{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
هاله غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,810
الانضمام: Jun 2006
مشاركة: #8
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
الجزء التالي من المقابلة

[ و أنا أصغي اليه شعرت أني أنفذ , و لو على نحو غامض الى واحد من التناقضات الأساسية في وضع جينيه. و لكي أوضح هذا الشعور كنت بحاجة الى الكثير من التركيز و الى تنسيق أفكار مشتتة كانت تخطر دائما في ذهني كلما قرأت واحدا من أعماله. تذكرت استنتاجا قديما بأن جينيه "مخاتل" بارع. و كان قد بلور هذا الاستنتاج في رأسي أحد مقاطع روايته "نوتردام الورود" .. يقول:

"عالم الأحياء ليس نائيا جدا عني و لذا فاني أبعده قدر ما أستطيع و بكل الوسائل المتوفرة لدي. بهذا الجهد يتراجع العالم حتى يغدو مجرد نقطة ذهبية في سماء مظلمة. و تنفغر بين هذا العالم و عالمنا -عالم السجن- هوة هي من الاتساع بحيث لا يبقى أبدا ما هو حقيقي الا قبرنا. حينئذ أبدأ في هذا القبر وجود ميت حقيقي. و باصرار متزايد أقطع و أحذف من هذا الوجود كل الأفعال و لا سيما الصغيرة جدا التي يمكن أن تذكرني و بسرعة أن عالم الأحياء يتحدد على بعد عشرين مترا من هنا , تماما خلف جدران السجن. أولا أنحي من اهتماماتي تلك التي يمكن أن تذكرني أفضل من سواها أنها كانت ضرورية للمشاغل الحياتية المعتادة. فمثلا أن أعقد رباط حذائي, يذكرني كثيرا أني كنت أفعل ذلك في العالم الآخر كي لا ينحل حين أجتاز عدة كيلومترات سيرا على الأقدام. كذلك لن أزرر بنطلوني لأن هذا الفعل يجبرني على أن أرى نفسي من جديد في مرآتي (..) و لا ينبغي أن يقتصر التحول على شكل الاهتمامات و انما على جوهرها. يجب ألا أفعل ما هو نظيف أو صحي. لأن النظافة و الأمور الصحية لصيقة بالعالم الأرضي. يجب ان أتغذى من حذر المحاكم. أن أتغذى من الحلم. لا أريد أن أكون جميلا: بل أن أكون شيئا آخر. أن أستعمل لغة أخرى. و أن اؤمن جديا اني سجين الى الأبد".

في هذا المقطع يتحدث جينيه عن نفسه دون اي مواربة روائية. هو يتخذ قراره باصرار و اخلاص لا يتركان مجالا للشك في صدق عزيمته. و لكن هل هو صادق فعلا؟ أمام هذا السؤال تبرز "مخاتلة" جينيه الكاتب. انه يخاتل نفسه و يخاتلنا في آن واحد. فاذا كان قد قرر أن يبتر صلته مع عالم الأحياء و أن يعيش ميتا حقيقيا في قبر أو في السجن فان الامتداد الطبيعي لمثل هذا القرار يجب أن يكون الصمت المطلق. لكن جينيه يتكلم. انه يعلن قراره بصوت مرتفع. و هذا الاعلان موجه بالضبط الى العالم الذي يريد أن يمزق كل صلة تربطه به. و اذن .. فانه يعود فيتواصل معه عبر الكلمات. و بالكلمات يتجاوز القرار دلالته العملية ليتحول, كما قلت سابقا, دلالة شعرية أو أدبية, بالكلمات أيضا ينشق كما التمزق تناقض مدوخ ليس سهلا تخطيه. و جينيه نفسه يقول في مقطع آخر من الرواية: "ينبغي أن أكذب لأكون صادقا, بل و أمضي ابعد من ذلك. عن أية حقيقة أريد أن أتحدث؟ اذا كان حقيقيا أني سجين يلعب -أو يتلاعب ب- مشاهد من حياته الداخلية فلا تطلبوا اذن أي شئ آخر سوى اللعب" .. أما في رواية "الموكب الجنائزي" فانه يصرخ: "هذا الكتاب حقيقي, و هو أيضا دعابة كاذبة".
]

بعد فترة صمت حاولت خلالها أن أستجمع أفكاري .. قلت:

