كل ما أستطيع قوله ألا شيئ سيغلب سعادتي وحماسي لانتفاضة شعبي الذي طالما خضع وخنع، وطالما طأطأ رأسه خوفاً من آلة أمنية جزارة، قادرة على إخفائه زهرة شبابه وإخراجه كهلاً مريضاً على حافة القبر....

هذا هو بلدي.....
زرت فرع الأمن مرة لأخذ موافقة أمنية، وما أكثر حاجتنا لهذه الموافقات.....
إن أردت التوظيف في الدولة أو أن تستثمر في التجارة، أو أردت حتى أن تضع يافطة على دكانك : موافقة الأمن وإلا الويل والثبور....

أذكر يومها خوفي وارتعادي وأنا أسلم كل ما في جيوبي للحراس على الباب، حتى بطاقتي الشخصية....
وأذكر كيف أجلسوني من التاسعة صباحاً إلى الثانية بعد الظهر على كرسي خشبي قبالة المساعد جميل، ولم أجرؤ حتى أن أطلب الذهاب إلى الحمام. ثم قالوا لي عد غداً لأخذ الموافقة.....

أتذكر جيداُ ذاك الرجل العجوز التاجر في الثمانين من عمره، الذي دخل ولم يطلب منه المساعد حتى الجلوس...
وأذكر كيف أجبروه على التوقيع على ورقة بيضاء.... وعندما سأل لماذا الورقة بيضاء زجره المساعد، وقال له : "ولك...... نحن الأمن.... الأمن يعني الأمان...... ثق بنا ووقع......"
اعذروني، عرفت يومها أنه "أكل خرى" وسيندم على توقيعه بقية عمره الذي لم يبق فيه بقية......

نعم.... الزمن دول وأحوال، من سره زمان ساءته أزمان......
ونعم خرجت ثاني يوم بالموافقة وأنا ألعن الساعة التي ولدت فيها بهذا المكان وهذا الزمان.....

أتذكر أيضاً حينما أوقفتني دورية أمنية، وفقدت النطق.... لم أعد قادراً حتى على الرد على أسئلتهم....
وكانت يداي ترتجفان وأنا أسلمهما بطاقتي الشخصية.....
ضحكوا وسخروا مني.... ويحق لهم هذا......
فالجبناء لا يستحقون إلا السخرية...

وها هم الخائفون يقفون ويتكلمون....
ها هم المرتعدون والراجفون يرعدون ويزبدون، ويقولون لا للمرة الأولى منذ نصف قرن....

أمسكتمونا من رقابنا، من لقمة عيشنا، من خوفنا على أهالينا، فكم أنتم أنذال.....
كم أنتم مجرمون وسفهاء.....
لا أملك كلمة لأصف عمري الذي ضاع ككثيرين من أبناء جيلي، بين الرجاء والترجي، وبين الرياء وتقبيل الأيادي، وبين الخوف والهلع، وبين الفقر والحاجة مع أنني كنت أعمل ليل نهار........

وأخيراً وقفنا..........
لا زلت لا أصدق..........
الشعب السوري الآن يسير في الشوارع متظاهراً....... ويقول لا..........

أين ال"نعم إلى الأبد" ؟؟؟؟؟؟؟؟
أين ذهب الخوف والنفاق ؟؟؟؟؟؟؟؟

مظاهرات شعبية هنا وهناك.... وشعب ينادي بالحرية بكل سلمية..........
تونس يا أم العرب، ومصر يا أم الدنيا، وسوريا يا أمي وحبيبتي.......
سوريا يا طفولتي التي وقفتها على أبواب المؤسسات الاستهلاكية أترجى علبة حليب أو كيس طماطم....
سوريا يا مراهقتي التي قضيتها أهتف للرئيس كذباً كل يوم، وأعلم أني سأعاقب إن لم أفعل.....
سوريا يا شبابي الذي قضيته أعمل مهندساً صباحاً، ومبرمجاً بعد الظهر وبائع أعشاب طبية مساءاً، ولم أجن منك إلا الفقر والحاجة.........
سوريا يا أمي وحبيبتي........

والآن يا حبيبتي، ما زال المنافقون في أجنابك يعيثون....... ما زالوا هنا وهناك يرابون.......
ولكنهم مختبئون خلف زجاج سياراتهم.......
يخرجون مسيرات تأييد، ولكن انظري.......... سيارات فارهة لا أدري كيف حصلوا عليها........
أعرفهم كلهم........
لم يعملوا في حياتهم.........
لم يعرفوا المعاناة أو التعب..........
سيارات مرسيدس مقابل جماعات شعبية على أقدامها.........
ألم أقل لك يا حبيبتي يوماً، أريد أن أصنع لك أجهزة متقدمة كمثل التي تعلمت صنعها في أوربا......
رددت يومها ليس لديك نقود........ كذبت............
خنتيني كعشيقة مراهقتي........ ونمت مع غيري.........
أعطيت النقود لشراء سيارات المرسيدس والعربات الفارهة.........
أعطيت النقود لمن لا يعمل ولا ينتج.......
لماذا لم تعطيني حقي............

اليوم ستعودين إلى عقلك....... اليوم سترفضين الصعود مجدداً في سيارة المرسيدس.......
وستبقين معي على الرصيف نهتف للحب.......
نأكل كوز الذرة سوياً ونضحك كما حلمت أن نضحك.......

سوريا........ يا أمي وحبيبتي الأزلية...... لا تصعدي في سيارة المرسيدس مجدداً.....
وابقي معي على الرصيف، ففي قلبي خاتم عرسنا........