معمر وفحوى المشهد الأخير
تاريخ النشر: السبت 22/10/2011م
بقلم : عدلي صادق


في سنواته الأولى، كان في عيوننا شاباً متقداً بحماسة ونُبل الثوريين، يتأبط أحلام وهواجس كل عشاق الحرية ووحدة الأمة. فلكم استعذبنا نطقه، كلما كان يجاهر بهمساتنا النقدية، الحادة أو الساخرة. ظل يأنس في نفسه الجدارة في قول ما يريد، بشفاعة البلد الذي يحكمه. فليبيا كبيرة في مساحتها، ومهمة في موقعها الجغرافي، وغنية بثرواتها. كان معمر القذافي بسيطاً متواضعاً الى حد الطرافة، يؤتي من الإيضاحات التلقائية لمواقفه، ما يزيدنا شغفاً بتتبع أخباره. فإن كان يُلح على الوحدة الاندماجية، مع أي قُطر عربي؛ تسمعه يتحدث عن جماليات الأمنية، بلغة البدوي الذي تسبق فطرته لسانه. وإن أغضبة صدود الآخرين، كانت ردود أفعاله شديدة التماثل مع ردود أفعال الشاب العربي المتمرد على واقع الخيبة، المتحرر من قيود الحكم، ومن بروتوكلات العلاقات الرسمية بين الحكومات. ففي ذات يوم، أحبطه ضعف الاستجابة الساداتية للوحدة، فاعتزم 'الحَرَد' احتجاجاً. جمع بعض الكتب في حقيبة ملابسه، وتوجه الى القاهرة، كمسافر عادي، وتقدم الى شباك ختم الجوازات، ومد جواز سفره، ثم ذهب يلتقط حقيبته وخرج من المطار تتابعه عيون الأمن ورجاله. استقل سيارة 'تاكسي' وتوجه الى الفندق الصغير، الذي كان يرتاده كلما ذهب الى القاهرة، أيام الدراسة الثانوية. بعدها لحقت به الدولة، لكي يسترضيه المسؤولون، وعلى رأسهم الرئيس السادات، بجولة جديدة من حوار الوحدة في مركز الأهرام!
كثيرة هي المواقف، في ذلك الفصل من حياته. ولسنا هنا بصدد أمثلة منها، وإن كان بعضها يناقض تماماً ما استقرت عليه تصرفاته ونزعاته، عندما استطالت فترة حكمه، فبات لا يطيق أن ترتفع في وجهه سبابة للاعتراض. ضرب آلاف الأمثلة على غروره وصار يمارس النظر باحتقار للبشر، من وراء نظاراته، كلما تعبت عيناه من سياقها المعتاد، وهو النظر الى السماء باستعلاء، ترفعاً عن كل من هم فوق الأرض!
في القمة العربية الأولى التي حضرها في المغرب (كانون الأول 1969) كان مشدوهاً بمظاهر الأبهة التي رافقت القادة، ملوكاً وأمراء ورؤساء جمهوريات. في ردهة التجمع، قبل الدخول الى قاعة الاجتماعات، تتبعت عينا معمر، الملك الحسن الثاني. انتقل العاهل المغربي الى القاعة وحدة، لكي يتسلمها من رئيس التشريفات، قبل أن يدعو القادة الى الدخول. انزاح القذافي من مكانه لكي يتتبع الحسن الثاني. وعندما انحنى رئيس التشريفات المتقدم في السن، لكي يُقبّل يد مليكه حسب التقليد المغربي؛ صرخ معمر في الجمع، كمن اكتشف خطراً: انظروا يا إخوان، ما تزال هناك عبودية في الوطن العربي. إن هذا الرجل 'الشيبة' ينحني ويقبل يد 'حسن'. يومها توالت التعليقات، في الجلسة الأولى، وبعضها كان جارحاً للحاضرين، كأن يقاطع الفريق أول محمد فوزي، وهو يقرأ التقرير العسكري عن موقف المجابهة، أمام القادة، ويطالبه بالكف عن القراءة، لأن البعض هنا 'من الخونة والجواسيس، الذين سيبلغون العدو بما سمعوا'!
