بل أنا من يشكركم و عام سعيد للجميع .. و نواصل الحوار الرائع
-٢-
كنا نسير بين الأعمدة الضخمة التي تحمل شريط االمترو قرب محطة "الموت-بيكي"، وكان صليل عجلات المترو يسفعنا بين حين وآخر، كموجة متطاولة من الارتجاج والصخب. كان جينيه يروي أنه أمضى فترة من خدمته العسكرية في دمشق إبان الانتداب الفرنسي على سورية، وأنه منذ ذلك الوقت، وهو يحب العرب ويحن إلى تلك المدينة. سفعتنا موجة جديدة من الصليل، فتقلص وجهي بصورة لا إرادية، وعندما تخافتت الضجة مبتعدة، باغتني بسؤال:
- لماذا جئت إلى فرنسا؟
لا يرمي السؤال إلى مجرد الاستفسار، فهو يعلم أني جئت للقيام بدورة تدريبية في أحد المسارح، وهو نفسه كان قد ساعدني في تخطي بعض الصعوبات الإدارية. ترددت لحظات، ثم قلت:
- الدورة التدريبية ذاتها لا تعنيني كثيرا. لكنها تتيح لي الفرصة كي أطالع وأتعلم.
- لا يمكن أن تتعلم أي شيء هنا.
سألته ماذا يعني، فتوقف وواجهني بعبوسه الحزين قائلا:
- اسمع، إن الحضارة الأوروبية تمت وانتهت. إنها الآن في طور الاحتضار أو الموت. فماذا يمكن أن تتعلموا من حضارة تحتضر أو تموت؟!
لم يفاجئني هذا الحكم القاطع. فأنا أعلم أن جينيه ينظر إلى الحضارة الأوروبية نظرته إلى جثة تتفسخ. ولكن السؤال هو كيف يمكن أن يفيدنا هذا الحكم في حل إشكالية علاقتنا بالغرب. حاولت أن أستوضح:
- بالنسبة لك من السهل أن تقول ذلك. أما بالنسبة لنا فإن الأمر مختلف. إن هذه الحضارة التي تقول إنها تمت وانتهت ما زالت تملك القوة التي تمكنها من هدم استقلالنا والهيمنة على مقدراتنا. ونحن لن نستطيع مقاومتها بكفاءة وفعالية ما لم نعرفها، ونتمثل علومها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى علينا أن نعترف موضوعيا بأن هذه الحضارة قد أحرزت خلال القرنين الأخيرين مخزنا هائلا من المعارف والعلوم هو الذي أتاح لها تقدمها وسيطرتها. وأنا أعتقد، أننا معوزون لكي نبني تقدمنا الخاص إلى استيعاب هذه المعارف، واقتباسها بما يتلاءم وظروفنا التاريخية.
- ولكن الاقتباس كالترجمة سواء بسواء.
لم أفهم مغزى ملاحظته، ولكني أحسست نفورا حيال كلمة ترجمة، فسارعت أضيف:
- لا.. لا أقصد أن ننسخ الحضارة الأوروبية، بل أن نتمثل معارفها كي ننقدها ونقاومها، وبالتالي كي ننجز تقدمنا المستقل.
- وهذا يقتضي أن تترجموا هذه المعارف؟
- إذا شئت.
عندئذ ومضت عيناه، وكأنهما تعكسان ألقا ذهنيا شديد الصفاء. وبدأ يتكلم ببطء موحيا بأن أفكاره تتوالد تدريجيا، وفي تلك اللحظات بالذات:
- هل تعلم أن لكلمتي "ترجمة" Traduction، و"خيانة" Trahison جذرا مشتركا في اللغة الفرنسية؛ وعلى المستوى الحضاري، فإني أعتقد أن كل "ترجمة" تنظوي بشكل ما على "خيانة". سأحاول أن أوضح فكرتي بالعودة إلى مثل معروف في التاريخ، لقد ترجم القرآن أول مرة إلى اللاتينية، عام ١١٤٣م والذي أنجز ترجمته هو واحد من فريق التراجمة الذي شكله "بيير الموقر" لنقل أصول الدين الإسلامي. لقد كان الهدف المعلن لتشكيل هذا الفريق في إسبانيا هو تزويد المقاتلين الصليبيين بمعرفة دقيقة عن عدوهم، ومحاربة الهرطقات التي تهدد الكنيسة. ولكن كنت دائما أتساءل هل كان هذا هو دافع "بيير الموقر" الحقيقي؟ لا أعتقد. فهذا الدافع المعلن لا يكاد يستر دافعا آخر أعمق، هو باختصار افتتانه الخفي بالإسلام. لقد كان مدفوعا بغواية باطنية نحو الدين-العدو، وإني أتساءل إذا لم تؤد ترجمة القرآن، وهي تصوغ وتكشف ذلك الافتتان، إلى هدم المسيحية ولو جزئيا: [
فيما بعد قرأت دراسة لمكسيم رودينسون عنوانها "الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية"، وفيها يتطرق إلى مشروع بيير الموقر، ويحاول أن يوضح الأسباب التي تكمن خلف مشروعه، يقول رودينسون في هذا المقال: "ويلتقى تيار الاهتمام الفكري بالإرث العلمي الإسلامي، مع تيار حب الاستطلاع الذي ساد على المستوى الشعبي، يلتقي التياران في ذلك الجهد المرموق الذي قام به بيير الموقر رئيس رهبان كلومي (١٠٩٤ - ١١٥٦) من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الدين الإسلامي، ونقل هذه المعرفة لأوروبا. ويمكن أن نتبين عدة أسباب لهذا المشروع الذي يدعو إلى الدهشة. "وما يهمنا هنا هو السبب الأخير الذي يذكره رودينسون بعد عدة أسباب أخرى، إذ يقول: "ولعل ما كان يدفعه، وبصورة لاشعورية، هو فضول متجرد كان يخجل منه، فكان يخفيه حتى عن نفسه"] وكانت أفكار جينيه ما تزال تتوالد:
- أنت قلت أنك تريد ترجمة أو اقتباس معارف الغرب لكي تنقده وتقاومه لكن ما الذي يضمن لك نجاح خطتك؛ إن الاقتباس هنا غالبا ما يؤدي، وفي غفلة منا، إلى الافتتان بالآخر. وبالتالي إلى محاولة تقليده، وفي أسوأ الحالات إلى التماهي معه. - ألا توجد فرصة للتعلم من الغرب دون الوقوع في فخ الافتتان به؟
- ليس وأنتم تعتقدون أن الغرب هو الأقوى والأنضح ثقافة.
- ماذا تقترح علينا إذن؟
- أن ترفضوا هذا الغرب، وأن تبدعوا أنفسكم بأنفسكم.
[
في نهاية مسرحية "الزنوج" ينسحب الجميع، ولا يبقى على الخشبة إلا الزنجي "فيلاج" والزنجية "فرتو". يحاول "فيلاج" أن يعبر لها عن حبه، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بحركات وصور مستعارة من البيض. تشعر الفتاة بالخيبة. فرتو: كل الرجال مثلك، إنهم يقلدون. ألا تستطيع أن تبدع شيئا آخر. فيلاج: من أجلك أستطيع أن أبتدع كل شيء ثمارا، كلمات أكثر نداوة، نقالة بعجلتين، برتقالا بلا بذور، فراشا يتسع لثلاثة، إبرة لا تخز. أما حركات الحب، فإنها أشد صعوبة. على كل أنت تصرين.. فرتو: سأساعدك. الشيء المؤكد على الأقل، هو أنك لن تستطيع أن تغلغل أصابعك في خصلات شعري الأشقر الطويل. وهكذا فإن الزنوج حين يبدؤون باكتشاف نواتهم الحقيقية، يجدون أنفسهم مجبرين على إبداع كلمات الحب الأصيلة، والصور الشعرية المبتكرة. أي إبداع ثقافة زنجية أصيلة في هذا المنظور ينبغي أن نفهم كلام جينيه على الترجمة الخيانة وإبداع الذات. على أن هناك نقطة هامة لم يفت المسرحية أن توضحها، وهي أن بحث الزنوج عن ثقافة أصيلة لم يصبح ضرورة ممكنة إلا بعد أن حطموا، ولو على مستوى الخيال البحت، سادتهم البيض.]
