د.خالد الحروب
سوريا: تقاعس العرب يستدعي الغرب!
تاريخ النشر: الإثنين 13 يونيو 2011
هناك مجازر يومية في سوريا لا يمكن أن يتغافل عنها من كانت لديه ذرة من الإنسانية، وهناك صمت عربي رسمي يدير وجهه عن تلك المجازر وكأنها تحدث على كوكب آخر. الشعب السوري في مدن وبلدات وأرياف وقرى لا تحصى يتعرض لقمع يلغ في دماء المدنيين ولا يستثني حتى الأطفال، ومع ذلك يستمر الصمت العربي. يعمل النظام على تهجير أبناء الوطن حيث يحاصر المدينة الحدودية "جسر الشغور" من كل الجهات تاركاً منفذاً وحيداً للسكان باتجاه تركيا، ومع ذلك يتواصل الصمت العربي. الصوت الوحيد الذي نسمعه يدين من غير تلعثم مجازر سوريا ويضغط لإيقافها هو تركيا، البلد غير العربي، والبلد الذي كانت له مصالح قوية اقتصادية وجيواستراتيجية مع سوريا، وإلى وقت قريب. وأنات السوريين المطحونين تحت آلة قمع النظام تحمل الأسئلة المريرة: أين الجامعة العربية؟ وأين الحكومات العربية؟ وأين منظمة المؤتمر الإسلامي؟ ولكن لا من إجابة ولا من مجيب.
الاتحاد الأوروبي منشغل بما يحدث في سوريا واتخذ قرارات مقاطعة ضد النظام والعائلة الحاكمة، ومجلس الأمن يجتمع ويحاول إصدار قرار يمكن أن يردع النظام عن الاستمرار في مجازره، والدول الغربية الكبرى، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وألمانيا تتعرض لهجوم واسع من منظمات حقوق الإنسان والإعلام وجمعيات المجتمع المدني في العالم بأسره كي تتحرك وتتخذ مواقف أشد.
الصمت لا يلف إلا الحكومات العربية والإسلامية ومنظماتها الإقليمية وكأن الشعب السوري وشهداءه لا يستحقون حتى بيان استنكار.
تجد الحكومات العربية والإسلامية نفسها الآن واقفة في نفس المربع الذي تقف فيه الصين وروسيا اللتان تقفان في وجه أي جهد دولي يضاعف من الضغط على النظام في سوريا، وتهددان باستخدام "الفيتو". وقرار مجلس الأمن الأخير الذي صدر يدين ما يحدث من قمع، تم تمييعه عمليّاً إلى أدنى حد وخلا من أي إجراء عملي بسبب المواقف الروسية والصينية التي تقف الآن عمليّاً ضد الشعب السوري. وإحدى مسودات القرار التي قدمت إلى مجلس الأمن تضمنت إشارة خجولة وردت في بيان لمنظمة المؤتمر الإسلامي تجاه ما يساورها من "قلق" لما يحدث في سوريا، وكان الهدف من تضمين تلك الإشارة تعزيز القرار بأن "الموقف الإسلامي الرسمي" سيكون مؤيداً. ولكن سرعان ما انتفضت منظمة المؤتمر الإسلامي العتيدة ورفضت أن يتم اقتباس الإشارة الخجولة في مسودة البيان، تحت مزاعم عدم توفير أية شرعية للتدخل الغربي في سوريا.
ماذا يعني كل هذا التقاعس في الجانب العربي والإسلامي؟
معناه العملي شبه الوحيد أن قادة العرب والمسلمين يتركون للغرب ومؤسساته ساحة العمل الدبلوماسي والحراك الفعلي لاتخاذ قرارات مؤثرة تحمي الشعوب من قامعيها. ومعناه تعميق الشروخ الانقسامية في الوجدان العربي إزاء تدخل الغرب العسكري في البلدان العربية، ودفع ذلك الوجدان للترحيب بتلك التدخلات. نحن أمام هذه المفارقة المتكررة : هناك شلل عربي رسمي شامل إزاء أية قضية كبرى، ثم هناك لعلعة صوتية عالية ضد أي تدخل عسكري يقوم ليملأ الفراغ القاتل الذي يتركه الشلل العربي.
أي تدخل عسكري غربي يحدث بطبيعة الحال محمولًا على رافعة المصالح الغربية في المنطقة وبحسابات دقيقة، وليس هنا أي مجال للتساذج للمجادلة بغير ذلك -فهذا مفهوم. ولكن التساؤل الذي يجب أن يرافق ذلك دوماً هو: ما الذي يشرعن هذا التدخل ويوفر له الأرضية المنطقية ليس فقط للحدوث
بل وللاستدعاء من قبل الشعب نفسه؟ والسياسة الدولية قائمة على المصالح وليس على العمل الخيري، ولكن في الوقت نفسه لا تستطيع كشف وجهها المصلحي السافر. وهناك نسب متفاوتة من الضغوط الأخلاقية التي تأكل من المساحة الكلية المعتمدة على المصلحة. وهذه النسب ازدادت في عصر الإعلام المعولم والتدخلات الإنسانية لأنه ما عاد بإمكان الدول الكبرى أن تتحرك بحرية مطلقة في مسألة تبني سياسات مزدوجة مفضوحة. فمثلاً قد يحدث أن تدخلًا عسكريّاً ما في بلد ما يكون مدفوعاً بنسبة 70% مصلحة ترافقها نسبة 30% تدخلاً إنسانيّاً.
