هيكل: مراحل الانتقال لا تدار بالارتجال ... (3-3)
الجزء الثاني
ولم تمض غير أسابيع حتى بدأت الشكوك وزادت، فقد اكتشف الناس أن ما جرى هو مجرد إعادة توزيع للسلطة، شاعرين أن شيئاً ما ليس على ما يرام، وأن ما استفتوا عليه لا يتناسب - في أعماق مشاعرهم وضمائرهم - مع ما تصوروا أنهم ثاروا من أجله، فلم تكن تلك بالضبط حدود القصد فيما يطلبه الناس - وثارت الشكوك بأن الاستفتاء لم يحقق مطلبه، فقد اقتصر على السلطة في النهاية، ولم يصل إلى بنيان الدولة، ثم إن هدفه - حتى إذا لم يكن ذلك واضحاً - هو نقلها إلى وصاية - إذا لم يكن إلى حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتصاعدت حملة الشك والتشكيك .
وتدخل بعضهم يطرحون ما أسموه بالنموذج التركي الذي وضعه “كمال أتاتورك” في دستور سنة 1923 والذي يعطي القوات المسلحة دوراً في المراجعة السياسية التي تضمن سلامة الدولة العلمانية في تركيا، والمشكلة أن هؤلاء لم يدرسوا النموذج التركي بعمق، وإنما توصلوا مما فهموا إلى أن الدستور التركي يعطي الجيش التركي دور حماية الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك فهماً يحتاج إلى تدقيق أكثر، فالدستور التركي يعطي الجيش التركي تمثيلاً معتبراً في مجلس الأمن القومي التركي - مع القضاء ومع الجامعات - وهذا المجلس مختص بمراجعة القرار السياسي، وضمان أنه لا يخالف الأسس العلمانية للدولة التركية الجديدة .
ولكن المسألة طُرحت في مصر بطريقة تستدعي التهم، وأولى التهم ظهور ما سُمي بالمبادئ فوق الدستورية، أي وجود مرجعية مبدئية لا تكون سلطتها موضع اجتهاد، ولا يصح المساس بها، ولا حتى بتعديل مواد في الدستور .
والفكرة فيها شيء من أصل مفهوم في إعادة بناء الدولة التركية على نموذج جديد، لكن هذا الأصل جرى اختصاره، ثم جرى توظيفه بمفهوم أن المطلوب هو إعادة توزيع سلطة الدولة، وليس إعادة بنائها .
في الواقع أن الدستور الأمريكى وهو أهم دستور في الزمان الحديث - تنبه إلى مشكلة المراجعة السياسية، وكان “يفرسون” أول من اجتهد في التعرض لهذه الضرورة، حين أطلق مقولته الشهيرة والصحيحة أيضا: “إن الدساتير تصوغها أفضل العقول، ولكن تنفذها أسوأ الغرائز” .
ومقصد “يفرسون” أن الدساتير في العادة يضعها قادة وساسة وقانونيون مشهود لهم بامتياز، لكنه حين يتم التطبيق الدستوري، ويصل الأمر في النهاية إلى الناخبين في الدوائر والمدن والقرى، وفى الشوارع والمراكز والصناديق - فإن أصوات الناخبين تصبح مكشوفة لمؤثرات النفوذ العائلي، والعصبيات، والمال يشتري الأصوات، وسماسرة الانتخابات، وسماسرة التخويف والدعاية والغوغائية وغيرها، وكان “يفرسون” يرى أنه لابد للممارسة الديمقراطية من ضمانات، وقد حاول وغيره من آباء الدستور مواجهة المشكلة، وتوصلوا إلى تحصين البناء الدستوري الأمريكى بما يلزمه مما أسموه بالضوابط والتوازنات Checks & Balances وبمقتضى ذلك فقد اتخذت ضمانات منها أن مجلس الشيوخ أصبح مكونا من عضوين عن كل ولاية بالتساوي بين ولايات الاتحاد، بينما أصبح مجلس النواب دوائر يحددها عدد السكان في الولايات المتحدة على اتساعها، ثم كان إنشاء المحكمة العُليا وتوزيع السلطة بين الإدارة وعلى رأسها البيت الأبيض وبين الكونجرس ممثلا في مجلسيه، وبين المحكمة العُليا - وتصور آباء الدستور الأمريكى أن ذلك ضمان يكفل توزيع ومراجعة ممارسة صنع السياسات والقوانين .
وفى إنجلترا جرى شيء من هذا النوع بتوزيع للسلطة بين مجلس العموم ومنه وزارة الأغلبية - وبين مجلس اللوردات وهو مشورة الخبرة - وبين العرش ودوره محصور في أن “يشير أو يوافق” Advice & Consent - ثم قضاء نموذجي في استقلاله وصحافة كانت ذات يوم أقوى صحافة في العالم!!
ثم حاولت دول كثيرة أن تستوحي مطلب الضوابط والتوازنات في القرار السياسي لا تشطح به أغلبية، ولا تسيء إليه ديكتاتورية تستند على ذرائع أمر واقع، وفى هذا المجال اختلفت الاجتهادات، والقصد واحد .
في التجربة التركية: اختار “أتاتورك” مجلس أمن قومي فيه القوات المسلحة، صحيح، ولكن فيه قوى أخرى قادرة ونافذة .
وفى التجربة الثورية الإيرانية: اختار “آية الله الخميني” فكرة ولاية الفقيه لمراجعة سلامة التصرفات والقوانين .
وقد سمعت بنفسي من آية الله الخميني شرحه لفكرته، وكنا في بيته في “قم”، والغريب إنه كان قريبا من محتوى ما قاله “جيفرسون”، وإن لم يكن “آية الله” متابعا لمأثورات أبو الدستور الأمريكي، أو عارفاً بها .
كنت قد سألت “آية الله الخميني” عن موضوع “ولاية الفقيه”، وكان رده:
“لقد قام الشعب الإيراني بثورة قبل ذلك سنة 1906 وانحصرت سلطة “الشاه” لتحل محلها سلطة البرلمان، لكن الانتخابات على الأساليب المعهودة جاءت ببرلمان تلاعبت به المصالح المالية والقبلية إلى جانب القوى الأجنبية، ثم وصل الحال بهذا المجلس النيابي إلى مبايعة الكولونيل “رضا خان” إمبراطوراً على إيران، ليؤسس أسرة “بهلوي” التي تحكمت في رقاب الشعب الإيراني، حتى أطاحت الثورة الإسلامية وريث “رضا خان” وهو ابنه “محمد رضا بهلوي” .
كان في هواجس “الخميني” نفس ما ساور “جيفرسون” و”أتاتورك” وهما يفكران في الضوابط والتوازنات الضرورية لصيانة الممارسة الديمقراطية، وقد حاول كل رجل من الثلاثة حل المشكلة، واختلفت الأساليب، واحد واجهها بسلطات قادرة على موازنة بعضها، وثانٍ واجهها بمجلس أمن قومي، وثالث واجهها بولاية الفقيه مع مجلس خبراء لتشخيص مصلحة النظام .
