من ربح الحرب في ليبيا؟

تعدّد مراكز السلطة

عيّن المجلس الوطني الانتقالي الليبي حكومة، لا تحوز على الاعتراف الشعبيّ، حتّى وإن تمّ تعيين بعض قادة المتمرّدين وزراءً. هكذا تصطدم عملية إعادة بناء دولة القانون بعسكرة المجتمع، وبالتقوقع حول الانتماءات القبلية والدينيّة، وكذلك بتدخّل الأطراف الخارجية.

في هذا الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، عشية عيد الأضحى (العيد الكبير)، يهتمّ سكّان طرابلس قبل كلّ شيء بالبحث عن الخروف الذي سيُقدّم أضحيةً وفقاً للتقليد الإسلامي. وبسبب ارتفاع سعر كيلو اللحم إلى 25 دينارٍ ليبيّ (حوالي 20 يورو)، أي ضعف ما كان عليه الأمر قبل الحرب، لم تتمكّن العديد من العائلات من الحصول سوى على حيوانٍ مستورد من تركيا، أرخص سعراً لكن ليس مرغوباً مثل الخروف البلدي. وإذا كانت الحياة تبدو طبيعية خلال النهار، إلاّ أن الليالي تبدو بوضوح أكثر اضطراباً، بسبب الاشتباكات المستمرّة بين المجموعات المسلّحة.

خلال الأيام الأخيرة، اقتصر الأمر على مشاجرات بين سكّان مسلّحين في بعض الأحياء وثوّار [1] مدينة زنتان، الذين لعبت كتيبتهم دوراً حاسماً في "تحرير" العاصمة إلى جانب كتائب مصراتة وطرابلس ومدنٍ أخرى من الغرب الليبيّ (يفرن، جادو، الرجبان). ويشكّل ثوار زنتان الذين يضمّون حوالي 200 1 رجل مسلّحٍ في طرابلس أهمّ قوّة عسكرية بقيت متشكّلة في العاصمة منذ رحيل معظم عناصر كتيبة مصراتة إلى جبهات بني وليد [2] وسرت، وعودة كتائب أخرى إلى مدنها الأساسية. إذ بعد استيلائهم في آب/أغسطس، وبعد ثلاثة أيام من المعارك، على ضواحي مطار طرابلس الدولي التي كانت تضمّ أوسع مقرّ لمعمّر القذّافي وكتيبته الأمنية، أولى المجلس الوطني الانتقالي إلى ثوار زنتان مهمّة الحفاظ على الأمن في منطقةٍ تمتدّ 25 كيلومتراً حول المطار.

رئيسهم، السيد مختار الأخضر، هو شخصية أسطورية أثّرت كثيراً في الثورة التي شهدها جبل نفوسة. فقد شارك في كافّة المعارك منذ نهاية شهر آذار/مارس. كان قبل الحرب مديراً لشركةٍ صغيرة لتأجير سيارات مع سائقٍ، تعمل مع الشركات النفطية؛ ولم تكن لديه أيّة خبرة في الحروب باستثناء الخدمة العسكرية التي قام بها خلال الثمانينات والتي خدم خلالها، على غرار الكثير من الشباب الليبييين من أبناء جيله، ضمن القوّات التي تمّ إرسالها إلى شمال التشاد. تحمّس السيد الأخضر بشكلٍ كبير لمهمّته، فهو يشرح بفخر كيف أنّ رئيس المجلس الوطني الإنتقالي مصصطفى عبد الجليل، الذي كان قد انتقل لتوّه إلى طرابلس للإقامة في مركز جامعة الدعوة الإسلامية السابقة، المتواجدة في المنطقة الخاضعة لمسؤوليته، قد أوكله شخصيّاً بتأمين الحماية الخارجيّة للموقع.

إن كان هذا السابع من تشرين الثاني/نوفمبر يوماً مهمّاً بالنسبة إليه، مع افتتاح الخطّ الجوّي التجاريّ الأول الذي كانت شركة الطيران التركية أوّل المستخدمين له مع رحلةٍ قادمة من اسطنبول، إلاّ أنّ ما يقلقه بشكلٍ أساسي هي الحوادث التي سجّلت الليل الماضي. إذ احتدمت المناوشات بين ثوار زنتان وشباب حيّ الأندلس، وسرعان ما توافد الدعم إلى الساحة للجهتين، مع شاحنات صغيرة وأسلحة ثقيلة، حتّى اضطرّ أخيراً للتدخّل شخصياً إلى جانب المسؤولين عن المجالس العسكرية في الأحياء [3] لتفادي مواجهات واسعة.

