( بقية الجزء 1 من 3 ) .
هيكل و ياسر رزق
هذه بالضبط الأوضاع التي أخذت البلد إلى الثورة، وأهداف الثورة لا يصعب إنجازها إلا إذا جرت مواجهة الحقائق أولاً .
دعني أذكرك أن أهداف الثورة المصرية هي أهداف كل ثورة في الدنيا، وكل ثورة في مصر: الحرية - العدل - والتقدم هذه قصة الأمل الإنساني باستمرار، وعلى طول التاريخ سواء بالتطور أو بالثورة، هذه هي “ثلاثية” المطلوب، ثم إن كل عصر من العصور يتحرك بهذه المطالب الثلاثة في ظروف متغيرة وعصور مختلفة، وهو يكيف فعله بإدارة عناصر هذه الظروف والعصور وفق ما هو متوفر له من فكر وطاقة فعل .
الظروف والعصور تتغير والمطلوب محدد وثابت، ثلاثة مطالب: الحرية والعدل والتقدم، تذكر أن نفس النموذج تقريبا موجود في الأدب، فكل قصة لها ثلاثة أبطال، رجل وامرأة، وطرف ثالث وأي مؤلف من “سوفوكل” إلى “شكسبير” إلى “نجيب محفوظ” يحرك هؤلاء الأطراف الثلاثة فيما يكتب وفق الظروف والعصور .
وطلب الحرية والعدل والتقدم في مصر، وبعد تصاعد الثورة وبلوغها حد الذروة يوم 25 يناير - كان هناك ثلاثة من الأبطال مسؤولين عن أهداف الحرية والعدل والتقدم في ظروف عصر مستجد، لكن الكل وطوال سنة كاملة وقع في حيرة لا يعرف كيف يرسم دوره، حتى ليصدق على الجميع تعبير شاعرنا العظيم “أحمد شوقي” في قوله أثناء حوارات مسرحية “مجنون ليلى”: “نحن الثلاثة ارتطمنا بالقدر”، وهذا بالفعل ما حدث، ثلاثة أبطال في يدهم مفاتيح الفكر والفعل ارتطموا بالقدر، وبرغم حسن نواياهم فإنهم جميعا واجهوا مأزق الدوران في الحلقة المفرغة، لأنهم جميعا لم يروا الحقائق الغائبة، أو أنهم رأوها ثم هالهم ما رأوا، فابتعدوا .
* في تقديرك . كيف حدث ارتطام كل طرف بالقدر؟ . . ومن المسؤول عن مأزق “الحلقة المفرغة”؟
- هيكل : في ثورة 25 يناير ثلاثة أطراف كما اتفقنا:
جموع الشباب الذين صنعوا التفجير الثوري الذي استجاب له الملايين في أرجاء مصر، وليس في ميدان التحرير وحده، تذكر دائما هذه الحقيقة . . الملايين وليس ميدان التحرير وحده - من الميدان جاء الإلهام، ومن الملايين جاء الزحف الذي فرض وحسم .
يأتي بعد ذلك دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلم سلطة الدولة عهدة مؤقتة وأمانة .
ثم تجيء القوى السياسية كلها جديدها وقديمها، ابتداءً من القوة الزاحفة للإخوان المسلمين إلى أصغر تجمع يساري على الساحة .
الأطراف الثلاثة “الطلائع من الشباب - والمجلس الأعلى - والأحزاب” وقعوا في مأزق ربما لم يكن من صنع أحد منهم، لأنهم جميعا ارتطموا بالقدر على حد تعبير “أحمد شوقي”، والارتطام بالقدر هنا معناه ليس مجرد أن يواجه أحد الأطراف عقبات لم تكن من صنعه، ولكن أيضاً أن يواجه ما لا يقدر على التصرف فيه، ولا يقدر على تجاهله في نفس الوقت .
* لكي أشرح قصدي، دعنا نستعرض معاً أوضاع كل طرف من الأطراف الثلاثة في ثورة 25 يناير، ولندرس معا كيف ارتطم كل منهم بالقدر؟
. . . . . . . .
القوات المسلحة المصرية كانت أول من ارتطم بالقدر في مصر، وللإنصاف فقد كان ذلك حاصلا منذ البدايات الأولى وحتى من قبل ثورة سنة 1952 .
