ما زال العالمانيون العرب بمجملهم مع استثناءات بعيدون كل البعد عما يدعون الناس إليه وهي الديمقراطية العالمانية.

جربت الأمة العالمانية الديكتاتورية عقودا، طبعا تمّ طلاؤها بما يلزم لعدم تنفير السواد منها، تم طلاؤها بما يلزم من مساحيق دينية وأحوال شخصية دينية، في بعض المناطق الداخلية من الأمة وليس في كلها.

الأمة حين انعتاقها من الدكتاتورية والإستبداد لا نريد لها أن تدخل استبدادا جديدا، ولا حتى لو تسربل بالإسلام من رأسه إلى ساسه، ذلك أن الكثير منا يرى، أعني "الإسلاميين"، أن الاستبداد مناف كل المنافاة لقواعد الحكم الإسلامي الرشيد، الذي لا يستتب إلا على أربع قواعد ثانيتها أن السلطان للأمة، وحين يسلب هذا السلطان من الأمة تنتفي إسلامية الدولة بمجملها، حتى لو بقيت كافة أركان وقواعد نظام الحكم الإسلامي قائمة بالفرض.

حين يمارس العالمانيون العرب التطبير وشق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور، والتهويل من شأن الخصم، فإنهم لن يزيدوا أن يقدموا خدمة مجانية لنا كـ"ـإسلاميين"، قد لا نريدها ولا نحتاجها، وسأبين لماذا
طريقة تعاطي العالمانيين مع القضية تثير حنق سواد الناس، الذين سيفسرون عمل العالمانيين بالزندقة والتفلت من الدين ومن الضوابط العامة للمجتمع، الضوابط المستقرة منذ أن خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة الوداع إلى يومنا هذا، وهذا التفسير سيدفع الناس دفعا إلى أحضان الإسلاميين دون بذل أي جهد من قبل الإسلاميين.
يزداد حنق الناس كلما أمعن بعض العالمانيين بشتم وقذف والنيل من رموز مقدسة يعتبرها سواد الناس أغلى أمانيّهم، أعني محمدا والحج والكعبة وآل البيت والصحابة مع ملاحظة تسنن أو تشيع سواد الناس، وهذا سيجعل من الأيسر على الناس والإسلاميين أن يعملا معا ضد العالمانيين.

أنا، وضمن توجهي السياسي الإسلامي، أرفض هذه الخدمة المجانية لأنها ستؤذي الإسلاميين على المدى الطويل ولن تنفعهم، فعدم التعب للحصول على الهدف سيؤدي إلى عدم المحافظة على أي مكاسب سياسية لو حصلت، كما قال المثل الإنجليزي إيزي كم إيزي غو.
هذه الخدمة المجانية ستدفع فريقا لا يستهان به من الإسلاميين، لا سيما ممن تميز بالميوعة أو الانغلاق السياسيين، إلى انتهاز الفرصة والقفز على الكرسي لتشكيل استبداد جديد لو نجحوا، استبداد مدعم بـ"ـالدين"، يتم من خلاله حرق النظرية السياسية الإسلامية ونسفها من جذورها، إلا أن يشاء الله. وإيران تشكل مثالا على ذلك.
إن فرضنا فشل تجربة القفز على الكرسي، فإنه سيعقبها حملة قمعية شديدة تذكر بسجون عبدالناصر ومن شابهه من المستبدين العرب إبان حربهم على الإسلاميين في السنين المظلمة التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين.
على كل حال، فإن الخصم الضعيف سيعطي ضعفا لنظيره، وردودا لا تتماشى مع تحديات الواقع المعاش والتحديات المعاصرة الخارجية، وطفوليّة العالمانيين العرب في طروحاتهم ستؤدي إلى طفولية رد الإسلاميين غالبا، بما يجعل الطرفين مكشوفين أمام الخصم الخارجي العنيد، الذي لا يمانع حقيقة أن يشنق آخر عالماني عربي بأمعاء آخر إسلامي، أو العكس.

أتمنى من العالمانيين العرب أن ينطلقوا إلى الشارع بمشاريع قابلة للتحويل إلى وقائع، مشاريع سياسية وفكرية تطرح على الناس حلولا لمشاكل يعايشونها، وسيطرح الإسلاميون نظيرا لها، وحين تختار الناس فإنها ستختار بعد عملية فكرية وليس بعد فزعة عشائرية. هذا هو المفيد وهذا هو المطلوب، مع ملاحظة تديّن سواد الناس، وميلهم الطبيعي لأي طرح ذي طابع ديني، بما يرفع درجة التحدي.

تفضلوا، الملعب السياسي مفتوح... فرجونا شغلكم!