تضاعفت خلال الأسابيع الأخيرة الحوادث من هذا النوع، والتي تورّطت فيها الميليشيا التابعة لمن نصّب نفسه حاكماً لطرابلس، الجهادي السابق عبد الحكيم بلحاج، وتسبّبت بسقوط ضحايا. هكذا أصبح ثوّار زنتان يجسّدون استياء العديد من سكّان طرابلس، الذين يعتبروهم لصوصاً وأشخاصاً غير منضبطين، ويطالبونهم بأن يغادروا المدينة. يعترف السيد الأخضر أنّ أعمال شائنة منعزلة قد ارتكبت: "ثوّاري ليسوا قدّيسين. وبعض الحوادث تعود أيضاً إلى احتساء الكحول المهرّبة، التي يتزايد وجودها في العاصمة". وهو يؤكّد على أن قادة الكتائب قد تلقّوا أوامراً باتّخاذ عقوبات، وطرد مقترفي أعمال الشغب إذا اضطرّ الأمر.
لا رحمة على المنهزمين

بعد بضع ساعات، يتوجّه إلى الحديقة العامّة الضخمة التي تحيط بمساكن وخيم القذّافي - التي قصفتها قوّات حلف شمال الأطلسي- ، حيث يُقام احتفالٌ لمنظّمة الوفاق الوطني التي تأسّست في نهاية آب/أغسطس من قبل أحد وجهاء المدينة [4]. دُعي إليه للاستمتاع بضع ساعات نساء وأطفال من تاورغاء والمشاشية وغواليش، كانوا قد اضطرّوا عقب سقوط النظام للهروب من مدنهم وقراهم التي دعمت القذافي. حول أطباق المآكل التقليدية، اختلفت وجهات النظر بين أعضاء المنظمة الخيريّة لمختلف المدن الشاطئية والثوّار. أكّد الفريق الأول على أنّ الوقت قد حان لكي يغادر الثوّار طرابلس وكي يلتحقوا بالجيش الوطني؛ في حين اعتبر الفريق الثاني أنّ وجوده ضروريّ للحفاظ على الأمن في المدينة، وبأنّ السيد بلحاج هو الذي يروّج الإشاعات ضدّهم.

وبما أنّهم يعتبرون أنّهم ربحوا الحرب، لذا لا يفهمون ضرورة وضعهم تحت إمرة جنرالات الجيش الوطني، الذين كانوا مع نظام القذّافي أو هم معارضون كانوا يقيمون في الخارج. وبحسب السيد الأخضر، يجب التفاوض حول كافّة الأمور: الرتب العسكريّة، والأجور، ودفع ثماني أشهر في الخدمة، وتأمين وظائف أو منحٍ دراسية للّذين لا يرغبون بالالتحاق بالجيش. وهو ينوي الدفاع عن مصالح رجاله وقبيلته في سياق التسابق على السلطة والنفوذ واستخدام الموارد الطبيعية (خصوصاً النفط) الذي يشهده البلد حالياً.

كما أنّه من غير الوارد مغادرة طرابلس وإفساح المجال أمام السيد بلحاج (الذي لا يتخطّى عديد قوّاته ثلاثمئة رجل). هذه النقطة الأخيرة تحظى على إجماع مدعوّي الحفل الذين يعتبرون السيد بلحاج جهاديّاً يطمح للسلطة السياسية، في غياب أيّ دعمٍ محلّي له. يدعونه "الرجل الختم" لأنّه وصل إلى طرابلس دون أن يشارك بالمعارك، برفقة فريقٍ من قناة الجزيرة، ومعه ختم الحاكم العسكري لطرابلس. الجميع يرفض رؤيته المتعصّبة للإسلام، التي تُعتبر غريبة عن التقاليد المحليّة، ويرفضون كذلك راعيه، أمير قطر، المتّهم بالتدخّل في شؤون البلاد. في المقابل، يحظى السيد عبد الجليل على الإجماع لاستقامته بصفته رجل قانون، ولقدرته على الاستماع إلى الآخرين ورغبته المعلنة بالدفاع عن الهوية التقليدية والإسلاميّة.

