تكلمنا، كثيراً، عن دور المثقفين العرب المتخاذل في مواجهة أنظمة الفساد والتبعية السياسية للغرب، ولكننا قلما تطرقنا إلى دعم مثقفين عرب يساريين لأنظمة الاستبداد ذات الشعار 'الوطني' و'القومي' التي تحكمها، هي أيضاً، طغم عائلية تستأثر بالجهازين الأمني والاقتصادي. لا فرق عندي، على هذا الصعيد، بين نظام التابع والنظام 'الممانع'. فالعائلة هي العائلة. الجهاز الأمني هو الجهاز الأمني. سيطرة أفراد من العائلة على الاقتصاد (الطفيلي في مجمله) هي ذاتها. لكن مع ذلك تجد من يصنع فرقاً جوهرياً بين النظامين. فمثلا، في مصر 'الاستسلام' و'التطبيع'. أما في سورية فهناك 'الممانعة'! هذا هو الحائط، الهشّ، الذي يستند إليه مثقفون ومعارضون سياسيون عرب (يساريون في الغالب) في تأييدهم للنظام السوري. والغريب أن هذا الحائط الهشَّ لم يسقط حتى بعد سقوط أكثر من ألف ومئتي شهيد في الانتفاضة الشعبية السورية وتحويل المدارس وملاعب كرة القدم الى معتقلات جماعية للمنتفضين. وكما أن للنظام السوري فريقه في لبنان ، كذلك، 'رَبْعَه' في الأردن، وخصوصاً، في 'رابطة الكتَّاب الأردنيين' التي يرأسها الصديق القاص سعود قبيلات. ولكن قبل مناقشة هذا الموضوع أرغب في استعادة هذه الفقرة من إدوارد سعيد عن دور المثقف: 'إن ما أسعى إليه هو وجوب بقاء المثقف أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الانساني والاضطهاد رغم انتسابه الحزبي وخلفيته القومية وولاءاته الفطرية. على المثقف المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيات السهلة (...) البحث عن معيار واحد للسلوك البشري ومحاولة الحفاظ عليه'.
' ' '
تساءل الصديق سعود في مقاله 'وجهة نظر في حادثة غريبة' (الرأي 3 حزيران (يونيو)2011) الذي يردُّ فيه على مقالي 'مع التغيير في الأردن وضده في سورية' ('القدس العربي' 25 أيار (مايو) 2011) عن 'الغاية التي يمكن أنْ تتحقّق من التشكيك بصدقيّة القوى والأشخاص العاملين مِنْ أجل الإصلاح في الأردن! ومَنْ سيكون المستفيد مِنْ هذا؟ وما هي القضيّة التي يتمّ الانتصار لها، فعلاً، هنا؟'.
ثلاثة أسئلة محمولة على اللمز والغمز، وليس على الاستفهام، يوجهها إلي سعود قبيلات في فقرة واحدة، وبسبب هذه الأسئلة الثلاثة بالذات (مع أن هناك غيرها في مقاله) لم يترك لي الصديق سعود خياراً غير الردِّ الذي أرجو أن يناقش 'القضية'، المشكوك بأمرها، ولا يكون مجرد سجال مفتوح بيني وبين رئيس 'رابطة الكتاب الأردنيين'.
دعوني أبدأ من الأول:
- لم يكن مقالي، الذي يردُّ عليه الصديق سعود، موجهاً 'للقوى والأشخاص العاملين من أجل الاصلاح في الاردن' إطلاقاً، وإنما، حصراً، إلى الذين يرفعون شعارات التغيير في الأردن ويقفون ضده في سورية، ولا أحسب سعود قبيلات يقبل أن يحشر بينهم أو يحسب عليهم.