لم نستطع في أي وقت وضع القوات المسلحة في مكانها الصحيح من نظام الدولة المصرية الحديثة وفي فعلها .
فكرة الجيش فكرة عميقة في الوجدان المصري، فالجيش يمثل ركنا أساسيا في قيام الدولة المصرية، وفي نظامها وفي حمايتها، لكن الجيش فكرة وتنظيماً ظل مستهدفاً على الدوام من جانب القوى الخارجية التي لا تريد في مصر دولة حديثة قادرة على حماية نفسها، وأداء دورها في إقليمها، الجيش المصري ربما هو الوحيد في العالم الذي وقع حله ثلاث مرات في أقل من قرن .
جرى حله بعد ضرب تجربة “محمد علي” - وجرى حله بعد ضرب الثورة العرابية سنة 1882 - وجرى حله (تقريباً) بعد اغتيال سرداره البريطاني السير “لي ستاك” سنة 1924 ولم يعد الجيش على استحياء إلا بعد معاهدة سنة 1936 وكان التصور أن يظل جيش احتفالات ومراسم!!
لكن الأمة حرصت في كل الظروف على فكرة الجيش وعلى تجسيدها وتأكيدها، وفي الحقيقة فإن معركة السويس 1956 لم تكن مجرد الأمل في بناء السد العالي، وإنما كانت في ذات الوقت تطلعا إلى القوة بكسر احتكار السلاح، وضمن كل مؤسسات الدولة كانت مؤسسة الجيش، هي المؤسسة التي تحققت لها حصانة لم تتوافر لغيرها من المؤسسات .
لكننا ومن قبل الثورة، وفي بلد لم يزل محتلاً بالإنجليز، دفعنا الجيش إلى فلسطين من دون تحديد للهدف، ومن دون استعداد يمكنه من تحقيق ما يُطلب منه، والنتيجة سيئة .
بعد ثورة 1952 وبعد كسر احتكار السلاح، تعرضت القوات المسلحة سنة 1956 لتجربة القتال على جبهتين . . على جبهة “سيناء” وعلى جبهة “قناة السويس”، وهي لم تكن استوعبت بعد سلاحها الجديد، لكن الانتصار تحقق بالمقاومة الشعبية إلى جانب القوات، وبالإدارة السياسية المقتدرة في ظرف دولي يسمح بالحركة .
وفي سنة 1967- جاء القرار المؤدي إلى الحرب مفاجئا للقوات، ثم وقع الخطأ المروع بسحب جيش بأكمله من سيناء في ليلة واحدة، بينما الظروف مختلفة بقسوة عما كانت عليه سنة 1956 والنتيجة مؤلمة .
وفي سنة 1973 - كانت القوات المسلحة تركيبة مختلفة شعباً وجيشاً، أو جيشاً وشعباً، وتحقق في الأيام العشرة الأولى من الحرب أداء رائع في ميادين القتال، كان يمكن أن تترتب عليه نقلة في الأحوال مدهشة، لكن السياسة اختارت طريقاً آخر رأته عين الحكمة في ذلك الوقت، والنتيجة أنه حتى المعركة العسكرية اختلفت نهايتها عما كانت عليه في بدايتها .
كان تصورنا لخلاص أمريكي هو الخطيئة عينها - من يومها وحتى هذه اللحظة .
يكفيك أن تراجع بعض ما جرى في الشهور الأخيرة بعد الثورة، سواء في القاهرة أو في واشنطن:
في القاهرة وبالزيارات المتكررة من مسؤولين سياسيين، ومن دبلوماسيين أمريكيين، ظهرت الولايات المتحدة على الساحة السياسية جهاراً نهاراً، تتصل بكل الأطراف، وتسعى بينهم، وتراجع تعهداتهم، وتفتش حيث تشاء حتى في المكاتب، وحتى في القلوب!!
وفي “واشنطن” ربط الكونغرس الأمريكي - بمقتضى قراره 1601 لشهر سبتمبر/أيلول الماضي - اعتماده للمساعدات الأمريكية السنوية المقررة لمصر - بما يضمن سلطة قادرة على التحكم في التصرفات شديدة الغلاظة .
