عليناأن نعلم الناس كيف يحبون الحياة كما أحب أجدادهم الخرافة .
...............................
لماذا أنا متفائل بمستقبل العلمانية ؟.
.............................
هناك لحظات رمادية في التاريخ ، عندما تتداخل الأنوار و الظلم ، عندما ينكفأ التقدم و تتعثر الأحلام و تخيب الأماني ، أن تعيش هذه اللحظات قد يكون نوعا من سوء الحظ ،و لكنها للبعض فرصة تاريخية كي يساهم في المشروعات الكبرى للتاريخ ، و العلمانية هي أهم تلك المشروعات و أجدرها بالكفاح و العرق و الدم النبيل ، من سوء حظ الخاملين أنهم يعيشون الآن إحدى لحظات التاريخ الرمادية ،و لكنها هي نفسها- تلك اللحظات الرمادية - تناسب القديسين و الأبطال و المفكرين و كبار النفوس و كبار العقول .
ربما يرى البعض أن مستقبل العلمانية محفوف بالغموض و الشكوك ، هؤلاء المتشككون لا ينطلقون من أوهامهم ، فمنذ سنوات و نحن نشاهد باندهاش و حزن ملايين غفيرة من البشر في أنحاء العالم يتجيشون خلف قادة طائفيين ضيقي الأفق ، محدودي الذكاء و جهلاء ، إن الشعارات التي تطلقها التنظيمات الأصولية القائمة على العقائد الجامدة تملأ العالم حولنا ، هناك في كل مكان أعداد متزايدة من البشر يدخلون سوق الأفكار ،و لكن كمجرد قطيع منساق معادي للحضارة الإنسانية ، و حتى على مستوى العالم المتقدم ، نجد مشهدا غير مسبوق في الولايات المتحدة الأمريكية ، هناك أصوات دينية تتداخل في الخطاب العام على كل المستويات ، هذا التغير وجد صداه حتى في تشكيل المحكمة الدستورية العليا ، سحب العاصفة تتجمع بالفعل في سماء أمريكا ، مهددة بعصر مظلم جديد ، التعصب الديني و الحماس القومي المبالغ فيه ، الأصولية الدينية – الوطنية . في استقصاء لرأي مجموعة متنوعة من كبار المفكرين ، أجرته مؤسسة أمريكية مهتمة بالفكر العلماني هي Council for Secular Humanism ، أبدى معظم الأمريكيين اعتقادهم بأن العلمانية على مفترق طرق ، البعض كان مؤمنا بانتصار العلمانية في النهاية ، بينما آخرون مثل الأنجليكاني David Noebel يرون أنها ( العلمانية ) تحتضر بلا أمل ولا معزين ،هذا على النقيض تماما من الأوربيين الذين تعجبوا أن يطرح سؤال يكون مستقبل العلمانية فيه على المحك .
في وقت قريب كانت العلمانية تبدوا ذابلة في أحد أهم معاقلها .. الولايات المتحدة ،و لكن الرئيس الأمريكي الذي قاد الهجوم ضد العلمانية سقط مهزوما بأفكاره الدينية و شعاراته الدوجمائية الفارغة ، و آمل أن يكون الأمريكيون قد تعلموا الدرس وسط المصيبة الإقتصادية و السياسية التي قادتهم إليها إدارة ورعة كإدارة الرئيس بوش ، و أن يعلموا مرة أخرى أن إدارة علمانية محترفة هي أفضل إدارة ممكنة . نعم تبدوا العلمانية في انحسار في المنطقة العربية ،و بعد انجازات ابتدائية لا بأس بها ، تسقط مصر و العراق و حتى الشام و المغرب تحت رياح وهابية لافحة ، و لكن هذا لن يستمر طويلآ ، سوف تتبخر أموال البترول في جيوب النصابين و الغوغاء و سيبقى (القرد على حاله) !.
ربما تواجه الفلسفة العلمانية انتقادات و محاولات تفكيكة كأي فكر عقلاني آخر ، وربما تواجه العلمانية الثقافية هجوما حادا من المؤسسات الدينية على المدى القريب و حتى المتوسط ، و لكن
لن يمكن لعاقل أن يمس العلمانية السياسية الوظيفية ،
من يحاول هذا مثل الإخوان المسلمون و حماس و حزب الله ... الخ سيكون بالقطع كمن فقد عقله ، وسواء نجح في ذلك أو فشل فلن يكون أكثر من طائر غادر سربه قاصدا الهلاك ، هذا يحتم أن يتضافر البشر جميعا حتى لا يتمكن أحد أن يلغي علمانية الدولة في أي مكان ، هذا الحد من العلمانية الذي يضمن أن يبقى العقل و العلم يشكلان المرجعية المعرفية للدولة ، خاصة في مجالات التشريع و العلاقات الدولية و قضايا الحرب و السلام و حقوق الإنسان ، أما الرؤية الدينية و الغيبية فمجالها الوحيد هو الحياة الشخصية ،و ليس الحياة العامة . إن مسؤولية منع وصول التنظيمات الدينية إلى السلطة في أي مجتمع هي مسؤولية المجتمع الدولي بالأساس ،ولا مجال هنا للإحتجاج بالخصوصية أو الحصول على الأغلبية في الإنتخابات المحلية .
