RE: مقابر / قصص قصيرة
مقبرة 5
نفخت بالونة صغيرة بقطعة اللبان بين شفتيها الغليظتين , نظرت لي في تفحص وهي تفرقعها فترتخي علي شفتها السفلي وتلتصق بها فتخرج لسانها المنتفخ وتعيدها لفمها , تقدمت من شباك التذاكر , أشرت للعاملة إلي المكان المهجور وطلبت مقعدين , ابتسمت العاملة وهي تناولني التذكرتين , سألتني : لماذا تبتسم لك هذه الآنسة , هي تعرفك بالتأكيد وتعرف أنك تأتي هنا كثيرا , عدت لتبديد مخاوفها وأكدت لها أنني لم أعرف حتي أنها آنسة إلا منها الآن فقط .
كنا قد اتفقنا من البداية أن تكون الصراحة شعارنا , أخلفنا هذا الوعد من اليوم الأول فقد زعمت لها أنني حاصل علي الشهادة العالية في التجارة وزعمت هي أنها طبيبة , في اللقاء الثاني زعمت لها أنني حجزت شقة في أحد الأبراج الفاخرة وقابلت هي كذبتي بأن قالت إنها في الثالثة والعشرين , فاض بي في اللقاء الأخير عندما أكدت لي أنها رفضت العريس الأخير لأن شقته مكونة من ثلاث حجرات فقلت في الحال : ولكني أفكر أن تكون مرسيدس , كنت متحيرا , هل تعرف أنني أكذب عليها كما تكذب عليّ , طلبت منها قطعة من اللبان وأخذت ألوكها مثلها و أباريها في نفخ البالونات وفرقعتها .
أقنعتها بصعوبة أن الفيلم كوميدي , قالت وهي تنظر للإعلانات في ريبة : ولكن المناظر لا توحي بذلك, إذا كان فيلما عاطفيا فلن تعرفني بعد اليوم , كانت ترتدي حجاب الرأس ولا تسمح لي أن ألمس يدها , قلت في نفسي : لا أريد أن أعرفك بعد اليوم , المهم أن تشاهدي هذا الفيلم معي , كنت أعرف وتعرف هي أيضا أن الخروج من دار العرض ممنوع أثناء العرض , ولذلك كانت مهتمة بالتأكد من كل شئ , ولم يكن ضميري يؤنبني علي كذبتي , فهي كثيرا ما كذبت علي ّ وكذبت عليها , مع الوقت سئمت من أكاذيبها الكثيرة فقررت أن أكذب عليها كذبة كبيرة تكون ردا علي كل أكاذيبها مرة واحدة ونفترق, قالت لي مرة أنها لا تطيق مشاهدة الأفلام العاطفية , حتي ولو كانت وحدها وليس معها أحد , الفيلم العاطفي يفقدها الوعي , وأحيانا ما تتقمص دور البطلة بعد أن ينام عقلها , كانت هذه فرصة رائعة لأضعها في هذا الموقف الصعب وأراها وهي ممتطية أرجوحة قلبها تتلاعب بها العواطف , اخترت فيلما عاطفيا جدا فيه باقة فخمة من القبلات وكمية هائلة من الأشواق الملتهبة والدموع الغزيرة وتفرجت عليه مرتين حتي أتأكد من مفعوله القوي ثم دعوتها للنزهة وعرضت عليها الأمر , سألت عن هوية الفيلم وطلبت مهلة للتفكير وهي تراقب عيني في قلق , قلت : كوميدي جدا , سألت عن دار العرض فلم أفصح عنها حتي لا تتجسس وتعرف طبيعة الفيلم وقلت لها : إنها مفاجأة .
