Man is descended from a hairy, tailed quadruped, probably arboreal in its habits.
Charles Darwin

نقد الخلقيين

كما رأينا سابقا وجدت نظرية التطور البيولوجي مقاومة شرسة منذ ظهورها ، هذه المقاومة بدأت من العلماء الذين يحملون فكرآ مخالفا ،و لكن تلك المقاومة من العلماء توقفت كلية منذ 100 عام تقريبا ، فلا يوجد عالم واحد يستحق هذه التسمية و يعارض نظرية التطور في مفهومها العام . منذ ذلك الوقت يجري مقاومة نظرية التطور على أسس دينية . هذه المقاومة تكاد تكون محصورة بشكل أساسي في الولايات الجنوبية في الأمريكية و في العالم الإسلامي و بعض البؤر في استراليا و نيوزلنده و أيضا بين الجماعات المتدينة في الهند ،و لكن تلك المقاومة الأخيرة تهبط باستمرار مع إنتشار التعليم ، و تدل الإحصائيات ان 77% من الهنود الذين سمعوا بنظرية التطور يؤمنون بها .
خلال متابعة الخطاب الرافض لحقائق التطور البيولوجي يمكن تمييز عدة مجموعات واضحة : المجموعة الأولى هي الرافضة للتطور على أساس أيديولوجي ، وهي خليط متنافر من الأصوليين و يشملون اليمين المسيحي و الأصوليون السنة و الشيعة . المجموعة الثانية هم الأشخاص الدينيون homo- religious وهم الأشخاص الذي لا يرون الحياة سوى خلال المنظور الديني فقط بلا أي أفق آخر ،وهؤلاء دائما أحادي الفكر لا يمكنهم تقبل أي فكر يخالف موروثهم الثقافي مهما كان علميا و منطقيا ،و بالتالي هم يعادون العلوم كلها التي تقدم رؤية مخالفة لأساطير الأديان القديمة مثل رفض ابن باز لحقيقة كروية الأرض . المجموعة الثالثة ترفض نظرية التطور لأسباب متعددة أخرى أهمها النقص في المعلومات عن النظرية ، او لأسباب أخلاقية أو ثقافية أخرى .

هناك أشكال مختلفة للتعبير عن رفض نظرية التطور أبرزها .
أولآ : محاولة اعطاء هذا الرفض شكلآ علميا و ليس مجرد رفض ديني تقليدي ، و هذا ما يحدث في الولايات المتحدة ، و هناك حركات متعددة تحمل هذا الطابع تتبنى أفكارآ مثل " التصميم الذكي Intelligent Design" ،و " علم الخلق Creation Science" و " الخلقيون الجدد neocreationism " ،وهؤلاء جميعا يتبنون المطالبة بتدريس نظرية الخلق الخاص كنظرية علمية جنبا مع جنب مع نظرية التطور . و لكن العلماء يرفضون تلك المطالب كمجرد أفكار تلفيقية لا سند علمي لها .
ثانيآ : اللجوء إلى ما يمكن أن نطلق عليه الجدل الشعبي ،وهؤلاء جميعا من غير العلماء يقينا . أهم الأساليب الذي يلجأ إليه الشعبيون :
1- يشكك الخلقيون في النظرية النسبية و يعلنون أنها مجرد نظرية "just a theory", و لكنها ليست حقيقة تم تأكيدها علميا ، و هذا سوء فهم للمعنى العلمي للنظرية ، فالنظرية في الحديث الدارج تعني مجرد رأي أو تخمين ، أما علميا فالنظرية تعني أنها " تفسير أو نموذج للعالم تقدم تنبؤات قابلة للإختبار" . نحن عندما نستخدم تعبير نظرية في وصف التطور ، فنحن نعني به تفسير التنوع في الأحياء و أصولها . هناك نموذج للتطور كنظرية هو ما يعرف علميا ب modern evolution synthesis ، و هو ناتج من تآلف من فكرة الإنتخاب الطبيعي لداروين مع نتائج أبحاث مندل في الوراثة . أما عن كون التطور " حقيقة " فهنا أيضا سوء الفهم الناتج عن الإستخدام الدارج لتعبير حقيقي و المعنى العلمي له ، فتعبير حقيقي يعني الشيء الذي تؤكده الشواهد بلا معارضة ، مثل دوران الأرض حول نفسها ،و سقوط الأجسام على الأرض بفعل الجاذبية ،و لكننا علميا نسمى ذلك كله " نظريات " ، التطور أيضا مثله مثل الجاذبية تماما يمكن أن نعتبره حقيقة ، لأنه يظهر أنه صحيح دائما عندما نراقب التطور في تجمعات من الأحياء ، و بالتالي فالتطور هو حقيقة و نظرية أيضا كالجاذبية تماما . أما كون أن التطور ام يتم إثباته ، فهذا ناتج أيضا عن التداخل بين التعبير الشائع و العلمي ، فكل العلوم إحتمالية ترجيحة و ليس التطور فقط .