أخذنا نرشف قهوتنا بهدوء، بعد أن انتبذنا ركنا في أحد المقاهي. كان موضوع الحديث لا يزال يلح علينا، بعد فترة من الشرود والصمت، بدأ جينيه يتكلم:
- للأسف، لقد لاحظت أنكم موشومون بالثقافة الغربية، وأنكم تشكلون أنفسكم وفقا للنموذج الأوروبي، وها يعني أن الغرب اصطادكم في فخه الماكر. لقد نجح في أن يصبح مرآتكم، وأن يحفر في أعماقكم شعورا مستمرا بالنقص حياله. وقد جاءت هزيمة حزيران، وهي بكل مظاهرها هزيمة أمام "الأوروبي"، لتعمق شعوركم بالنقص، وتضاعف حاجتكم لأن تعكس لكم المرآة صورة مرضية. ولكن أية مفارقة! إنكم تبحثون عن صورة مرضية في مرآة لا يمكن أن تعكس لكم إلا سيماء الضعف والنقص والانسحاق. هذا هو الفخ الذي تتخبطون في حبائله. حين يصبح العدو هو بالذات مرآتكم ومرجعكم في الثقافة والسلوك والطموح، فإني أتساءل أين وكيف تأملون هزيمته!
- ما تقوله يمس النقطة الحساسة والموجعة لدى معظم المثقفين العرب. إنه موضوعنا الأساسي، أو إشكاليتنا التاريخية كما يسميها عبد الله العروي. ولكن هل يمكن حل مثل هذه الإشكالية على مستوى ثقافي بحت؟.. لا أظن. إن جوهر المشكلة يكمن في الوضع التبعي الذي يميز مرحلتنا السياسية الراهنة. وإن تحطيم التبعية، ومن ثم حل الإشكاليات الثقافية-الاجتماعية التي تتوالد ضمنها لا يمكن أن يتم إلا في سياق ثورة جذرية وشاملة. هز رأسه، وبعد صمت قصير، أجابني متأنيا:
- مبدئيا أتفق معك. إلا أني أعتقد أن شرط قيام أي ثورة جذرية هو أن تكسروا المرآة الغربية على المستويين الثقافي والنفسي.
- لن نختلف الآن على ترتيب الأولويات. احتد صوته قليلا، واندفعت كلماته سريعة:
- الأولويات هنا أساسية. إن الغرب الذي استمرأ مذاق السيطرة على الشعوب واستغلالها، يتسلح بتاريخ من القوة والدهاء كي يحبط أي مشروع ثوري. طبعا، أنا أفهم أن الثورة الجذرية في النهاية هي مواجهة الغرب وهزيمته. صحيح أن الثورة ستحل كل الإشكاليات التي تعانون منها. ولكن كيف تقوم الثورة، وأنتم تتخبطون في لعبة مرايا شبيهة بشباك العنكبوت. اسمع.. هل تعرف أن أهم معوقات المقاومة الفلسطينية، أنها لم تستطع أن تفلت من الفخ الغربي. لقد استدرجها الفخ بكثير من المكر. انظر إلى اهتمام بعض زعماء المقاومة ومثقفيها بما تكتبه الصحف الأوروبية عنهم. أحيانا أحس أنهم يتصرفون وفقا لما يمكن أن يرضي هذه الصحف وقراءها. حتى التصريحات والبرامج السياسية تصاغ أحيانا على هذا الأساس.
يتبع