مسجد سيدي العوام – حوار– ضد البحر
يواجه مسجد سيدي العوام البحر متحديا , يقول العامة أن صاحب المقام جاء إلي البلد داخلا من البحر طافيا فوق كتلة من الخشب وقيل أيضا أنه جاء ماشيا علي ماء البحر , قلت لنفسي : المهم أن الروايتين تتفقان في أنه جاء من البحر , وفكرت أن أولئك الأولياء لابد أن تكون لهم علاقة ما بالبحر , ففي الشرق من حيث أتيت يواجه مسجد سيدي أبي العباس المرسي البحر ووراءه يقبع مسجدا تلميذيه سيدي ياقوت العرش وسيدي البوصيري , وعلي الجانب الآخر من المدينة يقع مسجد سيدي بشر أمام البحر وفي المنتصف يقع مسجد سيدي جابر ولكن للداخل قليلا وإن كنت أشك أن المكان الذي بينه وبين البحر كان مأهولا علي أيامه .
يقع مسجد سيدي العوام في أعلي نقطة والطريق الممتد أمامه والذي يفصله عن البحر ينحدر هابطا من الجهتين , من الجهة الغربية في اتجاه البوسيت ومن الجهة الشرقية إلي شاطئ المحافظة , البناء تشغله كتل غير عادية يحس منها الداخل بصلابة المكان وقوته , ولكني عندما تواجهت بالبناء كان خيالي مشغولا بهذا المجهول الذي يرقد تحته ومدي الصلابة التي في داخله ليواجه البحر كل تلك السنين وبكل تقلباته خلال الفصول الأربعة .
كان الوقت خريفا , وكان كل شئ مفقودا في هذا اليوم , الجريدة والسكر ومن يؤنس وحدتي , صحوت مبكرا وفي طريقي إلي العمل وجدتني أسير في شارع الإسكندرية وحدي تقريبا , سألت عن الجريدة لدي البائع , لم تصل بعد , دخلت مكتبي , لا قهوة , لا يوجد سكر , غادرت إلي الأجلون , لا أحد غير النادل يدخن ( الشيشة ) في أحد الأركان وكل زجاج النوافذ مغلق , قام في صمت ليعد قهوتي , من خلال الزجاج رأيتها شبه حائرة تلتفت يمنة ويسري كأنها مندهشة من تلك المدينة الخالية , ثم وكأنها وجدت بغيتها وجدتها تدفع الباب الزجاجي فتعوي ريح خفيفة كأنها صوت جرو والنادل يشير لها أن تغلق الباب , جلست في أحد الأركان ووضعت حقيبتها الكبيرة وحافظة أورق علي الطاولة , ترتدي ( تنورة ) صفراء طويلة فضفاضة وصديري أصفر من الصوف المشغول وتغطي عنقها ( بشال ) صوفي أصفر أيضا يتهدل علي كتفيها وصدرها , طويلة, شقراء , بيضاوية الوجه , زرقاء العينين , رمقتني بهما حالما دخلت فرأيت مدي صفاء الأزرق فيهما , بعدما جاء النادل بقهوتي اتجه إليها فحجبها عني , سمعت صوتها يرطن بإنجليزية تسأل عن مسجد سيدي العوام ولا أري غير يديها تلوح بهما , التفت اليّ وسألني عن طلبها : قلت له : تسأل عن مسجد سيدي العوام , قال ضاحكا : وماذا تشرب ؟, انتبهت أنني الترجمان الوحيد هنا عندما سألتها عن مشروبها , أجابت قهوة , سألتها : فرنسية ؟ , فلم ترد علي ّ , أشعلت سيجارة وتشاغلت بالنظر للطريق , عندما عاد لها بقهوتها عادت تسأله عن الطريق إلي مسجد سيدي العوام ,التفت إليّ , رأيتها تنتظر إجابتي , فأخذت نفسا عميقا من سيجارتي ونفثته تجاهها وعدت للنظر للخارج , سمعت صوتها الذي انتظرته يقول بعد قليل : إيطالية , التفتت إليها مبتسما فوجدتها تبتسم , قلت في نفسي : جاء من يؤنس وحدتك في هذا الخريف الثقيل .