لكن الوفاق الوطني لم يحصل. إذ أنّ قلّة من الناس يكترثون لمصير سكّان القرى والمدن التي وقعت ضحية أعمال انتقامية لأنّها دعمت النظام الساقط. هكذا تجري، على الطرقات وداخل المدن، مطاردة منهجيّة للسيارات المسجّلة في سيرت أو بني وليد؛ يتمّ التحقّق من هوية الركّاب وتفتيشهم، وأحياناً تجريدهم من ممتلكاتهم. أحد أعضاء قبيلة الورفلة في بني وليد، الذي التجأ لدى أقرباءٍ له في حيٍّ جنوب شرق طرابلس تسكنه غالبية من الورفلة - وحيث تظهر ليلاً على الحيطان كتابات مؤيدة للقذّافي-، قدّم شهادةً حول نهب منزله من قبل ثوّار مصراتة في شهر تشرين الأول/أكتوبر: "لن ننسى أبداً. ونحن سننتظر الوقت المناسب للثأر". وفي غياب أيّ اعتبار للعذابات التي يعاني منها المهزومون أو أيّة إجراءات لحمايتهم، يضحى من الصعب الاقتناع بتحقيق ذلك "الوفاق الوطني" الذي يتحدّث عنه يومياً المسؤولون السياسيون في المجلس الوطني الانتقالي، والذي لا يتمتّع أصلاً بأيّة سلطة فعلية على كتائب الثوّار.

نسلك الطريق الجنوبية باتّجاه زنتان. المدينة الأولى التي عبرناها، هي العزيزية، وهي معقل قبيلة الورشفانة الكبيرة التي كانت ناشطة نوعاً ما في دعم نظام القذّافي حتّى منتصف آب/أغسطس، بحيث ينظر إلى أفرادها على أنّهم ثوّار اللحظة الأخيرة [5]. لدى الوصول إلى جبل نفوسة، تمرّ الطريق في محاذاة قريتي الريعانيّة، وهما رمز لخطوط التصدّع التي حفرتها الحرب الأهلية: قرية الريعانية الشرقية التي التحقت باكراً جدّاً بالثورة، والريعانيّة الغربية التي ناصرت القذّافي حتّى النهاية. هذه الأخيرة هي اليوم قرية أشباح - منازل محترقة، وأبواب مخلّعة، ومحلاّت منهوبة -، في حين استعادت جارتها نشاطاً طبيعياً. الشعارات التي تمجّد ثوّار الزنتان موجودة في كلّ مكان، كُتبت بسرعة ولا تغطّي بالكامل تلك التي تمتدح القبائل التي باتت اليوم مهزومة.

أخيراً تظهر أمامنا في الأعلى مدينة زنتان. هنا مقرّ المجلس العسكري للمنطقة الغربية، الذي لعب دوراً أساسياً في تنسيق العمليات في جبل نفوسة وحضّر الهجوم على العاصمة. تحصي المدينة من أصل 000 35 نسمة، أكثر من 000 3 عنصرٍ من الثوّار، ما يجعل منها أكثر مدينة ليبية منظّمة عسكرياً. بحسب السيد الأخضر، هنالك حوالي 800 1 من ثوار الزنتان ينتشرون على المواقع النفطية السبعة الأهمّ في المنطقة، كذلك في أُوباري حيث يتفاوضون حالياً حول تجريد الطوارق من سلاحهم. وفي أرجن، قرب أوباري، قبض ثوّار الزنتان في 20 تشرين الثاني/نوفمبر على سيف الإسلام القذافي، قبل أن ينقلوه إلى معقلهم. وهم ما زالوا يحتجزونه اليوم تحت حمايتهم، ويرفضون تسليمه حتّى الآن إلى المجلس الوطني الانتقالي.

"لا يمكننا منافسة مصراتة التي تضمّ من أصل 000 300 نسمة، أكثر من 000 12 من الثوار؛ لكنّ اهتماماتنا مختلفة. فنحن مثلاً لم نرغب بمرافقة هؤلاء الرجال في عملية الحصار والهجوم على بني وليد. إذ نرغب بالحفاظ على علاقات جيّدة مع الورفلة، الذين يربطنا معهم تقليدٌ طويلٌ من التحالفات وحسن الجوار. أمّا بالنسبة لسكّان مصراتة، فقد قضى الأمر قبل كلّ شيء بالثأر لمدينتهم المحاصرة من قبل الورفلة، الذين تجمعهم بهم خصومة قديمة. وفي خصوص حماية آبار النفط، كنّا الأكثر أهليّة لتأمينها، لأنّنا نتّبع التقليد البدوي ونعرف جيداً المناطق الصحراوية وصولاً إلى أُوباري. في حين لا يعرف باقي سكّان منطقة طرابلس تلك الأنحاء، ولا يغامرون بأنفسهم فيها".

عند سماع هذا الكلام من الصعب علينا ألاّ نتذكّر التمييز التقليدي الذي أورده العلامة إبن خلدون (1332-1406) بين قيم البدو وقيم الحضَر. فأهل الزنتان يعتبرون الطرابلسيين خاضعين وخبثاء ووصوليين ("المتسلّقون") في حين يعتبرون أنفسهم أحراراً وشجعاناً وصريحين. أمّا الطرابلسيين فهم من جهتهم يحترمون شجاعة وانضباط جيرانهم، لكنّهم يعتبرون بأنّ قيمهم وتقاليدهم لا تتناسب مع حياة المدينة بعد أن يستتبّ فيها السلم.