لأول مرة لم يحدد مبلغ المعونة العسكرية بكذا “مليار وثلث تقريباً”، وإنما جرى وضع كلمة غريبة لشرط المنح وهو أولاً أن يكون المبلغ المعتمد ليس مبلغ كذا . . وإنما بما لا يتجاوز مبلغ كذا up to وهذا معناه التفاوض في كل اعتماد، أي ربط كل تصريح بصرف أي مبلغ من حساب المعونة بشروط، وأصعب من ذلك أن التصريح له مقدمة تسبقه وتقتضي شهادة “حُسن سير وسلوك” من وزارة الخارجية الأمريكية، منها أن الحكومة المصرية ملتزمة بشروط السلام مع “إسرائيل”، ملتزمة بمكافحة الإرهاب . . ملتزمة بقبول كل خطوة من خُطى السياسة الأمريكية . . إلى آخره .
ومن المفارقات أن كل القوى السياسية التي ظهرت على الساحة دفعت مقدماً تأكيداً مسبقاً بالتزامها بكل بنود معاهدة السلام وترتيباتها، وبكل ترتيبات الشراكة مع أمريكا، وهي لا تعرف الكثير عنها .
وفي الواقع فإن أحداً لم يكن يطالب هذه القوى بالتسرع إلى نقض شيء، أو سحب التوقيع عن اتفاق، لكن هذه القوى السياسية كانت تستطيع أن تعترف بالمواثيق والتعهدات الدولية على وجه العموم، ثم تعطى لنفسها الوقت على مهل لتعرف وتدرس .
أقول ذلك وأعتبر نفسي ضمن الداعين في هذه الظروف إلى تجنب أي تعقيدات، وأي خطوات غير محسوبة والتصرف بروية وصبر .
. . . . . . . .
* كانت تلك أعباء ترتبت على توجهات سياسية سابقة، استحقت الآن ضرائبها:
أول الضرائب: أن الولايات المتحدة أصبح لها في مصر من النفوذ أكثر مما ينبغي، وأكثر مما هو صحي، وهو لها بحكم اتفاقات مربوطة، وترتيبات على أساسها سار العُرف عليها .
والضريبة الثانية: وهي موصولة بسابقتها: أن مصر التزمت بأن حربها في أكتوبر 1973 هي آخر الحروب، ومن تداعيات ذلك، أن القوات المسلحة وضعت بين المطرقة والسندان، مطرقة السياسات الطارئة على استراتيجية الأمن القومي المصري، وسندان الحقائق المستجدة على مسؤولية الأمن القومي المصري وضروراته في الإقليم، ذلك أنه بصرف النظر عن الانتماء القومي - وهو مسألة حيوية - فإن هناك حقيقة جغرافية، وهي أن خط حدود مصر الدولية لا يصلح مرتكزا للدفاع عن مصر، وهذه حقيقة أكدتها عصور التاريخ من “تحوتمس” إلى عبدالناصر!!
هنا يشير الأستاذ هيكل إلى الخلف، حيث الجدار - كمعظم جدران المكتب - مرصع بلوحات خرائط كلها لمصر، بعضها يرجع إلى 4 قرون مضت .
ثم يمسك الأستاذ بقلم ويرسم على ورق “دشت” من ذلك الذي يستخدمه المحررون في صالات تحرير الصحف، خريطة دقيقة لمصر والمشرق العربي . ويحدد على الخريطة موقع قناة السويس ثم مضايق سيناء، وخط الحدود بين مصر وفلسطين التاريخية، مدللاً على أن الدفاع عن مصر - كما تثبت دروس التاريخ وحقائق الجغرافيا وقواعد الاستراتيجية - يبدأ من الشام .
ثم يعود الأستاذ هيكل إلى حديثه قائلاً:
- الضريبة الثالثة: هي حصر مصر وحصارها فأمامها إما أن تؤدي الدور المطلوب منها أمريكياً، وإما أن تتقوقع في هذا المربع المحشور وسط الصحراء في شمال شرق إفريقيا، وتنقلب الدنيا حولها، وهي ساكتة مشغولة بهمومها، تجتر أحلاماً قديمة، مغتربة عن حاضر يجري حولها، ولا شأن لها به حتى وإن كان في صميم أمنها من “غزة” إلى “ليبيا” . . من “السودان” إلى “سوريا” . . من “العراق” إلى “الجزائر” . . من الخليج إلى المحيط كما كنا نقول ذات يوم!!