عندما وصلت عصرا لمسجد سيدي العوام وجدتها قد سبقتني في الحضور , تجلس علي سور كورنيش البحر و تسند ورقة بيضاء علي حافظة أوراقها وبالقلم الرصاص ترسم واجهة المسجد وقد شع أصفرها علي المكان , كنت قد عرفتها المكان سابقا وعدنا( بالكاروزة ) إلي فندقها الذي تملكه سيدة , مانع الخدم في صعودي لغرفتها فجلسنا في البهو حتي وصلت صاحبة الفندق والتي انقبضت لمرآي وقالت فور دخولها : ها أنت تري بنفسك سوء الأحوال في غير الصيف , الإشغال صفر , أفهمتها أنني لم آت للعمل بل لأوصي علي السيدة فأشارت لعينيها وأذنت لي بالصعود معها , كانت ملابسها معلقة هنا وهناك كلها بدرجات الأصفر , راحت تجمع قصاصات بها رسومات من علي السرير والطاولة , قلت لها : مودلياني , اعترتها الدهشة , قلت لها : هل هذا النسخ لك , أجابت بالنفي ثم بعد تردد : لزوجي , هل تعرف مودلياني , قلت لها : نعم ولكن رسومه لا تعجبني , نظرت إلي ّ في مقت كأنني ارتكبت ذنبا لا يغتفر وقالت : مودلياني ! , عندما فهمت من إيقاع الكلمة أنها تنعتني بالجاهل اندفعت في سرعة أغمغم : عيون شخصياته المشوهة أو الممسوحة , تحطيمه لشكل الوجه , نساءه المتوحشات بالشعر في آباطهن , استمعت إليّ بتركيز : أنت لم تفهم موديلياني , رأيته من الخارج فقط , ثم بعد صمت , كما رأيت مسجد سيدي العوام , نفيت ذلك وقلت لها أنني مشغول بسره منذ وفدت علي البلدة , بدت غير مصدقة , ثم قالت : العين التي تدعوها بالمشوهة والمحطمة في ( البورتريه ) ليست عين الشخصية المرسومة إنها عين مودلياني , عينه التي رأي بها الشخصية التي يرسمها , ثم قالت في غضب : نساءه اللواتي تدعوهن بالمتوحشات لم يكن يرسمهن إلا بعد أن ينام معهن , ببساطة كان يرسم ما حدث أثناء اللقاء , هذا التوحد مع شخصياته التي كان يرسمها قل أن تجده عند مصور آخر , أخرجت من الحافظة ( بورتريه ) بقلم الفحم تكاد تكون فيه عارية وقالت: كما رآني زوجي بأسلوب مودلياني , ثم أخرجت مجموعة صور لأعمال مودلياني وبدأت تعرضها وبدأت أفهم ماذا يعني الأصفر بالنسبة لها عندما وجدته شاخصا في معظم الأعمال .
دخلنا معا مسجد سيدي العوام بعد صلاة العصر بعد أن لفت شعرها ( بإيشارب ) , راحت تتأمل المقام في تفحص وتدور بعينيها في المسجد البسيط , همست لها : أن علينا الخروج فهم غير معتادين علي مثل هذه الزيارات لأن المسجد ليس أثريا , كانت تستبقيني وهي تمسك بالورقة وتضع خطوطا عليها , عندما خرجنا رأيتها تتجه إلي الكورنيش وتعبر الحاجز وتسير علي الرمال وتتجه إلي البحر وأنا أتبعها مستغربا من عجلتها , وصلت لها وهي تكاد تلامس حافة الماء بقدميها , كانت تنظر في المدي البعيد للبحر المضطرب ثم عادت للكورنيش من جديد وجلست في مواجهة المسجد , لم تنطق بكلمة حتي الغروب رغم محاولاتي جرها للحديث .
في أحد الأيام وعلي الكورنيش وظهرنا للمسجد سألتها عن سبب زيارتها للبلد , قالت : إنها تبحث عن شخص ما , بل شخصين , رجل وطفل , هما غريبان , ربما يكونا قد أنسا لهذا المكان , أو ربما يكونا قد فقدا الذاكرة من هول ما رأياه , ثم سألتني بدورها : وأنت ؟ , قلت : أنني أبتغي العزلة إثر مأساة صغيرة مررت بها , سألتني : لماذا هذا المكان بالتحديد , أقصد أن تكون مدينة بحرية , قلت لها : هذا أبعد مكان يمكن أن يكون لي عمل به , أما البحر فقد سلبني أشياء كثيرة , أراها في أحلامي تتلألأ في أعماقه , وكنت أود أن أصفي حسابي معه علي مهل , ومع الوقت وجدت أن الأمر أكبر من أن أواجهه فهو قوي للغاية ويستعصي علي أية مواجهة , وأنت ؟ سألتها بدوري , قالت : أن حسابي معه بشكل آخر , هو سلبني مثلك ولكن صراعي معه لن ينتهي , أنني أريد أن أفهم , لماذا فعل بي ما فعله ؟ , وكيف أسترد منه ما سلبه ؟ , ما بداخله من صمت كثيف يستعصي عليّ حتي الآن , أشارت بيدها للوراء إلي المسجد , هل تظن أنه قد فهمه ؟ ضحكت , فقالت : أنا متأكدة أنه فهمه بعد أن روض سطحه و ذلل عمقه , وأتي إلي هنا ممتطيا ظهره , ثم أقام أمامه كل تلك السنين ليكون شاهدا علي هزيمته له .
