تأثير التطير والنبوءة على قرارات القصر
في تقارير القصر الادارية نجد انهم استخدموا عشرة آمينات فقط من مجموع آمينات الفتاوي الجاهزة الواردة في الصحف المحفوظة، في حين ان تقارير العلوم الفلكية استخدمت اكثر من 550 واحدة. غالبية الامينات الاخيرة كتبها الفلكيين ولكن الكثير منها من انتاج كبير الاطباء وباحثين اخرين.
200 من هذه الآمينات لها خصوصية خاصة حيث تستخدم فقط عندما يكون القمر بدرا او هلالا في يومه الاول والبعض الاخر له استخدامات غير واضحة وتبدو لنا متناقضة، وذلك يعقد اتخاذ القرار الذي يقوم عادة عليها في النظر لمعنى الحدث.
مثلا عندما صار المريخ مرئي عند الافق بعد الغروب في عام 670 قبل الميلاد جرى اعلام الملك على الفور. هذا الامر يجب تفسيره من قبل المستشارين، ولكن صعب عليهم الاتفاق على تفسير موحد. بالنسبة للفلكي بولوتو رأى ان الخبر يدور عن اهمية الاقتراب من جوبيتر. بالنسبة لنابو موشيسي اعطى الاهمية لقدوم شهر تموز وبالنسبة لاشاريدو الصغير كانت العلامة بحدوث ذلك في برج الجوزاء. ان العلامة السماوية التي اتفقوا على اهميتها وانها هي علامة الالهة فسرها كل واحد منهم بشكل مختلف.
![[صورة: 0196-2-3.jpg]](http://www.alzakera.eu/music/vetenskap/Historia/babel/0196-2-3.jpg)
(في الصورة اعلاه يظهر شخصان يشاركان في إقامة طقوس صيد الاسود)
من سيصدق الملك والعلماء انفسهم فشلوا في الاتفاق على فهم موحد للعلامة؟
وكيف سيتم إتخاذ قرار سياسي على هذه التناقضات؟
من المنطقي الاعتقاد ان مثل هذا الاختلاف اقرب ان ينتج عنه المصائب من عدم التفسير على الاطلاق وكان من الافضل للملك تركه، ومع ذلك بقيت هذه المنظومة بعظمتها وسلطتها، لماذا؟
هل كانت النخبة الحاكمة من الاغبياء ام انهم كانوا مصرين على الاستمرار بالتظاهر من اجل التمسك بالعادات والتقاليد؟
الدراسات الانثربيلوجية لاتقترح اي حل.
منظومات النبوءة والافتاء وفتح الطالع منذ تشينغ الاول والى الصحف اليومية الحديثة اليوم تلعب في تسويق الفتاوي والنبوءات على العلاقة البسيكولوجية نفسها.
الزبون يسأل عن النصح وبباله مسألة خاصة تقلقه وتجعله يتطير منها او مشكلة لابد لها من حل ويخشى من سوء نتائجها، الآمينات المسطرية الجاهزة تكون عادة فضفاضة وبدون تعريف محدد وتقدم "اقتراحات" وليس اجوبة حاسمة. ربط الفتوى او النبوءة بالموضوع الموجود في ذهن السائل يقوم به السائل نفسه عن غير وعي منه وبعملية نفسية، ليقوم بإختيار الآمين الانسب له من مجموع التناقضات. بمعنى اخر المقولات الجاهزة في مجمع الفتاوي والنبوءات تصبح تطير وشئوم فقط إذا تطابقت مع مزاج الزبون في حين ان بقية التفسيرات المختلفة يجري تناسيها.
الفتوى والنبوءة النمطية الجاهزة يمكن ايضا ان تكون اداة للمساعدة على تحفيز البحث والتفكير وتوفير الوقت وبالتالي تخدم الزبون ان يركز على المشكلة مثلا ليؤكد ردة فعل كلاسيكية او يقدم بديل، مما يحرره من معالجة المشكلة في كل مرة من بدايتها. وفقط إذا فشلت الفتوى او النبوءة في تقديم جواب من المرة الاولى يمكن إعادة الامر من جديد بإستخدام فتوى اخرى. في بعض الاحيان يمكن استخدام النبوءات الغير مرغوبة، والتي يتجاوزها الزبون، لسوط الزبون بها للتأثير على نفسيته واخافته وحمله على الموافقة على اقتراح لم يكن سيوافق عليه. بذلك تكشف لنا سلوكية الشعوب السابقة عن المصدر التاريخي لظاهرة الكتب السماوية والفتاوي والنبوءات والتنجيم، بمحتواها السلوكي والمعرفي المنمط، وهي ظاهرة نرى انعكاسا لها في القرآن في سورة الفلق وسور اخرى وقصة يونس (راجع الحاشية الثانية)
الهرمية التي تسمح بتبوء اقرب الامكنة الى الالهة سبب اخر لبقاء وتجذر مؤسسة الفتوى والتنبوء في ظروف الملك الاشوري، حيث يواجه الملك المجازفة بسقوط مركزه الاجتماعي ايضا وسقوط الهرمية الاجتماعية التي تعطيه رونقا، ولذلك لابد للهرمية ان تبقى حتى يكون هناك قمة. والملك ، على إعتبار انه هو الذي يجلس على قمة الهرم السياسي والاجتماعي لايجوز له ان يبدو بمظهر الضعيف او غير قادر على اتخاذ قرار والا يصبح لامعنى لوجوده. الرسائل الالهية المنذرة بالغضب تعطيه ومستشاريه الفرصة لايجاد مشكلة تحتاج الى مخرج ثم يعالجها ويعرض النتائج بدون ان يرى احد لحظات فقدانه اعصابه او حكمته امام الناس الاقل منه مستوى. إضافة الى ذلك فإن تراكم الامينات وتعقيدها تعطي الحاجة لان يكون القادر على فك هذه الطلاسم متعلم من النخبة ويملك الة سحرية تعطيه شرعية، تماما كما في حالة رجال الدين وعلاقتهم بالعلوم الفقهية اليوم.
