طريف سردست، موقع الذاكرة: واضعي الدستور الامريكي كانوا متأثرين بأفكار الفيلسوف الفرنسي Montesquieu, الذي كان يطالب بتقسيم السلطات الى سلطة تشريعية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية. مونتيسغويي بدوره، استلهم افكاره من منطقة ليكيين Lycie, والذي كان يعتبرها منطقة الديمقراطية الفدرالية. وهذه المنطقة جرى ذكرها حتى من قبل الرئيس الامريكي الرابع جيمس ماديسون و اليكسندر هاميلتون وزير المالية الذي نجد صورته على العشرة دولارات.



عند وضع اصول الدستور الامريكي كان من الشائع ان الديمقراطية موروث يوناني، وكانت مدينة Patra مخفية تحت التراب بعناية قرب جبال طوروس في تركيا. الامر نفسه كان تعاني منه مجموعة من المدن-الدول ذات العلاقة. في ذلك الوقت كانت معلوماتنا عن ليكيين قادمة من مؤرخين يونانيين قدماء وعلى الاخص الاغريقي هيرودوتس وايضا من بلوطارخوس وسترابون Plutarchos and Strabon.

في السنوات الاخيرة تمكن اركيولجيين من بلدان مختلفة من رفع التراب عن مملكة قديمة. لقد تم العثور على مدرجات المسارح ومحكمة وقبور ومدافن. احدى الحفريات كانت بقيادة الاركيولوجي الفرنسي Jaques des Courtils, وكان يعمل على اظهار احدى الطبقات في منطقة Xanthos, وهي احدى مدن منطقة لاكيين من المدن الداخلة في الديمقراطية الفيدرالية. لقد تمكنوا من العثور على بقايا هياكل تعود الى الفترة اليبيزنطية وفي طبقة تحتها عثروا على جداريات وتماثيل وشواهد حجرية تعود لفترات اقدم.

بفضل هذه اللقى اصبحت صورة الحضارة التي كانت سائدة آنذاك واضحة للغاية. هيرودويس يصف لنا الجندي اليكيي شخص يحمل الكثير من الادوات على جسمه يستخدم العظام كدرع لحماية جسمه وسهامه من شجر خاص وبدون توجيه في مؤخرتهم كما يستخدم مقالع لقذف الحجر. ويلبس جلد العنز ويستخدم الريش لتجميل رأسه. إضافة لذلك كان يمتلك خنجر ومخلب حديدي، وكان شعره طويل، وهي مواصفات تتطابق مع التصاوير التي تم العصور عليها منحوتة على الحجر.



نظام المنطقة الديمقراطي هو الذي حمل لها الشهرة على الرغم من اليونان الاغريقية هي التي سرقت هذه الاضواء منها عصورا. لهذا السبب ليس من الغريب ان يشير مؤسسي الدستور الامريكي الى ليكيا، بالذات لانها كانت مؤلفة من اتحاد فيدرالي من 23 مدينة، وعام 205 توحدت فيدراليا مع مدينة باترا الساحلية. وعلى الرغم نزاعات داخلية بين هذه المدن الا انهم توفقوا في الحفاظ على وحدتهم السياسية ليطوروا منظومة سياسية تعطيهم وتنظم الحق بالتصويت حسب عدد سكان المدينة. بالمصطلحات الحديثة يعني ذلك فيديرالية ديمقراطية تمثيلية.

البرلمان كان يتألف من مجلس شيوخ لكل مدينة عدد متساوي من الممثلين ومجلس نواب يجري انتخابه حسب عدد سكان كل مدينة. والسلطة لم يكن بالامكان وراثتها على النمط العشائري او الملكي او الاقطاعي. كل سنة يجري انتخاب رئيس واحيانا رئيسة. البرلمان يجتمع مرة واحدة على الاقل في السنة في مسرح المدينة. في هذا الاجتماع تناقش القضايا المشتركة التي تهم المدن الاتحادية والسياسة الخارجية. وسكان الاتحاد تمكنوا من المحافظة على نظامهم لمدة 300 سنة.

