RE: مقابر / قصص قصيرة
مقبرة 6
الساعات
ينفتح دفتر الحياة في المدينة صباحا بصفارة المصنع في السادسة , صفارة أشبه بصوت الزمارة الغليظ . قبلها تكون أجراس آلاف المنبهات المضبوطة وساعات اليد المشتراة بالتقسيط من عم خليل قد رنت بإصرار في بيوت العمال فأيقظتهم من نوم التعب , تكون البوابات الحديدية الثلاث علي جهات الشرق والغرب والجنوب قد انفتحت قبلها علي مصراعيها لتستقبل ( الوردية )الأولي , تخرج ( وردية) الليل , تستنشق هواء الصباح في عنف , تغسل صدرها مما علق به من الدبق الصغير لغزل القطن , لدي انفتاح البوابات تسيل الأرض بالرجال الماشيين , بالدراجات , بالأتوبيسات , يتمدد الماشون من بوابة الشركة وحتي الكوبري العلوي الذي يبعد كيلو مترا عنها , تفترق بهم الشوارع الجانبية , إلا أنهم مازالوا يكونون كتلا غليظة , يلتفون أمام طاسة الفلافل الساخنة يمدون أيديهم بالعملات المعدنية , يتزودون بإفطارهم , أصابعهم تعد أرغفة الخبز الساخنة الخارجة توا من الأفران , يستمعون لصوت بائعي الفاكهة والخضراوات , ينحنون علي مقاطف بائعات الجبن القريش علي الأرصفة , يلتقطون أربطة الفجل والجرجير , حبات الطماطم والخيار , لفافات الحلاوة الطحينية , اليوم هو يوم قبض الرواتب , عم خليل لا يخرج من المصنع في هذا اليوم , يظل يتجول بين (الورديات) الثلاث كالنحلة , يتميز بشعره الأسود اللامع وبياض وجهه وسمنته وحركته , يتكلم وهو أمام المغزل يعمل , يأكل وعيناه لا تفارقه , يحتسي الشاي وهو يشير للعامل المجاور أن ينتبه لنوله , عندما يعرف أن العمال صرفوا الراتب يبدأ في حركة من نوع آخر , يفتح كيسه المملوء بالساعات ويتحرك بين العمال , يحصل أقساط الساعات والمنبهات ويعرض علي العمال الجدد ما يحمل من بضاعة , يتبادل معهم القسط الأول بفرحة زينة المعصم العاري بالساعة الجديدة , قبل أن يسلمها لصاحبها يضبطها علي ساعة برج المصنع الكبيرة , يصنع العلاقة الجديدة بين سواعدهم وشركة الغزل , العلاقة التي ستتعمق يوما فيوما , يلتف العمال القادمون منهم من الأرياف يسألونه كيف يقرأون الوقت في الساعة , تتركز العيون الجديدة لعقارب الساعة , ومكان الأرقام , كل همهم يتجه إلي مكان السادسة والثانية والعاشرة , مواعيد (الورديات ) الثلاث , يريهم طريقة ملأ الساعة حتي لا تتوقف , كيفية ضبط جرسها حتي يرن في الميعاد المضبوط , الساعات في كيسه أشكال وألون منها الغالي والرخيص , القديم والجديد , التي تملأ باليد والتي تسير آليا , قد ينتحي به أحد العمال جانبا , يهمس في أذنه ويشير بيديه , يبتسم في وجهه بحنو ويمد يده داخل كيسه , يخرج إحدي الساعات القديمة , يمسحها في ملابسه يناوله إياها وهو يربت علي كتفه .
يتوقف عم خليل عن السير في الشارع العريض قريبا من البوابة الكبيرة , يستند علي عصاه ويمسك بيده كيسه القديم , الشيب قد انتهك رأسه كله , تحول وجهه للنحول والتغضن , يتأمل ساعة البرج ذات العقارب الفسفورية الخضراء التي علاها التراب , العقارب مازالت تتحرك ولكنه يحسها واهنة مثل دقات قلبه , كانت صفارة المصنع قد انطلقت منذ قليل , صوتها الذي كان يصله عند منزله البعيد ( كبروجي )الصباح يعزف نوبة استيقاظ يأتيه الآن خاليا من الحماس , ممتلئا بالنعاس , راح يراقب البوابة الكبيرة وهي تفتح بابا صغيرا منها في خجل , يبدأ مئات العمال في الخروج فرادي , يتناثرون في الشارع العريض كأنهم حفنة أرز ملقاة في ساحة ملعب كبير , يبدأ في تصفح وجوه من يمرون عليه .