- لآ أدري .. يبدو لي أن المسألة ليست بهذه البساطة. لا يراودني اي شك في أنك كنت تكتب لمتعتك الشخصية و أن العالم الخارجي لم يكن يعنيك الا بمقدار ما تهينه أو تزدريه, و لكن مع هذا فان القضية تنطوي على اشكال شبيه بالفخ. ان كل كتابة , اعني طبعا الكتابة التي تنشر أو تذاع هي مباشرة حوار مع العالم الخارجي .. و حتى لو كان المضمون الجوهري لهذه الكتابة هو رفض العالم و تمزيق امكانية محاورته فانها في التحليل الأخير ليست الا حوارا معه. ربما كان حوارا شرسا لكنه حوار على أية حال. لهذا افكر أنك حين بدأت الكتابة انزلقت و لو على كره منك الى عملية تواطؤ مزدوجة. فمن جهة أنت تواطأت مع هذا العالم الذي تعاديه لأنك قررت العبور اليه و لو على جسر من الكراهية و الاحتقار, و هو كذلك تواطأ معك اذ قبل كراهيتك و احتقارك و احتضن عبورك اليه مستجيبا للحوار.

كان يصغي باهتمام و على وجهه يرين هدوء و ديع. لا يبدو أني أثرت اعتراضا لم يكن يتوقعه. أجاب ببطء:

- لهذا لا أريد أن تكون لي صلة بأعمالي. أو بالأحرى لم تعد لي صلة بها. أن ما تسميه تواطؤا و هو شرط كل كاتب غربي كان يؤرقني منذ البداية. كتبت فعلا من أجل متعتي الشخصية. و لكن تدريجيا يجد المرء نفسه يدخل في اللعبة و يصبح جزءا منهل, ثم يصبح شاقا أن يتحرر من شباكها. أعطوني مكانا و دخلا. و ها أنذا لا أفعل شيئا من ثلاثين سنة الا محاولة الفرار من هذا المكان و الانفاق من هذا الدخل. عذبتني هذه المسألة كثيرا و لا تزال تعذبني. (أشعل سيجارا من سيجار) هل تعرف لماذا بدأت دار غاليمار تصدر أعمالي الكاملة في عام 1951 أي بعد تسع سنوات فقط من بدايتي الكتابة؟
- هل هناك سبب معين؟
- طبعا. في تلك السنة قررت نهائيا التوقف عن الكتابة. و لهذا بدأت دار غاليمار نشر أعمالي الكاملة.
- أكان هذا القرار لأنك استنفذت "المتعة الشخصية" أم للخلاص من وضع متناقض؟
فكر لحظة ثم أجلب بما يشبه الخفة:
- شعرت أنه لم يعد لدي ما أقوله لنفسي .. و بالتالي لم تعد لدي لا الحاجة و لا الامكانية لقول اي شئ .. (غامت عيناه في تأمل عميق ثم التفت نحوي بحيوية). ساقول لك شيئا. يستحيل على أي كاتب غربي أن ينجو من عملية "احتواء" النظام القائم لأدبه. و كثيرا ما أفكر أنه ما كان ينبغي أن أكتب أبدا.

[" قال هذه الجملة الأخيرة و كأنه يتنهد. في وضع جينيه يبدو التمزق كالجرح الغائر. و هو ينوس موجوعا و نازفا بين الرفض - الفعل و بين الرفض - الكلمة, يقول: "في معظم الأحيان تضايقني الكتابة. يضايقني أن أكتب, و قبل ذلك أن أصل الى حيازة تلك النعمة التي هي ضرب من الخفة و الانسلاخ عن الأرض و عما هو صلب أو عما يسمى عادة الواقع. أن الكتابة تفرض علي نوعا من الاختلال في وضعيتي, في الحركات , و حتى في الكلمات. أما السرقة و العيش بين اللصوص فانهما يفرضان حضور الجسد و الذهن العملي. هذا الحضور الذي يتمثل في الحركات الموجزة, المحسوبة, الرزينة, الضرورية, العملية. لذلك اذا أبديت بين اللصوص تلك الخفة و انتظار ملاك الالهام و الحركات التي تناديه و تريد ترويضه فانهم لن يعاملوني بأية جدية. و اذا أخضعت نفسي لحركاتهم و كلماتهم الوجيزة الدقيقة فاني لن أكتب شيئا بعد. اذن يجب أن أختار .. أو أن أتناوب.. أو أن أصمت". . طبعا للسرقة هنا الى جانب معناها الحقيقي دلالة رمزية أبعد. انها فعل الرفض أو الفعل الصدامي مع المجتمع القائم. و النوسان أو "التناوب" على حد تعبيره بين الرفض -الكلمة, و الرفض - الفعل استمر فترة غير قصيرة بعد أن أصبح جينيه كاتبا معروفا. و يخيل الي أنه في كل مرة كان يحس فيها بهيولية عمله ككاتب كان ينبثق في أعماقه حنين دافق للعودة الى اللص. أي الى التحدي العملي. لقد بدأ الكتابة في السجن عام 1942 و لكن في عام 1948 أي بعد أن أصدر كل رواياته و مسرحيتي "الخادمات" و "رقابة مشددة" وجد نفسه مرة أخرى في السجن يهدده حكم بالمؤبد. يومها توسط لدى رئيس الجمهورية "اوريول" لفيف من الكتاب و على رأسهم سارتر فأصدر عفوا عنه. و بعد هذا التاريخ ودع جينيه اللص و لم يبق أمامه الا أن ينوس بين الكتابة و الصمت أو يتجاوزهما الى عمل جديد .."]

