صوت الجماهير
عادت مصر مرة أخرى إلى زمن كانت أسماع وقلوب ملايين العرب ترنو إلى المذياع لسماع صوت جماهيرها، يومها كان الآباء يتسمرون أمام أجهزة المذياع القديمة ليسمعوا الكلمة السحرية المليئة بالحرية والكرامة والأمل بمستقبل زاهر للعرب موحدين متضامنين، ليسمعوا أم كلثوم: رصوا الصفوف.. ملايين وقلوب، واليوم يتسمر الجميع مرة أخرى ولكن أمام شاشات التلفاز يراقبون وقلوبهم المحبة ترنو إلى ما يجري في مصر الكنانة فكل ما يحدث فيها يؤشر إلى ما سيفتح أمام العرب آفاق مرحلة تطور جديدة، نهضتها أشرت إلى نهضة العرب، وكفاحها ضد الاستعمار أشر إلى افتتاح عهد الحرية للشعوب العربية، واليوم نسمع صوت الجماهير الهادر يتكلم مرة أخرى في شوارعها، فنعرف أنهم يصنعون زمناً جديداً. هل هذا زمن خروج الجماهير العربية إلى الشوارع لفرض إرادتها على حكومات فرضت إرادتها، وشعاراتها، وإخفاقاتها، وتحالفاتها، وشقاقها على الملايين طوال عقود دون أن تحقق آمال وطموحات هذه الملايين أو قطاعات كبيرة منها، فاختلطت المظالم وتراكمت مشاعر الإحباط، والخذلان، والعجز سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والجماهير تتلظى بنيرانها؟
خرجت الجماهير حتى ملأت شوارع تونس، والأردن، واليمن فانشغل الغرب عنها، ولكن عندما علا صوت الجماهير في مصر اهتز العالم «الحر» بالتحليلات عن حال العالم العربي، فأخذوا يبحثون مستوى النمو، ونسبة البطالة بين الشباب، ونسب النموّ المطلوبة كي يتمكن كل هؤلاء الشباب والشابات من إيجاد فرص عمل والانخراط الحقيقي بصنع مستقبل بلدانهم. وبدأت الحكومات الغربية تصدر تصريحاتها التي تتجاوب مع التقارير المقدمة لها لتحضّ على عدم استخدام «العنف» أو لتدعو الحكومات العربية لإجراء «إصلاحات سياسية» تسمح للجماهير بالتعبير عبر صحافة حرة، أو مجالس نيابية فيها صوت معارض وكلنا نعلم أن هذا الغرب لا يهمه من أمرنا سوى حماية أمن إسرائيل والنفط، وهي التي تفرض على حكوماتنا الجمود، والهتاف بالشعار والتخاتل بالعار، ولا يهمها الفساد، أو الاضطهاد، فكل ما يهمها قرة عينها إسرائيل، ونفطنا المنهوب.
وفي الوقت الذي يحاول «خبراء الشرق الأوسط» في واشنطن ولندن وباريس تحليل ما يحدث وإعطاء الأجوبة الشافية لحكوماتهم ولرأيهم العام لم يتطرق أي منهم إلى الأسباب الحقيقية، ربما لأنها لامرئية بالنسبة لهم. لا شك أن حاجات الملايين من جيل الشباب في العالم العربي كله بحاجة إلى معالجة مختلفة عما اعتادت عليه الحكومات العربية، فهذا جيل يعيش في القرن الواحد والعشرين وهو بذلك بأمس الحاجة إلى الانخراط الحقيقي في بناء دولته ومستقبله ومستقبل أبنائه، إلا أن الأسباب الحقيقية لمخزون الغضب متداخلة، ولا يمكن تبسيطها أو تفسيرها بأنها بسبب البطالة أو للبحث عن لقمة عيش. فقد كان الشاب التونسي البوعزيزي الذي أشعل فتيل ثورة الجماهير التونسية يعمل، بعد أن تخرّج من الجامعة منذ سنوات، على عربته إلى أن شعر بإهانته وإذلاله والتطاول على كرامته من قبل قوات القمع إلى حد اليأس الكامل فأشعل النار بجسده الذي مثّل جسد جيل كامل.