حوار بين عبدالناصر وفيصل
اسمح لي أن أقول لك: إن هذا هو نفس الهاجس الذي دفع جمال عبد الناصر إلى التفكير في تخصيص 50% للعمال والفلاحين في كل المجالس المنتخبة، كان رأيه وقد سمعته عدة مرات، منها مرة كان يشرحه دونا عن كل الناس للملك فيصل ملك السعودية، أثناء قمة الإسكندرية في سبتمبر 1964 كان الملك قد سأل “جمال عبد الناصر” أثناء حوار بينهما - في حالة صفاء - عن حكاية العمال والفلاحين، وكانت خشية الملك أن تكون تلك “تأثيرات شيوعيين”، وكان رد عبد الناصر: “إنه يرجو الملك أن يقدر تركيب مصر الاجتماعي . . . أغلبية الناس في مصر على الأقل الآن - عمال وفلاحون، وهؤلاء لا يملكون وسائل تمكنهم من دخول مجالس التشريع، وإذا لم يضمن لهم على الأقل حقاً في الاعتراض على ما لا يلائم مصالحهم، فسوف تختل موازين العدل في البلد” - أضاف “جمال عبد الناصر” “أنه يعرف أن العمال والفلاحين قد لا يكونون . . . أو كثيرون بينهم -على درجة العلم والكفاءة اللازمة للتشريع، لكنه يريد أن يحفظ لهم على الأقل حق الاعتراض (استعمل “جمال عبد الناصر” كلمة “فيتو”)، لرد ما قد يتناقض مع مصالحهم، خصوصا أن اليمين السياسي قوي بالتقاليد ومتمرس في المحافظة على المصالح القائمة” .
ولم أشعر وكنت أتابع حوار الرجلين أن الملك فيصل مقتنع، ولكن جمال عبد الناصر كان مقتنعا في ظروف تحولات اجتماعية كبرى في مصر وقتها، بأن من لا صوت لهم في القرار يستحقون حقا مكفولا على الأقل بالاعتراض عليه، خصوصاً إذا كانوا أغلبية صحيحة بين السكان، وبصرف النظر عن الاتفاق مع ذلك الاجتهاد أو الخلاف، فقد كانت تلك هي الفكرة فيه - فكرة الضوابط والتوازنات .
الضوابط والتوازنات
فكرة الضوابط والتوازنات، ربما أوحت بالمادة التاسعة في المبادئ الدستورية التي رفضتها القوى السياسية ورفضها الشباب، لأنها تحدثت عن دور للقوات المسلحة في حماية الشرعية الدستورية . . كيف تتصور دور الجيش في الحياة السياسية بعد انتهاء فترة الانتقال، وسط أصوات تنادى “بسقوط حكم العسكر”، وتدعو المجلس العسكري لترك السلطة فوراً؟!
هيكل: مطلب الضوابط والتوازنات هو الذي أثار موضوع دور الجيش في مستقبل الحياة السياسية المصرية، وبمنطق إعادة توزيع السلطة، مع تزيد أن يكون التعبير عن هذا الدور بمواد فوق دستورية، تضع كما يتصورون نوعاً من الضوابط والتوازنات .
كان الطرح ناقصاً وكان قاصراً، وجاءت ردة الفعل إزاءه حادة وعنيفة، تستبد بها الشكوك والريب .
لا الذين عرضوا درسوا موضوعهم بما فيه الكفاية، ولا هم صارحوا الناس بدواعيه الأصلية كي تجرى مناقشتها . . عقلاً ومنطقاً، وبذلك اختلطت الفكرة والقصد مع المناورة والمراوغة .
ثم كان أن جرى في مصر حوار عصبي وعبثي في نفس الوقت، تجلى في عملية شد وجذب، وعناد وتراجع يصعب قبوله في لحظات المصير والخطر .
المظاهرات - تطالب بتسليم السلطة للمدنيين، والمجلس الأعلى يرد بأنه سوف يسلم في الموعد المقرر .
والشباب - يصر على تسليم السلطة فوراً وحتى في الميدان، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يزداد شعوره بالحرج، وترتفع الأصوات تنادي بسقوط حكم العسكر .
ويشعر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالضيق من الشباب، وتتراكم الشكوك على الشكوك، وتتصادم المشاعر الغاضبة بالمشاعر الجريحة .
وفي مناخ استحكمت فيه العقد، وقع الارتجال في إدارة المرحلة الانتقالية، وكان التصادم في ظاهره صراعاً بين شباب “متمرد”، وقيادة “مجروحة” دون سياسة تدخل بين الطرفين لكي ترد الأمور إلى أصلها، وتفك العقد، بحيث تبين خطوطها الأصلية، وكذلك استحكم سوء الفهم يهدد البلد كله بكارثة .
الشباب يعلو هتافه بضرورة خروج العسكر، وبسقوط حكمهم، والمجلس العسكري يرد: نحن خارجون في الموعد .
ويصرخ الشباب: بأن الخروج يجب أن يكون فورياً، ويرد المجلس العسكري: بأنه سوف يطلب اختصار مرحلة الانتقال، والتسريع في خطاها واختصارها شهرين أو شهراً .
كأن الفترة الانتقالية إجازة يمكن بالضرورات قطعها، وليست مهام يتعين بالضرورات إنجازها .
القوات المسلحة في خدمة وجود الدولة
دعني أكن واضحاً معك، الشباب أخطأ حتى وإن قلنا إن الشباب معذور في آرائه، لأن الصور اختلطت، والحقائق غابت، وهنا عذره . المسألة ليست سقوط حكم العسكر، فلا أحد يجادل أن الجيش ليس في تكليفه أن يحكم، لكن صياغة الشعار على هذا النحو إيحاء متجاوز في استعمال الألفاظ، وأيضا في المعاني .
وقد يكون مفيداً هنا أن نذكر أنفسنا ببعض البدهيات الأساسية في أي فكر سياسي .
نذكر أنفسنا أولا بأن فكرة الدولة في أساسها وقيامها هي: شعب على أرض، وهو وبإرادته الحرة وبالرِضا الطوعي لكل قواه وعناصره - يصوغ لنفسه ميثاقاً للعيش المشترك، متمثلاً في دستور مرفوع فوق كل الرؤوس، وفى لحظة وضع الدستور وقبلها فإن أي شعب ينشئ لنفسه قوات مسلحة تدافع عن أرضه، وتحمى ميثاقه الدستوري، بمعنى أن القوات المسلحة تحمي قيام الوطن كما تحمى تَراضى قواه داخل كيانه، ولكنها لا تحكمه، وإنما يحكمه الشعب الذي وضع دولته على الخريطة، وكتب دستورها، وأنشأ جيشها، ووظفه بحراسة قيام الدولة، واحتفظ به إلى النهاية حامياً ومدافعاً عن موقعها وعن كيانها .