هناك ضريبة رابعة: ذلك أن مصر إلى جانب التزامها بأنها “آخر الحروب”، والضمانات الحقيقية لتحقيق ذلك، التزمت وتعهدت بأن التزاماتها إزاء “إسرائيل” (والولايات المتحدة) تسبق أية التزامات دولية أخرى وقعت عليها من قبل، معنى ذلك أن هذا الالتزام يشمل مسؤولية مصر في عالمها العربي، ومحصلته في النهاية أن السياسة المصرية قامت بعزل مصر نفسها عن محيطها وعن أمتها .
وعند التطبيق فإن ذلك تأكد، جرى احتلال نصف “بيروت” و”القاهرة” ساكتة، وإذن فإن موجبات حقوقها على الآخرين نسيان لحقيقة أن القيادة مسؤولية وليست وظيفة، وأن الدور ممارسة مستمرة وليست ذكريات أمس مجيد، وجرى ضرب “غزة” . ولم تحرك “القاهرة” ساكناً، واعتدى الطيران “الإسرائيلي” على “العراق” وعلى “تونس” وعلى “السودان”، ومصر لا تحتج حتى بكلمة، وليس هناك من يطالب بردة فعل متسرعة، ولا بقعقعة في السلاح خطرة، لأني أزعم أن هيبة الدول بالقوة تكفل في حد ذاتها أن يُحسب حسابها، وأن يراعى جوارها، فأسوأ ما يمكن أن تُصاب به دولة هو أن يصبح تصرفها في أي موقف أو أزمة أمراً مفروغاً منه ومقدوراً عليه .
كل ذلك له تداعياته ومضاعفاته وعواقبه، من الهيبة السياسية إلى الاقتصاد ومن التجارة إلى الثقافة .
ولسنا الآن في معرض الخوض في ذلك كله، فإن مصر بعد ثورة 25 يناير كان عليها أن تكتشف أن الضرائب المفروضة عليها ثقيلة وغليظة، وأنها في أوضاعها الراهنة ومهما قيل ويُقال قيد على حرية الحركة وعلى إرادة صُنع القرار!
وظني أنه يكفي في هذه اللحظة أن يتعرف الشعب المصري إلى واقع الحال، يعرف حقائقه، يستوعبه، يتدبر أمره .
وفي الحقيقة فليس هناك بلد في العالم ولا في التاريخ قال لنفسه وللآخرين إنه خاض “آخر الحروب”، فلم تفعلها “أمريكا” بعد أن انتصرت في الحرب العالمية الثانية بالضربة النووية القاضية في “اليابان” - ولم تفعلها إنجلترا حتى بعد انتهاء الإمبراطورية - ولم تفعلها “فرنسا” كذلك - ولم تفعلها “الهند” - ولا “الصين” .
بمعنى أن أي دولة من واجبها تجنب الحرب، ولكنها لا توجد دولة لا تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن نفسها، وتوفر لذلك شروطه، بأنها لن تدافع عن نفسها وعن أمنها كما تقدره، وكما تضع نظريتها لأمنها الوطني والقومي!!
. . . . . . . . .
دعنا نترك مصر في حالها لحظة، ونتحدث عن القيادة العسكرية لأي جيش في العالم .
قل لي ما هو وضع أي قيادة عسكرية يُقال لها ويُفرض عليها أنها في لحظة معينة خاضت “آخر الحروب”!!
لاحظ أرجوك عدة اعتبارات شخصية وعامة:
أنني لست داعية حرب، بالعكس فقد خبرت الحروب، ولمست تجربتها كمراسل حرب، ورأيت ميادين القتال من “البلقان” وفي فلسطين، إلى “كوريا” و”فيتنام”!!
ثم إنني لا أتصور ولم يحدث من قبل على طول الحقب والأزمنة، أن بلدا من البلدان اعتمد استراتيجية تقضي بعدم اللجوء إلى السلاح في نهاية المطاف لصد تهديد أو لتأكيد أمن!
