طريف سردست، موقع الذاكرة: حتى اليوم لاتجرؤ السلطة السعودية على إذاعة كافة تفاصيل ضرب الكعبة عند محاولة تحريرها من مجاهدي السلفيين المتطرفين لمجموعة جهيمان العتيبي عام 1979 . احتلال الكعبة استمر اربعة عشرة يوما واضطرت الاسرة الحاكمةالى طلب فتوى من مجلس شيوخها للسماح بضرب الحرم الشريف مقابل تنازلات بل وحتى اضطرت لطلب مساعدة فرنسية. هنا اقدم لكم تسجيلا ليوميات الاحداث:



الوقت عام 1979، 21 نوفمبر الساعة 05:18 دقيقة صباحا.
امام الحرم الشريف الشيخ محمد بن سبيل يغسل وجهه متجهزاً لصلاة الصبح وبدايات ضوء الصباح تبزغ مبعدة ظلام الليل. المؤذن الشيخ عبد الحفيظ خوج يضع الغطاء البيج على اكتافه ويتناول الميكرفون. صوته الجهوري يصدر عن المكبرات على منارات الحرم السبعة معلنا " الله اكبر ، الله اكبر، لا إله الا الله".

آلاف المصلين يركعون على رخام ساحة الحرم وفجأة يسمع الناس صوت طلقة تعقبه طلقة اخرى. المصلون يتطلعون حواليهم بحذر ويرون شخصا شابا يحمل سلاحا بيده ويتقدم بهدوء الى وسط الساحة. ومن بين الناس يتقدم المزيد من المسلحين. البعض الاخر يسحبون اسلحة من توابيت مطروحة على الارض كانوا ادخلوها في اليوم السابق والحراس اعتقدوا ان فيها اموات. ليظهر ان لاشئ مقدس وتحت شعار ان "الحرب خدعة" تباح كل المقدسات. حارسين غير مسلحين كانوا على احد ابواب الحرم جرى قتلهم بالطلقتين.

جهيمان
جهيمان العتيبي بعد إعتقاله
في وسط الهرج والمرج يظهر شخص شعره طويل مجعد وقذر ونظراته تخترق كل شئ. كان عمره 43 سنة واسمه جهيمان العتيبي وهو القائد العسكري والسياسي لجماعة المجاهدين الذين احتلوا الكعبة، ويحيط به ثلاثة مرافقين مسلحين بالرشاشات والمسدسات وخناجر. جهيمان الذي يرتدي ملابس بيضاء يسحب الميكروفون من يد يد الامام ويدفعه. يحاول الامام استعادة الميكروفون ولكن احد المرافقين يهدده بخنجر حاد. يتوجه الامام ومئات من الحجاج الى الابواب على امل الخروج ليكتشفوا ان المجاهدين قاموا بقفل الابواب بالسلاسل الحديدية.



الوقت: 21 نوفمبر الساعة السادسة.
ناصر بن راشد يرفع سماعة التلفون ويضرب رقما سريا يصله مباشرة الى الملك العجوز خالد بن عبد العزيز آل سعود. بن راشد هو المسؤول عن الحرم الشريف وقبل بضعة دقائق وصلته مخابرة من امام الحرم المرعوب بن سبيل الذي تمكن من الحصول على تلفون ضمن الحرم الشريف. واثناء الاتصال سمع بن راشد اصوات الطلقات، ليسارع الى الاتصال بالملك. غير ان الذي رفع السماعة اخبره ان الملك ذهب الى مخدعه ليرتاح ولايجوز ازعاجه الان. ابن راشد يصر على الاتصال ويعلن ان الحرم الشريف اقدس المقدسات الاسلامية في خطر. في النهاية تمكن من اقناع مخاطبة بأيقاظ الملك الذي جاء ليطير النوم من عينيه بفعل الخبر.

الوقت: 21 نوفمبر ، صباحا.
جهيمان تأكد من ان جميع الابواب مغلقة تماما وان قناصته المتمركزين فوق المآذن يسيطرون على جميع الزوايا. مئات الاشخاص المسلحين يتمركزون في النقاط الحساسة والكثير منهم متدربين في الحرس الوطني.
احد المُجاهدين المسلحين ( سعيد) يحمل الميكروفون ويعلن: " نحن اخوانكم". وفي الاعلان عن اسبابهم اشاروا الى انهم احتلوا الحرم الشريف احتجاجا على سياسة عائلة آل سعود وخروجهم عن الشرع وكفرهم لكونهم يعيشون حسب نمط الحياة الغربية. غير انهم يعلنوا ايضا ان الاحتلال له سببا وجيها اخر:" لقد ظهر المهدي الذي سيعيد العدالة الى الارض" وآشار سعيد الى شاب على رقبته شامة حمراء وقال. " هذا هو المهدي المنتظر".