ان يتمكن شعب صغير من المحافظة على استقلاله واستقراره على مدى فترة طويلة يدل على حبهم للحرية وعلى براجماتيتهم. في ذلك الوقت كانت المنطقة تعاني من تجاذب قوى كبيرة غير انه بفضل قوتهم العسكرية وديبلوماسيتهم الواقعية تمكنوا على الدوام تقريبا من المحافظة على تقرير مصيرهم على الاقل في شؤونهم الداخلية.

كان عدوهم اللدود هو الاغريق الذين تمكنوا من السيطرة على شمال اسيا الصعرى وفتحوا مدن مثل ترويا، ايفيسوس وبيرغامون في حين ان الليكيرين لم يكونوا يرغبون بالتخلي عن حريتهم، على الرغم ما انهم كانوا يتقاسمون الالهة نفسها وكانوا يستأجرون النحاتين الاغريق لنحت الجداريات، ولكن الادارة كانوا يرفضون مقاسمتها.

عدم رغبتهم بالوقوع تحت سيطرة الاخرين وايمانهم بحريتهم بدا للعلن بكل حدوده الدراماتيكية عندما حاول الامبراطور الفارسي كيروس احتلال المنطقة. حسب المؤرخ هيروديتس قام محاربي مدينة Xanthos, بوضع اطفالهم ونسائهم داخل الحصون المغلقة واشعلوا المدينة في حين بقوا هم يقاتلون المعتدين حتى اخر رجل. كون هذه الحادثة حدثت حقيقة جرى البرهنة علبه من خلال الحفريات التي عثرت على طبقة ثخينة من الرماد تغطي بقايا المدينة، وهي حفريات جرى القيام بها في القرن التاسع عشر.

غير ان ممالك المدن الاتحادية تمكنت من الوصول الى معاهدة سلام مع الفرس بمقتضاها يخضعون اسميا للعرش الفارسي مقابل جزية سنوية محددة. هذه الجزية لم تشكل عبئ عليهم لانهم كانوا عاملين نشيطين واذكياء يتاجرون بخشب الارز والزيتون وزيته والصوف.

إضافة الى التجارة كانت المدن الاتحادية مشهورة بسبب مدافنها الرائعة. هذه المدفن احد الاسباب الرئيسية لتيارات السياح الى تلك المنطقة اليوم. المدافن منحوتة على جدران جبلية. وهي تشبه اليوم مدينة مهجورة غير ان الاموات وحدهم من عاشوا فيها. وإضافة الى المدافن المحفورة في جدران الجبال توجد مقابر من صناديق حجرية للملوك وكبار الشخصيات وغالبا مزينة بالنقوشات الاغريقية. المدافن المحفورة في الجبال تعود للمرحلة المبكرة اما المقابر الحجرية فهي من تأثير الاغريق والرومان لاحقا.

تأثير الاغريق لانرى اثاره بالمقابر فقط وانما ايضا بأنصاب رموز الآلهة إذ نرى سلحفاة وسحلية وجرادة وهي رموز الاله الاكبر ابولو. والاله ابولو يعتبر إله اغريقي ولد على جزيرة ديلوس وهو ابن الاله زيوس والربة ليتو غير انه يوجد من يشير الى انه رب منطقة اليكيين.

وعلى الرغم الايمان بألهة مشتركة استمر الصراع بين الاغريق والليكيين مئات من السنوات، ونجح الليكيين في الحفاظ على استقلالهم الى ان جاء الكسندر المقدوني الكبير. في عصر الاكسندر الاكبر جرى بناء الامبراطورية الهيلينية والتي تمزقت بعد موته فأصبح الليكيين تحت نفوذ سلطة مصر وبعد ذلك تحت نفوذ سوريا.

حوالي 170 قبل الميلاد تمكن الرومان من دحر جميع القوى وضموا المنطقة الى الامبراطورية الرومانية. في النتيجة اصبح الليكيين موالين لروما بعد ان وافقت روما على اعفائهم من الخضوع لادارة رودوس المكروهة وسمحت لهم بالمحافظة على نظام ادارتهم الفيدرالي.

في بداية التاريخ الميلادي بدأت حرب اهلية في روما. وعلى الرغم من هذه الاضطرابات تمكن الليكيين من المحافظة على ادارتهم الذاتية في حين بقوا يخضعون لقرارات الحرب والسلام القادمة منن روما. وكتعبير عن حسن روابطهم مع روما زارهم العديد من قياصرة روما ومنهم هادريانوس وخطيبته الذي جرى لهم استقبال عظيم وجرى بناء العديد من النصب والتماثيل على اسمهم. عند ميناء مدينة باتارا امر القيصر هادريانوس ببناء صومعة كبيرة لخزن الحبوب المصدرة الى روما. وهذه المعلومات مسجلة على الجداريات حيث يقارن الامبراطور بالاله زيوس وخطيبته بالربة هيرا. وهناك اباطرة اخريين زاروا المنطقة وبنوا بها منشأت عامة.

هناك زائر اخر مشهور وصل الى فيدرالية الممالك الليكيين هو تلميد المسيح بولوص والذي له جزء من الانجيل. يؤكد المؤرخون ان بولوص نزل في ميناء ميرا في طريقه الى روما بعد ان جرى اعتقاله من الرومان بتهمة التبشير. كان معتنقي الدين الجديد يجري ملاحقتهم في كل مكان ومنطقة اللكييين لم تكن استثناء. اللفيدرالية ارسلت رسالة الى روما تسألها إذا كان عليها طرد المسيحيين. كان الطلب شكلي إذا ان الديانة الجديدة ناسبت اللكيين جدا لكونها طريقة للتخلص للخضوع للسلطة الرومانية. في النهاية اصبح ليكيا مسيحية واصبحت مركزا للبطاركة ومن بينهم نيكولاس من ميرا. هذا البطريك كانت تنتشر حوله الاقاويل انه يعطي صدقات سرية مثل وضع النقود في احذية الفقراء التي يضعونها على طرف الطرقات. كما تسري الاشاعات عن قدرات ادعيته على شفاء المرضى بمعجزة. هذه الروايات عن نيكولاس هي التي تشكل الاساس لقصة بابانويل اليوم ( سانتا كلاوس).

نيكولاس مات عام 343 ميلادي وكانت فيدرالية الليكيين وسيداتهم الذاتية لازالت باقية، حسب اللقى التي عثر عليها الفرنسيون. والفيدرالية تمكنت من البقاء حتى بعد سقوط روما وانقسام الامبراطورية لتنشأ روما الشرقية ومركزها البيزنطية. غير ان خلال الخمسمئة عام الاولى كان وضع الفيدرالية في تراجع. في المئة سنة الاولى تعرضت المنطقة لكوارث الاهتزازات الارضية وفي حوالي العام 200 اجتاحت المنطقة وباء الطاعون، والعديد من المدن اصبحت فارغة من سكانها. وبالترافق مع هجمات القراصنة الاسيويين على المدن الساحلية مثل مدينة باترا تحولت المدن المزدهرة الى قرى وغرقت ابنيتها الكبيرة في التراب.

الضربة القاصمة لهذه الحضارة جاءت مع وصول الاسلام الى المنطقة، حيث ان السكان الذين كانوا يعتزون بحريتهم رفضوا الخضوع لدين يفرض عليهم من الغزاة. مجموع هذه العوامل مع بعضها اصبحت وطئتها كبيرة على المجتمع لينتهي الامر الى اختفاء السكان بالتتدريج. عندما جاءت القبائل التركية من قفار اسيا الوسطى في القرن الثاني عشر عثرت على جزر صغيرة من السكان الاصليين، لتغلق صفحة شعب عشق الحرية الى الابد.

غير انه بفضل هيرودوتوس وبقية المؤرخين والاثار الرائعة التي ابدعها الليكيين لم تفنى ذكرى النظام الديمقراطي الفيدرالي لشعب حر، ليصبح الاساس لدساتير العديد من الشعوب الحرة اليوم.

نقلا عن موقع الذاكراة