شهداء حمص يتبرعون بالدم.. لتراب سورية
أحمد كالو
2011-04-22

اقرّ واعترف وأتباهى بأنني استطعت أن ألمس متظاهرا بيدي، وأنني شعرت كما لو أني قد لامست السماء التي باتت قريبة، منذ أن تعلم أطفال درعا الكتابة الهيروغليفية الجديدة.
أنا الكائن الذي لا يعرف معنى المواطنة الذي يعبر الآن شارع الدم والشهداء، مارا بجوار شبيحة يرتدون الزي اياه ، زي موقعة البيضا . كان الشبيحة يحرسون احد أصنام الرئيس الأب.
أعود إلى ركني سامعا هدير الأصوات من بعيد وهي تهتف للحرية، أمر بصديق اسمه عمار سُجن قريباه، بعد خُطفهما من احد المشافي، اعتقل الاثنان؛ المصاب مع أخوه الذي أسعفه، الجريح بقي ثلاثة أيام في الحجز مع أخيه، وروى قصصا مروعة عن التعذيب، وصرح تصريحا غريبا هو أنّ التعذيب في فرع الأمن العسكري كان ارحم ألف مرة من تعذيب الممرضات اللاتي كن ينكأن جرحه بالمقصات والسكاكين في مكان إصابته بالرصاص؟ شهادات متواترة من جرحى وصبية معتقلون عن تهشيم عظام وصعق بالكهرباء وتحطيم جماجم، وشهادات عن شباب عذبوا، ثم تم وضعهم في براميل مياه باردة لعدة ليال قبل الإفراج عنهم لتخفيف آثار التعذيب و تمويهها. وروايات عن جرحى وضعوا في برادات الموتى ليموتوا بردا. روايات أخرى غير مؤكدة تحتاج إلى توثيق عن جرحى يُدفنون أحياء تحت التراب، يميل الناس إلى تصديقها حتى لو لم تكن صحيحة؟ شهادة عن رجل سقط عليه رأس الصنم في الرستن، فحطم رجله، فبتروها له، فهب الناس لنجدته محاصرين المشفى بمئات الدراجات النارية مهددين بحرق المشفى إن لم يسلموا بطلهم الأعرج، ففعلوا ؟ لاحقا عرض الرجل المبتور على إحدى الفضائيات؟
خطف احد المتظاهرين أمام عيني، رجال الأمن مثل الذئاب يأكلون من المظاهرة القاصية، لكن الأقصى من المتظاهرين هو فدائي حقيقي، قبل أيام، في احدى الجمع العظيمة، كان رجل امن يرتدي بدلة رياضية يصيح في احد المتظاهرين وهو يضربه ضربا مبرحا : ساخذك إلى الفرع واشرب من دمك، فيرد الشاب: اشرب، تسمم ، أنا جاي لاستشهد . اسمع وارى غير مصدق، شباب يركلون في الوجه، والرأس حتى الموت و شباب يرمون بأنفسهم في حضن الردى وهو واقف. في اليوم التالي لإحدى المظاهرات وقفت في الشارع على بقعة دم، كانت السيارات والمارة يعبرون فوقها دون اكتراث، لم يكونوا يعلمون أن بقعة الدم هذه مقدسة، وأنها جسر سيعبرونها إلى المستقبل بلا سفن أو قوارب.
سبعة جثث انطلقت من جامع الأربعين يوم الاثنين ( 18 نيسان)، بأربعين ألف قدم ومليون حسرة ونهدة وتكبيرة وهتاف ، انطلق الشهداء من جوامع متجاورة ، جارين وراءهم جحفلا من الآمال والتقوا في نهر بشري واحد يردد : عَ الجنة رايحين، شهداء بالملايين . انطلقوا في صراط واحد إلى الحرية المعبدة بالدم، واتجهوا إلى مقبرة سأعلن اسمها المفاجئ في نهاية المقال . تذكروا اسم المقبرة يربط التاريخ بالحاضر ربطا يجعل التاريخ يقف مجفلا؟
في المساء بعد العودة من الجنازة اسمع أنباء عن اعتصام في الساحة بين الساعتين القديمة والجديدة الشوارع محجوزة ، و الاعتصام محاصر بالأسلحة والجند، أسمع صوت إطلاق نار من سيارات تجول بحرية، يزعم الإعلام السوري أنها لعصابات مسلحة، وفعلا هي عصابات مسلحة حرة من كل رقابة، تقوم بعملها تحت رعاية الأمن والجيش؟