استطرد و كان يتابع الفكرة نفسها:

- ان أفضل أيامي هي تلك التي تركت فيها الكتابة بحثا عن الفعالية الحية و اليومية. في حياتي ما يشبه جزيرتين يهمرهما الهدوء و التاغم. هما بالذات الفترتان اللتان قضيتهما مع الفدائيين الفلسطينيين في قواعدهم و مع الفهود السود. كان ذلك رائعا بالنسبة لي . كنت أشعر بالوضوح و بأنني افعل ما يجب فعله. ثم بدأ يروي لي عن زيارته لقواعد المقاومة و الأيام التي قضاها مع الفدائيين. كان صوته ينبض بالحماسة و ملامح وجهه تتفتح كشراع ملون. كان يبدو جليا أن عمله مع المقومة يحقق له انسجاما داخليا مبهجا.

سألته بعد أن روى الكثير من الذكريات و الأحداث:

-ما الذي دفعك لمساندة المقاومة و تبني قضيتها؟ أجابني بلهجة حاسمة و دون اي خبث:
-لأنني عرقي.
-عرقي! (تساءلت مندهشا لا سيما و ان كلمة "عرقي" هي أسوأ شتيمة في أوربا. كما أنها دائما سلاح الصهيونية لمحاربتنا و تشويه سمعتنا. اضافة الى أنها سلاحها الفعال للابتزار السياسي منذ نشأتها).
- نعم أنا عرقي ضد البيض. أو بكلمة أدق ضد العرق الأوروبي و لهذا فمن الطبيعي أن أكون مع كل العروق الأخرى المضطهدة. (فيما بعد سنعود لمناقشة هذه النقطة في سياق آخر و بشكل أعمق .. تركته يتابع) ثم أني أحس دائما و ساستعمل هنا تعبيرا قد يبدو لك غريبا, أحس جسديا أني مع المنبوذين و المضطهدين. و حين يفجرون تمردهم أو ثورتهم اشعر أني أنضم اليهم حسيا ثم عقليا فيما بعد.
- هل يعني هذا أن عدالة القضية الفلسطينية بذاتها ليست هي التي تحدد موقفك؟
- اسمع .. ما ينبغي و ما اعتقدت أن علي دائما أن أفعله هو تدمير الغرب و حضارته. لذلك فاني لا أستطيع الا أن أكون مع الحركات التي تحارب الغرب و تحاول زعزعته. ان اسرائيل هي أوربا .. هي الغرب مزروعا في بلادكم. و لهذا فان عدالة القضية في حالة المقاومة الفلسطينية هي بالنسبة لي بداهة.

بعناد عدت ألح على السؤال الذي بدأنا به الحديث:

- ما دمنا نتحدث عن عدالة القضية الفلسطينية فاني سأعود الى مسألة الكتابة. رغم كل ما قلته فاني ما زلت مقتنعا بأنه مفيد كثيرا أن تكتب عددا من المقالات عن المقاومة و عن عدالة قضيتها.

مرة ثانية انسدلت على عينيه تلك الغشاوة الاسيانة. أجاب:
- قلت لك, لن يأخذني أحد على محمل الجد.
-لماذا؟
- لسبب بسيط. لقد كنت دائما ضد اي نظام. و لهذا لن أنجح الآن في اقناع القراء حين أدافع عن قيام نظام مهما كان نوعه.

و دفعني بهذه الاجابة من جديد الى دوامة تناقضاته.

ص 19

يتبع
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-27-2010, 03:32 AM بواسطة نادي الفكر العربي.)
12-24-2010, 11:47 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته - بواسطة هاله - 12-24-2010, 11:47 AM

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 4 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS