لا يكاد يمضي يوم منذ ستة أشهر إلا وتظهر في وسائل الاتصال الألمانية؛ المرئية أو المسموعة أو المكتوبة، تعليقات على أحداث وتصريحات تتعلق بالإسلام في ألمانيا أو أوروبا. وقد بدأ النقاش بكتاب لساراتسين، أحد الموظفين الكبار في البنك الألماني، تحدث فيه عن الأخطار التي تهدد «التفوق الألماني» في الحاضر والعقود المقبلة. ووجهة نظره أن الأخطار تكمن في عدم إقبال الشباب الألمان على التعليم التقني والمالي والإداري، مما يبقيهم بدائيين أو لا يساعد على تفوقهم. أما الخطر الآخر، فيتمثل في تكاثر المسلمين بالبلاد من الأتراك والعرب، الذين صار عددهم يفوق 4 ملايين. والمشكلة مع المسلمين بحسب ساراتسين أنهم يأتون من أعراق بدائية، وأن الدين الإسلامي يملك نظاما اعتقاديا وحياتيا لا يشجع الحرية ولا يحث على التفوق والعيش بحسب القانون. وهاجت سائر الأطراف وماجت، وكثر الشاجبون وقل المادحون. لكن الكتاب كان خلال ذلك يبيع مئات آلاف النسخ. وفصل الرجل من عمله في البنك الألماني، فلم يأبه، وصار نجما تلفزيونيا وأحد كبار «المثقفين» الألمان الذين يدعون للاحتفاء والمحاضرة عن «الوضع الألماني» والأخطار التي تتهدد الوجود والرفاهية بالبلاد. وجاءت مناسبة إعادة توحيد ألمانيا فتحدث رئيس الدولة كما في كل عام، ووجد نفسه مضطرا للخوض في موضوع مواطني الدولة من المسلمين. ومع أنه كان شديد الحذر؛ فإن تصريحاته أثارت من الاختلافات أكثر مما أثاره كتاب ساراتسين. فقد ذكر الرئيس فولف أن التاريخ الثقافي والديني لألمانيا هو تاريخ يهودي - مسيحي، لكن الإسلام هو أيضا جزء من حاضر ألمانيا وثقافتها، لأن المجتمع الألماني مجتمع تعددي، والتعدد لا ينفي الوحدة والاندماج. وهكذا، فقد كان هناك من احتج على تشبيه الإسلام باليهودية والمسيحية. وهناك من احتج على القول بتحقق الاندماج على الرغم من أن المسلمين غير مندمجين. وهناك بالطبع من دافع عن الوجود الإسلامي في ألمانيا؛ فالمسلمون مواطنون مثل غيرهم يحميهم القانون، لكن يكون عليهم أن يدخلوا في «نظام الحياة» بألمانيا والغرب، ويسلموا بالحريات الدينية. ويقصد هؤلاء بذلك أو بـ«نظام الحياة» أن لا ترتدي النساء الحجاب، ولا يطلق الرجال لحاهم، وأن لا يقيموا في أحياء خاصة، وأن لا يكثروا من بناء المساجد والمآذن، وأن يتقبلوا النقد وأن لا يعتبروه مساسا بدينهم وشرفهم، وأن لا يرغموا بناتهم على نهج معين في التربية والزواج.
الملاحظ أن ذوي البشاشة مع الإسلام في النقاش كانوا من بين المختصين بالدراسات الإسلامية والدراسات الشرق أوسطية، ومن أعضاء الأحزاب اليسارية والليبرالية والحزب الديمقراطي الاشتراكي، بينما كان الذين اختلفوا مع الرئيس الألماني هم في الأكثر من الأحزاب الديمقراطية المسيحية واليمين. وما تدخل رجال الكنائس في النقاش، لكنهم كانوا أقرب لوجهة نظر المسلمين. والمفاجئ أن المستشارة الألمانية (وهي من الحزب الديمقراطي المسيحي) تدخلت في النقاش بالرد على الرئيس الألماني قائلة إن الاندماج فشل! وكانت تشير بذلك إلى تمايز المسلمين باللباس وأساليب العيش.