شهادات من ساحة الساعة التي سميت باسم دالٍ وموحٍ ومعبر اسمه "ساعة التحرير: ساعة الحرية لم تكن حجرية معطلة إذاً ! كانت بطاريتها قد ماتت من نصف قرن وها هم الشهداء يشحنونها بدمهم .عشرات الآلاف، الذين خرجوا من القمقم بدؤوا بصنع المعجزات عن هامش دمهم: هتافات للحرية والوحدة، كيف استطاع هؤلاء الاجتماع والالتئام وبينهم محيطات من الخوف والطوارئ؟ كيف خرجت الخيام التي خلقت كأنما بخاتم سحري ؟ كيف ظهرت مكبرات صوت من تحت الأرض؟ كومبيوترات محمولة؟ آلاف من النسوة خرجن من بيوتهن مع أولادهن لأول مرة منذ نصف قرن ليروا الشمس في منتصف الليل !النساء احتلوا ساحة مستقلة، تحت البنك الإسلامي، و تصدى شباب لحمايتها فصحن فيهم : لسنا في حاجة للحماية.احموا الثورة . سندافع عن أنفسنا. طلب شاب من احد الشابات إلقاء كلمة، فاعتذرت بأنها لا تجيد الفصحى فطلب منها أن تقول ما في قلبها ببساطة، أن تقول أي شيء يخطر على بالها، فصعدت وتحدثت عن أنفاس الحرية التي شمتها أول مرة ، ورؤيتها ليلة القدر .هدف الاعتصام هو الأول من نوعه في حمص منذ فجر التاريخ لم يكن إسقاط النظام ولا رفع الطوارئ و لا تحرير المعتقلين السياسيين ولا قلب الحكومة ، الهدف كان هو البحث عن الذات المهدورة. في شارع فرعي التقت مظاهرتان منطلقتان من الخالدية و البياضة نجدة لحارة باب السباع فتعانق الجميع ، سأل احدهم :
لم يتعانقون ؟
أجبت : انه عناق بين أهل من مدينة واحدة بعد فراق قسري عمره 48 سنة؟
احد الأصدقاء زار فرع الأمن السياسي، للإفراج عن صبي معتقل فيه، بسبب بكاء أمه المتواصل خوفا على ابنها من التعذيب الذي تؤكده عشرات الضحايا العائدة من دمشق بعد احد عشر يوما من التعذيب والتحقيق، مع ضحيايا بينهم اطفال في سنت الثانية عشرة، فجمع وجهاء الحارة وذهب و خرج بشهادة عن التحول الجديد في أداء الأمن ولخصه في الكلمة التالية : ما يطبق حاليا هو طوارئ الطوارئ لكن ثمت تعديل فقد صرح له رئيس الفرع أنه أحضر بعض الأصص النباتية إلى الفرع ! ويمكن للمتظاهر أن يتمتع بالتعذيب على مشهد الخضرة الصناعية وصوت حنفية معطلة تهدر الماء ليل نهار؟
الشيوخ والأئمة تخلفوا كثيرا عن ثورة الشباب لكن الجماهير سعدت ببيان علماء حمص كثيرا، الذين كانوا صامتين إلا عن فقه النكاح و نواقض الوضوء. الشيوخ والعلماء تعوزهم لغة العصر والسياسة والمفاوضة و فن المساومة مع النظام الماكر الذي طمع في إلهائهم بفضائية دينية يغني فيها المفتي بدلا من نانسي عجرم.
وفي صباح اليوم التالي، يوم الثلاثاء 19 نيسان ، ابتدأ الناس صلاة الفجر بأذان مرتبك. مؤذن كبّر تكبيرتين ولم يتم الآذان، خوفا أو خوفا. و حي مؤذن ثان على الجهاد ثم اكتشف انه مندس مضاد، فلوحق وعرفت شخصيته من جواله الذي سقط منه ؟ ودعا مؤذن ثالث إلى التبرع بالدم فالجرحى في البيوت .. من إحدى أهم القصص الملحمية أن سيدة حمصية شاهدت من شرفة منزلها شبابا يهربون في الليل محتارين من الرصاص، فنادتهم و فتحت لهم باب العمارة وأدخلتهم إلى بيتها، ولما طلب الشبان أن توقظ احد الرجال عرفوا أنها وحيدة، ، استأذنوا في الخروج، فلم تأذن لهم. فلن تخذل إخوتها ؟ و لا خوف من شهداء مع وقف التنفيذ . تعشى الشباب السبعة وناموا وخرجوا مع طلعة الشمس مودعين أختهم الجديدة. وهي قصة تذكر بقصة مشابهة لثائر هارب من الاستعمار الفرنسي، فأخبتا مع صبية كانت تستحم، طرق عليها الباب ففتحته له، وخبأته في الحمام معها، ولما جاء الجنود وأبرزت السيدة المستحمة رأسها تراجعوا، فالجنود الفرنسيون يقدرون حرمة الحريم في الشرق التي لا يقدرها الشبيحة ؟
بعد العصر وصلت الجنازة العريقة الطويلة العملاقة إلى مقبرة الكتيب، بالفطرة، وبغير اتفاق، أو ربما لإدراكهم أن الشوارع محجوزة ومغلقة بالحواجز الأمنية ، أو بغريزة الطيور والنمل و السحاب و الشمس والنجوم . كان شبان متطوعون قد حفروا قبورا في ممرات بين القبور الكريمة المتزاحمة في المقبرة التي تضم رفات مئات الصحابة ، وهناك، قريبا من المجد الصافي، دفنوا إلى جوار أكثر من 500 صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ووقف الإمام يدعو لهم دعاءً تمنى الأحياء كلهم لو كانوا شهداء.
كاتب سوري