عن برنار هنري ليفي وأشباهه
ليس فيلسوفاً ولا إنساناً من يمجّد القتل

احمد برقاوي
منذ ولادة فيلسوف الحداثة واستمراره في الدفاع عن الحداثة حتى ولو انتقد الحداثة، أو قل حتى لو انتسب إلى ما بعد الحداثة، فإن صفة ما لصيقة به عينته على نحو كلي: «النضال الإنساني». فالفيلسوف ـ شرقاً أو غرباً، أوربياً أو آسيوياً أو أفريقياً، الفيلسوف، أي فيلسوف راهن، ما عاد قادراً على أن يفكر خارج واقع الإنسان ومصيره.
وليس غريباً أن تكون السمة الغالبة للفلسفة المعاصرة أنها فلسفة الذات. وإذا قارنا بين الفيلسوف الفرنسي والفيلسوف العربي على سبيل المثال لما خالجنا الشك بنضال الفلاسفة المشترك. ففلاسفة الوجود سارتر، كامو، مرلوبونتي وأساتذة الفلسفة كبول ريكور، اشتركوا في الدفاع عن فرنسا ضد الاحتلال النازي ثم راحوا يناضلون من أجل الذات كل على طريقته. ولو تأملت نضال الفلاسفة العرب كعثمان أمين ومحمود أمين العالم ومهدي عامل وجل الأحياء منهم إنما يناضلون من أجل الحرية وانتصار الذات.
لا شك بأن الفيلسوف حر في اختيار شكل الدفاع عن الذات. لكنه لا يستطيع أن يخرج عن الإطار العام المتعين بالسلب.
لا يمكن أن يكون الفيلسوف فيلسوفاً حقاً وعنصرياً في آن واحد. لا يمكن للفيلسوف أن يدافع عن الحروب العدوانية التي يشنها الأقوياء على الضعفاء. لا يمكن للفيلسوف أن يكون مؤججاً لحرب طائفية ـ أهلية. ببساطة لا يمكن لفيلسوف أن يكون متعصباً أو مبرراً للتعصب، أياً كان شكله ومضمونه إلا التعصب للحياة والحرية والإنسان. ليس فيلسوفاً بل ليس إنساناً هذا الذي يمجد القتل.
أكتب هذه المقدمة وأنا أتأمل نشاط رجل أعمال فرنسي يدين باليهودية ويعرف بأنه فيلسوف فرنسي يدعى برنار هنري ليفي.
لا شك بأن عالمية الأمة الفرنسية وحضورها الثقافي العالمي، هما اللذان يسمحان للنكرات الثقافية عندها أن تغدو عالمية، ويساعد في ذلك الشعور بالدونية عند أشباه المثقفين العرب. فكثيراً من أساتذة الفلسفة في الغرب أو بعض المثقفين العاديين يتحولون لدى مثقفي - الدونية، فلاسفة ومفكرين عندنا. في الوقت الذي تتوقف عالمية أي مبدع عربي على اعتراف الغرب به. على أية حال، هذا هو منطق العلاقة بين الحضارات أو بين الثقافات، فالضعيف مولع بتقليد القوي، كما كان يرى ابن خلدون، والقوي يتعنجه على الضعيف، كما هو حالنا، حتى ليبدو لي، أن داخل أكثر سياسيي الغرب هتلر صغيراً.
أعود لهذا الذي اسمه برنار هنري ليفي، حسبي أن أردد له الجملة الآتية: «لم أر في حياتي جيشاً ديموقراطياً كهذا الجيش (يقصد الجيش الإسرائيلي) يطرح على نفسه هذا الكم من الأسئلة الأخلاقية، فثمة شيء حيوي بشكل غير اعتيادي في الديموقراطية».
وشاءت المصادفة أن أستمع إليه على محطة التلفزيون البريطاني بالعربية، مما قاله ليفي: «أنا صديق لإسرائيل وللشعوب العربية على حد سواء». «في البوسنة كنت ـ مثلاً- سعيداً بمد يد العون والمساعدة للحركات التحررية، وإسرائيل بالنسبة لي كانت في عام 1948 في وضع مشابه». فضلاً عن أنه ساند الحرب الأميركية على العراق بسبب ـ كما يقول - صداقته لطوني بلير.
أن يكون شخص ما مع «إسرائيل» واستمرار وجود إسرائيل هو شخص لا أخلاقي، وأن يمتدح شخص ما الجيش الإسرائيلي فهو شخص لا أخلاقي بالمرة.