لاحظ أيضاً مسألة ثالثة وهي أن الذين طالبوا مصر بالتعهد أن أكتوبر “آخر الحروب” سوف يعملون على ضمان ذلك عمليا على الأرض، وأول الضمانات أن يحددوا قدرة سلاحها، وأن يحددوا إمكانية حركتها بما يرون من الوسائل الضرورية، وهذه نقطة لمسناها فيما تعرضنا له قبل قليل .
بعد ذلك نمضي خطوة ونسأل:
* ماذا يحدث إذا قلت لأي قيادة عسكرية إنها لن تحارب بعد الآن؟
بالطبيعة . . تتأثر رؤيتها لدورها، لأن مبرر وجودها يصبح موضع تساؤل .
بالطبيعة . . تتأثر ثقافتها المهنية والمؤسسية، لأن أي متابعة لابد أن تتصل بممارسة محددة، حتى لو كانت الممارسة بمجرد الاستعداد والتأهب، مع العلم بأن مجرد الاستعداد والتأهب يفعل فعله دون إطلاق نار، وهذه أقصى درجات القوة .
بالطبيعة . . تتأثر علاقتها بمجتمعها، لأنها إذا لم تكن مكلفة، ولم تكن قادرة على أداء دورها الطبيعي إذن فكيف ترتب علاقاتها مع هذا المجتمع وموقعها ومهمتها فيه .
فوق ذلك هناك آثار جانبية:
بالطبيعة أيضاً . . سوف تترتب على ذلك مشكلات جانبية، ولكنها شديدة الخطر .
أولها، أن هذه القيادة العسكرية سوف تفقد صلتها بخيرة شبابها، وعلى سبيل المثال فقد كان بين الميزات الكبرى في حرب أكتوبر 147 ألف شاب من شباب الجامعات والمعاهد العُليا وما يوازيها، كانوا في صفوف القوات المسلحة في معارك تلك الحرب، وذلك الحضور في ميدان القتال خلق لغة وفهما وألفة بين الشباب: الكتائب والفرق والجيوش، وخلق صداقة حميمة، وخلق شراكة وثيقة جرى تعميدها بالنار والدم .
فإذا قيل إن القوات المسلحة لن تخوض حربا بعد سنة 1974 إذن فالأولى أن تترك خيرة الشباب لمواقع العمل المدني، فذلك أجدى وأنفع .
* وإذا كانت “آخر الحروب” فعلاً، فما الذي يدفع إلى التجنيد الإجباري حتى لغير شباب المؤهلات؟!!
. . . . . . . . . . . .
هناك قضية أخرى لا تقل أهمية، وتلك أنه عندما تكون حرب بالذات هي “آخر الحروب” في حياة وطن، فإن الروابط تتأثر بين أي مؤسسة جيش وبين جموع شبابها .
أنت وربما غيرك يقول لي إن “آخر الحروب” تنطبق - في الحالة المصرية - على “إسرائيل” فقط، وهنا يثور سؤال . . أي تهديد، هناك حول مصر يمكن أن يدعوها إلى حمل السلاح؟!، والجواب أن “إسرائيل” وحدها مصدر أي تهديد محتمل .
والرد أنه ليس حول مصر تهديد محتمل يقتضي حرباً مسلحة غير “إسرائيل”، لأن محيطها من كل النواحي في الشرق والغرب والجنوب محيط عربي، وليس عليه، ويصعب في أي مستقبل أن يكون عليه مصدر لتهديد محتمل، والواقع أن التهديد المحتمل الوحيد “إسرائيلي”، فإذا كان ذلك محظوراً، إذن فنحن أمام وضع شديد الغرابة!
ويُقال لي مرات إن العقيدة القتالية المعهود بها إلى القيادة العسكرية المصرية لاتزال تعتبر أن الشرق مصدر التهديد أي “إسرائيل” .
لكن المشكلة التي تطرأ هنا أن أي معادلة سياسية ليست مجرد مقولة، وإنما كل شرط في السياسة الدولية له ضمانات تؤكد مفعوله، بمعنى أن الذين وضعوا هذا الشرط، وفروا له من الضمانات ما يجعله ملزماً .