أي أن القوات المسلحة في أي بلد هي الأكثر قُرباً من الدستور، وتلك وظيفة وتكليف، إلى جانب الكيان الوطني، وليست حلولا في هذا الكيان ولا وصاية عليه .
في كل مدارس الفكر السياسي تبقى القوات المسلحة حامي الدولة وكيانها، وذلك هو الوضع في كل الدول كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى جمهورية “تاهيتي” .
في كل الدنيا القوات المسلحة في خدمة وجود الدولة - وفي حماية شرعية وفاقها الوطني .
الدولة وليس الحكم، لأن الحكم: أي ممارسة السلطة بالقانون هو تنظيم لحياة كل يوم، ويقوم البوليس بحراسته وحمايته . وهنا الفارق بين الجيش والبوليس، الجيش للدستور، والبوليس للقانون .
دور العسكر
هناك ملاحظة تستحق بعض الالتفات، وهي أن دور القوات المسلحة يزيد عادة في دول الجنوب، حيث لم تتأصل ولم تترسخ بعد فكرة الدولة، وذلك ملحوظ حتى في بلدان تتقدم بسرعة مثل الصين والهند وإندونيسيا .
بل ونفس الشيء موجود في البلدان المتقدمة وإن داخل إطار، أي أن دور القوات المسلحة واقع في صميم الأمن القومي لأي بلد .
وقد نتذكر أنه حين أطلق الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور صيحته الشهيرة محذرا من سيطرة مجمع صناعي عسكري على القرار في أمريكا، فإنه كان متخوفا من غواية صناعة السلاح لدى أصحاب المال، يتفاعل مع جنون تطوير وتكديس السلاح لدى العسكريين، وخوف الرئيس الجنرال أيزنهاور أن يؤدي ذلك بالتصاعد إلى صدام نووي بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا - بين الرأسمالية والشيوعية- ولو بغير قصد، لأن ذلك يمكن أن يهيئ لأجواء ديكتاتورية هستيرية تحكم أمريكا بالخوف والتخويف وسيناريوهات الرعب .
لم يكن يحذر من دور العسكر لأنه هو نفسه كان عسكرياً، استدعاه الشعب الأمريكى إلى الرئاسة لدور مقصود، هو أن يقود الحرب الباردة كما فعل في الحرب الساخنة، حين كان قائدا عاما لقوات الحلفاء .
في فرنسا مثلا استدعى الشعب عسكرياً آخر وهو الجنرال شارل ديجول، وتولى الرجل مسؤولية قيادة فرنسا الحرة، وهو ما جعله هو نفسه القائد السياسي لعملية نقل فرنسا من فوضى ما بعد التحرير إلى مرحلة تثبيت الدولة الفرنسية واستعادة رواسيها، وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف فإن ديجول لم يكتف بدوره في المرحلة الأولى بعد التحرير سنة 1945 وإنما عاد إلى السلطة حتى بشبه انقلاب عسكري سنة 1958 أسقط به الجمهورية الفرنسية الرابعة سنة 1958 وأقام الجمهورية الخامسة . أي أنه صاحب دور، ودور مشهور .
بل إنه في بلد ديموقراطي عريق مثل إنجلترا، حدث سنة 1975 أن فقدت المؤسسة العسكرية والأمنية ثقتها في رئيس الوزراء المنتخب هارولد ويلسون، بل وشكت في أنه شيوعي مدسوس على حزب العمال البريطاني، وبصرف النظر عن أية اعتبارات فإن عناصر من القوات المسلحة، ومعها عناصر من المخابرات العسكرية - وصلت إلى رئيس هيئة أركان الحرب الإمبراطورية وقتها اللورد لويس مونتباتن، وأبلغته برأيها في سياسات رئيس الوزراء، راجية إشعار الملكة إليزابيث، وكان مونتباتن هو ابن عم الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث، ونحن لا نعرف كل التفاصيل، ولا نعرف كيف تصرفت ملكة بريطانيا وهي لا تملك دستورياً غير حق النصيحة أو القبول لرئيس وزرائها، ولكننا نعرف أنه في ظرف شهور كان هارولد ويلسون قد استقال من منصبه لصالح نائبه جيمس كالاهان، وكانت مسببات استقالة ويلسون هي تقدم سنه -فقد قارب الستين- والمفارقة أن نائبه الذي خلفه كالاهان كان أكبر منه بسنتين .
أي أن “العسكر” لهم دور، مؤسسات وفُرادى، ولكن هذا الدور يظهر في بداية تأسيس الدولة، ويبقى في الظل أو يبرز عند تعرضها للتهديد، سواء كان الخطر سلاح غزو من خارج الحدود أو مخافة انهيار من داخلها .
وإذن صحيح أن “العسكر لا يحكمون”، فليس ذلك دورهم، ولكن الصحيح أيضا أن “العسكر” لا يخرجون من صورة العمل الوطني، والمدهش أن الشعب المصري بحسه التاريخي أدرك دائما هذه الحقيقة .
دعني أنتقل إلى دور العسكر في مصر بملاحظة جانبية . فهناك من يتصورون أن دخول العسكر ساحة السياسة المصرية لم يقع إلا بعد 23 يوليو 1952 وذلك يحتاج إلى مراجعة .
قبل سنة 1952 كان للعسكر دور، ومن سوء الحظ أنهم كانوا عسكر بريطانيا، ننسى أنه في العلاقات السياسية مع بريطانيا، حتى بعد ذلك النوع من الاستقلال بعد تصريح 28 فبراير 1922 فإن العسكر البريطانيين كان لهم دور إلى جانب القرار السياسي البريطاني .
وقع إشكال مع حكومة سعد زغلول فتحركت الكتائب، واقتربت القطع البحرية من الإسكندرية، واستقال سعد زغلول .
مع كل تعثر للمفاوضات كان المفاوض الإنجليزي يستدعي بارجة إلى الإسكندرية، تعطى الإشارة، وتحدث الاستجابة.
سنة 1942 طلب السفير البريطاني تعيين النحاس (باشا) رئيساً للوزراء، وعندما تأخر الملك، حوصر قصر عابدين بالدبابات يوم 4 فبراير 1942 وجاء النحاس (باشا) رئيساً للوزراء .
سنة 1952 قبل الثورة أي في يناير من تلك السنة، وعندما ظهر تعاون القوات المصرية مع المقاومة الشعبية في منطقة قناة السويس، وفشلت كل المفاوضات في الوصول إلى حل، لجأت السياسة البريطانية إلى السلاح، وأخرجت كل القوى النظامية المصرية من منطقة قناة السويس، وقطعت الطريق ما بين قلب الوطن في الدلتا وصعيد مصر، وبين قوات الجيش المصري على حدود فلسطين في قطاع غزة .
