الدلالة الثالثة: ظهور المؤسسة العسكرية المصرية بثوب جديد كقوة اقتصادية مستقلة عن الدولة، توظف قدراتها الكبيرة لتدعيم حكم مجلسها العسكري، ونفوذه في السلطة السياسية التي يجري إعادة إشادة بنيانها على مسطرة المصالح الأمريكية.

لقد تبين أن المؤسسة العسكرية تملك إمبراطورية تجارية، ويتمتع كبار قادتها بامتيازات خاصة، يسعون إلى المحافظة عليها، وعدم السماح بالمس بها في المستقبل، وهو الأمر الذي يفسر رفضهم التخلي عن السلطة قبل ضمان تكريس صيغة دستورية تحفظ لهم استقلاليتهم وعدم التدخل في شؤونهم العسكرية والتجارية.

إن مثل هذه التطورات والدلالات تؤشر إلى أن مخاطر إجهاض ثورة الشباب المصري باتت مخاطر جدية وتسيطر على الواقع المصري، وهذه المخاطر تتمثل في:

أولاَ: إن مشهد الثورة المضادة، لإعادة إنتاج النظام القديم، وسياساته بقالب جديد، قد اكتمل في إطار صفقة تجمع مكونات القوى المضادة، تضمن تقاسمها السلطة في المرحلة المقبلة، واستطراداً المحافظة على الاتفاقيات الدولية، وفي مقدمها اتفاقية السلام مع كيان العدو الصهيوني، وهذه القوى تتمثل بالمجلس العسكري، والإخوان، وحزب النور، وفلول النظام السابق.

ففيما يواصل المجلس العسكري السيطرة على المؤسسات العسكرية، والأمنية، ووسائل الإعلام والحكومة، التي هي نسخة طبق الأصل عن حكومات مبارك، فإن الإخوان، والسلفيين احكموا سيطرتهم على المجلس النيابي، ليرتسم المشهد بالاستيلاء على الحكم بكل مفاصله، من قبل أركان النظام السابق، وبالتعاون مع الأخوان والسلفيين، وبإشراف المندب السامي الأمريكي فيلتمان الذي يحرص على عدم هيمنة أي طرف على السلطة، لضمان التزام الجميع بالتعهدات التي قدموها لواشنطن، واستمرار تحكمها بالقرار السياسي والاقتصادي لمصر.

وما قيل عن تفاهم بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة الأمريكية، توافق بموجبه الأخيرة على إزالة تحفظها عن وصول الإخوان إلى السلطة عبر الانتخابات، مقابل تعهدهم بمواصلة البقاء على علاقات مصر وارتباطاتها مع أمريكا، والكيان الصهيوني لم يكن مجرد تخمينات أو تحليلات، وتبين بأنه حصيلة تفاهم فعلي والآن جاء وقت ترجمته العملية، وهو ما أكدته نتائج لقاء كيري مرسي.

ثانياً: إن الانتخابات، بدلاً من أن تنتج تغييراً يحقق أماني ثورة الشباب، فإنها أدت إلى توجيه صفعة قوية لهذه الأماني، والطموحات، تمثلت بانتخاب الإخوان المسلمين، والسلفيين، الذين أخذوا يكشفون عن رؤيتهم المتخلفة، والرجعية، إن كان على صعيد الموقف من العدو الصهيوني والعلاقة الوطيدة مع أمريكا، ومواصلة نهج الاقتصاد الحر الذي كان قائماً ولا يزال، أو على صعيد العلاقات الاجتماعية بالدعوة إلى التزمت، وعدم احترام معتقدات الآخرين.

لذلك لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية وانتخابات نزيهة إذا لم يتم أولاً إسقاط النظام القديم بكل مؤسساته، وبناء النظام الجديد، وتحرير الناس من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجائرة التي أفقرت الشعب وجعلته مرتهناً لقوى الرأسمال القادرة على استغلال ظروفه الاجتماعية الصعبة، وشراء أصوات الناس عبر الخدمات والمال.

ثالثاً: إن الخلاف القائم حالياً بين المجلس العسكري، والإخوان المسلمين حول المجلس الاستشاري، ووظيفته، وحول موضوع التعديلات على مواد الدستور ليس خلافاً سياسياً، وإنما هو خلاف على السلطة، ومن يمسك بها، ولهذا فإن الصراع حول لجنة الدستور وكيفية تشكيلها وطبيعة الدستور الجديد، سوف تكون عنواناً أساسياً من عناوين الصراع، الذي ستشهده الساحة المصرية في مرحلة ما بعد الانتخابات.

رابعاً: انكشاف الخطة لإعادة إنتاج النظام القديم، مع بعض التعديلات، يؤكد بأن ما جرى حتى الآن هو عملية خداع للشعب المصري وثورته التي تبين أنها ثورة عفوية لا قيادة، ولا برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي لها، ما سهل عملية ركوب موجتها واستثمارها واستغلالها، فالثورة بمفهومها الحقيقي تعني هدم النظام القديم، وتسلُّم السلطة من قبل قيادة ثورية تعمل على بناء نظام جديد يرسي سياسات جديدة تنسجم مع أهداف الثورة. ولذلك فإن القضية ليست مجرد تغيير أشخاص، وسقوط رئيس، فطالما بقي النظام القديم بمؤسساته وسياساته، فإن الحديث عن ثورة انتصرت مجرد كلام وخدعة يجب ألا تنطلي على أحد.