أعرف عمل سعود من أجل التغيير في الأردن ولا أنتقص منه مقدار ذرة واحدة، ناهيك عن أن أشكك فيه. لقد أوضحت هذا الأمر في مقالي المشار إليه وها انني أوضحه، هنا، مرة ثانية وأخيرة. لم يكن يتعلق الأمر بكل 'العاملين' من إجل الاصلاح في الأردن، وإنما، تحديداً، بأولئك الذين لم يروا في مشهد الدم السوري المباح، في الدبابات التي تجوب المدن والبلدات السورية (على بعد أمتار من هضبة الجولان المحتلة)، في 'الشبّيحة' الذين يبطحون الرجال على الأرض ويدوسونهم بالأحذية، في مصرع الأطفال والتمثيل بأجسادهم، سوى أشباح المؤامرة المدبَّرة في أقبية الغرب واسرائيل ضد نظام 'الممانعة' السوري.
كنت أتحدث عن هؤلاء. عن العماء والصَّمم الأخلاقيين، عن التبلّد الحسيِّ والتصحّر الانساني حيال مسلسل متواصل من الجرائم المتنقّلة في طول سورية وعرضها. كنت أتحدث، أيضاً، عن نظام أباح لنفسه، باسم جملة قومية ركيكة ومتهافتة، قتل مواطنيه من دون أن يرفَّ له رمش. عن صِفْرِ المعالجة السياسية لأزمة وطنية كبرى مقابل مئة بالمئة من فائض القوة التي لا تترك، كما يقول أهلنا، للصلح مطرحاً. فهل يرى سعود قبيلات نفسه بين هؤلاء الذين يرون هبَّة الشعبين المصري والتونسي (وربما اليمني والبحريني) ثورةً من أجل الحرية وفي هبَّة السوريين المماثلة (حراكاً وشعارات ودماً أغزر) مؤامرة أجنبية؟
ثانياً: يتساءل سعود عن 'المستفيد' من 'تشكيكي'؟ هناك، حسب فهمي، جواب واحد يبطنه تساؤله: إنَّه النظام الأردني. فمن 'يشكك' في 'قوى الإصلاح' الأردنية و'شخصياتها' يصبُّ، تلقائياً، في طاحونة الجهة التي تقاوم الإصلاح في الأردن. كنت أودُّ لو أن سعود لم يتسرّع بالوصول إلى هذا التلميح الغريب والمرفوض في آن. فلو أنه قرأ مقالي كاملاً لوجد موقفاً، لا همهمة فيه ولا غمغمة، ضد كل محاولات النظام الأردني لاعاقة التغيير الحتمي، ولكان وفَّر على نفسه هذا التلميح الذي يقتبس أسوأ تكتيكات الأحزاب الشمولية (الوجه الآخر للنظام الشمولي) ولا أقول اليسار، بوصفه انحيازاً أخلاقياً وانسانياً، قبل أن يكون ايديولوجياً وسياسياً، للمغلوب على أمرهم من الناس. ذلك إرهاب فكري مرفوض، فضلاً عن أنه يجانب 'القضية' التي نحن في صددها. فالأمر يتعلق، أولاً وأخيراً، بمدى قدرتنا على تحمّل رؤية الدم وهو يهرق بلا هوادة أو شفقة باسم كليشيه فارغة ومهترئة تدعى، زوراً وبهتاناً، 'الممانعة' وهي قائمة على استبداد مكين.
وهذا يقودنا الى تساؤله الثالث، وهو أغرب تساؤلات سعود وأكثرها مدعاة للتأمل في دور المثقف ومسؤولية الكلمة، وقبل هذا وذاك، في مسؤولية الانسان عن أخيه الانسان، بالمطلق، فكيف إذا كان هذا الانسان في بلد شقيق تربطنا به أواصر لا تحصى مثل سورية.
يتساءل سعود، بغرابة ، عن 'القضية' التي أنتصر لها في مقالي.