فيلسوف يمتدح جيشاً بعقلية العصابات العنصرية ارتكب مجازر لا شبيه لها في القرن العشرين إلا مجازر القوميين. هل نذكر ليفي بدير ياسين وكفر قاسم وصفورية وبحر البقر وابي زعبل وجنين وغزة وقانا الأولى وقانا الثانية، ثم يمتدح القوة الأخلاقية للجيش العنصري الصهيوني، أي فيلسوف هذا؟
هذا الفيلسوف لإظهار مناصرته للفلسطينيين يقول إنه قال لشارون يجب الانسحاب من غزة، بل هو مع الانسحاب من الضفة الغربية. هذا كلام سياسي قد يقوله بلير وبوش وساركوزي. الفيلسوف يضع المسألة في حقل الحرية الإنسانية، يضعها في حقل حق الشعب الفلسطيني في تحرره والعودة إلى أرضه.
الفيلسوف لا يساوي أبداً بين أهل البوسنة والهرسك الذين تعرضوا للإبادة العنصرية وطالبوا بالاستقلال عن صربيا وبين إسرائيل عام 1948. «إسرائيل» قبل أن تصبح إسرائيل هي احتلال استيطاني ـ استعماري عنصري، وبعد إعلانها دولة صارت دولة استيطانية عنصرية احتلالية.
الذي لا يرى إسرائيل على هذا النحو ليس مثقفاً ومفكراً فيلسوفاً.
أقول: لأحد الفلاسفة الجدد الذين صار عتيقاً الآن وأقولها للذين جلسوا إلى جانبه من السوريين في مؤتمر «نصرة سوريا في باريس» ما هو آت: هناك فرق بين الاختلاف والتناقض والتضاد. الاختلاف ـ كما تقول العرب ـ لا يفسد للود قضية. فالاختلاف لا يقضي على التعايش وأنا هنا أتحدث عن هذه المفاهيم في الحقل الإنساني. الاختلاف لا يكون حول الواضح والمتميز بذاته، الواضح والمتميز بالمعنى الديكارتي للكلمة.
من أولئك الذين يختلفون حول عنصرية النازية، لا أحد
وكذا الأمر لا يختلف في عنصرية الصهيونية، لكن يمكن الاختلاف حول أسباب ظهور النازية والصهيونية بوصفهما أيديولوجيتين عنصريتين، أي عقل هذا الذي يصور ايديولوجية تؤمن بتفوق العرق اليهودي وحقها في احتلال فلسطين وطرد سكانها الأصليين مدعومة من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني ومن ثم الأميركي على أنها أيديولوجيا تحرر؟
أما التناقض فهو أمرٌ يقوم بين أمرين متعاكسين قابلين للتركيب.
الفقر والغنى متعاكسان، ولكن هذا التناقض قابل للتركيب، بحيث يصبح نظام العدالة الاجتماعي تجاوزاً لهما. فالفلسطيني الذي يدعو إلى قيام دولة فلسطينية على أرض فلسطين التي احتلت عام 67 وإزالة المستوطنات وتكون القدس عاصمة للدولة الجديدة، يتناقض مع من يقول إنه لا بد من تحرير فلسطين من البحر إلى البحر وإزالة الكيان العنصري الصهيوني، ولكن تركيبياً يمكن أن يتم في السياسة بين القولين.
أما التضاد فلا سبيل لحله أبداً، لا مجال للتوفيق بين العنصرية والتسامح. لا مجال للتوفيق بين المحتل والمحتلة أرضه. لا مجال للتركيب بين الصهيونية وحركة التحرر. التضاد اختلاف لا حل له إلا بزوال أحد المتضادين أو بقائهما في حال التضاد.
فيما التناقض اختلاف قابل للحل.
بيننا وبين الصهيونية تضاد لا يحل إلا بزوال احد الطرفين. ولما كنا نزيد إزالة إسرائيل فالحل هو زوال إسرائيل.
إذاً لا يمكن لفيلسوف أو ما شابه ذلك أن يكون مع إسرائيل من جهة ومع شعب فلسطين من جهة ثانية.
بل: إذا كان مع إسرائيل ويشيد بأخلاقية جيشها العنصري فهو إذاً ضد شعب فلسطين بالضرورة.
والتجمل بالدفاع عن الديموقراطية لا يفيد أبداً.
هذا يعني أن برنار اندريه ليفي هو عنصري بامتياز وحسناً فعل بعض مثقفي سوريا في فرنسا أن أعلنوا في بيانهم تضادهم مع هذا الصهيوني.
بقي أن أقول: إن الغرب وأميركا يلوثان الآن مطالب الشعوب العربية في الحرية والتحرر والديموقراطية والعدالة. وإن أفضل خدمة يقدمونها لنا أن يقفوا إلى جانب السلط العربية علناً. أما أن يقفوا إلى جانب السلط سراً والى جانب الشعوب كذباً وعلانية، فهذا أمر مضر لتاريخنا، وعلى أية حال: إذا ما أردنا أن ندخل التاريخ فما علينا إلا أن ندخله متحررين من أية مفاتيح غربية وأميركية.

[ كاتب وأكاديمي سوري
D.ahmad.barqawigmail.com