المسجد الحرام
الهرج يعم المتجمعين في الحرم. حسب الحكايات الاسلامية سيرسل الله قبيل يوم الحساب، المهدي الذي لايمكن هزيمته سيقوم بقيادة المسلمين ضد جميع اعدائهم. وحسب المجاهدين فإن محمد بن عبد الله القحطاني هو هذا المهدي الموعود. سعيد يتوجه الى الجماعة ويطلب منهم مبايعة المهدي. واحد وراء الاخر يسقط الحجاج على ركبهم ويتناولون يد المهدي فيقبلوها ويقسمون يمين المبايعة والولاء. هذا القسم الذي سينكثون به جميعا.

الوقت: 21 نوفمبر، الساعة 8.
لازال العالم لايعلم مالذي يحصل بالضبط. الشرطة ترسل اول سيارة الى الكعبة ومسجدها لمعرفة مدى صحة الاشاعات. في نفس اللحظة التي اقتربت فيها سيارة الشرطة من باب المسجد انهمرت عليها الطلقات من احدى المنارات. القناص تمكن على الفور من اصطياد السائق بطلقة مباشرة سقط السائق على اثرها خارج السيارة.
الشرطة ارسلت المزيد من السيارات ، والتي أنهمرت عليها الطلقات فورا عند وصولها الى الساحة المكشوفة امام المسجد من المترصدين خلف النوافذ والسطوح والابراج. المجاهدين تمكنوا من قتل ثمانية من الشرطة تبعثروا على الارض في وسط الساحة في حين تمكن البعض من الخروج من السيارات والاحتماء خلف سور. شمس الصباح اصبحت حرارتها تزداد والدماء كانت تجف على الاسفلت.

الوقت: 21 نوفمبر، ظهرا، مكة.
السلطات السعودية حولت احد الفنادق القريبة الى غرفة عمليات في محاولة لرؤية حجم العملية. اللواء فالح بن محمد الظاهري الحربي وصل الى فندق العمليات ليقود عملية التخطيط العسكري. حرس الامراء يقودونه الى مكان جلوس ثلاثة من الامراء السعوديون وهم الامير نايف وزير الداخلية الامير سلطان وزير الدفاع والامير فواز محافظ مكة والمسؤول عن قيادة معركة الكعبة.

الامراء يخبرون الضاهري عن الاحوال: في الصباح جرى تمركز جنود قوات الحرس الوطني على الاسطح وفي الشوارع حول المسجد. جميع الطرق جرى عزلها ووضع الحواجز عليها ومنع الاقتراب من المسجد لمنع حصول المجاهدين على التعزيزات. وجرى تعيين حدود الجبهة.
في اثناء الجلسة انفتح الباب ودخل شخص مستعجلا. كان الضاهري يعرفه فهو الموظف صالح. روى صالح انه كان في المسجد عندما جرى احتلاله وتمكن من الهروب لاحقا مع مجموعة من الرجال. كان يردد " يالهم من كفرة، لايخافون الله. انهم خنازير قذرة". بعد ان هدئ قليلا ذكر ايضا ان "الارهابيين" آشاروا الى احدهم على انه المهدي المنتظر وطلبوا مبايعته. هذا الخبر اثار القلق في نفوس الامراء. على مدى سنوات كانوا يصارعون ضد الشيوعيين والقوميين العرب والان يقفون وجها لوجه امام الاصوليين السلفيين.

الاشاعات حول المهدي انتشرت بسرعة البرق بين الجنود السعوديين واثارت البلبلة. في كل مكان كان يمكن ملاحظة ان الجنود الشباب قد انشغلوا بالنقاش فيما بينهم عما إذا كان المهدي المنتظر بالفعل قد ظهر. البعض الاخر كانوا متشككين ان بالامكان الحصول على السماح بمهاجمة المسجد الحرام الذي بارك الله حوله وجعله آمن. كان الاعتقاد ان رجال الدين سيحافظون على عهد الله بمنع جميع انواع اعمال العنف في المسجد الحرام وبيت الله. في النهاية لم يتمكن وزير الدفاع الامير سلطان من تمالك نفسه في انتظار الفتوى المقدسة وهو يرى تدهور الحالة النفسية لجنوده. انه يتوجه نحو الجنود ويقول لهم:" إذا انتم لم تدافعوا عن بيت الله فمن الذي سيدافع عنه؟ هل تريدون مني ان اجلب الباكستانيين واطلب منهم الدفاع عن بيت الله عوضا عنكم؟".

الوقت: 21 نوفمبر، المساء، الرياض، قصر الملك خالد.
قبل ان يكون بمقدور ملك السعودية اعطاء الامر بإقتحام المسجد الحرام يحتاج الى الحصول على فتوى من هيئة رجال الدين في السعودية.
رجال الدين يتدفقون على القصر بأحذيتهم الجلدية السوداء وعبائتهم المزخرفة بالذهب. الملك خالد يخبرهم ان الارهابيين احتلوا بيت الله واطلقوا النار على الابرياء من المسلمين واعلنوا عن ظهور المهدي. وتساءل الملك:" ماذا على الجنود عمله للدفاع عن حرمة بيت الله؟".

