كل مسؤول وفي أي اجتماع بين وفدين كل منهما يتألف من خمسة أعضاء مثلا مع مترجمين سيتكلم كلام سياسي عام ...أما الأمور الخطيرة والسرية فيتم التحدث بها باجتماعات ثنائية بين رئيسين أوبين ملك ورئيس ...ولذلك غالب اللقاءات تبدأ باجتماع ثنائي مغلق وبعدها لقاء موسع ...ووثائق ويكيليكس كلها عن اجتماعات موسعة
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=597619&issueno=11691
أمطرنا مرة أخرى موقع «ويكيليكس» بطن من الوثائق. هذه المرة أكثر إثارة من التسريبات الماضية، فالأولى كانت بلاغات عسكرية مملة، أما الجديدة فهي برقيات وزارة الخارجية وتقاريرها الدسمة جدا. وقد أمضيت أول من أمس أقرأها، كطفل في دكان للحلوى، متعة حقيقية. لكن بعد أن أنهيت يومي، والصحيح نفدت طاقتي، تساءلت: هل قرأت سرا مهما كشفت عنه الوثائق؟ لا، ليس بعد.
لم تمر أمام عيني معلومة فاضحة كشفت عن عملية سرية، أو مؤامرة دبلوماسية، مع أنه ربما هناك الكثير منها، ولا موقف سياسي مخالف لما هو معروف مألوف لنا سلفا، لا شيء البتة. لا أحد يعمل مع إسرائيل، ولا أحد من خصوم إيران عمل لصالحها، ولا خصوم أميركا قدموا التنازلات لها. مع هذا تضمنت الوثائق الكثير من المعلومات الجديدة والمثيرة، وهناك فارق بين المعلومة الفاضحة والمعلومة الفضيحة. ففضح السر يختلف عن الفضيحة التي تسبب حرجا لأهلها، وكل الوثائق التي ظهرت حتى الآن محرجة. فالمواقف العربية ظهرت مطابقة لما نعرفه عنها من قبل، والوثائق أكدتها بصفة رسمية ليس إلا.
طبعا، لا بد أن أعترف أنه من المبكر أن أحسم رأيي ونحن في أول قطرة من الوثائق المسربة، وقد بقي بحر من آلاف المحاضر السرية والبرقيات التي لم نصل إليها، وسيستغرق شهورا نبش أكوام القش الوثائقية هذه.
وبدلا من التفتيش عن سر خطير، فإننا، معشر القراء، سنجد أن الوثائق كلها مهمة لنا، على الأقل هانحن نقرأ التاريخ قبل 30 عاما من موعده التقليدي عندما تفرج الخارجية الأميركية عن وثائقها، وهذا يعطيه معنى وقيمة سياسية مباشرة. أيضا نحن من خلالها نتعرف أكثر على لغة الحوار بلا ماكياج حتى في أصعب القضايا. عادة نرى الأبواب تغلق، ويجلس خارج المكاتب الرسمية المصورون، ولا نسمع سوى بيانات رسمية مقتضبة، أو تصريحات أميركية لا طعم ولا رائحة لها. الوثائق ستساعدنا على تعبئة الفراغات الكبيرة بالعودة إلى كل برقية وربطها بالحدث الذي عالجته. من أكوام الوثائق نستطيع أن نرسم صورة أوضح للنشاطات الدبلوماسية العربية والإقليمية والأميركية، ونتعرف عن قرب أكثر على الأشخاص الفاعلين، ونفهم أكثر طبيعة التوترات والمصالحات. فعليا، بالنسبة لي ولكل متابع، لم نعثر على مفاجآت، إنما أصبحنا بفضل التسريبات أكثر علما واقتناعا.
فالذي قرأ وثيقة لقاء الرئيس السوري مع أعضاء مجلس الشيوخ شاهد الموقف السوري نفسه حول إيران والأمن والمفاوضات لكن بصياغة متكاملة. والأمر نفسه بالنسبة لمقابلة العاهل السعودي الملك عبد الله مع مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن حول موضوعات القلق من إيران وإشكالات الأمن في اليمن والاعتراف بوجود مشكلات مع الولايات المتحدة قال إنها موجودة لكنها «مشكلات لم تصل إلى العظم»، أي: قابلة للحل. وحتى في وثيقة رئيس الوزراء القطري الذي وصف السياسيين الإيرانيين بـ«الصعبين» جدا، مثلا يقحمون موضوعات لا علاقة لها أثناء مفاوضات حقل الغاز المشترك بين البلدين.
