(12-20-2010, 07:54 PM)ديك الجن كتب: 19 كانون الأول/ديسمبر
في مثل هذا اليوم من أوائل القرن العشرين الماضي ولد القديس جان جينيه لقيطا ومجرما بالفطرة... وبالولاء نفسه الذي يتوجه في القديس الى الفضيلة والطهارة توجه تدريجيا إلى ممارسة الشر والجريمة بشبق ونهم وإلتزام عقائدي قل مثيله في عالم الأدب والثقافة.
كلما كبرت ذنوبي في نظركم إزدادت حريتي
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تحولت حياة جينيه إلى ظاهرة إجتماعية، إلى نوع من الخرافة أو الأسطورة مما صعد ردود الأفعال النقدية عليها وبخاصة في فرنسا.
هو الذي بدأ بنشر يومياته على عكس العادة أراد أن يقدم أوراق إعتماده كممثل لكل المظلومين والمقهورين والمنبذين والمضطهدين في العالم
بعد أن تقيأ فرنسا
لقد أدركت وأنا طفل صغير انني لست فرنسيا، وانني لا أنتمي إلى القرية. وقد أدركت ذلك بطريقة ساذجة وغبية.
فقد طلب منا المعلم أن يكتب كل واحد منا موضوعا إنشائيا يصف فيه بيته. وحدث أن كان موضوعي هو الأفضل والأجمل بين كل المواضيع التي كتبت عن الموضوع المذكور. وقد قرأه المعلم بصوت عال وجميع التلاميذ سخروا مني قائلين: "لكن هذا البيت الذي يصفه ليس بيته. انه طفل لقيط" وعندئذ حدث فراغ رهيب لدى الطفل الموهوب، وفي تلك اللحظة بالذات كره فرنسا، وفي ما بعد سوف يقول إنه تقيأها!
تقيأها هاربا عبر البلاد متجها شرقا وجنوب فجاب القارة كلها مشردا معوزا متمردا حتى أنه جرب سجون القارة كلها من رومانيا حتى إسبانيا ليتطوع بعدها في العشرينات من عمره في الجيش ويرسل إلى لبنان وسوريا كجندي في 1930 ويمكث هناك في الأخير عاما كاملاً وشهراً
لكنه بعد فترة طبعاً يفر من الجيش حاملاً معه بعض الحقائب الخاصة بضباط زنوج! ليعود إلى الممالك السفلى، يقول في
يوميات لص:
المملكة النَّباتية هي أليفتي، أنظر إليها باحترام لا بشفقة، فهي أفراد عائلتي، وإذا ربطت نفسي بالممالك السفلى، فإن هبوطي هناك، كان لأجل الطحالب ونبات السرخس ومستنقعاته، وبعدا عن البشر…
يلتقي جان جينيه مع جان بول سارتر 1942 فيفتح أمامه عوالم الشهرة والأدب والفكر فيخرج هذا الشيطان الصغير من عالمه السفلي عالم الجريمة واللواط الذي يعتبره وساما على صدره إلى عالم الأضواء.. بعد أن يحكم عليه مدى الحياة لسرقاته المتعددة وعدم إمكانية إصلاحه كما جاء في نص الحكم يخرج بمساندة كبار كتاب فرنسا على رأسهم كوكتو وسارتر عام 1948 ليرتفع أعلى وأعلى خصوصاً بعد كتاب سارتر الضخم 700 صفحة: القديس جينيه ممثلا وشهيدا.. 1952وهو الذي أراد أن يكتب مقدمة لعمل جينيه فخرج بهذا المتن معتبرا جان جينيه قديس الوجودية ومثالها الأكمل...
ومنذ الستينيات يعش جينيه مرتاحاً من عائدات كتبه وتمثيل مسرحياته، ولكنه كان دائماً يرفض الاستقرار والعيش في مجتمع الطبقة الوسطى.. فقد كان لديه رغبة في التنقل حول العالم، بحقيبة صغيرة تحتوي على الألبسة الداخلية وجواريه، وهذا مقترن بخوفه المتزايد من كونه قد ردّ إليهإ إعتباره وفقد أهم عناصر تكوينه الشيطانية...
ثورة الطلاب 1968كان ضربة جعلته يصحح من خدر الرخاء الذي ألم به والشهرة التي انغمس بها فيعود غاطساً في عوالمه السابقة ولكن هذه المرة مع إلتزام سياسي إجتماعي ثوري مميز: يدعم جماعة بادر ماينهوف الألمانية اليسارية المتطرفة وينظـّر لها هي والألوية الحمراء... يسافر إلى الولايات المتحدة ويشترك مع منظمة الفهود السود الإرهابية ويصبح الناطق الرسمي لها... في أول أيار 1970 يلقي خطابا تحريضيا حادا ضد الحكومة الأمريكية في حرم جامعة بيل.. ليبعد بعدها ويعود فيلجأ إلى الثورة الفلسطينية ويرافقها في أحداث أيلول الأسود في جبال جرش وأم قيس شمال الأردن ويفرّ معها شمالاً نحو دمشق ثم بيروت ثم باريس...
ويستمر في نضاله الذي بلغ أعلى ذراه من أجل حقوق الشعب الفلسطيني وكلفه ذلك حقداً كبيراً إنصب عليه خاصة بعد وفاته حيث كان أول شخص غربي يدخل مخيمات صبرا وشاتيلا بعد المجزرة التي إرتكبها الإسرائيليون ليروي ما رآه من فظاعات في مقاله الطويل
أربع ساعات في شاتيلا وربما كانت كتابته بعيد خروجه من مخيم شاتيلا في أيلول1982 من أهم ما كتب عن المجزرة التي ارتكبت بحق الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين لاسيما أنها تمّت بعد رؤيته بأم العين لأبشع جرائم البشرية:
إذا نظرنا بانتباه إلى ميت فإن ظاهرة غريبة تلفت نظرنا فغياب الحياة في هذا الجسد يعادل الغياب الكلي لهذا الجسد ووسط جميع الضحايا التي تعرضت للتعذيب لا يستطيع ذهني أن يتخلص من تلك النظرة اللامرئية كيف كان شكل ممارِس التعذيب من هو إنني أراه ولا أراه إنه يفقأ عيني.... كم يلزم من الأمتار لتكفين مثل هذا العدد الكبير من الموتى وكم من الصلوات..
إن قاتلين قد أنجزوا العملية لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي في غالب الظن التي كانت تفتح الجماجم وتشرح الأفخاذ، وتبتر الأذرع والأيدي والأصابع وهي التي كانت تجر بواسطة حبال محتضرين معوقين رجالاً ونساءً كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
إن هذه الشهادة الشخصية نشرها جان جينيه في مجلة الدراسات الفلسطينية بالفرنسية ثم نشر نصها العربي في العدد السابع من مجلة الكرمل عام 1983 مبيناً مقدار الجريمة في أفعال الإسرائيليين والتي تفوق أي تصور جعلته ينتقل من الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام الملفقة إلى أخرى أكثر صدقاً لاسيما في ظل حساسيته الشعرية العالية في نقل مسرح تلك الجريمة البشعة بكل ما تحويه من سينوغرافيا خاصة بالموت بصيغته الجماعية... وهكذا عايش بين بيروت دمشق باريس القضية وحياة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات لشهور ومشاهدته لمعاناتهم هي ما دفعه لكتابة
الأسير العاشق عام 1986.. أهم وثيقة تاريخية لمسيرة الثورة الفلسطينية قبل موته في العام ذاته..