من الحقائق الواضحة فيما يخص تاريخ الثورات، أن العوامل والأسباب التي تنسب إليها الثورة تكون سابقة الوجود على الثورة ذاتها بفترات طويلة تقاس بالعقود، واحياناً بالقرون، أما لماذا تندلع الثورة في هذا الوقت بالذات الذي اندلعت فيه فلا توجد إجابة شافية. وإذا كانت الثورة المصرية قد أضافت شيئاً إلى هذه الحقيقة فهي أن الثورة قد تنفجر في أجواء ليست هي الأشد مدعاة للاحتجاج الثوري وتحريضاً عليه. لماذا، مثلاً، لم يثر المصريون رداً على تجديد قانون الطوارئ في احد مرات تجديده إذا كان مطلب الحرية هو رائدهم ومحركهم؟ أو حين كان داعية حقوق الإنسان سعد الدين إبراهيم يهان ويسجن في محاكمة ظالمة؟ أو حين قمع اعتصام سلمي للقضاة؟ أو حين كانت تقصف أقلام وتغلق صحف؟ لماذا لم يثوروا حين احترق أكثر من ثلاثمائة مصري في قطار؟ أو حين غرق أكثر من ألف مصري في عبارة هرب صاحبها من المحاكمة؟ أما مطلب الخبز والوظيفة فلم يكن أنسب لتثويره من الفترة من سنة 2000 إلى 2004 وهي فترة ركود فاتل كان مستوى النمو فيها أقل من مستوى الزيادة السكانية مما يعني زيادة الأوضاع بالغة السوء اصلاً سوءاً. هل انفحرت الثورة المصرية بفعل تراكم كل هذه العوامل؟ فما هو المؤشر الذي إذا بلغه الحد التراكمي تنفجر الثورة؟ الحق أن الثورة المصرية اندلعت في ظل أفضل الظروف (أو أقلها سوءاُ) التي عاشها المصريون تحت حكم مبارك.

لماذا تثور الشعوب العربية الآن؟ بسبب الاستبداد والفقر والمهانة...الخ؟ هذا صحيح ولكنه يشبه بأن نجيب على السؤال: لماذا يسقط المطر؟ بـ: لأن ماء البحر يتبخر ويتحول إلى سحاب. بين تبخر الماء إلى سحاب وسقوط المطر هناك شروط وديناميات معينة معروفة ومحددة في النظام الإيكولوجي ولكنها ليست كذلك في المسافة التي تفصل بين توفر ورسوخ أسباب الثورة من ناحية وانفجار الثورة من ناحية أخرى. هناك عامل ما سحري أو شبه سحري يشعل الثورة في هذا الوقت بالذات، عامل يكسر روتين الوضع القائم بشكل دراماتيكي وعلى أوسع نطاق تمهيداً لمواجهة حاسمة يخوضها الشعب وتراهن على المستقبل.

لدينا الآن، في العالم العربي، ظرف ثوري لا يخلو من سحر، وسنحتاج سنوات وربما عقوداً لنفهم بعض جوانبه القابلة للتفسير والفهم لكن ما يهمنا منه الآن أنه يوفر ما يشبه الشرارة الثورية لأي مجتمع عربي تتوفر فيه شروط الفعل الثوري. صحيح أن لا أحد فينا يعلم الغيب لكن بإمكاننا أن نرجح أن مثل هذا الظرف لن يتكرر في المستقبل المنظور، ولعلنا لا نفتئت على علم علام الغيوب إذا توقعنا أن النظام العربي المستبد الذي لن يسقطه الظرف العربي الراهن لن يسقط أبداً وله أن يشرب أنخاب نصر مظفر، وفي المقابل إذا لم يتحرر شعب عربي مستعبد في نفس هذا الظرف فله أن يهيئ نفسه لمواصلة المسيرة في ليل العبودية الحالك مضافاً إليها شعور مهين بالدونية والعجز واليأس.

هناك عشرون مليون سوري أو نحوهم يقفون، في هذه اللحظة، أمام اختبار تاريخي حاسم سيتحدد على ضوء نتائجه مستقبلهم لأجيال قادمة. إما أن يلتقط السوريون الموجة الثورية التي تدق بابهم وينطلقوا بها إلى المدى الأقصى وهو إسقاط نظام البعث الحاكم إسقاطاً كاملاً ونهائياً ومن جذوره وبأي ثمن فيكون نور وفرح وبهجة تعانق السماء وموعد مع القدر والمستقبل، أو أن يعطوا ظهرهم للقدر وللتاريخ فيكون ظلام وتكون حسرة.

لن تكتمل الأفراح إلا بالفرح السوري، وإنا لمنتظرون.





--