رغم كل هذه الشكوك فإني مازلت مؤمنا أن هذا المشهد طارئ و لن يطول ، فالعلمانية ستنهض و تستمر ، هذا الإعتقاد ليس عقيدة دوجمائية صلدة ،و لكنه وليد منطق بسيط واضح ، فلا يوجد أمام البشرية بديل آخر للعلمانية . لا يوجد طريق آخر يقودنا للتقدم و الحرية و الديمقراطية ، لا يوجد هذا الطريق الآخر سوى في أحلام المتبلدين و كوابيس الخائفين ، ستبقى العلمانية طالما بقي هناك الإنسان المفكر ، الإنسان الذي يطرح تساؤلات حول كل الأفكار و كل العقائد ، هناك إجماع كوني اليوم أن الديمقراطية وحدها هي التي تقود الإنسان خلال دروب المستقبل ،ولا توجد ديمقراطية غير علمانية ، العلمانية هي أساس الديمقراطية و جوهرها ، و كل محاولة لتجريد الديمقراطية من علمانيتها تؤدي تلقائيا لسقوط الديمقراطية و تفريغها من مضمونها وروحها ، هذا يحدث في كل التجارب الديمقراطية غير العلمانية ، و يحدث في إيران و باكستان و فلسطين و مصر الآن .
إن فصل الدين عن الدولة لا يخدم فقط العلمانيين ، و لكنه يخدم بالأساس المؤسسات الحيوية للدولة ،و يحمي أيضا الأقليات الدينية سواء داخل الوطن الواحد أو على مستوى العالم . على المسلمين المتحمسين أن يدركوا أنهم أغلبية في بلدان الشرق الأوسط ،و لكنهم أقلية في كل دول العالم الأخرى تقريبا ، هم أقليات في أوروبا و أمريكا و الهند و الصين وروسيا و... ، لهذا هم أكبر المستفدين من العلمانية ، و من حقوق الإنسان التي تحميهم من الأضطهاد .
العلمانية هي إطار للتفاؤل المعرفي ، فالتشاؤم ليس علمانيا بل غيبيا ، و لو شاهدنا إنحسارآ للعلمانية في مكان ما أو وقت ما ، فهذا لا يعني أفولآ و فناء ، بل هو تراجع تكتيكي تمهيدا لضربة صاعقة ، و بحث عن طريق أقصر لنفس الهدف ، تعلمنا دروس التاريخ أن التقدم لا يتحرك دائما على خطوط مستقيمة ، بل يتحرك خلال المنحنيات الوعرة ،و لكنه دائما يتحرك للأمام ، العلمانية أيضا تعرف المرونة و المناورة كأداة تاريخية لتحقيق الأهداف العليا للبشرية .
إن العلمانية تقود الحضارة العالمية المعاصرة ،و لكنها تتعرض للغدر و الخيانة و سهام الأغبياء و المتعصبين في كل مكان من العالم ،و على العلمانيين أن يشمروا اكمامهم و يشرعون أسلحتهم القديمة الناجحة ، عليهم ان يثبتوا نظاراتهم و يشحذوا أقلامهم ،و أن يجوبوا الإنترنت مبشرين بغد جديد سعيد ، كما فعلوا دائما ، عليهم أن يعلموا الناس كيف يحبون الحياة بحماس ، كما أحب أجدادهم القدامى الإله بذات الحماس .
كل العقلاء يعرفون الان أن العلمانية هي طريق الديمقراطية ،و بالتالي هي سبيلنا للتقدم و الرخاء و السلام ، إن العالم يصغر باستمرار ،و القرية الكونية الواحدة تتشكل في العقول و القلوب و على الإنترنت و في السوق ، لقد انتهى الزمن الذي يقول فيه البلهاء " إلهي أفضل من إلهك " ، لا يجب أن تربكنا أو تخيفنا عنف التنظيمات الدينية و ثرائها ، فالدين المنظم لن يكون له وجود بعد سنوات لن تطول ، سوف يصبح الدين شأنا شخصيا مجاله الضمير ولا مكان آخر يلائمه ، هذه هي روح التقدم كما نستقرأها من حركة التاريخ ، أما من يصر أن يحيا الماضي فسيتعفن و تذروه الرياح .
........................
عن " العلمانية .. قضايا و آراء ." بهجت .
http://nadyelfikr.com/showthread.php?tid=35424&page=2