ما هي هذه 'القضية'؟
لا قضية، إذن، تخرج رئيس 'رابطة الكتاب الأردنيين'، وهيئته الإدارية، من إدارة الظهر، بالكامل، للجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري الخارج، بأطفاله ونسائه وشيبه وشبانه، الى الشوارع طلباً للحرية، بعد خمسين عاماً من كمّ الأفواه وحصر الأنفاس؟! لا قضية! فالأمر، إذن، لا يعدو كونه، بحسب الإعلام السوري الشنيع، زمرة من الإرهابيين والسلفيين (لَمَ لا يقول 'القاعدة' وينتهي الأمر؟) تطاردهم الدبابات 'زنقة زنقة' وبيتاً بيتاً! يا لهذه الزمرة الإرهابية الخبيثة، المتآمرة، المندسّة التي تلهي قوات النخبة السورية وستة عشر جهاز أمن وقطعاناً سارحة من 'الشبّيحة' عن السهر على خط 'الممانعة' الملتهب!
وللتدليل على انعدام القضية، أو للبرهنة على تلفيقها، يعود سعود قبيلات إلى 'كتاب الجيب' الشهير الذي يتداوله معلقو 8 آذار اللبنانيون. فها هو يقول رداً علي أو ربما على غيري: 'نحن نعرف، بالطبع، أنّ بعض هؤلاء مرتبط بقوى استسلمتْ منذ زمن طويل واستمرأت الاستسلام (وبعضهم متأثّر، على الأقلّ، بثقافة تلك القوى). وهم يعتقدون الآن أنَّ حراك الشعب السوريّ الشقيق يمكن أنْ يكون منصّة ملائمة لهم لكي يقفزوا منها نحو تصفية حسابهم القديم مع الممانعة والمقاومة. يا سادة، لولا الممانعة والمقاومة التي كشفتْ حدود قوَّة 'إسرائيل' إبّان عدوانها على لبنان ومقاومته الباسلة في صيف العام 2006 لكانت منطقتنا تعيش الآن في ظل الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كوندوليزا رايس بدلاً من العيش في ضوء الانتفاضات والثورات العربية الديموقراطية التي نشهدها الآن'. (باستثناء الثورة السورية، بالطبع، التي هي صنعة أمريكية مكشوفة!).
ولكن ما علاقة هذا بـ 'القضية' التي نحن بصددها؟ لِمَ قفز سعود قبيلات الى حرب صيف العام 2006 التي لطخت، فعلاً، جبين العسكرية الاسرائيلية بالعار؟ لا يحتاج الأمر الى ذكاء للقول إن سورية هي التي وقفت وراء ذلك الانتصار، ولولاها ما تمَّ. هذا ما أراد سعود قبيلات قوله. وهذا يؤكد أن 'القضية' التي انتصر لها ملفَّقة، دبَّرها، في ليلة ليلاء، أعداء المقاومة والممانعة. السوريون الذي خرجوا في أكثر من مئتي مدينة وبلدة للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة حركتهم، يدرون أو لا يدرون، القوى التي استسلمت منذ وقت طويل للاعداء! لا قضية عند السوريين. الانتفاضات والثورات العربية التي يقرُّ الصديق سعود بديموقراطيتها، وبحقها في الانبثاق من وهدة الاستبداد، تصحُّ في تونس ومصر واليمن والبحرين والأردن وليبيا (لا أدري أن كان يعتبر الليبيين منتفضين أم لا) ولا تصحُّ في سورية.
كل هذا نقاش سياسي ولم أكن أرغب، في هذا الرد، أن ينحو كذلك. جوهر الأمر عندي أخلاقي وانساني وضميري قبل أيّ شيء آخر، وله معيار واحد حسب قول إدوارد سعيد. محاججة الصديق سعود سياسوية. مؤدلجة. أطرفها حديثه عن 'الديالكتيك' الذي يشتغل في غير مكان عربي إلا في سورية!
