية التطور أو أي نظرية علمية بل العلماء المتخصصون ، هم كالمؤمنين مراجع في معتقداتهم الدينية فقط ،و بالتالي يمكن لأي دارس " شاطر" أن يعرض أي نظرية علمية يفهمها بشكل جيد . في هذا المجال أعتقد – بكل تواضع – أن فهمي للنظرية الماركسية أفضل كثيرا من معظم زملائنا الشيوعيين أو مدعي الماركسية في النادي ، كما أني قادر على شرحها بوضوح و بساطة رغم أني لست ماركسيا بالمعني العلمي الدقيق.
4- أنت بهذه المداخلة تخلط بين النظرية العلمية و ما يمكن أن يرتبه البعض عليها من موقف ديني ، رغم أن كلاهما قضية مختلفة . سأضرب مثلآ بنظرية التطور ذاتها ، فكل العالم تقريبا – باستثناء قلة منعزلة - يعترف بنظرية التطور و لكن معظم مواطني هذا العالم من المؤمنين بعقيدة دينية ما !. نعم نقول أنه من المفترض أن الإنسان " يضبط " معتقداته لتتلائم مع العلم و المعارف التي تحظى بأعلى قدر من الأدلة القوية و المصداقية ،و ليس العكس أي يعتقد الإنسان فقط بالعلوم التي تتلائم مع ما يؤمن به ، فكل ما نؤمن به الان – كما تعرف- كان بدعة منفرة في وقت سابق ، رغم هذا لا أدعوا أحدآ لتغير عقيدته الدينية دون ان يكون مستعدآ ( نفسيا) لمثل هذا الموقف ، فالناس يؤمنون لأسباب عاطفية و ليس على أساس محاجات عقلية .
5- نظرية التطور لا تتعارض مع كل الأديان بنفس القدر ، فهي تتناقض تماما مع الرواية التوراتية و القرآنية عن أصل الحياة و الأحياء ،و لكنها لا تتعارض مع العقائد الهندوسية مثلآ بنفس القدر .

ثانيا : أنت تطرح أسئلة استنكاريه عما يبدوا تصميما ذكيا في الكون ( الحشرة – العقرب ) كما لو كانت نظرية التطور تنكر الروعة و الإبداع في الكون .
1- الأمثلة التي تضربها هي أمثلة بسيطة للغاية مقارنة بالإنسان نفسه ، فالكون يبدوا مصمما باعلى قدر من الروعة ، و لهذا فعظمة نظرية التطور أنها تفسر بشكل علمي مايبدوا تصميما ذكيا للكون . تطور الصفات و توارثها هما أساس نظرية التطور خاصة في ضوء ثورة الشفرة الوراثية .
2- سبق أن ذكرت أن مبدأ اللاإمكانية يعمل ضد وجود عالم غير مصمم ، و أن نفس المبدأ يعمل بشكل أكبر كثيرا ضد التسلسل النهائي لمصممين يصممون آلهة بالغي القدرة و العلم .أي أننا أمام معضلتين أحدهما " التصميم البادي " و يمكن حلها خلال آليات مادية تم اكتشافها بالفعل أهمها الإختيار الطبيعي ، و الأخرى " تسلسل الآلهة حتى لا نهاية " لا يمكن حلها أبدآ .و بالتالي فمبدأ اللاإمكانية يعمل لصالح نظرية التطور و ليس لنظرية الخلق .
3- الإختيار الطبيعي للتذكرة هي العملية التي تصبح بها بعض الصفات الوراثية أكثر أو أقل شيوعا بين نوع معين من الكائنات الحية نتيجة تأثيرها المرتبط ببقاء حامل تلك الصفات أو تكاثره . وهو الأداة الأساسية للتطور . إن التنوعات الجينية الطبيعية تؤدي إلى أن يمتلك بعض الأفراد قدرة أعلى على البقاء و التكاثر أكثر من الاخرين في بيئة سائدة بعينها ، وهذا ما حدث لنوع من الحشرات التي تعيش على الأشجار في بريطانيا ، فبعضها كان فاتح اللون و البعض غامق ،و لوحظ أنه بعد الثورة الصناعية و اسوداد الأشجار نتيجة " الهباب" المنبعث من المداخن ، بدأت النواع السموداء تزداد بقوة ،و هذا نتيجة ان تلك الأنواع السوداء أصبح لديها قدرة اعلى على الإختباء من اعدائها و بالتالي البقاء .
4- ما يؤمن به غالبية الملحدين هو أنه بالرغم من أن الكون مادي بحت ،فإن العقل و الجمال و العواطف و القيم الأخلاقية ، و باختصار كل ما في سلسلة الظواهر التي تعطي الحياة الإنسانية قيمتها ، قد انبثقت من هذا الكون المادي .
ثالثا : أنت ترى أن نظرية التطور تفسر التكيف من أجل البقاء و ليس التخصص الوظيفي .
1- ألا تشعر بالتناقض بين تعبير التطور و أن هذا التطور يعني مجرد البقاء بنفس الصفات دون تعديل !.
2- التطور في صفات الكان الحي يهدف إلى زيادة تكيف الكائن الحي مع بيئته و بالتالي إمكانية بقائه و تكاثره .
3- بالتالي الإرتقاء و البقاء ليسا منفصلين .

