RE: مقابر / قصص قصيرة
مقبرة 3
دخل المقهى وأخذ يدور ببصره باحثا عن مكان مناسب لرصدها , لم يكن مصدقا ما قيل له , يريد أن يري كل شئ بنفسه , سأل نفسه في قلق : هل يمكن أن يحتمل رؤيتها في هذا الموقف , أكدت له أخته أن معلوماتها صحيحة ,أن مطلقته تمت خطوبتها يوم الخميس الماضي , لما رأت علامات الهم بادية علي وجهه , بدأت تعود لحديث كل لقاء : مازالت أمامك الفرصة لأن تعيدها , لماذا تدمر نفسك هكذا ؟ , تشاغل بارتشاف الشاي والنظر للتلفاز , قال في بطء : وهل فاتحتها في الأمر ؟ , ردت بسرعة : نعم وهي موافقة وتؤكد أنها مازالت متمسكة بك , قال في بطء مرة أخري : قلت لك من قبل أن هذا الأمر انتهي إلي الأبد , لا أريد أن أسمعه مرة أخري , أنا أقصد الموضوع الأخر , لوحت بيديها وقالت : لا أعرف ماذا تستفيد من ذلك ؟ , أنت تريد تعذيب نفسك , علي كل حال هي رفضت , رد بسرعة : هل ذكرت لها الثمن الذي سأدفعه ؟, قالت : نعم , قلت لها أنك مستعد لدفع ثلاثة أضعاف ثمنه , إنها عنيدة جدا , قال في ثورة : ليس من حقها أن ترفض , هذا الخاتم ملكنا , ملك لعائلتنا , ألا تقدرين أنه كان يزين أصبع أمك يوما, أنا رأيت جدتك زهرة تتحلي به أيضا, يجب أن أسترده بأي ثمن , قالت في برود : ماذا يهمك من قطعة ذهبية يمكن أن تشتري مثلها وأحسن منها , دعك من هذه الأفكار التافهة , فكر في مستقبلك ومستقبل أطفالك , ليس لهم الآن غيرك , طأطأ رأسه ووضع راحته علي جبينه وغمغم : لقد رأيت أمك في أشد أوقات محنتنا بعد موت أبيك ترفض التفريط فيه , ألا تفهمين معني ذلك ؟ , لوحت بيدها وهي تشيح بوجهها : يا شيخ , أشعل سيجارة ثالثة ومرر أصبعه علي حافة كوب الشاي , كانت جالسة عند قدميه تعبث بجيبه كعادتها وتستخرج النقود المعدنية وتحصيها ثم تعيدها لجيبه ثم تعيد استخرجها وتعود لإحصائها , طلعت جدته زهرة من درج الذاكرة الذي تقبع فيه , تجلس علي الكرسي الهزاز بجرمها الأشقر الهائل وشعرها الذهبي المنسدل علي كتفيها وهو يجلس علي قدميها , ترجع بالكرسي إلي الوراء , وهي ممسكة بيديه الصغيرتين وعيناه لا تفارقان الخاتم ذا الفص الأحمر المتوهج , عندما تعود للأمام بالكرسي كانت تقترب بصدرها الممتلئ من وجهه فيري مجري العبير ويحاول أن يمد يده فيجد أنها سجينة يدها , وعندما تعود للوراء كان يرتفع وتنسحب منه روحه وتذوب في روحها التي تؤرجحه وتغني ( إيه العمل يا أحمد ؟ في طلعة المحمل , كل الملوك تشهد , إنك رسول الله ) , كان يقهقه في كل مرة تصل لأسمه فيها ويكون قريبا من فمها فتقبله , مسح دمعة صغيرة ورأي أخته الجالسة عند قدميه تشيح بوجهها بعيدا عن عينيه وتمسح بظهر يدها عينها التي لا يراها وهي تتمتم مترحمة , قال لها وهو يمضغ الكلمات : وماذا سوف تصنع به ؟, ردت : قالت أنها ستبيعه مع باقي المصوغات الذهبية عندما تشتري المصوغات الجديدة , أنا عرفت أنه لن يقدم لها أي هدايا ذهبية ,كان هذا أقصي ما يستطيع تحمله فهب واقفا وقال في قسوة : سوف أقتلها هذه البائسة إن فعلتها , تمسكت أخته بساقه وهي تقول : دعك من الانفعال وفكر , اجلس , اجلس , يا أخي افهم , هي تريدك , أنا سيدة مثلها وأفهم طريقتها في التفكير , قال وهو يجلس : لا أريدها , أريد هذا الخاتم فقط , تحول وجهاهما معا إلي التلفاز الذي يبث شيئا لا يريانه ولا يسمعانه , قطعت الصمت فجأة : لماذا لم تأخذه منها عند الطلاق ؟ , غمغم : كنت أظن أنها سوف تحتفظ به لابني , يوم أن ألبستها إياه أفهمتها أن هذا شئ نتوارثه ولا نفرط فيه مهما كانت الظروف , قالت : آه , أنت الذي حفرت قبرك بيديك , صدي كلمات أخته رن في القبر العميق الذي رآه فاغرا فوهته ليبتلع كل السنين , تقلص وجهه وهو يخرج أمه التي لا تدري شيئا عن مكان الخاتم من درج الذاكرة الخاص بها , رآها يوم أن دخل عليها ليلة عرسه ليودعها , وضعت يدها علي رأسه تباركه , قرأت المعوذتين وقبلته بين عينيه وهي تمسح دموعها , عندما وصل لباب الحجرة مغادرا نادت عليه , التفت إليها أشارت إليه أن يقبل , عاد إليها , خلعت الخاتم من أصبعها وقالت : نسيت الأمانة , جدتك زهرة تسلم عليك , هذا يكون في أصبع زوجتك من اليوم , أنت تعرف الطريق الذي قطعه , والطريق الذي عليه أن يقطعه , انحني يقبل أصابعها التي خلت من الزينة بينما كانت عيناها خارج الحجرة تهيمان في صورة لامرئية .
أنزل كوب الشاي عن شفتيه و وهو يراها من مكمنه بالمقهي تقطع الشارع مع الرجل الآخر وأختها ويدخلون محل الصائغ , لم يكن قد رآها منذ وقت طويل , كان النحول قد انتابها , ترتدي الفستان الأزرق الذي اشتراه لها في عيد ميلادها الأخير , كان وجهها يبدو أزرق ربما من لون الفستان أو انحباس الدم وانسداد الشعيرات تحت الجلد لفترة طويلة , لكن الدماء في عروقه كانت متوفزة تلون رقبته ووجهه بالحمرة , أعاد كوب الشاي إلي شفتيه ورشف رشفة وحاول أن يهدئ نفسه , عندما خرجوا من المحل لم يكن يبدو علي وجهها أي تغيير , في الوقت الذي كانت أختها تضحك هي والرجل الآخر .
ناديت علي النادل وسألته الحساب , أخذ يعد فنجاني القهوة وكوبي الشاي في سره ثم نطق بالرقم , ناولته الورقة النقدية ولم أسأل عن الباقي , كنت مسرعا وكنت أحاذر أن تلتفت وراءها لكي تراني أدخل محل الصائغ , تقدمت إليه , أنا ... ( إيه العمل يا أحمد , في طلعة المحمل .... ) رنا الرجل مرحبا , أعمل في مصلحة ... ( جدتك زهرة تسلم عليك ) , قام الرجل واقفا : أية خدمة يا أستاذ , قلت في سرعة : هناك سيدة خرجت من هنا الآن باعت مصوغات واشترت أخري , هل يمكن أن أري المصوغات التي باعتها , قال الرجل : لماذا ؟ , قلت في سرعة وكأنني أخاف من عودتها للمحل تبحث عني : هناك شئ أريد أن أشتريه وبالثمن الذي تطلبه , توقدت عيناه ومد يده إلي أسفل وفتح درجا وأخرج كيسا أفرغه أمامي , عبثت أصابعي بالأشياء التي أعرفها جيدا , الأسورة , القرط , العقد , سألته : كان هناك خاتم ذو فص أحمر , هز رأسه بالنفي , أعدت أصابعي للأشياء أعبث بها , هل أنت متأكد ؟ , أومأ برأسه : طبعا متأكد , أصابعي مازالت تدور تعبث بالأشياء والرجل ينظر إلي ّ في دهشة , أمسكت بالكيس وفتحته أنظر داخله , فتح القبر المظلم فوهته وأراني قعره العميق , ومن هناك من داخل الكيس برز وجهها الأزرق الكابي يلتفت من آخر الشارع , وهو يبتسم ساخرا .
- يتبع -
كوكو
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-06-2011, 09:05 AM بواسطة coco.)
|