فالسلاح الآن عندنا أمريكي بالدرجة الأولى، وأي سلاح أمريكي في مصر لا يُقدم لها إلا وفق قانون أمريكي معروف ومشهور، مؤداه أن “إسرائيل” يجب أن يكون لها تفوق كامل على كل الجيوش العربية مجتمعة، وهذا يقتضي أن لا يجيء إلى مصر مسمار واحد أمريكي لا توافق عليه “إسرائيل”، وهو خلل في الموازين يصعب القبول بأحكامه، لأن ذلك هو الختم النهائي الذي تتحقق “إسرائيل” به من أن حريتها في العمل مكفولة، وذلك ما يسمونه في واشنطن استراتيجية التفوق النوعي ل”إسرائيل” Qualitative advantage وبمقتضاه فإن “إسرائيل” لابد أن تتأكد على أن ما لديها يجعلها أقوى من محيطها كله مجتمعاً .
ويُقال لنا أحيانا إن تحت التصرف سلاح غير أمريكي، وهذا ليس دقيقاً، لأن التسليح الحديث نظم رئيسية، وليس مجرد إضافات هامشية على تلك النظم .
إلى جانب ذلك فهناك من سنة 1974 ترتيبات على الأرض في “سيناء” تجعلها معرضة للانكشاف، خصوصاً أن الحضور العسكري فيها محدود، والحركة نحوها مقيدة .
من المفارقات أن “آخر الحروب” ينطبق على مصر، وليس على “إسرائيل”، فمنذ حكاية “آخر الحروب” شنت “إسرائيل” حروباً على “لبنان”، وعلى “غزة”، وهي تجهز نفسها الآن لحرب مع “إيران” بدأت مقدماتها إلكترونياً باغتيال علماء المشروع النووي الإيراني، وبما يجري الآن في الإقليم على طرق الاقتراب من “إيران”!! لأن “إسرائيل” يجب أن تحتفظ وحدها بالسلاح النووي تحتكره في الإقليم وحدها .
وأما بالنسبة لمصر فإنها لم تحارب، ففي أثناء اعتماد هذه السياسة عمليات عسكرية ضمن حرب الصحراء مع غزو “العراق” بعد احتلال “الكويت”، وشاركت في الحرب حتى بعد خروج العراق من “الكويت”، ثم أُسندت إليها عمليات حفظ سلام في بلدان مثل “البوسنة”، وبعض البلاد الإفريقية، وبصراحة مادمنا نتكلم بصراحة فإن هناك بلداناً متخصصة في تقديم قوات لحفظ السلاح تحت علم الأمم المتحدة في بعض مناطق الأزمات، ولكن ذلك مخصص لدول صغيرة مثل “تاهيتي” أو “هندوراس” أو “نيبال”، وهي تحترف تقريباً هذا النوع من المهام، أما القوات المسلحة المصرية فلديها مهام من نوع مختلف .
بلد مثل “سويسرا” يستطيع أن يقول إنه منصرف عن الحروب، لأنه بلد محايد، لكننا ننسى أن مصر ليست كذلك، ثم إن الحياد السويسري كان مطلب كل جيران سويسرا لتكون منها أرضاً مفتوحة بين المتحاربين في أوروبا وغيرها إذا احتاجوا(!) - إلى لقاء أو اتصال تحت مظلة الصليب الأحمر مثلاً، مع ملاحظة أن الجيش السويسري من أقوى جيوش أوروبا، لأن الدولة السويسرية والشعب السويسري يعرفون بجلاء لا يقبل العتمة أنه ما لم تتأهب الأمم للدفاع عن نفسها بشراسة، فإن حرمتها مستباحة!! ومصر قضية مختلفة - ومختلفة جداً .
أمريكا نفسها وهي الترسانة النووية العظمى في العالم، لم تقل إن انتصارها المدوي في الحرب العالمية الثانية هي “آخر الحروب”، حاربت بعد ذلك كثيراً، ربما زادتها في ممارسة الحرب من كوريا إلى “فيتنام” إلى “العراق” إلى “أفغانستان”!!
على أية حال هنا بالضبط حدث ذلك الارتطام بالقدر، ونشأ سوء الفهم بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين شباب الثورة، وعدد من القوى السياسية في الوطن .
المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين تسلم المسؤولية دعي إلى مسؤولية غريبة عنه، وإلى ميدان لم يكن مهيأ له، وإلى التعامل مع أطراف تباعدت صلته بهم، صحيح أن المجلس الأعلى جاء حامياً ودخل حامياً وأدى دوره حامياً، لكن العقدة أن دور الحامي لا يبرر ما تصوره البعض من أنه دور الحكم والحاكم!!