ويمكن الرد على ذلك بأن تلك تصرفات دولة احتلال، والرد صحيح، ولكن الدواعي جاءت بالعسكر حين دُعي “العسكر” في يناير 1952 بعد حريق القاهرة الشهير إلى النزول إلى الشارع، ووقف لهب الحريق ولهب الغضب - ثم كان أن دُعي “العسكر” وحتى بعد حرب أكتوبر 1973 لأن الرئيس “السادات” استدعى الجيش ملاذاً نهائياً لإنقاذ الأمن بعد مظاهرات الطعام، واستدعاه الرئيس مبارك لمهمة من نفس النوع في أزمة تمرد قوات الأمن المركزي .
الرهان على الجيش
هناك شعور بعدم الإنصاف لدى أعضاء المجلس العسكري، لعدم تقدير الدور الذي قاموا به في أيام ثورة يناير . . وهناك أيضا إحساس بالإحباط، لتحول هتاف المتظاهرين من وحدة الجيش والشعب إلى نداء بسقوط المجلس العسكري *. . هل هم محقون في مشاعرهم، وإلى أي مدى هم مسؤولون عن هذا التحول؟!
- الأستاذ هيكل:
عندما جاءت ثورة 25 يناير، اتخذ الجيش قراراً بعدم التدخل ضد الثورة، عصياناً لأوامر السلطة الرسمية، لأنه أدرك أن موضع الشرعية انتقل من مكان إلى مكان، أي من داخل “القصر” إلى ساحة “الميدان” .
والغريب أن الشعب المصري بحسه التاريخي راهن على الجيش منذ اللحظة الأولى عندما اندلعت ثورة 25 يناير 2011 .
كان الشعب كله - وفيه الشباب - ينظر بأمل إلى قواته المسلحة، وينتظر موقفها في خيار صعب يواجهها .
لو استجابت القوات لأوامر السلطة، فسوف تضرب الميدان .
ولو استجابت لدعوى الشرعية، فقد كان عليها أن تحمي الميدان .
أي أن الجيش ببساطة كان لحظتها ميزان السلامة الوطنية، وكان موجوداً في صميم السياسة الوطنية، وكان الشعب يريد وجوده، وكان يطلب انحيازه إليه، باعتباره - الشعب - مصدر الشرعية، والتفرقة بين التواجد في سلطة الدولة، وبين شرعية نظام حاكم في الدولة تقدير سياسي، وهذا يعنى بحقائق الأمور أن الجيش موجود بدور قريب من الدستور، يحمي شرعيته، بتقديره السياسي لموضع الشرعية، ثم يقرر أنه مع الشارع الذي يناديه، وليس مع القصر الذي يأمره بمقتضى تمركز السلطة الرسمية فيه .
الخلط بين الشرعية والثورة
لكن الخطأ بعد ذلك أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقع في خلط بين شرعية الثورة، وحق السلطة، وربما أن تجربة ثورة 23 يوليو 1952 أغرت بهذا الخلط، رغم فارق كبير بين الحالتين في 1952 عنها في 2011 .
ففي حالة 1952 كانت البؤرة الثورية التي تحركت - ولأسباب تاريخية طويلة ليس هذا مجالها - من داخل القوات المسلحة، وكذلك دخلت قوة الثورة إلى سلطة الدولة، وعليه فإن التناقض لم يكن حاداً، وأما في حالة سنة 2011 فإن الجماهير هي التي قامت بالثورة، وأدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة دوره في حماية الشرعية، وكان لابد لقوى الثورة نفسها أن تتولى السلطة، لكن ذلك استحال لأن قوى الثورة لم تكن مستعدة ولا مهيأة، وكان ذلك ما اقتضى مرحلة انتقالية، خصوصاً وقد تبدى أن الدولة ذاتها في أزمة .
وكان الواجب أن يواصل المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهمته في حراسة الشرعية وتأمينها، بأن يبقى قريباً، ولكن دون حلول وبغير وصاية، بمعنى أنه كان عليه دعوة قوى الشعب إلى تحديد مهام المرحلة، ورسم صورتها، ووضع خريطة طريق لإعادة بنائها، وأما غير ذلك فخارج اختصاصه .
وربما أنه من هذه الضرورة العملية فإن كثيرين حاولوا المشاركة في التفكير العام، وتقدموا باقتراحات رأوها صواباً، ومثلاً فقد تقدمْت - من جانبي - مثلاً بفكرة “مجلس أمناء للدولة والدستور” جسراً على المرحلة الانتقالية، وكنت قد طرحتها أولاً قبل سقوط مبارك بأكثر من عام - ومثلاً تقدم رجل مثل الدكتور البرادعي بفكرة مجلس رئاسي مؤقت، وتقدم غيرنا بأفكار كثيرة، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تصرف، معتبراً أنه المُكَلف بالمسؤولية، وليس صاحب دور محدد فيها .
وكان مسلسل الأخطاء مستمراً - ابتداءً من الاستفتاء على ست مواد من الدستور القديم، الذي أسقط غداة الاستفتاء، ليحل محله إعلان دستوري مرتبك ومتناقض - ثم انتخابات من دون أن يسبقها دستور - والآن إلى رئيس بغير دستور، وإلى دستور يُكتب على عجل، كأنه مقال في جريدة، لأن الكل يحاول تفادي الاحتقان بالهرب إلى الأمام، وبحرق المراحل وليس إنضاجها، بما فيها مرحلة الانتقال عن فهم خاطئ لطبيعتها، وتصور أنها لحظة تسليم وتسلم، وليست لحظة تأسيس وترتيب للمستقبل .
وفي الحقيقة فإن كل سيناريوهات الهرب إلى الأمام كارثية - تفاقم الأزمة، ولا تعالجها .
والحال أن مصر في هذه اللحظة تعيش حالة استعصاء متوتر بين القوى، فليست هناك قوة واحدة تقدر منفردة على تحقيق تصورها للمستقبل، والدولة مكشوفة، والمتسابقون غير مستعدين للمراجعة، لأن كل طرف منهم يتصور أن اللحظة فرصته للسلطة .
المجلس الأعلى للقوات المسلحة مُحبَطْ، لكنه يتصور - والشباب غاضب ولكنه يتصور - والقوى السياسية وأولها الإخوان المسلمين حائرة، لكنها مع ذلك تتصور، والكل فيما أظن - ولست أعرف لماذا - يستدعون إلى ذاكرتي بيت شعر ل “إيليا أبو ماضي” يقول فيه:
إني أراك كفارس تحت الغبار
لا يستطيع الانتصار ولا يطيق الانكسار
وخشيتي إذا استمرت الأمور على هذا النحو من الهرب إلى الأمام، أنه لن يكون من بين الأطراف على الساحة طرف قادر على الانتصار، وأن الدولة المصرية ذاتها سوف تكون هي المعرضة للانكسار .