فكان انتحاره القشة التي هدمت جدار الخوف القائم بين أقرانه من جيل ملايين الشباب العربي وبين جبروت الحكومات، وربما هذا هو ما أشعل شرارة المطالبة بإحداث التغيير في العالم العربي برمته. الصرخة إذاً هي صرخة من أجل كرامة المواطن في هذا البلد العربي أو ذاك أو هي كرامة عربية مهانة من رؤية أهل محاصرين في غزة، ومن رؤية ستة ملايين فلسطيني يعيشون منذ أكثر من 63 عاماً في المعتقلات الكبيرة داخل بلدهم المحتل عام 1948 وفي المخيمات، ويقتلون يومياً أمام عجز رسمي عربي دائم.
واللافت اليوم هي ردود الأفعال الأميركية المواكبة للمظاهرات في مصر والتي تجاوزت إلى حدّ بعيد الاهتمام الأميركي بما حصل في تونس أو الأردن أو اليمن أو لبنان وهذا أمر مفهوم. فنرى أن جلّ التحليلات الأميركية وردود الأفعال الرسمية قد ركزت على غلاء الأسعار، والفقر، والبطالة، والفساد ولم يأت أي مسؤول أميركي على ذكر البعد المتعلق بالحروب المهينة التي أثارت غضب الجماهير مراراً وتكراراً والتي حالت دون وقوفها مع الأشقاء في غزة ولبنان وفلسطين والعراق في أحلك اللحظات. ورأينا الوزيرة كلينتون تصرِّح مرة بعد أخرى، وكذلك الرئيس أوباما بتعابير متصاعدة وصلت حد تهديد أوباما بقطع «المساعدات» عن مصر.
ليس من الصعب العودة لمراجعة المحطات الحساسة التي كانت تراكم الغضب في الضمير العربي خاصة الشعور المتراكم بالإذلال والإهانة والعجز الذي يشعر به ملايين الشباب أمام عجز حكوماتهم وصمتها أمام الويلات التي تعرّض لها العراق وفلسطين وغزة، هذا الشعور الذي تهمله دوائر القرار الأميركية والغربية لأنها تستهدف أساساً إلحاق هذه الإهانة بالعرب معتمدين على قدرة الأجهزة الحكومية على قمع صوت الجماهير المطالب بالتضامن العربي. فلا زلت أتذكّر يوم سقوط بغداد في 9 نيسان عام 2003 تحت براثن حرب بوش المتعطشة لدماء العرب وجه إمرأة عربية تبكي وتصرخ «هذه بغداد تسقط، أين أنتم يا عرب» وتكررت صرخة: «أين أنتم يا عرب» مراراً عندما كانت إسرائيل تقصف المدنيين في بيروت عام 2006 وعندما كان مجرمو الحرب الإسرائيليين يقصفون المدنيين في غزة بالفوسفور الحارق، ليختزن الغضب العربي في قلوب الملايين، وها هو ينفجر ضد العجز والفساد والتبعية.
وقد شاركت ويكيليكس بكشف التواطؤ مع العدو ضد الشقيق، وإخراج ما يدور في أروقة الحكومات المغلقة على الجماهير إلى العلن، فوجَّهت بذلك أيضاً سهماً جارحاً لقلوب جماهير كان لديها أمل إلى وقت قريب بأن حكوماتها تمثل ضمائر ومصالح شعوبها وإذ بها تتصرّف في السر بشكل مناقض تماماً عمّا تدّعيه في العلن وأتت أيضاً مكتشفات «الحقيقة ليكس» و«ترانسبيرنسي» لتؤكد ابتعاد المؤتمنين على مصائر شعوبهم عن حقوق شعوبهم فتراهم يحرِّضون العدو على الشقيق.