وبدأت من أول لحظة أسباب الخلاف!!
وفي كل الأحوال فهو خلاف لابد من حله، وحله بتصميم ووضوح، وبجسارة في النوايا وفي التصرفات .
. . . . . . . . . . .
* لماذا كان الخلاف، وأين تكمن أسبابه في رأيك، لاسيما أن القوات المسلحة كانت ترفض التوريث وتعتبره إهانة للعسكرية المصرية، وأن الثورة انفجرت لأسباب عدة، على رأسها تدشين مشروع التوريث؟
- هيكل : يوم 25 يناير كان الكل متفقاً على مطلب واحد من مطالب الثورة، وهو مطلب منع التوريث وانتقال السلطة من أب لابنه في مناخ مكفهر وعاصف .
لكن الطرق راحت تتباعد بعدها مباشرة .
والغريب أن الحوار الذي دار بين الطرفين جاء حوار طرفين لا يفهم كلاهما الآخر، لا يستوعب مقاصده، لأنه لا يفهم لغته .
فهدف الثورة لم يكن فقط منع التوريث، لكن المجلس الأعلى كان يتحرك في هذه الحدود .
المجلس الأعلى للقوات المسلحة تصرف في حدود الاستجابة لما قدر ورأى، وتصور بالفعل أنه فعل ما يستطيع، وهذا صحيح وهو موضع تقدير .
فهو - وفي حدود ما تصور - أسقط بالاستفتاء ست مواد من الدستور القديم كانت تمهد للتوريث، وكان الشعب - وفي طليعته الشباب - يقاومها بكل جهده وطاقته، وكانت تلك في تقدير المجلس الأعلى للقوات المسلحة استجابة، لكنها كانت في تقدير الشباب - خطوة أولى، خصوصاً أن الدستور القديم . . دستور 1970 جرى إسقاطه في اليوم الثاني بإعلان دستوري مؤقت، وبدأ الكلام عن دستور جديد لابد من كتابته .
ثم إن هذا الاستفتاء ربط مسار ما بعد الثورة في حبل غليظ يجر إلى طريق شبه مغلق .
وافترقت الطرق، وراحت تتباعد كل يوم .
من ناحية المجلس الأعلى، كان تساؤله ماذا يريدون، لقد حمينا خروجهم، ثم إننا منعنا التوريث .
ومن ناحية الشباب، فإن 25 يناير لم يكن فقط لمنع التوريث، وإنما كان طلب ثورة كاملة لمطلب الحرية والعدل والتقدم، أي مطلب تغيير شامل لأوضاع قائمة رغم سقوط التوريث، وسقوط رأس النظام ذاته .
وكان الشباب في نظر المجلس الأعلى متزيداً في طلباته .
وكان المجلس الأعلى في نظر الشباب غير قادر على المهمة، وبذلك فإنه يتحول إلى عقبة!
وفي الواقع فإن الحوار المطمئن بين الطرفين تعقد وتعثر .
ولم يكن الحوار بين الطرفين مجرد وقوع في سوء فهم، وإنما كان وقوعاً فيما هو أخطر، وكانت الحقائق الغاطسة في الحالة المصرية موجودة حتى وإن لم تكن هذه الحقائق ظاهرة أمام الطرفين، فإن مفعول هذه الحقائق كان محسوسا في الوعي العام دون تعبير واضح عنه .
وحدث أن كل طرف لم يحسن تقدير موقف الطرف الآخر .
في خيال الشباب أنه حتى ولو لم يستطع المجلس أن يساعد على التغيير، فإنه لا يصح له اعتراض طريقه، وفي حالة أي خلاف فإن استفحاله دعوة إلى التجاوز، خصوصاً أنه بمنطق الشباب فإنه إذا لم تكن هناك حرب أو احتمال حرب أو مواجهة تهديد - إذن فمن أين العصمة؟!!، وعلى نحو ما فإن هذا التجاوز زاد أحيانا عن حده في شعارات وحتى أناشيد متحدثة عن “حكم العسكر” وعن “الخروج الآمن للعسكر”، وبعض ذلك شرد عن القصد وابتعد عن العدل!!