بعد تتداولات جدية توصل العلماء الى ان القحطاني ليس هو المهدي المنتظر على الرغم من انه يملك نفس اسم الرسول ولديه شامة حمراء تماما كما تشير النبوءة ولكنه لايحقق بقية الشروط. مثلا وحسب لائحة الشروط يجب عليه ان ينتصر على 70 الف يهودي من اصفهان الايرانية ولكن في مكة لايوجد اية اقلية يهودية على الاطلاق، ولذلك فظهوره هناك لايجوز.


الحصول على الفتوى المطلوبة
من جهة ثانية كان العلماء متفهمين للنقد الذي يوجهه الارهابيون للعائلة المالكة السعودية متهمينهم بأنهم يتعاطفون مع الغرب. لذلك فإن هيئة العلماء تقدم للملك شروطها: في مقابل فتوى تسمح بالهجوم على بيت الله لقتل الارهابيين فيه على العائلة المالكة العودة الى نسق الشريعة وتمنع ظهور النساء في التلفزيون والافلام اللااخلاقية وتحارب الكحول.

في الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي تعلن العائلة المالكة من على الهواء مباشرة:" السلطات اتخذت كافة الاجراءات لاستعادة السيطرة على الوضع بعد ان حصلت على فتوى هيئة العلماء". الملك وافق على شروط رجال الدين (راجع الحاشية الاولى لقراءة نص الفتوى).

الوقت: 22 نوفمبر، الساعة الثالثة والنصف صباحا، مكة
بعد يوم من المناوشات المنفردة قرر وزير الدفاع القيام بأول هجوم كبير على الجامع الكبير تحت حماية الظلام.
رجال جهيمان تمكنوا من التحصن في انفاق سراديب الجامع، حيث اخفوا ايضا مخزونهم من الطعام مثل التمر والخبز واللبن. خبرتهم التي حصلوا عليها في الحرس الوطني علمتهم ان التخطيط الجيد لاغنى عنه للبقاء على قيد الحياة.

العديد من الحجاج لازالوا رهائن بيد المجاهدين. بعض الحجاج الافارقة الفقراء تحولوا عمليا الى عبيد لدى المجاهدين إذ اصبح من واجبهم جلب الماء والخذيرة وتنفيذ طلبات المجاهدين. ولكون لاتوجد داخل اسوار المسجد مراحيض اصبح الحجاج والمجاهدين مجبرين على التبول والتغوط على ارضية المسجد واصبحت الروائح الكريهة تنبعث من كل زوايا انفاق سراديب المسجد الحرام المظلمة، إذ جرى قطع الكهرباء عن المكان.


قصف المسجد الحرام بالمدفعية
فجأة تضيء سماء الليل بأنفجار وبعده بثوان نسمع ارتطام في داخل المسجد. من على الهضاب القريبة المحيطة بالمسجد تنهمر القنابل على الارهابيين والمسجد وبيت الله الحرام. غير ان الانفجارات لاتحقق اضرار إذ ان الجنود يخشون اصابة المسجد الحرام والكعبة. كان الجيش يأمل ان اصوات طلقات المدافع المدوية ستفقد رجال جهيمان على فقدان التركيز ليتمكن ثلاثين جندي من التسلل من باب السلام الى داخل الحرم. عندما تقدم الجنود في الساحة المكشوفة انهمر الرصاص عليهم من المآذن والتوافذ. الطلقات كانت تصطدم برخام الارضية ويتراشق عنها شظايا حجرية وغبار.

الجنود يتراكضون هاربين على امل التمكن من الاحتماء ولكنه لم يكن هناك اية حماية قريبة. وفجأة انفتح باب المسجد امامهم وظهر من داخله المجاهدين وبدؤا بإطلاق رشات اسلحتهم. قائد المجموعة يسقط مضرجا بدمائه وحوله يتساقط بقية الجنود وفي داخل المسجد تتعالي هتافات المجاهدين - الارهابيين: " الله اكبر، الله اكبر".



الوقت: 23 نوفمبر، ليلا، مكة
هيئة العلماء اصدرت فتواها التي تسمح بعمليات واسعة في داخل المسجد الحرام (راجع الحاشية الثانية). بناء على ذلك اصدرت الحكومة اوامرها بإستخدام الاسلحة الثقيلة.

جيب عسكري عليه مكبرات الصوت يبدأ يحوم حول المسجد. ينطلق منه صوت يقول:" سلموا انفسكم وإلا سنجبركم على التسليم. الذي يسلم نفسه لن يحصل له اي ضرر. سلموا انفسكم". غير ان الجماعة داخل المسجد تصمت تماما. بعد لحظات تتقدم الاسلحة الثقيلة. مدرعات M1 13, وقاذفات القنابل تتقدم في إتجاه المسجد. بروجيكتورات ضوئية قوية توجه ضوئها نحو المسجد فيتحول الليل الى نهار. " جميع الوسائل مسموحة حسب فتوى العلماء بما فيه الحرب في باحة المسجد الحرام". العمليات العسكرية حصلت على تأييد كامل من هيئة علماء المسلمين حتى لو يتهدم المسجد.

