كُتب التاريخ مليئة باحتفالات الثورات العربية، لكن في الحقيقة لم تكن بينها ثورة بمعناها الشعبي، بل كلها كانت انقلابات أو تغييرات قسرية. أولها الثورة العربية الكبرى عام 1916.. كانت مجرد فكرة ولم تصبح ثورة. وثورة الضباط الأحرار المصرية في عام 1952 كانت انقلابا عسكريا، تلتها في أنحاء العالم العربي عشرات الانقلابات، كلها سمت نفسها ثورات شعبية، حتى وقعت أحداث تونس. المشهد الثوري الحقيقي الوحيد في المنطقة هو الثورة الخمينية في عام 1979، لكن إيران ليست بالبلد العربي حتى تقارن بتونس.
الثورة التونسية تاريخيا حالة مختلفة عربيا، وهذا ما أدهش الكثيرين، تونس كانت خارج رادار المراقبين ومستبعدة من قائمة الدول المرشحة للاضطرابات، لاعتبارات، من بينها قبضة زين العابدين بن علي الأمنية الحديدية. وبسبب انهياره اليوم تعيش الكثير من الأنظمة العسكرية والأمنية هذا «الهاجس التونسي»؛ لأن هياكل الحكم مشابهة لتونس، انقلابات، أو عن انقلابات موروثة. الهيكل التونسي كان يقوم على منع الانقلابات المضادة، ومنع التمرد على النظام. ثورة تونس أثبتت أن هذا النظام قابل للتحطيم.
احترف الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، المسألة الأمنية، بحكم تخصصه السابق لتوليه الحكم، لكنه لم يكن سياسيا بارعا، لم يعرف كيف يدافع عن قراراته ومواقفه وأفعاله، مما جعله هدفا سهلا للمعارضة والإعلام في الفترة الأخيرة. بن علي حكم ونجا 23 عاما، كلها كانت بفضل قبضته الأمنية، وبالطبع استعداد مواطنيه منحه الوقت لتنفيذ وعوده.
الأنظمة كلها، بما فيها الانقلابية، تدرك أهمية اكتساب الشرعية في الحكم، إلا أن الأمنية والعسكرية تدرك في قرارة نفسها أن شرعيتها منقوصة مهما وعدت وفعلت؛ لذا تضع مراهنتها على الجيش والأمن، وهاهو بن علي يكتشف في اللحظة الحرجة أن الجيش جلس متفرجا ومتعاطفا مع مواطنيه. الشرعية مسألة محورية للبقاء، وهذا ما يجعل كل نظام يصمم شرعيته، برلمانية أو ديمقراطية أو وطنية تاريخية أو ملكية. هذه الشرعيات كلها من دون استمرارية في النهج، وقناعة شعبية، لا تستطيع أن تنجح أبدا. وهذا ما يجعل بضعة أنظمة عربية عاشت لأكثر من 50 عاما والبقية تساقطت مع أول هبة ريح.
الرئيس السوداني جعفر النميري حكم في انقلاب سماه ثورة، وزور الانتخابات فصار رئيسا، ثم خلع من قبل مجلس عسكري بعد أن دبت الفوضى في شبه ثورة شعبية ضده. وسوار الذهب الوحيد الذي وصل إلى الحكم وتنازل عنه طواعية، وجاء بعده الصادق المهدي الذي انتُخب بالأغلبية لكن انقلب عليه عسكري آخر اسمه عمر البشير وسماها ثورة إنقاذ. وهذه حالة العالم العربي منذ الاستقلالات.