مربع حديدي
مشكلة المشكلات وهذا ما لا نراه أحياناً بوضوح - حتى وإن كان همه ثقيلاً - أن الحياة السياسية المصرية كلها وبأكملها محصورة أو مُحاصَرة داخل مربع حديدي، كأنه طوق محيط بها، وهو من صنعها، من قبولها، وسكوتها طويلاً بالصبر على الوهم .
خذ من فضلك ورقة بيضاء وارسم مربعاً من أربعة أضلاع، ولا تنس لحظة أننا نحن من رسمنا هذه الأضلاع طوال ثلاثين سنة وأكثر:
1- ارسم خطاً في أعلى المربع - أنه كان برضانا أن الولايات المتحدة وحدها هي من يستطيع مساعدتنا - ومعنى ذلك أنه “الكونغرس” بالمعونة، و”البنتاغون” الأمريكية بالسلاح، والتعاون مع السياسة الأمريكية في المنطقة ظاهرة وخفية، وذلك كله يجعل الآخرين قادرين على تطويعنا، أو على الأقل محاولة التطويع - أي أننا وضعنا سقفاً على حريتنا - وهذا هو الخط الأول في المربع، وهو مزعج .
2- وارسم على الخط الأسفل من المربع - موافقتنا على أنها “آخر الحروب” - ومعنى ذلك قبولنا بنزع سلاحنا، أو على الأقل تحديده في إطار ما يمكن أن تقدمه أو تحجبه الولايات المتحدة الأمريكية - وبِعِلم وموافقة “إسرائيل”، وهذا هو الخط الثاني، وهو لا يقل إزعاجاً .
3- وارسم على اليمين خطاً ضع عليه ما تصورناه عن سياسة مصر أولاً - ومعناها مصر وحدها في عُزلة عن شعوب أمتها العربية، حتى مع وجود صلات بينها وبين بعض الملوك، وسماسرة مجمع البترول، وتجارة السلاح، ونشاط المخابرات، وذلك خطر .
4- وأخيراً، ضع على الخط الأيسر من أضلاع المربع خرافة إمكانية ظهور رأسماليين من دون أصول حقيقية، حتى إذا كانت الأصول فكرة جديدة أو اختراعاً جديداً على طريقة “بيل غيتس”، وفي عصر تضافرت فيه مشكلات التنمية الحقيقية - مع قصور اقتصاد السوق - مع نظام مالي عالمي مفتوح - فقد استفحل وهم الرأسمالية من دون تراكم رأسمالي، وفي الواقع فإن ذلك أصبح معناه التصرف في الموجود في البلد فعلا سواء بالخصخصة العشوائية، وبتوزيع الأراضي بالكيلومترات، واستباحة المعونات وغيرها، وكله بسطوة السلطة أيضاً .
وهذه رأسمالية في عمومها لا تخاطر ولا تضيف، ولكن تستولي وتتقاسم . الولايات المتحدة وحدها . العمل الوطني بكل أطيافه: من كتل الجماهير - إلى الشباب - إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة - إلى القوى السياسية الفعلية، إضافة إلى كل موارد العمل الوطني السياسي الاستراتيجي: الاقتصادي - الاجتماعي - العسكري - الأمني آخر الحروب مصر أولا مصر وحدها رأسمالية من دون رأسمال .
عفاريت أمريكية و”إسرائيلية”
* قُلْ لي كيف تخرج من هذا المربع الحديدي - وإلى أين تذهب؟ وماذا يجديك أن تهرب إلى الأمام، أو تشرد على هذه الناحية أو تلك؟
* ويهتف بعضنا بأنه “يسقط يسقط حكم العسكر” - ولا أحد يريد أو يطلب أن يحكم العسكر، ولكن خروجهم شيء آخر، وإذا خرجوا، فمن يقوم بالدور المطلوب في حماية الدولة، حماية وجودها وكيانها؟
وتتوتر الأعصاب، وتنفتح الثغرات، وتنفذ الأهواء، ثم تتسبب مباراة كرة قدم في مذابح تبدأ بين أنصار ناديين، ثم تنتهي بحِصار وزارة الداخلية ومحاولة اقتحامها، وهو عدوان خطر على أمنها الوطني، ثم يُقال إن الحل هو انتخاب الرئيس قبل الدستور- كما قلنا سابقاً بالانتخابات النيابية قبل الدستور، هو إذاً استمرار لمنهج الهرب إلى الأمام .
كل هذا وهناك موعد مقرر للاصطدام مع الحقيقة الاقتصادية في البلد .
كنا من الناحية الاقتصادية سائرين من قبل ثورة يناير إلى طريق اقتصادي مسدود، لأن الاقتصاد على طريقة بيوت توظيف الأموال وصل إلى نهايته، لكن الطريق المسدود أضيفت إليه - بالتخبط في إدارة مرحلة الانتقال - ألغام متفجرة حول الطريق المسدود، فقد زادت حِدة الأزمة لأسباب عديدة تعرضنا لها من قبل، وأهمها باختصار تباطؤ السياحة، وتعثر الاستثمار، وهروب الأموال، والابتزاز عن طريق المعونات والمساعدات .
قضبان حديد مستجدة تعزز قضباناً سبقتها وتصنع قفصاً من حديد، وكلنا داخله، والكل لا يعرف أنه مُحاصَر من الخارج، متزاحم في الداخل يتعثر ويتصادم ويتزاحم ويلف حول نفسه، كأنه “الرقص على البارود” على حد تعبير كاتب فرنسي شهير هو “أندريه موروا” - في وصف أحوال فرنسا أمام عاصفة الحرب العالمية الثانية .
نحن أيضاً هذه اللحظة وفي وسط قفص حديدي نرقص على البارود، وربما لأننا لسنا خبراء في الرقص مثل الفرنسيين، فقد أقمنا “حفلات زار”، وفي هذه الحفلات وسط النار، فإن الكل يصرخ، والكل يدور في مكانه، والكل يدق على الدفوف، والكل يترنح . . ولكن على البارود .
مجلس عسكري يرتجل - وأحزاب سياسية قديمة وجديدة تتصادم وتقع على الأرض - وشباب غاضب لا يعرف أين يذهب، لكنه يصيح وينادي في البرية (كما يقولون) - وجماعات ساخطة لا تعرف ماذا تريد، وأبسط تعبير عن السخط قذف حجر، أو إشعال عود ثقاب، ثم تندلع النار في الميادين والشوارع، ويشتد لهيبها طول الليل على شاشات الفضائيات وحتى الفجر .