- صباح الخير يا عم خليل .
فزع الشيب الذي يجلل رأسه حين رنا ( لشونة ) القطن التي كانت يوما مترعة ببالات القطن المحلوج تنتظر دورها في الغزل , رآها قد تقلصت بفعل اقتطاع أجزاء منها وارتفعت حولها المباني المتطاولة أو الصغيرة مكان مشتل الزهور , وخلف المستشفي العام , وحذاء شارع الحدائق , حوصرت بالات القطن في المساحة الضئيلة كالمجرم .
يأتيه صوت كأنه يولد من الماضي البعيد : معاك إيه في الكيس يا عم خليل ؟
يتهلل وجهه ويتفزز في دمه نشاطه القديم - ساعات يا بني , ساعات .
يتأمل وجه السائل في تحقق : ماشفتش عبد العزيز بتاع مصنع تلاتة .
- ياه ياعم خليل , انت لسه فاكر , طلع خصخصة من ست شهور , ما عرفتش اللي حصله , الحرامية قطروه من البنك وسرقوا منه مكافأة الخصخصة .
- لا إله إلا الله , وعمك محسن بتاع التوربينة .
- ياعم خليل ركز شويه أنت سألتني عليه قبل كده وانا قلت لك أنه طلع الدفعة اللي قبلها , سافر علي بلدهم كوم حمادة , حيقعد هنا يعمل إيه ؟ أخد مكافأة الخصخصة وقال حابني بيت وأعمل فيه دكان ,أهو يساعد مع المعاش .
- وبني البيت وعمل الدكان ؟
- أبدا , أبنه ياسيدي , انت عارف أنه مش بيشتغل , خاطب وعايز يتجوز , عطاه القرشين .
تظلل كتلة من الغمام وجهه و تروح عيناه تتأمل مركز التدريب المهني المواجه للبوابة , أبوابه مغلقة , أطل بعينيه إلي الشبابيك المكسورة يراقب المكاتب الخشبية القديمة التي تحللت من الإهمال , تذكرها أيام كانت تلمع , راح خياله يسرح مع صورة العمال الجدد وهم يخرجون ويدخلون في حركة دائبة لا توقف وأيديهم تحمل الكراسات والأقلام .
- والواد عيد بتاع البوفيه إللي في الإدارة ؟
- يا عم خليل إصحي بقي , مافيش حد من اللي بتتكلم عليه , وريني الساعات .
- ماعييش غير اتنين .
يمد يده للكيس , يخرجهما , ينشر كل واحدة علي كف .
- بكام الساعة دي ياعم خليل ؟
- مش للبيع يا بني .
- ودي ياعم خليل ,
- ولا دي يا بني , انت شغال في النسيج ؟
يضحك الواقف امامه : نسيج إيه يا عم خليل , أنت لسه فاكر , انت جاي هنا ليه ؟ .
يودع الساعتين الكيس في بطء ويتحرك في اتجاه البوابة التي أغلقت بعد أن أفرغت مئات العمال الذين تاهوا في الطريق الطويل ولم يعد لهم أثر , يصل إليها , يمسك بحديدها للحظات , يفرك يديه , يمسح الصدأ الذي التصق بهما , يخرج الخفير من وراء البوابة .
- روّح يا عم خليل
- أنا عايز أدخل , عايز أيص ع المكن , عايز أشوف الأنوال , عايز أشوف التوربينة .
- روح يا عم خليل بلاش قلبة دماغ .
– إلهي يجبرك نفسي أشوف المكن قبل ما أموت , حرام عليك أنا زي والدك
- روح البوابة التانية ياعم خليل حيدخلوك .
- أبدا يابني مش راضيين , بيقولولي روح أدخل من البوابة الكبيرة والنبي تفتح أدخل .
– روّح يا عم خليل روّح .
- أروّح فين يا بني , البلد زي ما تكون ميته , مافيهاش غير ناس ماشيين , بس من غير روح .
يتركه الخفير وينسحب إلي مكمنه وراء البوابة , ويجلس علي كرسيه مراقبا , يستعطفه عم خليل بنظراته , يلتفت بوجهه متحاشيا النظر إليه .
- طيب أنا حاجي بكره , بس تدخلني .
- طيب روّح دلوقتي .
يضع عم خليل يديه علي جبينه قانطا , يحاول التحرك بعيدا عن البوابة ولكن رجليه لا تسعفانه , يتهاوي ملصقا ظهره بحديدها البارد الصدئ وعيناه ثابتان علي الشارع الطويل العريض الخالي أمامها .
كوكو
|