والذي يحدث وحدث عادة، من البوسنة وكوسوفو إلى ليبيا وسوريا الآن، أن القمع والإبادة التي يتعرض لها شعب ما على يد نظام لا يكون لها حل إلا بالتدخل العسكري الخارجي. تتقاطع نداءات الاستغاثة الداخلية للشعب المقموع مع مصالح القوة الخارجية المتدخلة المدفوعة بمصالحها من ناحية وبالضغط الأخلاقي العالمي المتزايد من ناحية ثانية. عمليّاً تتقاطع مصالح الشعب المقموع مع مصالح القوة الخارجية والتقاء المصالح هذا يقع في جوهر السياسة. وفي المنطقة العربية هناك خواء على المستوى الاستراتيجي يغري القوى الخارجية بالتدخل، خاصة عندما تصبح مبررات التدخل قوية ونداءات الاستغاثة متواصلة.
على ذلك ليست هناك عبقرية زائدة في المحاججة بأن تدخل الغرب و"الناتو" عسكريّاً في ليبيا وراءه مصالح وقلق غربي بسبب موقع ليبيا المشاطئ لجنوب أوروبا، وبكونها بلداً غنيّاً بالنفط. هذه بديهية سياسية تشير "معاودة" اكتشافها مرة بعد أخرى في مماحكات "الممانعين" إلى سذاجة أو تساذج أكثر من أي شيء آخر.
والأمر الذي ما زال يتحدانا جمعيّاً هو السؤال التالي: ماذا نطلب من الشعب الذي يُقمع يوميّاً بوحشية بالغة أن يفعل؟ ما هو "فعلنا" لمساندته في مواجهة النظام القائم الذي يهدده بالقتل والإبادة؟ ثبت لنا خواء وعدم فائدة إرسال معونات من الشعارات الثورية المنددة بالغرب للشعب الواقع تحت القمع. السؤال الذي يتحدانا جميعاً هو ما البديل في ليبيا، مثلاً، عن التدخل الغربي الذي وضع حدّاً لإبادة محتومة لم يتورع نظام طرابلس في إعلان نيته القيام بها صراحة؟ كيف نتأمل الصورة التلفزيونية البانورامية للميدان الرئيسي في بنغازي لعشرات الآلاف من المتظاهرين الذين كانوا ينتظرون مصيرهم المحتوم القادم إلى مدينتهم مع دبابات القذافي التي لم يوقفها إلا قرار مجلس الأمن بالتدخل العسكري والفوري. لماذا صدحت حناجر تلك الألوف بالترحيب بالتدخل الأطلسي بكونه المنقذ الأخير، وكانت تصلي ليومين لأن يمر القرار من دون "فيتو"؟ هذه هي الأسئلة الصعبة التي تواجهنا، التي تكشف في الكثير مما تكشفه الانقلابات الجذرية في سلم الأولويات وسلالم الشعارات، ومواقع الأعداء والأصدقاء، وتواصل صمت المقابر العربية، وغير ذلك كثير.
تزايد العنف أخرج أنقرة عن صمتها
الربيع السوري... وتحولات الموقف التركي
ديفيد شينكر
محلل سياسي أميركي
اتسمت العلاقات التركية- السورية خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي بالتوتر بسبب الخلاف الحدودي المستعصي بين البلدين الذي كاد يتطور في بعض الأحيان إلى حرب. ولم تتحسن العلاقات بين البلدين على نحو جذري إلا بعد أن تولى بشار الأسد حكم سوريا خلفاً لوالده عام 2000، وصعود حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجهات الإسلامية إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002.
ولكن المفارقة هنا هي أنه في حين كان التحول السياسي هو العامل الذي مهد الطريق لتحقيق التقارب بين البلدين منذ عقد من الزمن، فإن احتمالات التغيير الحالية في سوريا هي التي تهدد في الوقت الراهن بتقويض أسس لعلاقات التي كانت قد تطورت إلى تحالف خلال السنوات الأخيرة.
والموقف الحالي على الحدود التركية- السورية يبرز العلاقات الآخذة في التدهور بين البلدين، وذلك بعد أن تدفق المئات من المدنيين السوريين إلى داخل الأراضي التركية، بسبب ما يقولون إنه الخوف من مذبحة أخرى قد ترتكبها القوات الحكومية ضدهم.
وهذا التطور الذي يزيد من توتر العلاقات، يدفع أنقرة لاتخاذ موقف أكثر حزماً مع دمشق، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة عزلة نظام الأسد. ومن المفترض أن يزود التحول الأخير في الموقف التركي، واشنطن والغرب بالفرصة -إن لم يكن بالحافز- لتبني موقف أكثر صرامة بشأن سوريا.