إضافة الى ذلك فإن هذه المنظومة تسمح لقرارات الملك ان تملك شرعية إلهية وبالتالي لاتعطي فرصة لبقية الحاشية للجدل فيها او الطعن او الاختلاف في الاراء او الخروج عن سلطته بدون الاتهام بالخروج عن سلطة الله آشور، وهي اللعبة نفسها التي لازالت في الاستخدام بفعالية حتى اليوم في دول مثل السعودية وايران
الامينات ( الفتاوي، التنبوءات) الجاهزة زاد استخدامهم في عهد الملك ايشار هادون وآشور بني بعل بفضل رفعة الملوك الاجتماعية الفائقة التي دعمها وحافظ عليها تعليمهم العالي وقدرتهم على الكتابة وإنتمائهم العملي الى نخبة الحكماء والتي تتجلى بمظاهرها في قضاء الوقت والاهتمام وصرف الموارد على العلوم التنبوئية.
اليوم من جديد يعود علم التنبوءات والفتاوي الى الواجهة ليصبح جزء مهما من مؤسسات الدول المتقدمة الصناعية والدينية على السواء. وفي حين يكون مؤشر على الوزن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للاولى يلعب دور الاداة في ترسيخ نفوذ النخبة الحاكمة وتسلطها على العامة في الثانية وشرعنة السلطة تماما كما كان الامر في عهد مملكة آشور. التنبوءات اليوم تشكل عاملا حاسما في قرار الحرب والسلم في الدول المتقدمة وفي الانتخابات وفي اتخاذ القرارات الغاية في الاهمية مثل الاستثمارات الاقتصادية.
العرافة والتنجيم والاضاحي
التنجيم فن قراءة العلامات السماوية التي تحركها الالهة وتدل عليها قادمة من بوابات العالم السماوي الى عالمنا الارضي . الالهة يمكنها ايضا ان ترسل علاماتها من خلال الاحلام اوالالهام اوالوحي الى اي شخص من ابناء شعب آشور. ولكن احيانا لايكفي الوقت لانتظار الرسالة الالهية. الملك مثلا قد يحتاج الى حل معضلة سياسية عاجلة او انه غير متأكد ان الكلام المطروح وهو إلهام الهي في المسألة. في ظل هذه الظروف يمكن ان يوصي على نبوءة مقابل هدية او اضحية لله للحصول على جواب بنعم او لا على سؤال يتوجه به الى الله آشور/ انليل. الباحث عن العلامة يقوم بفحص الاعضاء الداخلية للاضحية المذبوحة على اسم آشور على امل العثور على العلامة الجالبة للتطير ولحساب مجموع السئ والجيد من العلامات واستنتاج الاكثر احتمالا ان يكون انعكاسا لمزاج الرب ومقاصده.
الاصول القديمة للنبوءة وكشف الطالع
التنبوء وفتح الفأل لم يكن حديث الاكتشاف في مملكة آشور. في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد ، عندما كانت السنوات يستدل عليها من خلال اسماء الاحداث السياسية التي حدثت بها، ( وهو امر بقي شائعا في العالم العربي حتى بداية القرن العشرين)، نجد مثلا وثائقا تقول:" في السنة التي جرى فيها اختيار كاهنة انليل من تيس "، او "في السنة التي جرى فيها اختيار ابن الملك ناما من قبل تيس ليكون كاهنا لاينانا في معبدها في اوروك". ورود تعبير تيس في النص على الاغلب يقصد به الضحية التي ذبحت لتكون احشائها هي الدالة على رغبة الرب الاعظم التي ساعدت الملك في إتخاذ قراره بتعيين الشخص المختار من قبل الارباب.
قراءة الاحشاء تشبه قراءة الكف اليوم حيث " العرافين" يقرؤون خطوط الكف التي جرى مسبقا تسميتها ووصفها بأحداث تخص الفرد مثل خط طول العمر وخط الزواج وعدد الاطفال. الامر نفسه نجده في عهد الاشوريين حيث توجد رسمة للكبد والرئة وخطوطها واسمائهم وعلاقتهم بالاحداث اليومية للانسان، حسب الرسمة التالية:
![[صورة: 0196-2-4.gif]](http://www.alzakera.eu/music/vetenskap/Historia/babel/0196-2-4.gif)
رسمة لمخطط قراءة خطوط الكبد والرئة
في القرن السابع عشر كان المتنبئ ( العراف) في مملكة ماري عضو في العائلة الملكية بالزواج. كان على الدوام يقوم بعمليات قراءة الطالع والنبوءة المرتبطة بها بطلب من الملك ويقدم النصائح السياسية.