علي أن أقرَّ بقدرة صديقي سعود على التملص من إبداء موقف مباشر في خصوص 'القضية' التي يستنكر وجودها (مع أن موقفه في لا موقفه حيال الانتفاضة السورية واضح لي كل الوضوح). كان بمقدوره في 1040 كلمة، هي عدد كلمات مقاله، أن يقول إن سفك دم السوريين على هذا النحو الوحشي لا يجوز. ولكنه لم يقل. كان بمقدوره أن يوازن، أضعف الإيمان، بين حق السوريين في الحرية الفعلية وبين 'الممانعة' ولكنه لم يفعل. لقد اختار كليشيه 'الممانعة' على لون الدم وصرخة الضحية. وهذا لعمري مؤسف ومحزن.
وجهة نظر في حادثة غريبة
سعود قبيلات
6/3/2011
الوضع الذي مررتُ به الأسبوع الماضي كان بالنسبة لي وضعاً غريباً جدّاً؛ إذ قام مندوب إحدى الصحف المحليَّة بفبركة تصريحٍ كاريكاتيريّ على لساني بشأن الأوضاع في سوريا، رغم أنّني لم أدلِ بأيّ تصريح له! فبادرتُ إلى نشر توضيح مختصر في الصحيفة نفسها كشفتُ فيه حقيقة تزوير ذلك الصحفيّ لكلامي.
لكنّني فوجئتُ برسالة مفتوحة، وصلتني بواسطة بريدي الإلكترونيّ، مِنْ صديقي الكاتب والناقد السوريّ صبحي الحديديّ، المقيم في لندن، وقد ثبّتَ فيها "التصريح" المنسوب إليّ وصاغ بالاستناد إليه عدداً من الأسئلة الاستنكاريّة الموجّهة لي.
ثمَّ كتب صديقي الأديب أمجد ناصر، المقيم في لندن أيضاً، مقالاً في "القدس العربيّ"، بعنوان "مع الإصلاح في الأردن وضدّه في سوريا"! فتلقّف المقال العديد من المواقع الإلكترونيّة، وكرّرتْ نشره بعض صفحات "فيس بوك" مرّات عديدة، كما انهالت عليّ التعليقات التي كان بعضها مسيئاً ومتجنّياً، وأحياناً مسفّاً، وراح البعض، ممّن لم أسمع لهم يوماً عن موقفٍ جدّيّ تجاه أيَّة قضيَّة، يتطوّع بإعطائنا دروساً في المواقف والمبادئ، وأكثر مِنْ ذلك، راح يحدّد لنا كيفيّة الطريقة التي يجب أنْ نصوغ بها موقفنا، بل إنَّ بعضهم نصّب نفسه ناطقاً سامياً باسم التاريخ وأصدر حكمه النهائيّ عليَّ وعلى زملائي في الهيئة الإداريّة للرابطة.
والحقيقة أنَّ هذه الحادثة وذيولها سبّبت لي صدمة حقيقيّة؛ ليس فقط بسبب التجنّي على زملائي وعلى شخصي، ومحاولة الإساءة لهم ولي؛ ولكن، أيضاً، وأكثر مِنْ ذلك، بسبب بعض التصرّفات التي رافقتها والتي لم يكن يخطر في بالي أنَّ أحداً يمكن أنْ يبيحها لنفسه!
أوّلاً، سلوك مندوب الصحيفة المحليّة الذي سمح لنفسه بتوليف تصريحٍ صحفيّ مسيء (أو حتَّى لو كان غير مسيء) ووضعه على لساني، مع أنّني كنتُ واضحاً في رفضي الإدلاء له بأيّ تصريحٍ! الأمر الذي يتنافى تماماً مع ألف باء المعايير المهنيّة والأصول الصحفيَّة، ولم يسبق أنْ رأيت مثله مِنْ أيّ صحفيّ آخر على كثرة ما تعاملتُ مع الصحفيين والإعلاميين.