والواقع أن المسلمين كثيرو العدد على الخصوص في فرنسا (6 ملايين) وألمانيا (4 - 5 ملايين)، لكن المسلمين سواء كثر عددهم أو قل صاروا «مشكلة» في القارة الأوروبية كلها؛ خاصة دول غرب أوروبا ووسطها حيث يتكاثف وجود الجاليات الإسلامية التي دفعتها الظروف الأفضل في الحياة هناك للهجرة قبل جيلين، ولا تزال ترغب في البقاء، كما يرغب مسلمون عرب وآسيويون وأفارقة في الهجرة إلى البلدان ذاتها التي تشكو من وجود المسلمين فيها. فكيف نفهم الدعاوى من الطرفين أو الأطراف؟ وهل للإسلام في أوروبا وأميركا مستقبل؟
إن الذي يتأمل المشهد الآن، يلاحظ أن المسلمين يواجهون تحديات جمة في أوروبا. وقد ازدادت القوانين قسوة بحيث ما عاد دخول المسلمين الجدد إلى أوروبا سهلا، فضلا عن تجنيسهم. إنما يبلغ عدد المسلمين في أوروبا نحو الـ30 مليونا، من أصل نحو الـ400 مليون أوروبي. فهم من الكثرة بحيث لا يمكن إلغاؤهم، وهم من القلة بحيث لا يشكلون خطرا على الهوية. وليس في الوسع بالفعل تفهم أسباب توجس الألمان أو الفرنسيين أو البلجيك أو الهولنديين من الإسلام، لأن هؤلاء يذكرون مسائل ثقافية غير محددة، ولا يذكرون أعدادا أو جرائم أو أخطارا على أعمال الأوروبيين. فالزمن زمن الثقافة أو وعيها، وليس زمن الاقتصاد، على الرغم من الأزمة المالية العالمية. وإلا فقولوا لنا لماذا يصوت السويسريون ضد بناء المآذن على الرغم من أن فلوس العرب والمسلمين عندهم تبقيهم على الدرجة العليا من الرفاه والازدهار؟! فالخوف ليس على وجود المسلمين أو على مستقبلهم البشري، وإنما هو على فعاليتهم وانتمائهم وقدرتهم على الشراكة. وها هم الأوروبيون يتهربون من الاستجابة لمساعي تركيا للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، وهم لا يعطون سببا لذلك، بينما تتحدث العامة عن ضخامة عدد الأتراك، ويتحدث الاقتصاديون عن التأثير التركي بسبب النهوض الاقتصادي الذي تشهده تركيا منذ سنوات.
فالذي أقصده أن المسلمين الموجودين في شوارع أوروبا بلحاهم الكثة وبحجاب ونقاب النساء، وبالمآذن والمساجد، ليسوا موجودين في الحياة الثقافية أو الحياة السياسية. فليس في أوروبا كلها خمسة نواب من المسلمين أو وزيران على سبيل المثال، ثم أين هم مديرو الشركات والمتقدمون في المناصب الجامعية؟ لقد صرنا نرى عربا يأتون مع الشركات الأوروبية والأميركية إلى العالم العربي، لكنهم في كثير من الأحيان لا يزيد دورهم عن الترجمة، ونادرا ما نجد أحدهم في منصب بارز أو قيادي. وهذا هو معنى الشراكة الذي أقصده، أي أن يفرض المسلمون أنفسهم بالكفاءة وبالتقدم وبالمبادرة. ويستند ذلك إلى التعليم المتقدم الذي يعني التمكين والإقدار. وقد رأيت شبانا بارزين في أوروبا والولايات المتحدة؛ إنما في اللوبيات والجمعيات الإسلامية. والوزيرتان اللتان أتى بهما ساركوزي، ليستا ظاهرتين، لأن المقصود كان المصانعة والاصطناع، ولذلك سرعان ما اختفتا. ولا أعرف شخصية إسلامية تركية بارزة في أوروبا؛ بل إنني لا أستطيع أن أذكر في السنوات العشر الماضية غير طارق رمضان، والبوسنة ووضعها ومستقبلها الموعود. فطارق رمضان يدعو منذ عقدين لإسلام أوروبي، وقد لقي بداية تحديات من جانب غير العقلاء من المسلمين، لكنه منذ مدة وبسبب جدية دعوته وفكره، يتواجه مع راديكاليي الأوروبيين، ومن بينهم الرئيس ساركوزي. فعندما يسمع أحدنا المستشارة ميركل تشكو من عدم اندماج المسلمين، نحسب أن ذلك مطلب أوروبي، وأن المسلمين هم الذين يأبونه أو يخيبون التوقعات بشأنه، بينما الواقع أن اليمين الأوروبي هو الذي لا يريد اندماج المسلمين، لأنه لا يريد أن يصبح الإسلام عضوا أصيلا مشاركا في المجتمع والثقافة والسياسة.. والبوسنة وكوسوفا وألبانيا والمسلمون في شتى أنحاء البلقان، يوشكون أن يصبحوا ظاهرة غلابة من حيث الظهور والاستتباب. إنما المطلوب اكتساب القدرة على الفعالية والمشاركة؛ فللإسلام في أوروبا مستقبل، وهو رهن ليس برضا اليمين، بل بالوجود الهادئ والقوي والفاعل والمنتج.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=597905&issueno=11693