اللواء الضاهري يبدأ عمليته العسكرية. الهدف الاول كان القضاء على القناصين في المآذن. الجنود يطلقون صواريخهم في إتجاه المآذن الثمانية لتصطدم بالبلكونات ويتم القضاء عليهم بسرعة. بعد ذلك بدأت الطائرات العسكرية تطير على ارتفاعات منخفضة فوق المسجد بحيث ان البناء كان يهتز. المدرعات بدأت تتقدم ببطء نحو المسجد يتبعهم الجنود. المدرعات تخرق الابواب وتتدخل للمسجد في حين الجنود يطلقون النيران على الزوايا المظلمة. المجاهدين الارهابيين يتقافزون في الممرات المظلمة وخلف العواميد والسجاد المعلق كالاشباح مستغلين الظلمة.

ارض المسجد كان لزجا وزلقا من دماء الضحايا. فجأة اصبحت رشقات الاسلحة تأتي من كل مكان ليبرز المهدي بنفسه شارعا سلاحه ويطلق في إتجاه الجنود. وتماما كما تقول النبوءة كان يبدو ان المهدي لايموت، فهو يقف امامهم كاشفا نفسه يطلقون عليه الرصاص ولكن يبدو ان الرصاص يتحاشاه بأعجوبة.


الحرس الوطني داخل الحرم
المدرعة تتوجه للامام في إتجاه المهدي الخطابي الذي بدوره يندفع بإتجاه المدرعة وهو يصرخ:" انا المهدي، لااخاف شئ. لايمكن ان اموت" ثم يقوم بصب البنزين على المدرعة ويشعل فيها النار. المدرعة تحاول التراجع للخلف والخروج من المسجد. مدرعة اخرى تتقدم واحدى العربات تنحشر في باب المسجد فيصعد احد المجاهدين - الارهابيين على سطحها ويلقي فيها قنبلة مولوتف. خلال ثوان تتحول المركبة الى شعلة من نار.

المجاهدين يطلقون صيحات " الله اكبر" ويطلقون النار في نفس الوقت الذي يتدفق فيه المزيد من الجنود الى داخل الحرم. اجساد الجنود القتلى منتشرة في كل مكان. بعد هجوم المجاهدين الارهابيين بالبنزين وقنبل المولوتوف اصبح من غير الممكن التعرف على جثث الجنود القتلى. بعد بضعة ايام تفسخت جثث الجنود تحت اشعة الشمس الحارقة وانبعثت منهم الروائح الكريهة. الجنود كانوا يدقعون ثمنا كبيرا لكل متر يتقدمونه وكانوا عصبيين يطلقون النار في كل الاتجاهات. الرهائن كانوا يحاولون الهرب من الارهابيين فيقتلون برصاص الجنود.

الوقت: 24 نوفمبر، مساء، مكة
الجنود تمكنوا من السيطرة على مساحة كبيرة من الحرم ولكن المجاهدين الارهابيين لازالوا يقاومون.


محمد بن عبد الله القحطاني،المهدي مقتولا
المسجد يحترق والارهابيين تراجعوا الى السراديب المتشابكة. في احد الممرات التي تحترق يقف المهدي القحطاني منتظرا. شعره الطويل ملتصق ببعضه بالدم، والجنود يلقون قنابل يدوية في الممرات. وعندما يسمع المهدي صوت ارتطام قنبلة يدوية بالارض يركض للامام ويمسك بها ويقذفها الى مُرسليها قبل ثوان من انفجارها. لقد نجح في ذلك بضعة مرات وفي المرة الاخيرة عندما تقدم لالتقاط احدى القنابل انفجرت القنبلة فتطايرت ساقاه والجزء الاسفل من جسده . على الفور تصاعدت الاصوات صارخة " المهدي". غير انهم كانوا محاصرين في تبادل اطلاق النار ولم يكن بمستطاعهم المسارعة لنجدة المهدي.

الوقت: 25 نوفمبر، مكة
السلطات تمكنت من السيطرة على المسجد الحرام ولكن تجد صعوبة في تطهير السراديب حيث الجنود لايستطيعون الدخول بالعربات المصفحة والاحتماء بها.
وعلى الرغم من هذه المعارك القاسية بقي المجادهين الارهابيين يقاتلون ويرفضون الاستسلام. كانوا يحتمون بالظلام واتلسراديب ويأكلون بضعة تمرات، ويتفادون الغاز المسيل للدموع بتغطية انوفهم بمحارم مبللة. غير ان خبر موت المهدي قد شاع واثر في معنوياتهم.