ثانياً، لجوء صديقَيَّ، صبحي وأمجد، لهذا الأسلوب التشهيريّ الواضح في مخاطبتي، بحجّة الاستفسار عن موقفي، رغم أنّ خطوط البريد الإلكترونيّ مفتوحة بيننا، وليس نادراً ما أتلّقى رسائل منهما عبرها. وقد جعل أسلوبهما، هذا، أيَّ توضيح يمكن أنْ يصدر عنّي مستقبلاً، مجرّد استجابة زائفة منّي للحملة التي أُثيرتْ ضدّي. أي أنّني أصبحتُ مداناً لدى البعض بحكم قطعيّ غير قابل للاستئناف، مهما فعلتُ ومهما تكلّمتُ!
ثالثاً؛ التجنّي الواضح على شخصي وعلى قوى الإصلاح الأردنيّة، في عنوان ومتن مقال صديقي أمجد. ولستُ أدري كيف استنتجَ أنّنا ضدّ الإصلاح في أيّ بلد عربيّ (بما في ذلك سوريا)؟ هل قرأ ذلك في بيانات صدرتْ عنّا أو مقالات كتبناها أو مواقف اتّخذناها؟ أين وجد مثل هذا الكلام؟ وبالنسبة لي شخصيّاً، لو كانت حقيقة موقفي هي كما صوّرها أمجد، لما تردّدتُ في إعلانها والدفاع عنها لحظةً واحدة؛ حتّى لو لم يكن ثمّة مَنْ يؤيّدها سواي. وبالتالي، فإنّني أتساءل عن الغاية التي يمكن أنْ تتحقّق من التشكيك بصدقيّة القوى والأشخاص العاملين مِنْ أجل الإصلاح في الأردن! ومَنْ سيكون المستفيد مِنْ هذا؟ وما هي القضيَّة التي يتمّ الانتصار لها، فعلاً، هنا؟ وما هي القضيَّة التي تُوجَّه لها الطعنات؟ (بصرف النظر عن النيّة والقصد).
ومِنْ ناحية أخرى، فإنَّ هذا الطرح يمثِّل قلباً تامّاً للمعايير والحقائق؛ فصدقيّة دفاع أيّ إنسان عن الحريّة والديمقراطيّة تقوم أساساً على مدى دفاعه عنها داخل بلده وليس العكس. وفي الكثير من الأحيان يلجأ بعض المثقّفين (والسياسيين، أيضاً) لاتّخاذ مواقف استعراضيّة من بعض القضايا الخارجيّة، بهدف التستّر على جبنه وعجزه عن اتّخاذ مواقف من القضايا الداخليّة لبلاده.
لقد كنتُ دائماً مع الحريّة والديمقراطيّة في كلّ مكان (بما في ذلك الأردن وسوريا)، والعديد من المثقّفين والكتّاب العرب شهدوا المواقف التي اتّخذتُها في هذا المجال في منابر عربيّة مختلفة، وأنّني لم أستثنِ نظاماً عربيّاً واحداً في يوم من الأيّام من المطالبة بالديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان. وفي هذا كلّه كنتُ أعمل انطلاقاً مِنْ مبادئي وضميري، ووفق رؤيتي وتحليلي، وليس بالوكالة عن أحد، أو ضمن خطط لا شأن لي بها ولا تتّفق مع مبادئي، ولا لكي يقول عنّي أحد إنّني جيّد وأنّه راض عنّي، ويتفضّل عليَّ بعد ذلك ويمنحني ما يتوهّم أنّه في حوزته مِنْ صكوك غفران لا أتشرّف بحملها.
البعض يتصرّف كما لو كانت معاناة الشعب السوريّ مجرّد مقاولة خاصّة به، وأنَّ مِنْ حقّه، بناء على ذلك، أنْ يحدِّد صيغة، بعينها، لتكون هي الصيغة الوحيدة المقبولة للتعبير عن تأييد الإصلاح ورفض القمع في سوريا؛ ومَنْ لا يلتزم بها فهو ضدّ الإصلاح ومع القمع والبطش.