بعد كل 'لقطة' كان القادة يرمقون على الفور الزعيم جمال عبد الناصر، بنظرات رجاء أن يكبح هذا الفتى الخارج عن اللياقة. لم يكونوا على علم، في تلك الأثناء، أن جمال عبد الناصر نفسه، خاض معه نقاشاً مريراً، لأن معمر كان يهاجم أيامها الاتحاد السوفياتي بقوة، في مرحلة إعادة التسلح العربي، وهذا يحرج المتعطش لاستكمال الجاهزية القتالية. كان معمر يتلطي بالدين، لكي لا يذهب بالبلاد الى شرعية دستورية، وتعمد أن يضع على مكتبه مصحفاً شريفاً، رافضاً أن يكون ثمة وثيقة دستورية، تنظم حياة بلد ومجتمع، لهما تفصيلات وخصائص طبيعية ومدنية!
غير أن 'لقطات' معمر، كلما تسربت الى الصحافة، كانت تروق للغاضبين على النظام العربي، باعتباره مسؤولاً عن هوان الأمة وعن عجزها وهي القادرة بإمكاناتها البشرية والمادية، أمام كيان صهيوني ميكروسكوبي معتدٍ أثيم. وفي الحقيقة، كانت تقديراتنا للروح التي تعكسها هكذا مواقف؛ تجعلنا نتغاضى عن حقائق مرعبة ومغايرة، قوامها شراسة معمر في تصفية الثوريين من رفاقه وأصدقائه، الذين انجزوا الانقلاب في الفاتح من أيلول (سبتمبر) 1969. وفي السياق التاريخي الموضوعي، يصح القول، إنه بالترافق مع المعزوفة التي تنم عن مُطلق الثورية اللفظية؛ بدأت رحلة التوغل في الاستبداد وفي الجريمة، وفي تأسيس النظام الفردي المستأنس بالعشيرة، قبل أن يولد الأبناء فيستأنس أبوهم بهم، ويجعل العشيرة في المرتبة الثانية قبل الشعب، وبعد الذُريّة المتنفذة غير الصالحة!
في تلك الرحلة السوداء، لم يكترث بقانون، واظهر احتقاراً للمنظمات الدولية والإقليمة، وشن الحروب العجيبة التي لا ناقة فيها ولا جمل للشعب العربي، وأباد سجناء، وذم الديموقراطية كلعبة للدجل، وحرّم على شرائح المجتمع التعير عن نفسها ومصالحها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية، على قاعدة 'خضراء' صاغعها في كتابه، فـ 'من تحزب خان'. اضرم النار في الساحات الأخرى، وكان مصدر تمويل للمنشقين في كل بلد أراد إلحاق الأذى به. استأجر القتلة وسماسرة العنف الأعمى ومجموعاته وأرسل عناصر الاغتيال في الخارج، وتكفل بتمويل الانشقاقات داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، ورد على تطورات السياسة على صعيد التسوية بتعذيب فلسطينيين لم يقترفوا ذنباً وكل ما فعلوه أنهم ذهبوا الى ليبيا العربية يقدمون خبراتهم لإخوتهم الليبيين، معلمين وأطباء ومهندسين. أخرج العائلات الفلسطينية من بيوت سكنها وقذف بها الى الحدود المسدودة مع مصر، ليمكثوا هناك في الخيام تتهددهم وحوش البرية هم وأطفالهم. وهذا غيض من فيض المسعى الذي أدمن عليه!

* * *

الثروة النائمة، في بطن الصحراء، ساعدت الرجل على شراء الذمم التي مجدت اقترافاته، في كل مرحلة، ووفرت فرق المداحين، الذين تبدل معظمهم، على امتداد السنوات. في البداية ظن القوميون المطاردون بعد وفاة عبد الناصر، أن معمر هو بعض التعويض لهم عن فقدان الزعيم الزاهد، ذي الصدقية بسلوكه وبتوجهاته الكفاحية. وظل المأزومون يقصدون معمر، فينال منهم المديح، ثم يلوذ معظمهم بالفرار، بعد أن يعايشوا التجربة القذافية عن قرب. لكن معمر، بثروة ليييا، كان يجد البدائل، وفرقاً أخرى من المداحين، بدءاً بالناصريين العرب، مروراً بالثوريين 'العالميين' وانتهاءً بكثيرين، من بينهم عزمي بشارة، قبل أن يظهر في الفصل الأخير، معارضون سابقون 'تائبون' جاؤوه راكعين، ويرمز الى هؤلاء المشعوذ العجيب الحاج يوسف شاكير، الذي سلخ سنوات طويلة من حياته مشرداً في بريطانيا، وتزوج منها، ثم عاد زحفاً على ركبتيه. أدخلته البطانة، التي هي من أسباب المصيبة، لكي ينبح أمام 'الأخ القائد' الذي خجل من هذا الشكل في امتهان إنسانية المواطن الليبي، بالفعل الشائن المباشر أمام عينيه، فأمر بوقف النباح. لعله يومها، تذكر كيف كانت ردة فعله، على قُبلة الرجل 'الشيبة' على يد الحسن الثاني، وفق التقاليد المغربية المألوفة!