عندما كانت الملكة تنقل النصائح التنبوئية التي تسمعها من وصيفاتها وخدمها، الى الملك كانت ترفق معها على الدوام شعر او شئ من منزل قائل النبوءة. إذا راقت النبوءة للملك فإنه يقدم الاشياء الخاصة بالمتنبئ الى متنبئه الخاص الذي بدوره يقوم بإجراء طقوس داخلية عليها لاختبار مدى مصداقية صاحبها ويستخرج منهم مقدار الحقيقة في النبوءة. في وثيقة من القرن السادس عشر قبل الميلاد من مدينة سيبر البابلية نرى ان كاهن معبد اور، في مناسبة رأس السنة، يقوم بطقوس كسؤال لله البابلي ليخبره عما إذا كان هو وعائلته سيحيون بخير وصحة في الاشهر الاثنى عشر القادمة.
طقوس التحضير لعملية التنبوء وكشف الطالع
عملية التنبوء لاتنحصر في فتح بطن الاضاحي وانما تتضمن ايضا الاناشيد الدينية والادعية والطقوس. الرسائل الباقية تشير الى ان عمليات تحضير دقيقة تسبق عملية التنبوء ولا غنى عنها. الاضاحي المختارة يجب ان تكون سليمة ومعافاة قدر الامكان. السبب ان الهدف هو ان الله سيقدم علامة إرادته على شكل بعث الخطأ في الضحية السليمة وليس تقديم ضحية مليئة بالاخطاء مسبقا وبالتالي مشكوك ان تكون العلامة من آشور العظيم. والقائمين على الطقوس يهتمون ان يكون المكان نظيفا ولائقا وطاهرا. وتطهير موقع الطقوس يحدث بغسل المكان وتبخيره بالروائح الطيبة وحلق الشعر ليكون الجميع طاهرين وجميلين وجاهزين للوقوف بين ايدي الالهة للدعاء. عندما يضع الكاهن خرطوشة سؤال الملك الى الرب شماس ( الاله الشمس) والرب حداد( الاله الريح) آلهة النبوءات والحكمة يسألهم بخضوع ان يصفحوا عنهم إذا كانت الاجراءات ليست بالكمال الذي يتناسب وعظمتهم، او لكون خطأ ما قد حدث بسبب عدم الانتباه او النسيان او الاهمال.
![[صورة: 0196-2-5.gif]](http://www.alzakera.eu/music/vetenskap/Historia/babel/0196-2-5.gif)
(هذا اللوح الطيني هو خطوط الكبد والرئة والرسمة السابقة مخطط عنها)
لايهم إذا كانت الاجراءات الطقوسية تجري في مكان مخصص لها داخل معبد او في الهواء الطلق تحت رعاية اله الشمس واله الريح. الملك الاشوري كان يستخدم التنبوءات ايضا لاتخاذ القرارات العسكرية والحربية. في لوحة مكتوبة من الملك سرجون الى الاله آشور عن حادثة جرت في عام 714 قبل الميلاد تخبرنا عن حادثة بعد قراءة احداث السماء وتوثيق آمين " تنبوء" يبشر بالخير اعطى سرجون موافقته على تنفيذ الخطة العسكرية لمسيرة الجيش التي حصلت على مباركة الاله شماس بعلامته السماوية. الجدارية الحجرية على القصر تصور ايضا المتنبي اثناء عمله في المواقع العسكرية. وبغض النظر عن مكان حدوث الطقوس الا انها لاتجري في الايام التي تغطي فيها السحب الشمس ولكن يمكنها ان تستمر الى الليل لتكون موجهة الى الرب القمر سين وعائلته من النجوم.
معاينة الاضاحي المقدمة للالهة كانت عملية ليست سهلة ويقطر منها الدم. الحكيم المخول بالبحث عن العلامات الالهية في بطن الضحية كان يساعده كاتب لكتابة ملاحظاته عن التشوهات الداخلية والنمو الغير طبيعي وبقية الاضرار وتهيئة التقرير الاخير. البداية تبدأ من تسجيل الملاحظات الخارجية عن حالة الكبد والمرارة ثم يتم الانتقال الى الرئة ( كوحدة واحدة). لدينا صور تشير الى ان الاشوريين كانوا يملكون موديل للكبد والرئة مؤشر بعناية ويستخدم لتعليم علم النبوءات تماما كما في علم(!) قراءة الكف اليوم، وبالتالي يقدم العلامة التي تكون مؤشر على الشر. بالتأكيد مفردات هذا الفن تطورت على مدى الاف السنوات ولكن في وقت ايشارهادون وسنحاريب كانوا يستخدمون الموديل في شكله الموضح في الصورة اعلاه.
يتبع: فن قراءة الآمين وتفسيره