توتو عوامي – (بورتريه) – المد والجزر
لاحظت مع مرور الأيام أن "توتو عوامي" لا يدخل حانة "فوتي "إلا في الليالي المقمرة , جلستي المعتادة علي "الأجلون" مكنتني من تلك الملاحظة , كان يكفيني أن ألاحظ خروجه من الحانة التي تقع إلي الغرب وأنظر إلي الشرق لأري البدر مصعدا في السماء وعندما يمر بي متجها إلي الشرق كان نظره لا يفارق البدر الكبير الصاعد إلي أعلي , فارضا وسامته علي عيني لدي مروره أمامي أراه كما لو كان شخصا آخر غير "توتو" الذي أعرفه في النهارات والليالي السابقة , متألق العينين مشدود القامة صلب الأنف , بصره شاخص للشرق مصوبا علي البدر الطالع , عندما يتجاوزني أناديه بصوت يتناسب مع بعده الخطوات القليلة عني , وعندما تزيد المسافة يعلو صوتي ولكنه لا يجيب , يظل ماضيا في طريقه حتي يصل إلي تقاطع شارع "الإسكندرية" مع "علم الروم" , يقف لبرهة ثم ينعطف في "علم الروم" ويغيب عن بصري تاركا إياي في تساؤلات شتي .
بدأت معرفتي به عندما أتاني بتوصية يطلب خدمة لقريب له عن طريق عملي , رأيته شخصا مرحا ودودا علي غير عادة أهل البلد , تطرق الحديث عن علاقته بالرجل الذي أوصي به , قال مندهشا : ألا تعرفني , أنا عازف المجرونة في فريق الموسيقي , عندما تغضنت جبهتي لأعلي وارتفع حاجباي مد يده إلي صدره وأخرج لي آلته الموسيقية مبتسما وقال : إنها لا تفارقني أبدا , أمسكت بها وقلبتها بين يدي وعندما قلت : هل هذه هي التي تصنع كل هذا الجنون في الناس , خفض وجهه خجلا , ولما تصنعت عدم فهمي لخجله انسحب من أمامي دون وداع وتركني أهيم بناظري في إثره.
في الليالي الدامسة حين يكون القمر في بداية دورته الجديدة , كان يأتي إلي "الأجلون" يمسك بيدي ويشدني لأقوم معه لدرجة أنني قد لا أتمكن من محاسبة النادل فألوح له ويلوح لي , نمضي إلي الغرب في طريقنا إلي الشاطي حتي نصل إلي اللسان الصخري في منتصف الخليج , نقطعه في بطء وعندما نصل إلي نهايته ونري الماء الأسود يجلس القرفصاء , يمد يده إلي صدره ويخرج المجرونة ويمسح عليها في حنو ويقول : اسمع هذه , يظل يعزف وأنا واقف أتأمل أضواء السفن الضعيفة التي تأتي من عرض البحر , وعندما ينتهي أراه يتحول من جلسته القرفصاء إلي النوم علي بطنه ويمد يده ويغترف غرفة من مياه البحر ثم ينتصب واقفا , وكما لو كان وحيدا في المكان يمعن النظر فيها لبرهة ويتذوقها بطرف لسانه ويشمها بأنفه ثم يتمتم بصوت بالكاد أسمعه : تلك المياه ميتة , يمضي ويتركني هناك أحاول الفهم .
قابلته بالصدفة في ليلة غير مقمرة , أمسك بذراعي وأعادني أدراجي , أفهمته أنني مشغول فأصر علي أمضي معه , كان جسده يبدو مضطربا وأحس بالرعشة تنتاب صوته كلما اقتربنا من المكان الذي يقصده , توقف قليلا جاعلا جسدي ستارا له وأخذ ينظر في وله إلي منزل أمامه , كان من نوعية البيوت المنتشرة في البلد , سور كبير يحوي فناء والمنزل يقبع في المنتصف , ظل يتأمل المنزل لدقائق ولما أبديت له استيائي من وقفتنا الغربية في هذا المكان شبه المهجور , تمتم : اعمل معروفا , كان البكاء يكاد يخنق صوته فاستسلمت , رأيت عينيه تشعان بالتحفز حين ظهر ضوء قرب أحدي النوافذ , إلتفت ببصري وأنا مازلت أخفيه فرأيت في نور الضوء الشاحب وجه فتاة , ظلت ساكنة للحظات , جامدة الأسارير و وبعد لحظات مدت يدها إلي وجهها وكأنها تمسح دمعة ثم لوحت بها بخفة لاحظتها بالكاد ثم انقطع الضوء وضاع الوجه معه , التفت ببصري إليه فوجدت بحيرتين من الدموع في عينيه , أمسكت بكتفيه وقد فهمت الأمر وقلت في سخط : ما الذي يمنعك عنها ,هه , ماذا يمنعك عنها ؟ , أطلق آهة من أعماقه ولما رآني مازلت أهز كتفيه نزع نفسه مني في غضب وقال : الدم , الدم , هل تفهم ؟ , دم بين القبيلتين , أطرقت من الدهشة والرهبة ومضي هو في طريقه تاركا إياي وحدي لظلمة المكان .
في ذلك اليوم وبعد أن حدست التوقيت الصحيح قررت أن أعرف سره , في ليلة البدر لم أجلس علي "الأجلون" , جلست علي مقهي آخر قرب "علم الروم " , لدي تبديه لي متهاديا في الشارع تمكنت من رؤية وجهه المشغول بسره و عندما انعطف في "علم الروم "قمت من مكمني وأخذت في تتبعه , أخذ ينعطف يمنة ويسرة كأنه يضلل شبحا ما , وزادت دهشتي عندما وجدته وأنا وراءه يدلف إلي ساحل "روميل " من مكان لم أتوقعه قط , ظل يمضي علي الرمال في ساحة الشاطئ بينما ظللت بعيدا عنه , يفصلنا المياه الضحلة عند المرسي الجديد , قفزت إلي أحد القوارب وأخفيت جسدي , سمعت ورأيت كل شئ , جلس القرفصاء كيوم أن أسمعني ألحانه للمرة الأولي وظل يراقب حركة البدر المتصاعدة في السماء وينقل عينيه للماء , وفجأة رأيته يمد يده لصدره ويخرج "المجرونة " , غمر الليل صوت شجي هلع قلبي له ينادي من أعماق الصحراء مياه البحر التي بدأت في الاضطراب بفعل المد القمري ربما أو بتأثير المجرونة , ظل يعزف لساعة ويقوم ويقعد ويميل ويهتز ويدور حول الشاطئ , وفجاة وجدته لدهشتي لدرجة أنني قفزت من القارب أحاول منعه يدخل إلي البحر ماشيا فيه ويظل ماشيا حتي يختفي تحت سطحه , تاركا أياي في ظلمة نفسي .
لم أندهش حين قابلته بعد أسابيع من ليلة " روميل " , فقد تعودت اختفاءه وظهوره حتي ولو كان بالدخول في البحر كان القمر قد بدأ في الشحوب وكانت الليلة باردة , وكنت أجلس داخل " الأجلون " عندما انحط بجسده بجواري كأنه يلقي كل معاناته وعذاباته , ربت علي كتفه , لوحت للنادل ولكنه اعتذر , كان صامتا وأنا أستفيض في الحديث دون توقف , ولما لاحظت سكوته الطويل , أشعلت سيجارة ومددتها إليها , أشاح بوجهه عني فمددتها إلي شفتيه مداعبا فدفعها بيده وقال : أحتاج إلي كل خلية تنبض في رئتي اليوم , تساءلت : ماذا لديك الليلة , غمغم ستعرف في الصباح , انتصب واقفا وأمسك يدي يسلم علي ّ , وقفت أسلم عليه فاحتضنني بقوة غريبة لم أعهدها منه من قبل , قلت : ماذا وراءك , غمغم بصوت متحشرج : ستعرف في الصباح , في الصباح ومضي مغادرا تاركا إياي في حيرتي الدائمة .
في الصباح وأنا في طريقي إلي العمل وجدت سحنة السماء تتفق مع سحنة المدينة في الوجوم , مجموعات صغيرة متناثرة علي طول الطريق وفي الأركان تتحدث , توقفت أشتري الجريدة واستفهمت من البائع , قال وهو يمضغ الكلمات : " توتو عوامي" , استغربت أن يسميه" توتو" , الجميع هنا يناديه باسمه الحقيقي عوامي ولا أحد سواي يناديه "بتوتو عوامي " , قلت في سرعة : ما الذي حدث له ؟ أشاح بوجهه وغمغم : قتل , جننت , ما الذي حدث , قال في قهر : قتل قلت لك أنه قتل .
رأيته في الحلم في نفس ليلة مقتله ولكني حاولت تناسي الحلم في الصباح حال استيقاظي حتي أستطيع أن أمضي يومي , رأيت "توتو" يسير في نفس الطريق الذي قطعناه معا حتي بيت "الحرماني" , وحده هذه المرة دون رفيق ولكن عيني لا تفارقه في الحلم , عندها توقف هناك منتصبا والريح تصفع كل جسده وزمجرتها المخيفة تتقاطع مع الزمجرة التي تغلي في روحه , ظل واقفا إلي أن لاح من النافذة الضوء الشاحب ومعه الوجه الحزين , وبكل عزم وتصميم مد يده إلي صدره وأخرج المجرونة , لوحت له اليد من النافذة صارخة ألا يفعل ولكنه كان في عالم آخر , وبعيني المثقلتين بالدموع في الحلم وعيناه الغارقتان في الأسي والحزن بدأ بنشيج طويل توقف له كل من كان سائرا وبدأ في الاقتراب منه والتحلق حوله , واللحن ينساب ويتحول من النشيج الأسيان إلي الفرح رويدا رويدا . وقع بقدمه اللحن فبدأ الناس في الحركة شيئا فشيئا وسرعان ما دب الحماس في أحدهم وتحرك في بطء داخل الساحة وبدأ في الرقص , انسابت الأنغام الفرحة المشرقة في الفضاء الساكن وتوقفت الريح عن العويل وانتبهت لما يفعل , وانفتحت كل النوافذ القريبة والبعيدة وانطلق الضوء منها ينير الليل بينما يتقدم آخرون ألي الساحة ويندمجون في الرقص , ظل يلعب بالأنغام في سرعة وبطء وحمي الرقص تتزايد , والوجه الذي أمامه لا يفارق عينيه , وعندما أطلق زغرودة طويلة من المجرونة أسكتتها الرصاصة التي اخترقت صدره وتهاوي إلي الأرض وهو ينظر لي في استغاثة تاركا إياي في عالمه إلي الأبد .
مرسي مطروح نوفمبر 1993
المجـــــــــــرونة
كوكو
يتبع
- هوامش وتأملات شتي -