واللافت أنّ هذه الصيغة المطلوبة، نفسها، مدعومة مِنْ قوى ودول ارتكبت (ولا تزال) أبشع أنواع الجرائم ضدّ الإنسانيّة في مختلف أنحاء العالم (بما في ذلك وطننا العربيّ)، وبعضها ينتمي إلى العصور الوسطى في تعامله مع حقوق الإنسان وحريّاته (العامّة والشخصيّة)؛ ولكنّهم، مع ذلك، يجرؤون، جميعاً، الآن، على تنصيب أنفسهم ناطقين وحيدين باسم الحريّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان (في سوريا طبعاً)! وأكثر شيء يزعجهم ويثير غضبهم أنْ ترد على لسانك في الموضوع السوريّ سيرة الممانعة والمقاومة؛ إذ يقفز واحدهم، عندئذٍ، كالملسوع، محاولاً التشويش على كلامك وإسكاتك!
نحن نعرف، بالطبع، أنّ بعض هؤلاء مرتبط بقوى استسلمتْ منذ زمن طويل واستمرأت الاستسلام (وبعضهم متأثّر، على الأقلّ، بثقافة تلك القوى). وهم يعتقدون الآن أنَّ حراك الشعب السوريّ الشقيق يمكن أنْ يكون منصّة ملائمة لهم لكي يقفزوا منها نحو تصفية حسابهم القديم مع الممانعة والمقاومة. يا سادة، لولا الممانعة والمقاومة التي كشفتْ حدود قوَّة "إسرائيل" إبّان عدوانها على لبنان ومقاومته الباسلة في صيف العام 2006، لكانت منطقتنا تعيش الآن في ظلّ "الشرق الأوسط الجديد"، الذي بشّرتْ به كونداليزا رايس – آنذاك –، بدلاً من العيش في ضوء الانتفاضات والثورات العربيّة الديمقراطيّة التي نشهدها الآن.
يريدنا البعض -لغرض في نفس يعقوب- أنْ نهجر الديالكتيك وننظر إلى الأمور بمنظار ميتافيزيقيّ قاصر، وباللونين الأبيض والأسود (كما أوضح صديقنا الكاتب الصحفيّ أحمد أبو خليل في مقالٍ له حول الموضوع السوريّ). يريدوننا أنْ نحشر تعبيرنا عن تأييد الإصلاح في سوريا ورَفْض التعامل بالحلّ الأمنيّ العنيف مع الاحتجاجات هناك، في الخانة الملائمة للسياسة الأميركيّة (وتابعتها العربيّة) التي تركّز علناً على استغلال المناخ القائم الآن لتصفية حسابها مع الممانعة والمقاومة بالتحديد، وليس مع النظام السوريّ؛ وإذا لم نفعل فإنّنا في رأيهم مع القمع وضدّ المطالبة بالديمقراطيّة.
إذا كان البعض لا يساعده نظره على أنْ يرى هذا الجانب المهمّ للموضوع، فهذا شأنه وهذه مشكلته؛ أمّا إذا كان يرى ما نرى ويتعمّد أنْ يبني عليه موقفاً مناقضاً، فمن الواضح أنّنا لسنا وإيّاه في مركب واحد ولا طريقنا واحد.
وفي كلّ الأحوال، إذا كان الاستمرار في تطبيق معيارهم الميتافيزيقيّ على موقفنا يحسِّن شعورهم، فليفعلوا ذلك؛ ولهم أيضاً أنْ يفعلوا ما بدا لهم، كما لهم أنْ يصدروا ما يريحهم من الأحكام القاطعة الحاسمة بشأننا. ولكنّهم لن يدفعوني إلى اتِّخاذ موقفٍ أشعر بالخزي منه بيني وبين نفسي.
وفي نهاية الأمر، فإنَّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض؛ فأمَّا الزبد، فيذهب جفاء. كما أنّه "لا يبقى في الوادي غير حجاره"، كما قال الطاهر وطّار.
qubailat@yahoo.com
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 06-09-2011, 09:09 AM بواسطة بسام الخوري.)