لا أعرف الكثير عن “حفلات الزار”، ولكني أظنهم فيها يستخرجون العفاريت لكي يصرفوها بعد ذلك، والعفاريت كثيرة في ظروفنا، فهناك عفاريت أمريكية، وعفاريت “إسرائيلية”، فليس من الطبيعي ولا من المعقول أن يحدث في مصر ما يحدث فيها الآن، ثم نتصور أن مصر مُحَصنة ضد الطامعين والمتربصين من الجن والإنس، مع ملاحظة أن العفاريت حاضرة بشدة في الأساطير العربية .ومن السهل أن تستخرج وتستحضر العفاريت، ولكن كيف السبيل إلى صرفها؟
* ما الذي يصح في هذه اللحظة، أو يتعين القيام به للخروج من القفص الحديدي، والفكاك من خطر “الرقص على البارود” الذي أشرت إليه؟
- الأستاذ هيكل: دعني أولاً أقل لك رأيي في ما لا يصح هذه اللحظة ولا ينفع .
أولاً: لا يصح ولا ينفع أن تقول لي شيئاً عن شرعية مقبولة بلا منازعة لأحد في معادلة السياسة المصرية هذه اللحظة، هناك للأطراف جميعاً بقايا شرعية أو مقدمات لم تتأكد بعد أهليتها، وذلك ما نستطيع أن نعثر عليه .
ثانياً: لا تقل لي شرعية المجلس العسكري، فهذه الشرعية من الأصل دور محدد ليس له من الأساس حق حكم ولا حق وصاية، وإنما له دور، له ضرورات هذا الدور، وعليه واجبه .
ومن سوء الحظ أن المجلس العسكري أضاع من أرصدته ما لم تكن هناك ضرورة لضياعه، ولكنها الطريقة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية .
ومع ذلك فهناك بالتأكيد بقية شرعية، ومن الضروري المحافظة على ما تبقى منها، لأن ذلك لازم للدور المرجو والمطلوب للأمن والحماية .
ثالثاً: لا يصح ولا ينفع أن تحدثني عن شرعية كاملة لمجلس الشعب الجديد، لسبب بسيط وهو أن انتخابات ذلك المجلس جرت من دون أساس دستوري شرعي توافقت عليه قوى الأمة .
لكن انتخابه أيضاً، وبالطريقة الحرة التي جرت به لا يمكن اعتباره شيئاً لا قيمة له .
وظني أن هذا المجلس جدار شرعي يُستَنَد إليه - لكنه يصعب علي اعتباره بناءً كاملاً مستقراً بشرعية كاملة، وأما قيامه بغير دستور متوافق عليه من كل القوى - إذاً مشروعيته قانونية مقبولة ومحترمة، ولكن ليس شرعية وضع نهائي بالرضا الطوعي والقبول الكامل من كل قوى الوطن .
رابعاً:لا يصح ولا ينفع أن تحدثني عن شرعية الميدان، لأن شرعية الميدان تحتاج إلى فهم أعمق، لأن الميدان مكان، والمكان لا يكون مصدراً للشرعية، لسبب أساسي وهو أن الميدان حضور متغير بطبيعة المكان في حد ذاتها - ولم يقل أحد مثلاً أن سجن “الباستيل” كان مصدراً للشرعية، فقد سقط وكان سقوطه إيذاناً بنجاح الثورة الفرنسية، لكن ذلك لا يجعل قلعته مصدراً للشرعية، ولم يقل أحد أن ميدان الثورة الذي نُصبت فيه المقاصل، والذي أصبح في ما بعد ميدان الوفاق “الكونكورد” في باريس مصدراً للشرعية، المكان يصلح أن يكون رمزاً، ولكنه لا يصلح أن يكون مصدراً .
والقادرون من الحضور في المكان وفي زمنه يستطيعون التحول إلى قوى سياسية فاعلة ومؤثرة، لكن تنظيماتهم حتى حالة قوتها تنتمي إلى عالم السياسة، ولا تتحول إلى مصدر شرعية .
من كان له شرعية في ميدان التحرير هو الجماهير في قلبه أيام الثورة، ومع انطلاق شرارة الثورة من الميدان وانتشارها في كل أرجاء مصر، فإن الميدان تحول إلى مكان له قيمة رمزية بدأت منه الثورة، واتسعت، وانتشرت . . ثورة شعب، وهنا فإن المعنى الرمزي لا يضيع، وقيمته تظل محفوظة .
وعندما يزدحم الميدان كما نرى الآن في الأيام العادية بعربات اليد، وبالحصير على الأرض، وبالخيام الملونة، وبالباعة الجائلين، فتلك كلها مشاهد سوق، ولكنها ليست مواقع شرعية . والسوق في ميدان رمزي قد يتحول بعض الأيام إلى كرنال، وهذا مُعتاد .
والكرنالات تحدث في ساحات الاتيكان في روما، وأمام كنيسة القديس “سان ستيفان” في يينا، وحول ميدان “الطرف الأغر”، تحت النصب المرتفع شاهقا نحو السماء ل”نلسون” قاهر “نابليون” في البحر . . كل تلك الساحات رموز تاريخية تعني الكثير لأهلها، لكنها ليست مصدرا لأي شرعية سياسية .
خامساً: لا يصح ولا ينفع أن تسير الأمور كما تسير الآن، ثم تعود وتؤكد لي أننا بدأنا على طريق لابد لنا أن نجري عليه إلى النهاية، ولا سبيل إلى مراجعة .
ذلك لا يصح لا في أحوال الأفراد، ومن باب أولى لا يصح في مصائر شعوب، خصوصا في لحظات تقرير المصير عند مرحلة تصور وحساب الأساس، وتصميم وتقدير مواد وتكاليف البناء .
بمعنى أن كل طرف في مثل هذه المرحلة مُطالب بمراجعة خُطاه في أي لحظة، شرط أن يكون صادقا وواضحا مع نفسه ومع الآخرين، وشرط أن لا يكون هدفه ذاتيا، وشرط أن يكون قادرا على البرهان الحقيقي، فلا أحد يقول لي أننا نستطيع مثلاً أن نمشي على قضبان سكة حديد لم تكتمل، لم تصل إلى غايتها، ثم يُقال إننا لا نستطيع الوقوف، ولا نستطيع التراجع، وإنما علينا الحركة وفق ما كان مقدرا من أول خطوة وإلى النهاية، أي أن القطار يجب أن يواصل سيره، حتى وإن لم تكن هناك قضبان، ثم إنه ليس مهما ما يجرى بعد ذلك، المهم أن لا نتوقف، وهذا منطق غريب.
سادساً: لا ينفع ولا يصح أن يتواصل الهرب إلى الأمام، بمعنى أن تشتد الضغوط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويكون الشعار بضرورة خروج العسكر من الساحة، وتسليم السلطة فوراً، وإنما علينا أن نحدد ونفرز ونتفق على أن لدينا “لا” واضحة وقاطعة على حكم “العسكر”، لكن هذه ال “لا” المانعة لحكم “العسكر” لا تستوجب خروج “العسكر” من ساحة العمل الوطني .