إذاً إن عسكرة الأذهان والانكفاء على الانتماءات البدائية [6] هما اللذان تسبّبان، بقدر انتشار الأسلحة في كلّ مكان، بتصاعد المواجهات المسلّحة. بالطبع يرفض المسؤولون المحليّون الإقرار بهذه الصفة القبلية للنزاعات، ويفضّلون الحديث عن حوادثٍ منعزلة يردّونها إلى "طابورٍ خامس" غامضٍ أو إلى "خليّات قذّافية نائمة" تسعى إلى نشر "الفتنة" بين أبناء "الشعب الليبي". لكنّ الخطاب الرسمي الذي يلخّصه شعار "لا للقبلية، لا للمناطقية"، والذي ظهر منذ فترة قصيرة على العديد من الملصقات واليافطات في العاصمة، هو أشبه بأمنية لا تمتّ إلى الوقائع بصلة [7].
قالوا أنّهم يريدون حماية المدنيين

في العاصمة، يعلم السيد بلحاج أنّه يحظى بدعم دولة قطر وقناة الجزيرة، وأنّ رجاله يتميّزون بانضباطهم وتدريبهم العقائدي. بالتالي قد يقدّم نفسه كبديلٍ عن البدو "غير المنضبطين"، الأمر الذي قد يتسبّب بردّة فعل من قبل هؤلاء وبانفجار للعنف. كما أنّ نيّة الثأر لدى القبائل والمناطق المهزومة والمُهانة من قبل المتمرّدين لأنّها دعمت نظام القذّافي قد تُترجم في النهاية بأعمالٍ تزداد عنفاً يوماً بعد يوم.

بعد ثماني أشهرٍ من الصراع الذي لا يزال المسؤولون الغربيون يرفضون وصفه بالحرب الأهليّة، لا تزال إذاً مسألة حماية السكان المدنيين - وهي الحجّة التي تمّ عرضها لمشاركة منظمة حلف شمال الأطلسي في الحرب - غير مضمونة أبداً. والثقة المفرطة التي أظهرها قادة التحالف وهم يهنّئون أنفسهم على "انتصارهم" عشية اجتياح وتدمير سرت ووفاة القذّافي تكشف عن لامبالاتهم العميقة بهذا "الشعب الليبيي" الذين لم يكفّوا عن تأكيد رغبتهم بحمايته عبر قذائفهم. إلاّ أن تقهقر الوضع الأمني وتضاعف المواجهات المسلّحة في منطقة طرابلس قد يذكّرانهم سريعاً بأنّ النصر العسكري في حربٍ أهلية لا يعني شيئاً بحدّ ذاته، ولا يشكّل في أيّة حال ضمانة لـ"حماية السكّان المدنيين".

* دبلوماسي سابق في السفارة الفرنسية في طرابلس (2001-2004)، من مؤلّفاته: Au cœur de la Libye de Kadhafi, Jean-Claude Lattès, Paris, 2011.

[1] يُشار بالثوّار إلى أعضاء الكتائب الذين حاربت نظام القذّافي.

[2] بني وليد هي معقل قبيلة الورفلة، أكبر قبيلة طرابلسية، والتي دعمت في غالبيتها العقيد القذّافي.

[3] أُحصي رسمياً حالياً 53 مجلساً عسكرياً للأحياء في طرابلس.

[4] باتت هذه الجمعية تحصي أكثر من 000 5 منتسب.

[5] من 10 إلى 12 تشرين الثاني/نوفمبر، جرت معارك بالأسلحة الثقيلة بين الورشفانة وميليشيات مدينة الزاوية الشاطئية، ما أوقع على الأقل 17 قتيلاً وعشرات الجرحى.

[6] لكلّ مدينة من المدن التي لعبت دوراً مهمّاً في الثورة، أصبح هناك صحيفة وقناة تلفزيونية خاصّة (14 قناة في مجمل البلاد). كما أن لكافّة القبائل الكبرى صفحتها الخاصّة على الفايسبوك.

[7] كان أحد الأهداف الأساسية "للضباط الأحرار" الشباب بقيادة القذّافي بعد ثورة العام 1969 هو الإلغاء الرسميّ للقبليّة. وقد تمّ اتّخاذ إجراءات ملموسة بهذا الصدد. لكنّها لم تدم سوى بضعة أعوام لانعدام فعاليّتها، قبل أن يعيد القذّافي إلى القبائل موقعها كرافعة للسلطة. الاطّلاع على: باتريك حايمزادره، "شروط الوحدة الوطنية في ليبيا"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، أيلول/سبتمبر 2011، http://www.mondiploar.com/article35...