ثورة تونس عفوية اشتعلت أولا في شارع في سيدي بوزيد، لا في ثكنة عسكرية، كما هو تاريخ التغييرات العربية،
ومع أن الثورة التونسية استغرقت أقل من شهر فإنها أطاحت بواحدة من أقوى القيادات العربية، حالة ستبقى محل تحليل ومراجعة.. لماذا سقط القائد في أيام على الرغم من إمكاناته وتجربته في بلد، يعتبر صغيرا نسبيا، محاط بسياج أمني شديد؟ الحالة تستحق التأمل فعلا.
alrashed@asharqalawsat.com



الواضح إلى الآن أن ما حدث، ويحدث، في تونس، لم يكن ثورة شعبية، فلا مطالب واضحة للمتظاهرين، ولا توجد معارضة منظمة تقود الشارع، حتى إن الأصوات الإسلامية خابئة إلى الآن، وهذا أمر محمود.. إذن ما الذي حدث هناك وأدى إلى هروب الرئيس بن علي؟
بالطبع سيظل هذا هو السؤال الملح في المرحلة المقبلة، وقد تطول الإجابة عنه؛ نظرا لما نحن فيه الآن من تضارب للمعلومات، خصوصا أن تونس كانت دولة مغلقة بالنسبة لجل العالم العربي، وكذلك إعلامه، وإن كانت فضائياتنا غير مكترثة بتحري الدقة؛ حيث شاهدنا، أول من أمس، موقفا مضحكا، وضحكه كالبكاء، حين تناطحت فضائيتان عربيتان على تحقيق سبق سقطت كلتاهما فيه، فـ«الجزيرة» القطرية أصرت على أن طائرة الرئيس بن علي إما في طريقها إلى الإمارات وإما إلى السعودية، أي «يا صابت يا خابت»، كما يقول المثل الشعبي، بينما أصرت قناة «العربية» السعودية على أن طائرة بن علي في طريقها إلى قطر! واتضح مؤخرا أن الرئيس السابق قد وصل إلى جدة، وأعلنت السعودية عن ذلك فورا، وبن علي ليس الحالة الوحيدة؛ حيث استقبلت السعودية قبله عيدي أمين، ونواز شريف، وغيرهما، والمعروف أن السعودية لا تسمح لمن يلجأ إليها بممارسة العمل السياسي من أراضيها، وإنما تقوم بذلك لأسباب إنسانية، ولأنها القلب الكبير للعالم العربي والإسلامي، وليست دولة ثأر وتشفٍّ، وما لا يتذكره البعض أن نظام بن علي كان يقف ضد السعودية أيام احتلال الكويت، وهذه قصة أخرى، فالمهم الآن هو تعلم الدروس!
وعودة للسؤال أعلاه، فالواضح أن ما حدث في تونس هو
صراع نخب، فيبدو الأمر
أقرب إلى انقلاب قصر من كونه ثورة، فمع اندلاع المظاهرات سمعنا عن استقالات بين رموز النظام، احتجاجا على استخدام العنف تجاه المتظاهرين، وكان ذلك طبيعيا،
خصوصا بعد أن أعلن بن علي عن حزمة قرارات إبان الأزمة، ومنها إقالات وتشكيل لجنة للتحقيق في الفساد على مستوى رموز الدولة، وبالتالي فيبدو أن هناك من قرر أن «يتغدى به قبل أن يتعشى هو بهم»، 
والدليل أن من غادروا مع الرئيس هم عدد محدود جدا من أفراد عائلته اللصيقين به،
كما أن الأعمال الانتقامية التي تتم اليوم ضد المقربين منه ممن بقوا في تونس تظهر أن ما تم هو انقلاب على بن علي، فلو كان خروجه وفق تسوية لما حدث ما يحدث اليوم للمقربين منه في تونس.
وعليه، فإننا في انتظار تكشُّف المزيد عما حدث في تونس، ولكن المهم، والأهم، أن يتحرك العقلاء لضبط الأمور هناك، ويجب أن يعود الهدوء والاستقرار لها، وعلى التوانسة أن يتعلموا الدرس جيدا، وألا تكون الرغبة في الانتقام هي المحرك الوحيد لهم؛ فالدول التي تقوم على الثأر والانتقام يكون مستقبلها أسوأ من ماضيها. نحب تونس، ونتمنى أن تكون دائما خضراء.. دولة يتنفس أبناؤها الاستقرار، والاحترام، وليس العنف؛ لذا، فلا بد من إظهار إحساس بالمسؤولية لتبقى تونس لكل التونسيين.