وكانت السرعة التي تطورت بها العلاقات بين تركيا وسوريا خلال السنوات الأخيرة لافتة للنظر، بكل المقاييس. فخلال الفترة من 2002 إلى 2009 وقع البلدان على ما يقارب 50 اتفاقية تعاون، وأعلنا عن تأسيس"مجلس تعاون استراتيجي أعلى"، وأجريا أول تمارين عسكرية مشتركة في تاريخهما.
وفي فترة أقرب، وتحديداً عام 2011، وقعت تركيا وسوريا اتفاقية تاريخية لمكافحة الإرهاب،
وأتبعتاها، منذ شهرين فقط، بمعاهدة لمكافحة التمرد. وبحلول عام 2011 كانت تركيا قد أصبحت أكبر شريك تجاري لسوريا.
وبسرعة أصبحت العلاقات بين البلدين واعدة بمستقبل زاهر، وهو ما دفع وزير الخارجية التركي"أحمد داود أوغلو" إلى إعلان أن الدولتين "تتشاركان في مصير واحد، وتاريخ مشترك ومستقبل مأمول".
ولكن عندما وصل الربيع العربي إلى سوريا، تدهورت العلاقات بين البلدين بنفس السرعة التي كانت قد تحسنت بها. فعندما ارتفعت أعداد الضحايا من المدنيين في سوريا، وجدت تركيا نفسها مضطرة لإنهاء صمتها عما يجري خلف حدودها الجنوبية.
ففي شهر مارس أعلن "أردوغان" أنه: "من المستحيل السكوت أمام الأحداث التي تجري في سوريا" كما قال إنه قد تحدث مع الأسد مرتين بشأن الأحداث، وإنه كان يأمل في أن "يتبنى الأسد موقفاً إصلاحيّاً إيجابيّاً حتى يتجنب أحداثاً شبيهة بما يحدث في ليبيا".
وفي إبريل، أرسل "أردوغان"، وزير خارجيته "أوغلو" لمقابلة الأسد في دمشق، حيث عرض عليه "كل مساعدة ممكنة" لتمكينه من تنفيذ الإصلاحات التي كان قد وعد بها، وللمساعدة على استقرار الوضع في سوريا وتأمين النظام.
ولكن كل ذلك لم يُجدِ نفعاً. وفي شهر مايو، ومع التصاعد السريع للأحداث وتزايد الفظائع التي يرتكبها النظام ضد شعبه، وتجاوز أعداد الضحايا الألف،
أعلن أردوغان صراحة أن تركيا تقف مع المتظاهرين الذين وصفهم بأنهم منخرطون في "نضال من أجل الحرية" وحذر من أن تركيا "لا ترغب في رؤية مذبحة حماة أخرى".
وفي الوقت الذي أثنى فيه المعارضون على موقف تركيا،
وصفت صحافة الحكومة السورية موقف أنقرة بـ"النفاق" وبأنه "متسرع ومرتجل".
وليس واضحاً حتى الآن سبب هذه النزعة الأخلاقية المفاجئة في السياسة الخارجية التركية. ومن الممكن أن يكون موقف "أردوغان" غير المسبوق تجاه سوريا، قد تأثر بالاعتبارات الانتخابية. فاليوم الأحد، 12 يونيو، سيذهب الشعب التركي لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواته في الانتخابات البرلمانية.. ومن المؤكد أن حزب العدالة والتنمية قد أدرك أن أعمال العنف في سوريا ستكون موضوعاً محركاً لمشاعر الناخبين، وأنها تصلح بالتالي لأن تكون مادة للاستغلال السياسي من جانب الحزب في تلك الانتخابات.
ولكنّ هناك تفسيراً آخر،
وهو أن المذابح التي تحدث في سوريا ربما تكون قد تجاوزت حدود المقبولية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. فقيام نظام يمسك بزمام الحكم فيه أفراد من طائفة شيعية، بقتل الآلاف من السُّنة أمر غير مقبول بالتأكيد بالنسبة لدولة سُنية كبيرة مثل تركيا.
وبصرف النظر عن السبب الذي دعا أنقرة إلى تغيير لهجتها في التعامل مع النظام السوري، فإن ذلك التغير
يعد تطوراً مرحباً به في ذاته. فالنظام اليوم بات أقل تمنعاً أمام الضغوط الخارجية، وأكثر قابلية للتعرض لتلك الضغوط، كما بات أقل إحساساً بالأمن. وتركيا لا تبتعد اليوم عن النظام السوري فحسب، ولكنها تتطلع للمساعدة في تنظيم أمر التغيير. ففي الأسبوع الماضي على سبيل المثال، وفي خطوة جسورة، وتقدمية، استضافت تركيا مؤتمراً للمعارضة السورية على أراضيها، وهو ما كان بمثابة إعلان واضح وصريح بأن حزب العدالة والتنمية التركي قد قدر أن النظام بات غير قابل للإصلاح. والمأمول الآن، بقليل من الحظ، أن تحذو واشنطن حذو أنقرة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة"كريستيان ساينس مونيتور"