RE: مقابر / قصص قصيرة
مقبرة 2
كابوس فظيع , يلم بي في نومي بطريقة متكررة , أنني فقدت بصري , صحوت مرة من قيلولة الظهيرة التي طالت إلي المغرب وأنا في لجة هذا الكابوس ,أنني أمسيت أعمي , وجدت النور مقطوعا , وفكرت أنني ربما صرت أعمي فعلا , دار بخيالي : ماذا سيحدث لي عندها ؟, لن أري الوجوه والألوان طبعا , لا أدري لماذا فكرت في الوجوه والألوان علي وجه التحديد ؟ , هل سأحتمل البقاء دون أن أري الألوان ؟ , وهل يمكن أن تحتفظ ذاكرتي بلون الألوان بعد أن أصاب بالعمي ؟ مشكلة رهيبة , أنا لا أستطيع العيش في العالم دون رؤية الألوان , خاصة لون عيني من يتحدث إلي ّ, من ولعي بتأمل خائنة الأعين ولغة الوجوه , رحت إلي لون العيون , وخاصة تلك الدائرة المتشعبة مثل وردة في منتصف العين حين تكون العين صافية , ومنها انطلقت إلي ألوان الله , الأزرق , الأخضر , النيلي , الأحمر , البرتقالي , الأصفر , البنفسجي , ناديت وأنا مازلت علي سريري وعيناي مفتوحتان : أنا هنا , لم يرد أحد , لا بد أن زوجتي وأولادي بالخارج , هبطت علي فكرة شريرة , أن أعتبر نفسي قد صرت أعمي فعلا , وأجرب أن أتصرف خلال أثاث البيت ومكونات العالم علي هذا الأساس , تحسست الأشياء أمامي حتي وصلت إلي الطاولة في منتصف الحجرة عبثت بالأشياء عليها , القلم , المفكرة , علبة السجائر , الولاعة , ولحسن طالعي هاتف زوجتي المحمول , زعمت زوجتي أنها تخزن علي هاتفها المحمول فيلما لي صورته وأنا نائم وصوت شخيري يملأ الغرفة مع المعارك الجنونية التي تحدث في أحلامي , وهددتني به إذا فكرت في طلاقها أو الزواج بامرأة أخري إلي أن أموت , أنا متأكد أنها لا تحبني ولكنها تفكر فيما سوف تجنيه بعد موتي , هذا كل ما في الأمر , تحسست أزرار الهاتف وتعرفت ما تقوم به من أدوار , لا بد أن أصل لهذا الفيلم وأمسحه وأحصل علي حريتي , لو رأت أية امرأة هذا الفيلم فسوف تكرهني في الحال , عندما وصلت للفيلم , ضحكت في هستيرية وأنا أسمعه وودت لو أفتح عيني لأري صورتي أثناء نومي , ولكني كبحت نفسي فأنا الآن أعمي , ويجب أن أتصرف علي هذا النحو , يجب علي ّ من خلال الأصوات أن أتخيل المعالم والوجوه والمناظر , أعدت الفيلم من البداية وبدأت أركز كل حواسي في أذني , بدأ الشخير في البداية رتيبا هادئا مثل صوت الماء الرقراق , تخيلت صورتي العذبة التي تنعم بالسلام , راح صوت الشخير يعلو ولكنه مازال رتيبا منتظما مثل بندول ساعة , راحت صورتي في خيالي تهتز وأنا أري ملامح وجهي تتجهم عندما بدأ النشاز يستلم الصوت العالي شيئا فشيئا , ثم راحت ملامح وجهي كما تخيلتها تكفهر أيضا , عندما تداخلت أصوات غريبة مع صوت الشخير النشاز , أصوات صفير وتصفيق , لابد أنني كنت في مظاهرة , لم أجرؤ علي فتح عيني فأنا أعمي , أصخت السمع جدا فيما الأصوات تتحول إلي ثغاء أغنام , صهيل خيول , مواء قطط تمتزج بالشخير الخافت , ماذا كنت أفعل ؟ , هل كنت في حديقة حيوانات , وكيف تمكنت من إصدار هذه الأصوات في حلمي , أصخت السمع أكثر , ما هذا ؟ , أصوات صليل سيوف وطلقات بنادق , ياللهول , لابد أن وجهي كان يتلون في كل لحظة في هذا الحلم – المعركة - حسب الموقف , شئ مرعب حقا أن أفتح عيني أنا الأعمي وأنظر لصورتي , المجرمة تحتفظ بهذا الفيلم الشائن عني , تحسست أصابعي الأزرار , وتوقفت علي زر الإلغاء وضغطت , عبثت بالأزرار مرة أخري في ظلمتي لأري ماذا تخزن علي الهاتف , سمعت مقطعا قصيرا , أتبادل فيه الحديث مع أصدقائي أثناء لقاء ليلي في المنزل , كنا نشتم الحكومة ونسب الدولة ونلعن بعض الشخصيات العامة , ونظن أن كل من بالبيت مستسلم للنعاس , ياللهول , هذا المقطع وحده كفيل بزجي في غيابة السجن مدة لا يعلمها إلا الله , ضغطت علي زر الإلغاء , ماذا تخفي هذه المجنونة أيضا , سمعت مقطعا غريبا لحديث لي مع سيدة , كانت تلك السيدة تفشي لي بعض أسرار زوجها في همس , آه , إنها السيدة التي زارتنا الشهر الماضي وتركتنا زوجتي وذهبت إلي المطبخ تعد المرطبات وباحت هذه السيدة بهذه الأسرار أثناء غيابها في المطبخ , هذا المقطع وحده كفيل بأن تكرهني أمي وأولادي إلي الأبد , ضغطت علي زر الإلغاء , ماذا سجلت لي أيضا ؟, حلم غريب متقطع الأحداث لا أتذكره , أتعارك فيه مع رئيسي في العمل وأهدده أنني سوف أقدم شكوي ضده للوزير , وسوف أسلمها للوزير شخصيا يدا بيد وسوف أذكر فيها كل ذنوبه وآثامه الإدارية , هي كذا وكذا , أخذت أسرد وقائع قد تفضي بالرجل إلي المحكمة , يا ربي هل سمعت كل ذلك , إنها يمكن أن تشكوني أنني أعرف هذه الوقائع ولا أفتح فمي و سوف تكون مصيبة لي أنا أيضا , هذا المقطع أخطر ما تحتفظ به هذه الشريرة , ضغطت علي زر الإلغاء , وأنا أتصور شكل وجهها والألوان المختلفة التي ستكسوه وابتسمت في حبور , أخذت أراجع كل اللقطات المسجلة لأتأكد من براءتي تماما , ومضة قوية في داخل عيني العمياوين عرفت منها أن الكهرباء قد وصلت وأن النور يغمر البيت , وسمعت صوت التلفاز , لا بد أن زوجتي وأولادي نزلوا خلال انقطاع التيار وتركوا كل شئ علي حاله , استلقيت علي السرير استمع في نشوة للأغنية الجميلة التي يبثها التلفاز وأنا أحاول تخيل وجه المطربة وهي تشدو بها .
في الصباح , كان يحاول أن يتخلص من كابوس جديد ولكنه لا يستطيع , الكابوس يتملكه تماما , يحاول أن يحرك أي جزء في جسمه ربما ينفك عنه بلا جدوي , إنه مشلول تماما , حتي جفونه تأبي أن تنفتح , الكابوس الجديد جاثم فوق صدره تماما , الهاتف المحمول في يدها اليسري تلوح به في توعد وقد زمت شفتيها وغضنت جبينها ورسمت الشر في عينيها ,هو مكتوف اليدين والذراعين والقدمين والساقين بشرائط لاصقة متينة كما لو كان مومياء محنطة , سمعها في دوامة صراعه تصرخ في جنون : ومسحت أيضا صور أهلي وأصدقائي أيها الأعمي , وتعيدها وتكررها وصوتها يعلو في كل مرة ويكاد يخرق طبلتي أذنيه . وفي أثناء عذابه مع الكابوس , لاحظ أن سكين المطبخ الطويلة في يدها اليمني , فوق رقبته مباشرة وأحس والرعب الكابوسي يملأه بمدي رهافة شفرتها الحادة .
- يتبع -
كوكو
|