سابعاً: لا يصح ولا ينفع أن يكون مصير المزاج الوطني، وفي بعض الأحيان قرار السياسة وتوجهاتها، مشدوداً بسلك إلى حوارات فضائية، فيها كثير مما هو مهم ونافع، لكن علينا وضعه في سياقه وفي حدوده أيضا، أكاد أحس في بعض الأحيان أن الأسئلة والإجابات على مسائل كبرى موصولة بهذا السلك، والاستجابة للرأي العام مطلوبة في كل مجتمع، لكن الخلط بين الرأي العام والرأي الخاص يحتاج إلى بعض الفرز، كما أن القرارات لا يصح أن تتخذ بذبذبات موجات الإرسال، أو بترددات تزحم الفضاء .
الخوف من الارتجال
لكن المجلس العسكري يتعرض إلى ضغوط من الشارع، تطالبه إما بالرحيل فورا أو على الأقل تقليص المرحلة الانتقالية، وبالفعل جرى الإعلان عن تبكير انتخابات مثلما اقترح المجلس الاستشاري، وأعلن عن فتح باب الترشح للرئاسة يوم 15 مارس المقبل . . أي بعد شهر تقريباً .
الأستاذ هيكل: إنك تفضلت وأبلغتني على التليفون ما علمنا به مؤكداً بعد ذلك عن توصية من المجلس الاستشاري بتحديد مواعيد محددة للانتخابات الرئاسية، موعد لفتح باب الترشيح، وموعد بدء الحملات الانتخابية، وموعد لإجراء الانتخابات إلى آخره . . ومع احترامي لكل التوصيات، وآمالي بأن تنجح، فإن خشيتي من الارتجال بالتسرع في الإجراءات، قد تكون وراءها هموم ثقيلة .
لا تنتهي مراحل الانتقال بالارتجال، ولا تتقرر المصائر تحت الضغوط، ولا يتحقق التقدم بالهرب إلى أمام، ولا تنفتح الطرق إلى المستقبل بالشكوك والريب، ومع أني أتمنى أن ينجح هذا الذي أعلنه المجلس الاستشاري واعتمده المجلس العسكري، لكني لا أظنه عين الصواب، ولا عين الحكمة، وإنما هو اندفاعة أخرى بالهرب إلى المجهول .
صميم المشكلة أن هناك أزمة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك ما يدفعنا إلى تسريع الإجراءات، وأزمة الثقة مع المجلس العسكري موجودة، ولكن سؤالي هو إذا ما كان الهرب إلى الأمام هو الحل .
فعلناها من قبل بانتخابات نيابية قبل الدستور، ثم أدركنا الخطأ ومشينا، ويتكرر الخطأ الآن برئيس جديد، قبل دستور محترم، ثم نمشي، شعوري أن مثل ذلك لا يصح ولا ينفع، لكن دعائي إلى الله أن تقع المعجزة، وأن يصح وينفع .
كل ذلك لأن العسكر يجب أن يخرجوا اليوم وليس غداً .
أريد أن أقول لك بصراحة قد تضايق بعض الناس، أن شعار عودة الجيش إلى ثكناته مقولة تنتمي إلى القرن التاسع عشر، يوم كان القيصر النمساوي أو القيصر الروسي مثلاً يستدعي الحاميات العسكرية للمدن الغاضبة مثل “يينا” أو “براغ” أو مثل “موسكو” و”كييف”، ويأمرها بالسيطرة على المظاهرات، ويكون مطلب الناس لكي يطمئنوا أن تعود حاميات الجيش إلى ثكناتها أولا .
ونسمع الآن كما نسمع مطالبات بأن يعود الجيش إلى مهامه على الحدود ولا يسأل أحد: أي حدود بالضبط؟، لا ندرك أن الحدود لم تعد تلك الخطوط القديمة المرسومة على الخرائط .
أخطر من ذلك فإننا لا نسأل أنفسنا بالضبط عن حدودنا السياسية، وما هو مجال تواجدنا عمليا عندها؟ كذلك ننسى مرات أن الأمن الوطني في المفهوم الحديث للأمن الوطني لم يعد مجرد معسكرات تتحشد فيها الجيوش داخل نقاط حصينة من الأسمنت على مواقع نائية . فالاقتصاد الآن، ومعه التوازن الاجتماعي، ومعه التعليم، ومعه الصحة، ومعه المعرفة، ومعه الإنتاج في كل مجال، ومعه الثقافة، ومعه السلاح، جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي .
ننسى، حتى في الشكل العملي للأشياء، أن الوسيلة الأخطر للاتصال في العالم الآن وهي الإنترنت نشأت في أحضان الجيش الأمريكي، ولا تزال حاسباتها الإلكترونية الكبرى قريبة من إشراف “البنتاغون” وركيزتها عشرة مواقع هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكلها غير بعيدة عن “البنتاغون” .
وأن نقول لا يحكم العسكر، فالإجابة نعم، فهذا ليس اختصاصهم في منظومة الأمن القومي، لكن خروجهم إلى بعيد عن العمل الوطني السياسي في مجمله، نوع من الاستهتار .
الدستور الجديد
يبدو مما نسمع ونطالع أن وضع الدستور لن يمثل مشكلة أمام واضعيه . البعض يتحدث عن وجود فصول جاهزة، ويؤكد أنه يمكن الانتهاء منه في غضون شهرين من انعقاد الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداده وصياغته؟ هل أمر الدستور في رأيك يؤخذ بهذه البساطة؟
الأستاذ هيكل: لاينفع ولا يصح أن يقول لي أحد إن الدستور جاهز، وأن المطلوب مجرد تعديل في بعض فصول دستور سنة 1971 ما يلي الفصل الخامس، لأن ما قبله مُتفق عليه، أو لأنه استعارة من دساتير أخرى موجودة في العالم .
نتصور أن الدساتير نصوص محفورة على الحجر، تصون الحقوق المعروفة والمتفق عليها، وننسى أن العالم الحديث أتى إلينا بمستجدات لم تكن في ظنوننا، لأن الدساتير ليست مجرد صياغات، وإنما تعبير عن حقائق موجودة أو مطلوبة مُتفق عليها، أو وهو الأهم حقائق مستجدة كان بعضها مما استوجبته الثورة .
إنني قرأت أخيراً، مرة ثالثة أو رابعة، محاضر لجنة إقرار المبادئ الدستورية التي وضعت دستور سنة ،1923 وهو دستور شهير في حياتنا .