احد المجاهدين الارهابيين تبادل خواطره مع جهيمان وقال:" اعتقد ان المهدي قد مات". جهيمان يجيب بحزم:" تعلم ان المهدي لايموت، لااحد يستطيع قتل المهدي". بعد لحظات يتابع جهيمان بلهجة متسامحة:" مهما كان الامر لاتخبر الاخرين بخواطرك". الشاب يوافق وينسحب الى مكانه. جهيمان يشعر بجو القلق وضرورة رفع معنويات المقاتلين فيتوجه اليهم قائلا:" إذا كان فيكم من يريد الانسحاب والمغادرة فليفعل. ولكن انا سأبقى واجاهد حتى اخر قطرة من دمي، حتى لو لم يبقى احد غيري". المقاتلين ارخوا نظراتهم نحو الارض وعادوا الى مواقعهم

الوقت: 30 نوفمبر، صباحا، فيلا في مدينة الطائف



الجنرال الفرنسي الذي قاد العملية
المعارك مضى عليها الان اسبوعا كاملا ولكن المجاهدين الارهابيين لازالوا يقاومون في سراديب الحرم ولازال لديهم رهائن. لهذا السبب يتخد الملك قرارا حساسا، إنه يستدعي اختصاصيين فرنسيين.
باول باريل Paul Barril, يدخل يدخل لغرفة بسيطة في فيلا متوارية عن الاعين، حيث توجد فقط طاولة وبضعة كراسي وصورة للكعبة. اللوتنانت الفرنسي صاحب الشعر الاشقر الغامق يتقدم للامام يرافقه جنديين فرنسيين من الوحدات الخاصة. هؤلاء يعملون في وحدات GIGN, وهي وحدات عمليات خاصة. قبل يوم واحد جرى نقلهم جوا الى السعودية لمساعدة القوات السعودية على القضاء على المجاهدين الارهابيين في المسجد الحرام. المهمة غاية في السرية. اضطرار ملك السعودية على طلب مساعدة قوات اجنبية غربية سيكون ليس فقط مخزيا ولكنه ايضا تدنيس للمقدسات وانتهاكا للقرآن، إذ ان المسيحيين يُحرم عليهم الدخول الى مكة وبالطبع المسجد الحرام ايضا، حسب القرآن.

بارييل ينظر الى الجنود السعوديين. بعضهم ملفوفين بالاربطة حول رأسهم وغالبيتهم تظهر عليهم ملامح اليأس وفقدان العزيمة. الفرنسيين يبدؤأ في استنتطاق الجنود عن مواضع مقاومة الارهابيين. ولكونه لااحد لديه خارطة تناول اللوتنانت صورة الكعبة من على الحائط ووضعها على الطاولة وبدأ يرسم عليها التموضعات. على الفور بدأت تظهر وشواشات بين الجنود. لقد ظهر ان الجنود اسائهم معاملة صورة الكعبة بهذا الشكل. جرى تهدئة الجنود واعيدت الصورة المقدسة الى الحائط وذهب احد السعوديين لجلب خارطة. في خلال هذه الفترة جذب احد الضباط السعوديين اللوتنانت الفرنسي من يده وهمس له بخفوت:" انت تعلم انه لابد لك من اعتناق الاسلام، إذا كنت ستذهب الى مكة؟" باريل هز رأسه موافقا بكل هدوء وجدية.
جرى حذف الصورة لتجاوز عدد الصور العشرة
استمرار العمليات العسكرية
الوقت: 3 ديسمبر، صباحا، مكة
المعارك مضى عليها اسبوعين تقريبا. باول باريل قام بتدريب الجنود السعوديين وتجهيزهم بمعدات الغاز. الان بدأ الجنود بهجوم جديد واسع لحسم المعركة.
بإيعاز من اللوتنانت الفرنسي تندفع مجموعة كبيرة من العمال الى حديقة الحرم الكبيرة تحت القيادة المباشرة لباول باريل من فندق قريب.

اغلب العمال كانوا من الباكستانيين والاتراك وقد بدؤا بحفر ثقوب في الارضية الرخامية بالذات فوق مواقع السراديب الارضية التي يتحصن بها المجاهدين الارهابيين. الخطة تقتضي فتح منافذ الى السراديب لضخ غاز لشل الجميع عن الحركة. عندما اصبحت الثقوب جاهزة بدأت الطلقات تنهمر من الاسفل في إتجاه العمال والعديد منهم سقطوا ضحايا.

الجنود الذي يلبسون واقي ضد الغازات وملابس واقية من المواد الكيمائية تقدمت الى حديقة الحرم. من خلال الثقوب التي نجح العمال في حفرها القوا قنابل غازية الى السراديب المحصنة وضغطوا على الازرار لتفجيرها في وقت واحد لينطلق الغاز.
على الاثر اصبح المجاهدين الارهابيين مشلولين لبعض الوقت مما سمح للجنود بالتقدم في السراديب وفي نفس الوقت بعث المزيد من الغاز امامهم وهم يفحصون الغرف واحدة وراء الاخرى.


رجال جهيمان،المجاهدين الارهابيين في الاسر
جهيمان ورجاله اضطروا للانسحاب مبتعدين عن الغاز وتاركين جرحاهم ورهائنهم، الذين عثر الجنود عليهم وقادوهم الى السطح.
غالبية الرهائن كانوا منهارين وفاقدين القوة بسبب الغاز ولم يكن لديهم مايكفي من القوة ليمشوا بمفردهم. بعضهم وصل به العطش انه قام بشرب بوله. بعض المساكين من الرهائن اسقطهم العسكر المتوتر في طريقه في الممرات المظلمة والذين لم يكن قادر على التفريق بين صديق وعدو.