رابعا : ترى إمكانية المزج بين نظرية التطور البيولوجي و الدين أو " نظرية الخلق " .و أن التعارض بينهما من تدبير الملحدين !.
هذه مفاجئة بمعنى الكلمة و كي نفك الإشتباك علينا أن نعرف كلاهما .
1- التطور Evolution هو ببساطة التغير مع الزمن ، و عندما نتحدث عن التطور البيولوجي biological, genetic or organic evolution فنعني به التغير في أشكال الحياة مع الزمن ، أما عندما نتحدث عن ( نظرية التطور البيولوجي ) فنحن نعني به الفرضية القائلة أن كل صور الحياة على الأرض مرتبطة خلال أصول مشتركة ، و أن الصفات الوراثية تنتقل من الآباء إلى الأجيال التالية ، و أن هناك تغيرات تحدث عند ظهور أجيال جديدة ، و خلال تعاقب السنوات فإن هذه التغيرات تتزايد و ينتج عنها التنوع الذي نشاهده على الأرض اليوم . و ترتبط نظرية التطور البيولوجي بالعالم البريطاني تشارلس داروين ، لأنه الذي إقترح آلية الإختيار الطبيعي ، كما دعم إفتراضاته بعدد هائل من البيانات العملية التي أثبتت إفتراضه .
2- نظرية الخلق الخاص Creationism .هو الإعتقاد الديني بأن البشرية ، الحياة ، الكون ، كلها من صنع كائن علوي هو الإله أو الخالق ،و أنه صنعها في أكمل حال و على الشكل التي عليها الآن . و بالطبع لا توجد رواية واحدة للخلق ،و لكن هناك عدد من الروايات المختلفة بتعداد الأديان .
3- نظرية الخلق الخاص أسطورية تختلف باختلاف الأديان و تنتمي إلى الإطار النصي العقائدي ، بينما نظرية التطور نظرية علمية منهجية تنتمي إلى الإطار العلمي العقلاني ،و بالتالي فالنظريتان متفارقتان بينهما قطيعة معرفية تامة ، هذه القطيعة تعريفية و ليست نتيجة مؤامرة علمانية شريرة.

خامسآ : أنت تعتقد أن فكرة السببية تنطلق من الفلسفة المادية !.
هذا خطأ واضح ، بل ربما تفاجئ أن الماديون يرون أن نظرية السببية لا تعمل على الأجسام متناهية الصغر أو الكبر نتيجة معارفهم الحديثة بناء على ميكانيكا الكوانتم . مبدأ السببية هو أساس محاجة العلة الأولى The First Cause التي يلجأ إليها الربانيون للتدليل على وجود الإله ، وهي النظرية السائدة التي تقول بأن لكل شيء سبب ( علة ) ،و كلما عدنا للخلف في سلسلة العلل سنصل إلى العلة الأولى ، هذه العلة هي التي نطلق عليها الإله، أي أن الإله هو سبب كل شيء . و لكن هذا البرهان على وجود الله لا يصمد للنقد ، فلو كان لكل شيء علة أو سبب ، فما هو سبب الإله ؟. أو كما يمكن أن نقول طالما لكل شيء خالق ، فمن خلق الله ؟. لو قلنا أن الله لا علة له ، فهذا إقرار بإمكانية عدم وجود علة ، وما دمنا نقر بإمكانية عدم وجود علة ، فلماذا لا يكون الكون هو الذي بلا سبب .. بلا علة ؟!.بل لماذا نفترض أن يكون للكون بداية ؟ . في الحقيقة لا يوجد سبب منطقي لهذا الفرض سوى كسلنا العقلي .

سادسآ : أرى أنك تصر على الخلط بين الإنتخاب الطبيعي و الصدفة العشوائية لأنه يريحك ، و لكنك لم تحدد عالما بيولوجيا واحدا تحدث عن الصدفة العشوائية كأداة للنطور .
سابعآ : تعتقد أن الفلسفة المثالية تعني تلقائيا الإيمان بالله ،و أنك تؤمن بالخالق لأنك مثالي .
1- الإنسان لا يؤمن لأنه مثالي التفكير ، فهذا أشبه بوضع القطار أمام القاطرة ، بل يصنف مثاليا لأنه مؤمن .
2- المثالية (أو المادية) إذا هي إتجاه فلسفي يصف مجموعة من الأفكار بعينها أي هذا تصنيف و صفي descriptive، و ليس عقائداdogmatic محددة مسبقا .
3- المثالية ليست تحديدا الإيمان بالإله ، فهناك فلسفة مثالية ملحدة .
ثامنآ : ترى أن الفلسفة مادية تعني أن لكل جسم وعي خاص به .
الفلسفة المادية ترى أنه لا يوجد في الكون سوى المادة ،و أنه حتى الوعي و الضمير ناتج عن تفاعلات المادة .الوعي إذا ليس من صفات الأجسام subjects بل المادة matter.