أولا نتذكر جميعاً كيف تمّ منع شباب العرب في مدن وبلدان عربية عدة حتى من التظاهر دعماً لشعب العراق وغزة وفلسطين؟ وكيف يتم اعتقال الذين يعملون على إيصال الطعام والدواء لإخوانهم المحاصرين من قبل عدو مجرم غاشم، وتتم محاكمتهم كمجرمين، بينما يتم استقبال مجرمي الحرب على غزة ولبنان أمثال تسيبي ليفني، وباراك، ونتنياهو؟
الحقيقة هي أن الشعب العربي لا ينسى ولا يهمل، وها هو يبرهن أنه قد تجاوز حكامه، وحاله يقول لقد أمهلناهم طويلاً ولم يعد ينطلي علينا أي تصرّف يفرِّط بحقوقنا، كما أن الشعب العربي يشعر بضميره ووجدانه بوحدة المسار والمصير فيغضب في مصر والجزائر وتونس حينما يشعر أن إخوته في فلسطين والعراق يقعون تحت ضيم حرب وحصار واحتلال جائر دون أن يستطيع التضامن معهم، وهذه هي الحقيقة التي لا يريد الكثيرون من الحكام المحاصرين بالضغوط الأميركية الاعتراف بها. ففي الوقت الذي استمتع الحكام بنتائج سايكس بيكو ما زال رابط اللغة والثقافة والدين والتاريخ والمصير تجمع العرب من المحيط إلى الخليج ومازال ما يجري للفلسطينيين من ظلم، وإجرام، وقتل والذي يقابل إما بصمت بعض الأنظمة أو بتجاهلها لما يحدث مازال يشكّل غصّة، وحرقة، وغضباً متراكماً في قلوب أبناء الضاد. وفي هذه النقطة يكمن الاستغراب الغربي في أوروبا والولايات المتحدة للتفاعلات اليوم في عالمنا العربي، لأنهم أقنعوا أنفسهم أن فتات المساعدات التي يدفعونها للسلطة الفلسطينية تبرئ ذمتهم تجاه فلسطين غير مدركين أن المطلوب منهم هو موقف واضح وصريح وجريء دعماً لحرية شعب فلسطين وخلاصه من العبودية اليهودية، وليس المطلوب دعماً لشخص هنا وآخر هناك أصبح أسيراً لمساعداتهم وتقييماتهم. إن ما يجري اليوم في البلدان العربية مؤشر واضح للغضب المخزون في قلب كل عربي الذي يتراكم منذ عقود داخله ويتحول إلى حنق شديد وهو يرى المنازل الفلسطينية تهدم يومياً بالجرافات الإسرائيلية أمام عينيه، وشيوخ فلسطين يقتلون وهم نيام في أسِرتّهم، وأطفال فلسطين يعانون قرّ الشتاء والمرض والجوع نتيجة احتلال غاشم ظالم ونتيجة صمت عربي رسمي مطبق ومخز من هذا الاحتلال.
لذلك فإن قلق الولايات المتحدة ومتابعتها لما يجري هو قلق على كيان مجرم في منطقتنا هو السبب الرئيسي لارتكاب هذه الحروب، والخراب، والمظالم بحق شعوبنا، وإذا كان الغضب اليوم يتجه إلى الحكومات، والمطالبة بتغيير الحكام، وأساليبهم، فلا شك أن موقف هؤلاء من قضية فلسطين وحق العرب في استقلال فلسطين وتحريرها من براثن الاحتلال الإسرائيلي تشكِّل عاملاً أساسياً في كلّ ما يجري وستكون له انعكاساته ونتائجه ليس خلال الأسابيع والأشهر القادمة وحسب وإنما خلال السنوات القادمة، كما كانت نكبة عام 1948 وهزيمة 1967 مؤشران لتحول جذري في المجتمعات العربية. من الواضح أننا على أبواب مرحلة قرر جيل الشباب فيها أن لا يعيشوا أمواتاً بل أن يموتوا من أجل أن يحيوا حياة حرة كريمة.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=606152&issueno=11752