لقد استمرت مناقشات الاتفاق على مبادئ الدستور شهوراً، وفتحت مجالات واسعة، وأثارت مناقشات في قضايا حيوية متصلة بزمانها وعصرها، ولم تكتف بمجرد الاستشهاد بفلاسفة الدساتير من “مونتسكيو” إلى “هوبز”، وحتى إلى عبدالعزيز فهمي (باشا) وحسين رشدي (باشا) وهو رئيس لجنة وضع مبادئ دستور 1923 .
هل يمكن أن تتصور مثلاً أن لجنة وضع مبادئ دستور سنة 1923 ملأت صفحات بعد صفحات في مناقشة نصوص تكفل أن لا يتسرب إلى مجلس النواب الجديد أي من العمال والفلاحين، لأنه لا مصلحة لهم في الوطن، لأن مصلحة الوطن في عُهدة الأغنياء والملاّك وبعيداً عن مسؤولية الفقراء والعمال، ولاحظ بعد ذلك أن دستورا آخر جاء في ما بعد، وأقر أن لهم 50% من مقاعد مجلس الشعب باعتبارهم الأغلبية الطبيعية بين المواطنين، الأزمنة تتغير وكذلك مجموعات القيم، ومعها لابد أن تتوافق رؤى العقد الاجتماعي .
ونحن الآن في صدد مراجعة ذلك وغيره، ولابد من قواعد تتسق .
خذ مثلا قضية الهوية، وأسأل هل مازلنا جزءاً من الأمة العربية، وهل هي الجغرافيا والطبيعة والتاريخ كما أرى ويرى غيري، أو أنها الهيروغليفية وكتاب الموتى كما يرى آخرون .
إننى واحد من المبهورين بالهيروغليفية، وبكتاب الموتى، لكن الماضي قضية، والتاريخ قضية أخرى، الماضي معالم وآثار نقف أمامها باحترام، والتاريخ حياة متدفقة نعيشها ولا نزال .
ثم إننا نادينا بأنها مصر أولا وأخيرا، وقد مارسنا هذه السياسة بالفعل حتى جرى رهن الأمن القومي بعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة ومع “إسرائيل”، إذن فكيف نكتب النصوص؟، كيف نكتب نص الهوية والانتماء؟
خذ مثلاً قضية المرأة، وتساءل معي كيف حدث بعد الثورة، وفي أول مجلس منتخب أن مجلس الشعب لم تدخله المرأة إلا بعدد أصابع اليد الواحدة، ثم إننا أضفنا بالتعيين اثنتين أو ثلاثاً، ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين، ولا يستقيم مع هذا الحال حق، ولا يتسق دستور .
خذ قضية أخرى، فقد أعطينا للمصريين في الخارج حق الانتخاب، وهذا سليم، ولكن المشكلة: ماذا عن أبنائهم وعن أحفادهم، مع ملاحظة أن شرط الجنسية هو أب وأم مصريين، والمصريون في الخارج الآن ثمانية ملايين، وبعد سنوات سوف يصلون إلى أكثر من ضعف هذا العدد، فكيف تتحدد مشاركتهم إذا لم يتعرض لذلك دستور جديد، وهذه قضية لم يلتفت إليها دستور من قبل، لأنها قضية مستجدة .
خذ قضية حقوق الأقباط وتذكر أنه في دستور سنة 1923 رفض الجميع حفظ حقوق تمثيلهم في المجلس بحصة مقررة بنص، وقد أسموها في مناقشات لجنة المبادئ الرئيسية بوصف “كوتة”، ثقة من الكل في الوعي العام بحقوق وواجبات المواطنة، ونحن نعرف ما حدث، ولازلت أرى بصواب عدم النص على “نسبة” أو “كوتة”، لكن هناك بالفعل مشكلة تمثيل لابد لها من حل في دستور جديد .
خذ نظام رئاسة الدولة، وهل هو برلماني أو رئاسي أو مزيج من الاثنين، وخذ وخذ و . . قضايا كثيرة لم تكن موجودة، وقضايا كثيرة اكتشفت بالتجربة، وأصبح من الضروري وضع حدود لها، وتعريف بمجالاتها .
حقوق الإنسان، مؤسسات المجتمع المدني، علاقات الخارج بالداخل، عشرات المسائل المستجدة على الفكر السياسي في العالم، وكلها لابد من تعرض لها، وإشارة إليها في دستور جديد .
والدساتير لكي تُحتَرم لابد أن تعبر عن حقائق واقع ومستقبل، ثم تجيء الصياغة بواسطة خبراء في الصياغة، لكن خبراء الصياغة لا يضعون الحقائق، وإنما يكتبون النصوص المعبرة عنها .
ما العمل؟
ما العمل إذن يا “أستاذ”؟
- الأستاذ هيكل: كنت أتمنى ألا تسألني هذا السؤال: سؤال ما العمل؟ على أني لا أجد حرجا في الرد عليه بأن أقول لك: لا أعرف بالتحديد .
أستطيع أن أبدي رأياً، وأن أحلل موقفا، وأن أشارك في حوار قد يصل أو لا يصل إلى شيء، ولكني لا أستطيع أن أفتي وأتقدم بحلول - من يستطيع طرح الحلول هو من يعرف الحقائق كلها، ومن يقدر على التصور، ومن يملك المستقبل، ولو قلت غير ذلك ما احترمت نفسي، ولا مجلسي أمامك، وعلى أي حال فمن قبلنا جميعا أطلق ذلك الفقيه الأعظم “أبو حنيفة” مأثورته الشهيرة: “من قال لا أدري فقد أفتي” - بالفعل لا أعرف، وليس في ذلك ما ألوم نفسي عليه لأسباب كثيرة، منها أن أصحاب العصر ومن يعرفون حقائقه هم الأولى بالفتوى فيه قبل غيرهم، ثم إن أصحاب المستقبل ومن يملكون الجسارة عليه أولى وأولى، وأظنك تشهد أنني قلت وكررت إنني أنتمي إلى عصر سبق، ثم إنني قلت وكررت إن مستقبلي ورائي، يعنيني أمر وطني ومستقبله، لكن قُصارى ما أستطيع هو أن أشارك في حوار، وبرأي أبديه، وفيه من محاذير الشيوخ أكثر مما فيه من جسارة الشباب وهم أكثر اتصالاً بالمستجدات في الأفكار والوسائل، والحقيقة أننا قبل ثورة 2011 كنا نواجه أزمة عويصة، ثم إننا وبسبب سوء الإدارة والبُعد عن العصر، وجدنا الأزمة تتحول إلى نصف كارثة ونصف فضيحة . ومع الأسف فإنني ربما بحكم السن وبحكم مسافات العصر، أرى من المحاذير أكثر مما أرى من الفرص، لكن غيري بالتأكيد أجرأ وأقدر، مع العلم أن محاذيري سياسية مؤقتة، مع بقاء تفاؤلي التاريخي ثابتاً ومتيناً .