ربما تحتاج تجربة معمر القذافي، الى دراسة علمية موضوعية، لتعيين الأسباب والعوامل، التي أوصلته الى تلك الوجهة، من الغرور والقسوة والإحساس بالعظمة، وبالقدرة على الإيذاء دون وازع. ويقيني إن بطانة السوء وبعض العناصر النفسية والعصبية، في تكوين الشخصية، كانت الدافع الى ذلك السياق الفظيع للتجربة، في التقييم الإجمالي. ولست من مناصري نظرية التخوين بأثر رجعي، وإن كانت هناك حكايات وحكايات!
في المشهد الأخير، ظهر معمر بين أيدي الشبان، الذين ولدوا في عهده، بل ولدوا في فترة تتويجه لنفسه ملكاً 'محبوباً' ليس متوجاً على عرش ليبيا وحدها، وإنما على عرش الدنيا بأسرها: قائد الأمم، وعميد الحكام، وإمام المسلمين، وملك ملوك أفريقيا، ومصدر الخبر اليقين، في التاريخ وفي الفقهين الشرعي الدستوري، وفي النظريات السياسية، وفي الهندسة والطب وألوان الأزياء وتلاوين اللباس!
فبدل أن يعامله الشبان، بقليل من تقاليد الميدان، باعتباره أباهم لفترات طويلة، أو باعتباره قاتَل بشجاعة ولم يستسلم؛ عاملوه بالمنطق الذي رباهم عليه، أي بلا تقاليد، وبلا نسق. كانوا، في هجومهم عليه، مثلما كان. أي كانوا فوضويين، لا صلة بين عقولهم وغرائزهم. لم يطيقوه حياً لدقيقتين، مثلما كان هو لا يطيق معارضاً حياً لدقيقة. فهو الذي ظل يعرض على أقطار الضيافة أن يشتري معارضية، لكي يذبحهم كالنعاج. هكذا فعل مع صديق له تجرأ على معارضته، عندما اشترى عمر المحيشي وذبحه دون اعتبار للخبز والملح. إخواننا المصريون، قبل نحو عشرين سنة، ضربوه مقلباً، عندما كلف هو إحدى مجموعات الأرزقية، بذبح أحد المعارضين له في مصر، مقابل ثلاثة ملايين دولار، يحصلون عليها بعد مشاهدته لشريط الذبح والذبيحة تئن. ربما يومها جرت الاستعانة بمخرج سينمائي، على أن يكون المعارض هو صاحب دور البطولة، وتمت عملية ذبح سينمائي تمثيلية، فدفع معمر 'الأتعاب' مع 'البقشيش' بعد مشاهدة الشريط!
في المشهد الأخير، يتبدى معمر مجروراً بأيدي شبان، ولدوا في عهد تعظيمه لنفسه. أشبعوه ـ للأسف ـ ركلاً بالأرجل ثم قتلوه، لكي يتمدد أمام الناظرين، غارقاً في دمه. هو الذي اختار لعبة الموت، بدل الاستجابة ولو الجزئية لمطالب الشعب، وسمى الجماهير جموع جرذان، حتى أدركه الشباب الذين قاتلوه وقاتلهم حتى النهاية. دارت عليه دوائر اللعبة. ربما افتروا عليه مثلما افترى عليهم، فقالوا إنه كان مختبئاً كجرذ، بينما هو الذي استبسل دفاعاً عن حق يتوهمه، أو عن كبرياء لم تقم على أية قيمة أدبية. عاملوه وفق ما تعلموا. ليت هؤلاء ينطوون أو ينزوون بعيداً عن مشهد ليبيا الجديدة، كبلد عربي ديموقراطي حر. ليتهم يغيبون، لأنهم لم يبلغوا مستوى الإحساس بحاجة البلاد الى القانون، والى حال تنعقد فيه لمعمر ولأولاد وأعوانه، محاكمات عادلة، تعزيزاً للقضاء وإغناءً لرواية التاريخ!