الذين لا يعملون في وزارات الخارجية يقرأون السياسة على حقيقتها لا كما تعلن عبر البيانات الرسمية أو كما يدعيها بعض الصحافيين.
alrashed@asharqalawsat.com
أمس قلنا إن الدبلوماسية الدولية باتت تعاني من أزمة ثقة، فجل الوثائق الأميركية المسربة في موقع «ويكيليكس» يشكل حرجا كبيرا للساسة حول العالم، والأهم من كل ذلك أنها تعرض الأمن القومي لعدة دول للخطر، كما أنها تصعب مهمة التواصل الدبلوماسي، والتعاون الأمني لمحاربة الإرهاب، كما أنها ستشكل عامل ذعر للقطاع الاقتصادي، خصوصا أن المعلومات تشير إلى أن موقع «ويكيليكس» ينوي نشر وثائق خاصة بأحد البنوك الأميركية.
لكن من أضرار وثائق «ويكيليكس» أيضا أنها كشفت أن المجتمع الدبلوماسي، عكس ما كان البعض يتصور، ظهر كمجتمع نميمة، أكثر من كونه مجتمع طبقة مخملية عالية التعليم، ومنمقة اللغة، وثاقبة الرؤية، بل أقرب إلى الروائيين في توصيفهم للأحداث. وبالطبع، فإن المرء ليس بالسذاجة حتى يفترض أنه ليس من عمل الدبلوماسيين رصد الوقائع، والمعلومات، أيا كانت أهميتها، وفي أي دولة، فهناك مثلا بروفايل، أو سرد شخصي، لكل زعيم أو مسؤول عالمي للتعرف على طريقة تفكيره، وأسلوبه، لكن الأمر لا يصل لجمع معلومات عن البطاقات الائتمانية لنظرائهم الدبلوماسيين مثلا، كما أن المفترض أن تكون لغة الدبلوماسيين أكثر حصافة، أو قل أكثر دبلوماسية.
صحيح أن بعض الوثائق مسلٍّ للقراءة كما قال أحد الساسة الغربيين، وأنها قد تساعد على فهم طريقة تفكير القادة، أو بعض الساسة، لكنها ليست معلومات يمكن البناء عليها. لأنها - كما قالت الخارجية السنغافورية - عملية انتقاء (خاصة عندما يتم إخراجها من سياقها) سوف تؤدي فقط لحالة من الارتباك، ولا تقدم صورة كاملة.
ومن يقرأ الرسائل يشعر وكأن بعض الدبلوماسيين يبدأ يومه بقراءة صحيفة الـ«صن» البريطانية المتخصصة في فضائح المشاهير والنميمة في المجتمع البريطاني. فبعض الوثائق تتحدث وبإسهاب لافت عن حفل زفاف لتاجر بترول في إحدى دول الغرب، وعن الراقصة وكيف تقوم بالرقص، وعن المشروبات الكحولية، والأطعمة، والملابس، وكأن القارئ أمام نميمة مقاه، وليس رسالة دبلوماسية. والأنكى من كل ذلك هو الألفاظ المستخدمة في وصف الزعماء، إذ انحطت إلى مستوى غير مألوف.
ونحن هنا لا نتحدث عن مثالية، ففي حال مقارنة الوثائق الأميركية المسربة بالوثائق التي يفرج عنها في بريطانيا كل نحو ثلاثين عاما سنجد أن البرقية البريطانية، في الغالب، لا تتجاوز الأربعة أسطر، لكنها مكتوبة بلغة موجزة، ودبلوماسية، تلخص الحالة، دون إسفاف، أو بذاءة، بينما نجد أن الوثائق الأميركية تعبر عن لغة هابطة، وتعابير لا مكان لها في القاموس الدبلوماسي.
موجز القول أن الوثائق تكشف عن أن الدبلوماسية تعاني من أزمة تردٍ في مستوى بعض الدبلوماسيين أنفسهم،
ويبدو أن الدبلوماسيين لن يستمروا في الاستمتاع بالمكانة الاجتماعية التي كانوا يتبوأونها، حيث كان ينظر لهم على أنهم النخبة، أو الصفوة، ويبدو أنهم سيتحولون اليوم إلى مادة كوميدية دسمة في البرامج التلفزيونية في الغرب، والأهم من كل ذلك في أعين عامة الناس. فمن الواضح اليوم أن الدبلوماسية مثلها مثل مجالات أخرى تعاني من تدني المستوى التعليمي والثقافي.
وبحسب أحد المتخصصين - وهو مسوؤل رفيع سابق - فإن فن الدبلوماسية نفسه يعاني أصلا، واليوم جاءت الوثائق لتزيد من واقعه صعوبة. فعلا لقد اهتزت الصورة كثيرا.
tariq@asharqalawsat.com