2- إغفال التعديلات الكبيرة في نظرية التطور منذ ظهروها على يد داروين منذ 150 سنة ، و التركيز على نقد ما قاله دارون و تم تصحيحه لاحقا بالفعل . لم يدع داروين ولا غيره من العلماء أن نظرية التطور ظهرت بشكلها النهائية ، فلا توجد نظرية علمية تستحق الإهتمام تدعي ذلك ،و لكن أهم إنجازات داروين هي أنه وضع حجر الأساس والإعلان الأول الصريح بحدوث التطوّر . نعلم ان دارون إكتشف آلية واحد فقط من آليات التطوّر هي الانتخاب الطبيعي، ورغم أنه تحدث عن اختلاف الصفات الوراثية عبر الأجيال إلا أنه لم يكن على دراية بآليتها والطفرات الجينية التي تسببها، بينما يناقش العلماء العديد من آليات التطور يشكل الانتخاب الطبيعي واحدة منها.
3- هناك مشكلة بنيوية في تفكير الدينيون وهم النقاد الرئيسيون لنظرية التطور ألا وهي ؛ أنهم في لا وعيهم يسقطون المقدس والثابت على كل شيء، حتى على النصوص العلمية والمعرفة البشرية، والتي تنشأ من رؤية معرفية مفارقة كلية ، فالمعرفة كلها بما في ذلك الحقائق العلمية ذات المصداقية العالية إحتمالية ترجيحية ،وهي دائما مشروع لم يكتمل معرضة للنقد العقلاني . هذه الرؤية الدوجمائية لا تظهر فقط في نقد التطوّر بل في تناول كل الأفكار والفلسفات والنظريات . فالإسلاميون مثلآ ينتقدون الماركسية أو فكر هيغل أو العلمانية وكأنها جميعا مقدس أو ديني . سنجد أيضا أن نيوتن و حتى أينشتين و غيرهما لم يدعيا أنهم يقدمون النظرية النهائة لكل شيء ، و لكن في المقابل لا يهاجمهم الأصوليون لسبب بسيط ، ان علماء الفيزياء لم يهدموا فكرة دينية بالوضوح و الحسم الذي هدم به دارون قصة الخلق.
4- العرض المشوه للأفكار و اقتطاع التصريحات العلمية و النصوص من سياقها ،و من ثم تعميمها كأدلة تدحض نظرية التطور ، هذه المحاولة تتجاهل حقيقة علمية هي أن حدوث التطور كحدث تاريخي لم يعد مطروحا للنقاش ،و أن ما يجري نقاشه علميا هي آليات و حوافز و نتائج التطور . هذا الخلط الشديد يجد سوقا رائجا لدى العامة و أشباه المثقفين ، مثل المواد الهزلية التي يقدمها زغلول النجار و أترابه من النصابين . يلجأ ناقدو التطوّر إلى الخداع حين يقتطعون بحوثآ واكتشافات علمية جديدة تتعارض مع أفكار كانت قائمة و تصححها في إطار الصحة العامة للنظرية – كأي نظرية علمية أخرى – و عرضها كأدلة دامغة على انهيار نظرية التطور ، ودائما ما يلجأ هؤلاء المدعون إلى إستخدام لغة ومصطلحات علمية مخادعة ، مما يجعل المتلقي يعتقد بقوة الطرف المحاور علمياً ، و تكمن المشكلة في انعدام وجود أي قاعدة معرفية أو حتى مفاهيم أساسية و أسس المنطق لدى الأغلبية الساحقة من المتلقين ، مما يجعلهم عرضة دائما للخداع ،ومما يزيد الطين بلة تواطؤ الإعلام العربي مع الإتجاهات التغيبية و المعاونة النشطة في سحق الفكر العلمي و تهميشه .
5- تسطيح فكرة التطوّر و تعليبها في عبارات محفوظة " كليشهات " من عينة " أن الإنسان أصله قرد" ،و " لماذا لم نجد قردآ يلد إنسانا ؟ " ، و " هل لو اعطينا قردآ آلة طباعة - كمبيوتر الان كنوع من التقدم - هل يستطيع كتابة قصيدة لشيكسبير بعد عدد من المحاولات؟ .تلك كلها طرح صبياني لنظرية علمية تنير الآن مجالآ هاما للبشرية متعدد المنافع .
6- الاستشهاد بالأخطاء وحتى بحوادث التزوير التي ظهرت في الوسط العلمي متناسين أن من كشفها ونقدها هو الوسط العلمي الداعم للتطور والذي يملك أقوى آلية تصحيح ذاتي مبنية أيضاً على أسس نظريات المعرفة البعيدة عن العامة بشكل عام ومجتمعاتنا بشكل خاص.