الجنود السعوديون اصبحوا يلاحقون رجال جهيمان الذين اصبحوا يهربون الى الاعماق الضيقة للسراديب. الجنود اضطروا الى الخوض في المياه النتنة والدخول في فتحات وسخة زحفا على بطنهم. والجنود الذين لم يصابوا بالعمى من الظلام والغاز كانوا يسيرون وسط سحابة ثخينة من الدخان الصادر عن حرق اطارات السيارات التي اشعلها المجاهدين الارهابيين. بعد 18 ساعة من الصراع تحت الارض اصبح جهيمان ورجاله محاصرين من كل الجهات.

التاريخ: 4 ديسمبر، مساء، المسجد الحرام
منذ الصباح الباكر اذاعت الاسرة المالكة اخبار انتصاراتها. ولكن الارهابيين كانوا لازالوا لم يستسلموا. (راجع الحاشية الثالثة)
النقيب ابو سلطان يقف امام باب حديدي وخلفه الغرفة الاخيرة التي لم يجري فحصها. الضابط اعطى الاوامر لتفجير الباب. بعد الانهيار ومن بين الدخان ظهرت مجموعة من الشبان جالسة على طول الجدار الحجري. وجوههم مسودة من الرماد وملابسهم ممزقة وملوثة بالدماء. بعضهم كان يرتجف بدون انقطاع او قدرة على التحكم بنفسه. احدهم كان يحدق بوقاحة بالجنود. ابو سلطان سأله: ماأسمك؟ اجابه: جهيمان.


اعدام قسم من المجاهدين علنا والقسم الاخر جرى تصديره الى افغانستان، بعد العفو عنهم
الجنود احدقوا به غير ان الضابط ابو سلطان رافق اسيره جهيمان حتى لايقوم احد الجنود بقتل رأس الافعى. ابو سلطان يسأل جهيمان:" كيف لك الجرأة على فعل هذا الامر؟" جهيمان يجيب بثقة:" انها إرادة الله". موقعة المسجد الحرام تنتهي، بقتل 117 جهادي واسر 170 منهم. في حين قتل 26 مدني و127 عسكري وجرح 450، حسب الارقام الرسمية للسلطات السعودية. غير ان مصادر غير حكومية تشير الى ان القتلى كانوا حوالي الالف اغلبهم من المدنيين. (راجع الحاشية الثالثة) بعد شهر واحد من العملية جرى قطع رأس جهيمان و 26 من رجاله. الباقي اطلق سراحهم لاحقا ليسافروا الى افغانستان للمشاركة بالحرب الامريكية ضد السوفييت. الفرنسيين الثلاثة جرى منحهم ساعات روليكس ذهبية وإعادتهم الى بلادهم بسرية تامة والتغطية على دورهم.

فكر جيهمان كان هو الفكر نفسه الذي دفع اسامة بن لادين الى بناء القاعدة واطلاق حركته. بن لادين اعلن ان جهيمان كان "مسلم حقيقي، لم يقم بأي جريمة". ذات الفكر يقف خلف عملية قتل خالد الاسلامبولي للسادات، الذي حصل على مطبوعات جهيمان من شقيقه شوقي الذي انضم لاحقا الى القاعدة وشارك في العديد من العمليات الارهابية بما فيه في باكستان. سبب قتل السادات انه خان الاسلام. في عام 2005 قام احد الارهابيين بتفجير نفسه قرب فندق فلسطين في بغداد. كان هذا الارهابي يستخدم اسم " جهيمان" كأسمه الحركي، مما يشير الى ان تراث جهيمان لازال حيا.


الحاشية الاولى: نص فتوى هيئة العلماء
اجتمع الملك خالد مع عدد من العلماء المتواجدين في الرياض بعد وقوع الحادثة، وأطلعهم على ما جرى، فاستفتاهم في كيفية حل الأزمة، فوافاه الجواب بالنحو التالي:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم»: أما بعد، ففي يوم الثلاثاء اليوم الأول من شهر محرم عام أربعمائة وألف من الهجرة، دعانا نحن الموقعين أدناه جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود وأخبرنا أن جماعة في فجر هذا اليوم بعد صلاة الفجر مباشرة دخلوا في المسجد الحرام مسلحين، وأغلقوا أبواب الحرم وجعلوا عليها حراساً مسلحين، وأعلنوا طلب البيعة لمن سموَّه المهدي، ومنعوا الناس من الخروج من الحرم، وقاتلوا من مانعهم، وأطلقوا النار على أناس داخل المسجد وخارجه، وقتلوا بعض رجال الدولة وأصابوا غيرهم، وإنهم لا يزالون يطلقون النار على الناس والمسجد، واستفتانا في شأنهم وما يعمل معهم فأفتيناه أن الواجب دعوتهم إلى الإستسلام ووضع السلاح، فإن فعلوا قبل منهم وسجنوا حتّى ينظر في أمرهم شرعاً، وإن امتنعوا وجب اتخاذ كافة الوسائل للقبض عليهم ولو أدى إلى قتالهم وقتل من لم يحصل القبض عليه
منهم، ولا يستسلم إلا بذلك، لقوله تعالى:

(وَلا تُقاتِلُوهُم عِندَ المَسجِد الحَرام حتّى يُقاتِلوكُم فِيه فإن قاتَلوكُم فَاقتلوهم كَذلك جزاءُ الكافِرين).

