عندما نسمع بانتشار للبحرية والقوات الأمريكية قبالة السواحل الليبية تعود بنا الذاكرة إلى حرب لبنان أو حرب العراق، ونتخيل أن وراء هذا القرار الجمهويين أو أحد أعضاء العائلة بوش وليس باراك أوباما أو الديمقراطيين الأمريكان.

لقد تعود العرب، وهم الشعب الذي لا حول له ولا قوة، منذ انهيار عاصمة بني العباس وقبل ذلك، على تدخل الأجانب في ديارهم، وكأنها سوق أو ممر لمن يشاء أن يتباهى بزيه العسكري وبقوة جيشه وأسلحته... والعرب مستسلمون للأمر الواقع وكأن البلاد ليست بلادهم أو الثروات ليست ثرواتهم، وكأن ألف سنة من التاريخ مرت دون جدوى ليس لها أهمية تذكر.......
وتتميز الفترة الحالية بفترة تقرير مصير تاريخية بالنسبة لهم. فإما أن يمسكوا زمام أمور بلادهم ليصنعوا ألفاً ثالثة مجيدة، وإما أن يدخلوا في تبعية جديدة بشكل آخر لدول تعودوا على أن يرهبوها كما يرهبون حكامهم ويسموها "الدول الكبرى"، أوليس العرب مجتمعين دولة كبرى أيضاً ؟؟.....

الخطأ الأكبر الذي قد ينتج عن تدخل الأمريكان في ليبيا، هو عودة الفزاعة الأجنبية التي طالما لوح بها الحكام لشعوبهم في حال ثاروا عليهم، واحتمال استغلالهم لهذه الفرصة لضرب الثورات في بلادهم بتهمة العمالة لدولة أجنبية. "نعم، لقد صحت تنبؤاتنا نحن الحكام العرب الأوصياء عليكم أيتها الشعوب المغفلة، وها هي أمريكا تتدخل في ليبيا بعد ثورة شعبها على حاكمها كما توقعنا، وستتدخل في أي بلد تثورون فيه".....
كما أنها ستسول لنفس كل حاكم عربي ليفعل كما فعل القذافي بشعبه : فتك وقتل وتدمير منشآت ومدن، وتمسك بالحكم حتى آخر لحظة كي يأتي الأجانب للبلاد والسيطرة عليها... فإما أنا وإما الطوفان الداخلي يليه الطوفان الأجنبي....

والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا يترك الغرب العرب يقومون بأمورهم بأنفسهم ؟
الغربيون والأمريكيون ليسوا أغبياء، وهم مستعدون لفعل أي شيئ من أجل الدولارات. وفي سياستهم يوضع الاقتصاد في المقدمة مهما كانت المعطيات...
والجواب أولاً هو آفة العرب جميعاً : النفط... وليس بالضرورة أن يكون النفط الليبي فقط.
فالنفط الخليجي والعراقي أيضاً يجعل الولايات المتحدة وبعض الدول النهمة تضع حساباتها الاقتصادية في المقدمة، وتباً للعرب ولكل ثوراتهم، وسحقاً للديمقراطية التي دعوا إليها طيلة عقود....
إذ أن انتشار روح الثورة في الدول العربية لا سيما النفطية منها هو البلاء الأكبر الذي تخشاه هذه الدول. فأي شعب حر لن يرضى بأن يبيع ثرواته لهؤلاء الجشعين مقابل دريهمات كما يفعل حكامهم المستفيدون بالمقابل من تكتم غربي على قمع هذه الشعوب وتغطية على جرائمهم النكراء....
وليس بعيداً وقاحة وزيرة الداخلية الفرنسية التي اقترحت مساعدة الحكومة التونسية على قمع متظاهريها خلال ثورة هذا الشعب المجيدة، والتي استقبلتها بكل غباء حكومة عربية منذ يومين وهي فاقدة منصبها كنتيجة غير مباشرة لبطولة بائع الخضار التونسي، وكتغطية على تآمر الغرب "الديمقراطي" مع الحكومات القمعية العربية.

أما السبب الثاني والأساسي في هذا التدخل وتلك الاستباحة هو العرب أنفسهم، وسذاجتهم وضعف حيلتهم وقلة اكتراثهم. إذ لا توجد أي إستراتيجية مشتركة للثورتين التونسية والمصرية، ولا توجد حتى إستراتيجية في بلد منهما على حدة. وترك الفراغ في ليبيا أدى إلى استغلاله من قبل الغربيين. وسياسة ملء الفراغ لعبة معروفة منذ اخترعت البشرية السياسة....

والسبب الثالث برأيي، هو تخوف الغرب من العرب القادمين. فهذا الشعب العريق المتأصل ثقافياً وحضارياً، قادر دوماً على مفاجأة الجميع، وإدارة دفة التاريخ ليوجهها من جديد نحو وجهة يرتضيها وتناسبه. وحسابات الغرب الإستراتيجية لا تتقبل إلا شعباً عربياً ضعيفاً مستضعفاً، يستجدي الخبز من حكوماته، ويستجدي المساعدات والقروض من الغرب. وكم هو شبيه ببقرة أحمد مطر التي تتلقى قرشين ثمن حليبها لتشتري به كأس حليب ممن يحلبها.

كلي أمل أن تتراجع إدارة أوباما عن قرار مماثل في التدخل في ليبيا. ففي فترة ثورات نادرة كالثورة العربية الحالية تنتفي الحسابات، وتزداد المفاجآت. وتجربة العراق بالنسبة لها ليست بعيدة.
وقد آن الأوان ليتعلم الغرب درساً، ويضع بعض المعاملات "البشرية" و"المستقبلية" في حسبانه كي لا يخسر شعباً هو في أوج ثورته وتفتحه...