بلعت ريقي عندما حل الظلام علي المكان وبدأ العرض , كنت أعرف أن الأحداث الأولي عادية عندما هبط البطل من الريف للمدينة , أخذت أهز رأسي ولا أرد عليها أثناء حديثها وأنا أفتعل السماع حتي أتركها تسرح مع الأحداث الأولي وصولا للذروة لحظة بلحظة , انتبهت لها وهي تقول : ولكن أرجو أن تعذرني علي ذلك , لم أكن قد سمعت أول الحديث فلم أفهم ما تقصده , كنت مشغولا بالتركيز علي اللحظة التي تبدأ فيها الأحداث الساخنة في الفيلم وأري أثرها عليها , كان الفيلم قد أحدث المصادفة التي تعرف فيها البطل الفقير علي البطلة الفقيرة , سمعتها تقول بعد قليل : ومع ذلك فإن علاقتنا يمكن أن تستمر بالرغم من ذلك , التفت إليها وأنا لا أفهم , فرقعت بالونتها في وجهي فتذكرت بالونتي ونفختها وفرقعتها ,وتصنعت أنني متابع لها وقلت : نعم يحدث هذا كثيرا ولكنه لا يغير شيئا من الأمر , هزت رأسها بالموافقة , نظرت للشاشة فوجدت أن وقت القبلة الأولي قد أزف بعد أن تلاشي العناد الأول بين البطل والبطلة , أحسست بيدها الممتلئة تزحف علي يدي فانتبهت الغرائز فجأة وتركزت في منطقة اليدين , ضغطت علي يدي ومالت بجسمها علي ّ أثناء القبلة التي تدور علي الشاشة وقالت : لأنني أعرف جيدا أننا لم نفعل ذلك عمدا , أمنت علي كلامها والبطل والبطلة في حديث هامس يخططان كيف يواجهان والدها الواقع في ضائقة مالية وينوي تزويجها من رجل غني بالأمر , أكملت : ولذلك تركت لك الحقيبة عامدة لكي تكتشف كل شئ لأنني أخجل أن أصارحك به , سألت نفسي : متي تركت لي الحقيبة؟ , وماذا فعلت وقتها ؟ , كان شعرها في هذه اللحظة يلمس وجهي وحرارتي ترتفع , وكان البطل علي الشاشة في أزمة مع البطلة وهي تبكي في صمت , كان قد اكتشف ما عده خيانة لحبهما وهو ليس كذلك , سمعتها تقول بعد أن فرقعت بالونتها فالتصقت بخدي , وصديقتي أيضا فعلت ذلك مع حبيبها في البداية ولكن الأمر اختلف عندما فهما بعضهما جيدا , أحسست بها تسحب بقايا البالونة المنفثئة من علي خدي بلسانها فخفق قلبي , الظروف التي نمر بها الآن تجعلنا نفعل ذلك , ولكنني واثقة أننا يمكن أن ندبر حالنا كالآخرين , قلت لها : طبعا , بينما أنا واقع بكليتي داخل خصلة شعرها الكثيفة التي تمنعني كلية من رؤية القبلة الثالثة علي الشاشة , انتبهت لها : وهم لن يعارضوا , فهم يقدرون كل شئ , كانت لحظة الذروة علي الشاشة عندما يكتشف البطل والبطلة الفخ الذي نصبه لهما الشرير لكي ينفصلا , وكنت أعرف أنهما سيغيبان في قبلة طويلة , ولكن اللون الأحمر الذي برز أمام عيني منتصبا وفي وسطه مجري العبير جعلني أصدق علي جملتها الأخيرة : المهم أن نتعاون في كل شئ ونمضي خطوة خطوة , غرقت بين الفيلم والثورة التي تتأجج وسمعتها من بعيد وهي تهمس : هل تقسم علي ذلك ؟ , كنت متحيرا إذ أن حديثها كله كان غير مفهوم , نام خدي علي اللحم الطري ووجدت يدها تعبث بشعري فقلت كالحالم : نعم أقسم , لاحظت أن عينيها قريبتان جدا من وجهي , وسمعتها تسأل : بماذا تقسم , قلت مبهورا : بالله , قالت : ورحمة أبيك , قلت مرددا وراءها : ورحمة أبي .
انتبه حين أضاءت الأنوار في الصالة ووجد أنها تسوي حجابها وقميصها وتلوك قطعة اللبان ثم تخرجها من بين أسنانها وتلصقها بذراع الكرسي , وسمعها تقول : كنت متأكدة أننا سوف نصل لهذا الحل , فعل مثلها وأخرج قطعة اللبان ولصقها بذراع الكرسي فوق قطعتها , قام واقفا فاكتشف أن قميصه مفتوح علي مصراعيه , نظر لها مستفهما فابتسمت , عاد للجلوس يسوي هندامه وسمعها تقول : ولا داعي للسينما بعد ذلك أيضا , يمكن أن نوفر مصاريفها , بدأ يتأمل ملامحها وكأنه يراها أول مرة , تأمل وجهها المستدير المغطي بالنمش الخفيف تحت عينيها ووجد أن هذا النمش شئ مميز وفاتن فعلا , راح يفكر أن هذه السمنة في جسدها تجعل الأمور لينة إلي حد ما , أما شفتاها الممتلئتان والغمازة الصغيرة فقد كانت لها جاذبية لا تقاوم , كانت قد جلست بجواره تمسح شيئا ما علي وجهه وهو مستسلم لها , عندما انتهت وجد نفسه يقف ويمضي معها إلي الطابور الطويل المنكس الرؤوس الذي يخرج من دار العرض وعيونهم تحاول التعود علي الضوء المفاجئ .
كوكو
|