ولقول النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «من أتاكم جمع يريد يفرق جماعتكم ويشق عصاكم فاضربوا عنقه...» رواه أبو مسلم .. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يعلي كلمته ، وينصر دينه ، وأن يخذل من أرد الإسلام والمسلمين بسوء ، وأن يشغله بنفسه ، إنه سميع مجيب ، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

الحاشية الثانية: الفتوى الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه .
ونسأل الله أن ينصر دينه يعلي كلمته ويخذل من أراد الإسلام والمسلمين بسوء وأن يعيذنا من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، وأن يكبت من أراد الفساد والالحاد في حرم الله ، وانتهاك حرمته وسفك دماء المسلمين ، وبعد ، فان هذا العمل الشنيع الذي قامت به هذه الطائفة الظالمة ، التي انتهكت حرمة الله وأقدس بقعة في أرضه ، وسفكت فيه الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام ، وفي رحاب الكعبة المشرفة وروعت المسلمين الآمنين في أمن الله وحرمه ش.. عمل مخالف لكتاب الله وسنه رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجماع الأئمة ، ويعتبر منكرا عظيما ، وإجراما شنيعا وإلحادا في حرم الله الذي قال فيه : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) . وقال سبحانه وتعالى : ( ومن أظلم ممن مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . وصح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار .. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب " متفق عليه .. وهذا الطائفة تجرأت على مخالفة أمر الله وأمر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجماع الأئمة ، ولذلك سأل ولاة الأمر عن الحكم المكافحة شر هؤلاء ، فصدرت الفتوى الشرعية بأن على ولي الأمر أن يقضي على فتنفهم باتخاذ كافة الوسائل ، ولو أدى ذلك إلى مقاتلتهم إن لم يندفع شرهم إلا بذلك .. لقوله تعالى : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ) . وهذا الآية وإن كانت نازلة في الكفار ، فإن حكمها شامل لهم ولغيرهم ممن فعل فعلتهم ، فاستحل القتال في الحرم بإجماع العلماء ، ولقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم فاضربوا عنقه كائنا كان " .
وهذا حكم من يدعى أنه المهدي وغيره وهذه الطائفة أرادت شق عصا المسلمين ، وتفريق كلمتهم ، والخروج على إمامهم ، فدخلت في عموم هذا الحديث وغيره من النصوص الشرعية الدالة على معناه ، وولاة الأمر وفقهم الله لكل خير ، مشكورون على ما قاموا به من جهد لإخماد هذه الفتنة والقضاء عليها ، فنسأل الله أن يعز بهم الإسلام والمسلمين وأن يوقفهم لما فيه صلاح العباد والبلاد ، إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

المــــوقــعُــون
الشيخ عبد الله بن حميد ـ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ الشيخ عبد العزيز ناصر بن رشيد ـ الشيخ راشد بن صالح بن خنين ـ الشيخ راشد بن عبد العزيز بن مترك ـ الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة ـ الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن فارس ـ الشيخ ناصر بن حمد الراشد ـ الشيخ سليمان بن عبد العزيز بن سليمان ـ الشيخ محمد بن عبد الله الأمير ـ الشيخ عبد العزيز بن محمد بن زاحم ـ الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن راشد الشيخ محمد سليمان البدر ـ الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير ـ الشيخ صالح بن علي بن غصون ـ الشيخ غنيم بن مبارك الغنيم ـ الشيخ ناصر بن عبد العزيز الشترى ـ الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع ـ الشيخ عبد العزيز العيسى ـ الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ ـ الشيخ محمد علوي مالكي ـ الشيخ صالح بن محمد بن لحيدان ـ الشيخ محمد بن سبيل الشيخ سليمان بن عبيد ـ الشيخ عبد الرحمن حمزة المرزوقي ـ الشيخ محمد بن إبراهيم البشر ـ الشيخ محمد إبراهيم العيسى

حاشية ثالثة
قطع التلفزيون السعودي بثه ليظهر نايف بن عبد العزيز على الشاشة وآثار التعب ظاهرة عليه، وملامح البشرى تتسلل إليه على استحياء ليعلن تطهير قبو المسجد الحرام من جميع عناصر التمرد ليسدل الستار على أصعب مراحل التاريخ السعودي الحديث بمحاكمة عادلة للشرذمة التي انتهكت حرمة البيت العتيق، وإصدار الملك خالد بن عبد العزيز أمره رقم 2/ 4207 بقتل المتورطين من عصابة “جهيمان” المقبوض عليهم وتوزيعهم على عدد من المناطق للعبرة، وفي اليوم نفسه قتل 63 متورطا في مدن مكة المكرمة 15، المدينة المنورة 7، الرياض 10، الدمام 7، بريدة 7، حائل 5، أبها 7، تبوك 5.