ومن جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة فإن الحقائق تحكم - وهو يشعر بقيودها على حركته، وحتى إذا كان يتفهم، وحتى إذا كان يريد أن يتجاوب، فإن هناك محاذير، وهناك مخاطر .
وكذلك - وفي ظروف معقدة - أصبح التفاهم بين الطرفين صعباً، ولم يكن يحله غير حوار صادق وعميق بين شركاء في المقصد وفي المصير .
ودواعي الخلاف ظهرت مبكراً جداً، وعلى سبيل المثال فإنني أظن أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يكن يفكر في تقديم “مبارك” للمحاكمة، بل حدث عندما قمت بلفت النظر مرة إلى ما يجري في موقع “شرم الشيخ”، عندما كان “مبارك” يعيش فيها، وقد أقام فيها شهوراً كما لو أن شيئاً لم يحدث في مصر - جرى أن أحد أعضاء المجلس العسكري غضب علنا مما قلت، وحجته “أن الرئيس “مبارك” رجل عظمنا له (أدينا له التحية العسكرية) ثلاثين سنة”، ومثل هذه الحجة في حد ذاتها نسيان لحقيقة أن الشعب المصري ثار على هذا الرجل الذي عظموا له ثلاثين سنة، وأن هذا الشعب أسقط ذلك الرجل، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تسلم مسؤوليته، لأن جماهير الشعب المصري بعد تجربة ثلاثة عقود ثارت على “مبارك” وأسقطت حكمه .
ثم إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدا وكأنه لا يستجيب إلا تحت الضغط إلى درجة قبول الابتزاز، ثم تكون الاستجابة في بعض الأحيان نوعاً من العلاقات العامة فيه مرات من “الأبوية” أكثر ما فيه الثقة بين شركاء، وأعترف أنني شخصياً لم أفهم الإصرار على أن الاستجابة للمطالب لا تبدأ إلا في مناسبات معينة، وتحسباً لمواقف بالذات يُراد تجاوزها، ولم أفهم سياسة تأجيل قضايا مُلحة مرة “لأنهم لا يريدون مشكلات”، ومرة أخرى بذريعة أن “هذه موضوعات تُترك للأوضاع الدائمة بعد المرحلة الانتقالية .
تفاقمت الأمور عندما استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لطلب محاكمة “مبارك”، لكن المحاكمة جرت بعيدا عن السياسة تماماً، أو بعيداً عن التاريخ، كأننا أمام قضية اختلاس أو نشل، أو سرقة أسلاك كهرباء .
وما يهمني في هذا الموضوع بالدرجة الأولى في هذه الظروف المتأزمة التي نواجهها:
أن الحوادث باعدت ما بين الشباب وبين القيادة العسكرية، فالشباب مطالب بالحرية، والقيادة مقيدة بالحقائق وأحياناً بالأوهام، من نوع أن هناك من أدى له التحية ثلاثين سنة، وفي ظروف ثورة مثل 25 يناير .
ثم إن تدافع الحوادث وتراكم سوء الفهم أحدث توترات في العلاقة بين الطرفين الأكبر في شراكة الثورة، والمشكلة أن هذا التوتر كارثي .
فنحن أمام خلاف لا يصح لأحد أن ينتصر فيه، ولا لطرف أن ينكسر، إذا انكسر المجلس الأعلى فهذه كارثة وطنية، وإذا انكسر الشباب فهذه كارثة تاريخية - وكلاهما غير مسموح به، خصوصاً في هذه الظروف .
والمجلس الأعلى للقوات المسلحة مثقل، فالقيود كلها عليه، والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن هذا المجلس العسكري وجد نفسه في موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما هم وجدوه أمامهم أو وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا أنهم من ضحاياه، وليسوا شركاء فيه، فقد جرى ترتيبه مبكراً، وكان “مبارك” شريكاً فيه، ثم جاءت رئاسته ثلاثين سنة تكريساً له، وهذا هو نفسه . . أكيداً ومؤكداً هو الارتطام بالقدر .
أما الشباب فهو مظلوم، فالثورة في طلب الحرية والعدل والتقدم مطلبه، وللشباب عنفوانه، لكنه وجد نفسه يصطدم بغيبة الحقائق. وكذلك فإن كلا الطرفين ارتطم بالقدر .