في أول الليل سألت عنها في الفندق فوجدتها قد تركت رسالة أنها هناك , وجدتها علي الكورنيش أمام المسجد المغلق ساهمة , جلست بجوارها صامتا وأخذت أدخن , وبغتة قالت : ما الذي خطفه منك البحر , أعادني سؤالها للوراء كثيرا إلي ما كنت قد تجاوزته , وقلت : هاهي تفتح جروحي , قلت لها : أنني تعافيت الآن ولا داعي لجلب الأمر علي السطح مرة أخري و غمغمت : النسيان ومحاولة تقبل الأمور والرضي , ووجدتني مرغما أحكي وأحكي, قالت وكأنها تقرأ ما لم أقله : وإذا كان الجرح مفتوحا إلي الأبد , صمت و أنا أري في عينيها تشويه مودلياني للعيون , لقد اختطف مني زوجي وابني , قالتها وهي تنزع الكلمات نزعا , اعترتني الدهشة وهي تكمل خرجا يوما بزورق إلي البحر من خمس سنين ولم يعودا حتي الآن , التفت بوجهي إلي البحر حانقا وهي تكمل من خلف ظهري : أؤمن بأنهما مازالا يعيشان في مكان ما , عدت إليها وهي تقول : ليس في قاع البحر , في مكان ما , في مكان ما , وغلبتها الدموع فمددت يدي فأزاحتها وقالت : لا تلمسني ,إنني قوية , لو أعرف فقط كيف مشي هذا علي الماء وأشارت للمسجد , قلت ماضغا كلماتي : إنها خرافة يتناقلها العامة لا تصدقي ذلك , راحت تردد : كلا لقد مشي علي الماء , أنا واثقة أنه فعل ذلك , إذا تمكنت من هذه المعرفة فسوف أعرف طريقهما , فكرت أن أعيدها للفندق ولو بالقوة إذ شككت أنها احتست مشروبا قويا , كانت تكاد تهذي : أنت لا تفهم شيئا , استوقفت ( كاروزة ) مارة وطلبت منها الركوب فأبت وقالت : أنت علي الساحل , أنت لا تعرف شيئا , لا تعرف هذا المسجد الذي رأيته كثيرا , ولا تعرف مودلياني , ولا تعرف زوجي أو ابني , ولا تعرف أطفالك , ولا تعرف البحر , أنت لاتعرف أي شئ , أنت تتقبل الأمر الواقع وتحاول التجاوز والرضي , هذا استسلام سوف يرديك يوما ما , لو عرفت معني التحدي لفهمت مودلياني ولفهمت سيدك العوام , ثم انقلب لسانها إلي الإيطالية وهي تلوح في غضب وتكاد يدها تصل إلي وجهي , ثم عادت إلي الإنجليزية وقالت : ظننتك متحديا عندما نفثت الدخان في وجهي يوم التقينا ولكنك أجوف , أجوف هل تفهم , أنت أجوف , أنت لا شئ , أنت لاشئ , طأطأت رأسي وأنا أراها تعبرني مسرعة في طريقها إلي البحر .
لم أشأ لقائها بعد هذا الليل العاصف , وقبعت في الاستراحة لا أذهب إلي العمل , كان عليّ أن أحدد موقفي من نفسي مرة أخري علي ضوء الوضع الجديد , هل أظل في جرحي المفتوح دائما ؟ , هل أظل في مواجهة مع البحر إلي الأبد ؟ , أتأمل ( بورتريهات ) مودلياني في الكتيب الذي أعارته لي , وأروح بخيالي إلي مقام سيدي العوام , ولا أجد أية إجابة .
تحاملت علي نفسي ذات صباح وقررت زيارتها , كانت قد ذكرت لي أنها تصحو مبكرة وتقرأ وتكتب حتي الظهر , سألت عنها في الفندق فقالوا أنها غادرت بالأمس صباحا ولم تعد حتي الآن , سألت عن حقائبها , فقالوا : أنها تحمل أشيائها البسيطة في حقيبة صغيرة , سألت عن حسابها فقالوا أنه مسدد مقدما لآخر الأسبوع , تملكتني الحيرة وجلست في البهو أحاول تفسير أمر غيابها , قال عامل الفندق : لا تقلق لقد تركت لك رسالة وأمانة , فضضت الرسالة في سرعة , فوجدتها تشكرني علي احتمالي لها وتعتذر عن مغادرتها المفاجئة وفي نهاية الرسالة تقرر أن حيرتها قد انتهت لأنها عرفت طريقها , وأنني ربما أفهم ما حدث , لم استطع تفسير الجملة الأخيرة , فضضت اللفافة فوجدتها تحتوي علي بعض رسوم لزوجها لم تطلعني عليها من قبل لها ولابنها بأسلوب مودلياني , ورسوم أخري رسمتها هي بنفس الأسلوب, واحدة لمقام سيدي العوام ينتصب في العراء أمام البحر , وواحدة لرجل سمهري الطول يندمج في المقام العاري أيضا أمام البحر وهو يشير لشخص ما كأنه يدعوه للدخول في البحر , وصورة ثالثة لما تخيلته أنه سيدي العوام ماشيا علي الماء وخلفه ما يشع باللون الأصفر يمشي علي الماء أيضا , احتملت الأشياء وغادرت إلي الشاطئ قبالة المسجد وجعلت أحدق في المدي البعيد للبحر واجما , كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي عن مصيرها وعندما عدت إلي نفسي رأيت في العمق الشفاف علي مقربة مني ما بدا لي أنه ( شالها ) يتأرجح تحت الماء .
مرسي مطروح - نوفمبر 1994 - قبل الرحيل
The Sea
كوكو
يتبع
- هوامش وتأملات شتي -