وكان جهيمان من ضمن قائمة المحكومين بالإعدام، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيه في 9 يناير 1980م، ليغلق ملف أول حادث للتطرف الديني في المملكة قادها جهيمان المغمور الحالم بزعامة وهمية، فهو لم يكن يوما ممن يتوقع لهم هذا المصير. فجهيمان المولود في 1936، والمكني بأبي محمد بدأ حياته موظفا عاديا بالحرس الوطني السعودي لثمانية عشر عاما منذ عام 1955، إلى أن ترك الحياة العسكرية عام 1973.

ثم انتقل إلى المدينة المنورة حيث درس في الجامعة الإسلامية والتقى هناك بمحمد بن عبد اللـه القحطاني الذي تزوج فيما بعد أخت جهيمان وكان سر التغير الذي قلب حياة جهيمان بعدما التقى مع محمد بن عبد اللـه في الكثير من الأفكار والتي بدأ بنشرها بشكل سري وعلى نطاق ضيق في بعض المساجد الصغيرة بالمدينة المنورة في البداية، ولقيت هذه الأفكار الخلاصية كما كانوا يسمونها صدى إيجابيا عند البعض، وأخذت الجماعة التي أسسها جهيمان تكبر، حتى وصل عدد أفرادها إلى الآلاف.

البداية كانت دعوة محتسبة عندما باركها الشيخ عبد العزيز بن باز منتصف الستينات الميلادية، وبرغم انطلاقها تحت راية قيادة مركزية تكونت من ناصر بن حسين وسليمان بن شتيوي وسعد التميمي جهيمان العتيبي، فإن تفرغ الأخير للدعوة والثورة الداخلية التي كان يحس بها والتطلع للزعامة جعلته الرجل الأول والمحرك الرئيسي للجماعة، حتى اختزلت الجماعة السلفية المحتسبة في جهيمان وجهيمان في الجماعة، كان يعتبرها رسالته وحده وحقه الأكيد في الزعامة. لذا لم يكن يتردد في أن يقود سيارته الجمس الصالون ليجوب القرى والهجر في رسالة الدعوة التي يحملها شرق المدينة المنورة في قرى النخيل وما جاورها من هجر.

فالموظف الهادئ المستكين تحول فجأة بعدما سيطرت فكرة الزعامة عليه إلى بركان من النشاط والغضب أيضا، فكان عام 1978، هو المرة الأولى التي يكون فيها جهيمان وأعضاء الجماعة مطلوبين أمنيين لدى الدولة السعودية، بسبب أفكار الانتقام لإخوان السبلة التي كثيرا ما كان يرددها على أتباعه من دون خوض في تفاصيلها، وكان في هذه الأثناء يعكف على إصدار عدة رسائل أهمها “الرسائل السبع، رسالة الإمارة والبيعة والطاعة، كشف تلبيس الحكام عن طلبة العلم والعوام – وهي رسالة كتبها مدافعا عن الإخوان الذين كانوا في جيش الملك المؤسس – رفع الالتباس”، وقد تم طباعة تلك الرسائل في الكويت، وقامت مجلة الطليعة الكويتية اليسارية بطباعة كتب جهيمان بسعر زهيد ويتم تهريبها عبر الحدود الشمالية للمملكة، عن طريق أتباعه الذين كانوا يتنكرون في هيئة رعاة غنم ويخبئون تلك الكتب تحت الخبز اليابس.

ويشكك الكثير من الباحثين في كون جهيمان هو من كتب هذه الرسائل بنفسه، ويرون أن هناك من كتبها له، وممن طالتهم أصابع الاتهام في ذلك محدث اليمن الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه اللـه، والذي كان يؤيد جهيمان في البداية قبل أن يتراجع، لكن الشيخ مقبل حاول تبرئة نفسه من هذه التهمة، وقال في أحد كتبه: ثم بعد هذا خرجت بعض رسائل جهيمان فقبض على مجموعة منا، وعند التحقيق قالوا لي أنت التي كتبتها، جهيمان لا يستطيع أن يكتب، فنفيت ذلك واللـه يعلم أني لم أكتبها، لكن نفي مقبل لم ينه القناعة التي سيطرت على الجميع بأن جهيمان لم يكتب هذه الرسائل بنفسه، وهو ما أكده ولي العهد السعودي وقتها الأمير فهد بن عبد العزيز في حوار مع جريدة السفير اللبنانية عندما قال إن جهيمان لم يكن سوى رجل عادي إلى درجة متناهية، وأنه متواضع لغويا وفكريا، وأنه لا يمتلك من القدرات ما يمكنه من تأليف كتب، لكن مع تنفيذ حكم القتل في جهيمان دفن معه سره وفتنته التي أراد إشعالها أيضا